عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أكثروا ذكر هاذم اللذات الموت) رواه الترمذي والنسائي ، وصححه ابن حبان .
بدأ المؤلف رحمه الله تعالى بهذا الحديث تنبيهاً للحي، كي يتعظ بالموت (أكثروا ذكر هاذم اللذات) وهاذم اللذات كما تبين هو الموت؛ لأن كل إنسان مهما كانت حياته منعمة.. إذا كان في القمة في العالم كله.. أغنى أغنياء العالم.. أقوى أقوياء العالم.. أسعد سعداء العالم، حينما يتذكر الموت فإنه تنهزم أمامه كل لذة، ولو ذكر العريس ليلة عرسه الموت لما دخل على عروسه. فذكر هاذم اللذات الذي هو الموت هو أكبر واعظ، وأكبر زاجر، وأكبر دافع لفعل الخير.
وبعض العلماء يفتتح هذا الباب بغير هذا الحديث، ولكن المؤلف من فقهه افتتح كتاب الجنائز بهذا الباب. وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بزيارة القبور أنه قال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها؛ فإنها تزهد في الدنيا وتذكر بالآخرة) وجاء في بعض الروايات: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات؛ فإنه ما ذُكر في قليل إلا كثره، ولا ذُكر في كثير إلا قلله)
بمعنى: إنسان يعيش عيشة كفاف، ولديه القليل القليل من متاع الدنيا، فإذا ما تذكر الموت رأى أن الذي عنده كثير؛ لأنه لا يدري متى يأتيه الموت، وإذا كانت عنده كنوز قارون ، وتذكر الموت؛ صارت قليلة في نظره، ماذا يفعل بها؟! لا تنفعه في شيء، وليس هناك أنفع للإنسان من دوام ذكر الموت، يهوّن عليه مصائب الدنيا وشدائدها.
وكنت دائماً أسمع من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يزهد في الدنيا، ويبسط أمرها في قوله:
الجوع يطرد بالرغيف اليابـس فعلام تكثر حسرتي ووساوسي
كأن الدنيا ما لها قيمة. وكذلك الإنسان فيما أعطاه الله، إن كان مريضاً مبتلىً متألماً وذكر الموت هان عليه المرض والألم، وإن كان متعافياً وينظر إلى نفسه في حالته، فذكر الموت قامن من رأسه وقامن من تطاوله.
وهكذا أيها الإخوة: المؤمن لابد أن يؤمن بما وراء الموت، فإن الدنيا مزرعة حصادها في الآخرة، والإنسان ما بين أمرين:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بشر خاب مسكنه وإن بناها بخير طاب بانيها
وكما قال بعض الناس في الزهد وفي الترهيب:
إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علمـوا أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخـذوا صالح الأعمال فيها سفنا
الدنيا دار ممر، ولكن ليست رهبانية كما عند النصارى ، فنترك الدنيا دون أن نعمرها، وأن نسخرها، وأن نستسخر ما فيها، وليست مادية وانهماكاً في موادها أو في مادياتها، بل هو الوسط والاعتدال، والله سبحانه وتعالى قد جعل هذه الأمة أمة وسطاً، فقال: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة:143]، وسطاً بين أمتين: أمة غلبت عليها المادية، وأفلست في المعنوية، وأمة غلبت عليها المعنوية، وأفلست في المادية، وفي سورة الفاتحة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7]، والمغضوب عليهم هم اليهود ، والضالون هم النصارى .. اليهود مغضوب عليهم؛ لأنهم علموا ولم يعملوا، والنصارى عملوا بغير علم، فأولئك استحقوا الغضب، وأولئك وصفوا بالضلال، وجاءت هذه الأمة فعلمت وعملت.
فالإنسان مكون من عنصرين اثنين: جسم وروح، والجسم مادي منشؤه التراب.. إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ [ص:71]، والعنصر الثاني الروح.. فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر:29]، فبمجموع الأمرين كان هذا الإنسان، وكل عنصر فيه له مقوماته ومتطلباته، فالعنصر المادي يرجع إلى المادة، وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتاً [نوح:17]، ليست له حياة إلا من الأرض، وهو يخلد إليها، والعنصر الروحي عالم ملكوت الملأ الأعلى، بالعبادات وبمعرفة الله يسمو إلى أعلى.
فـاليهود أمعنوا في خدمة البدن بالماديات، وأهملوا جانب الروح في العبادات، والنصارى عنوا بجانب الروح والعبادات والرهبانية، وفرطوا في جانب المادة، وتركوا الدنيا، وكانت هذه الأمة الوسط بين الطرفين .. لا مادية لاهية، ولا رهبانية طاغية.
فمثلاً: ونجد قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ [الجمعة:9] هذه روحانية.. فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً [الجمعة:10]، فالاستجابة إلى النداء لذكر الله غذاء للروح، والانتشار في الأرض بعد الصلاة لمتطلبات البدن، وخدمة الحياة، ومع ذلك تطلب الرزق من فضل الله.. وتذكر الله وأنت في عملك، تجمع ديناً ودنيا، ومن هنا كانت هذه الأمة هي الوسط بين الأمتين، وكانوا شهداء على الناس، كل المفسرين يقولون: شهداء يوم القيامة على إبلاغ رسلهم رسالة ربهم، ويقولون أيضاً: لا مانع أن يكونوا شهداء على الأمم بأنهم استطاعوا أن يطبقوا عملياً وفاء الإنسان والنفس في جانبي المادة والروح، فـاليهود عجزوا عن أن يجمعوا بين الأمرين فجنحوا، والنصارى عجزوا عن أن يجمعوا بين الأمرين فجنحوا، كالطائر يتعطل أحد جناحيه فيجنح ويميل.
أما هذه الأمة فلم يتعطل جناحاها، كلاهما معتدل، فسارت سيراً متوازياً منذ أن جاءها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهي مستقيمة مستقرة في مسيرتها، فهم شهداء على الناس في تطبيق المنهج الإلهي الحق الذي يوفي الإنسان حقه من الجانبين، ولا يطغى جانب على جانب، في الوقت الذي أفلست فيه الأمم التي من قبلنا .. لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا، كما تكونون شهداء على الناس في الآخرة.
وعلى هذا لا يكون الإنسان المسلم مستقيماً في حياته إلا إذا أيقن بأن الدنيا وراءها آخرة، وأن ما يتصرف به في دنياه سيلقاه في آخرته، أما الذي لا يؤمن ببعث، ولا يؤمن بجزاء، غاية ما عنده دنياه، فهو يريد أن يحصل فيها على كل ما يريد ولو على حساب الآخرين؛ لأنه ليس عنده رقيب ولا حسيب، ولا ينتظر يوم الدين الذي فيه الجزاء وفيه الحساب.
ولهذا نجد بعد قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] الرد إلى الإيمان بالغيب والبعث: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2] من هم؟ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3] وهو كل ما غاب عنك، وما جاءت أخباره عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم .. وَيُقِيمُونَ الصَّلاة [البقرة:3]، إيمان بالغيب وعمل في الحاضر .. وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:3-5] .. اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].. أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:5].. وهكذا القرآن يفسر بعضه بعضاً.
المؤلف هنا بدأ الباب بهذا الحديث: (أكثروا)، وهناك من العلماء من يبدأ هذا الباب بالحث على عيادة المريض، وعيادة المريض حق للمريض، ولكن هنا حق للإنسان في نفسه، ثم بعد ذلك لما يأتي المرض نقول له: اذهب فعده، ولذا المؤلف كان دقيقاً جداً في ترتيبه وإيراده هذا الباب، وجمعاً بين المنهجين إذا مرض الإنسان كان حقاً على أخيه المسلم أن يعوده، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قاله: (حق المسلم على المسلم ست -وذكر منها-: وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه) بدأ بالسلام، ثم بالإجابة إلى الوليمة، ثم بالنصح.. إلى آخره.
وجاء في عيادة المريض عدة أحاديث، كما يذكر البخاري في الأدب المفرد (من زار مريضاً في المساء خرج ومعه سبعون ألف ملك إلى الصباح، ومن عاد مريضاً صباحاً خرج ومعه سبعون ألف ملك إلى المساء) وجاء في الحديث أيضاً (من عاد مريضاً فإنما يمشي في مخرفة من الجنة) والمخرفة هي: الأشجار المثمرة تذهب فتخرفها، تمشي بين أشجار من أشجار الجنة المثمرة، تخرف منها من الثمار ما شئت.
ذكر العلماء في آداب عيادة المريض أن على الزائر أن يغلب عند المريض جانب البشرى، وآمال العافية، وأن يرقيه، ويفسح له في الأجل.
وألا يتبع نظره أثاث البيت الذي هو فيه؛ فإنه ربما تكون الحال متوسطة، أو دون ذلك، فيستضر صاحب البيت من أن تتأمل حالته بأنها رديئة أو قليلة أو غير ذلك.
وألا يطيل الجلوس عنده، فقد يكون في حاجة إلى خدمة أهله فتحجبهم عنه، وقد جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يعود المريض بعد ثلاثة أيام؛ لأنه في أول يوم يمكن أن تكون وعكة خفيفة وتذهب، فليس هناك حاجة في أن تثقل عليه، أو تعطل نفسك، فتكون الزيارة بعد ثلاثة أيام.
ويقول بعض العلماء: لا بأس أن يزور المسلم المريض الكافر لعله يعرض عليه الإسلام في آخر لحظة فينفعه الله بذلك فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان له خادم، يهودي، فغاب الخادم فسأل عنه صلى الله عليه وسلم فقيل: مريض، قال: قوموا بنا نعوده، فيذهب صلوات الله وسلامه عليه إلى خادم، ليس إلى أمير أو رئيس أو نحوه، بل خادم ويهودي!! أي أنه جمع النقيصتين، فلما أتاه وجلس عنده، وكان في لحظاته الأخيرة، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا غلام! قل: لا إله إلا الله، فنظر الغلام إلى أبيه، وكان عند رأسه -كأنه يستشيره- فإذا بالأب يقول: أطع أبا القاسم يا بني!) الله أكبر! وأنت لماذا لا تطعه؟ لنعلم يا إخوان أن قضاء الله، وقدر الله فوق كل شيء، الولد في حالة الاحتضار، والرسول صلى الله عليه وسلم يعرض عليه الإيمان، فيلتفت إلى أبيه كالمستشير، فإذا بالأب يشير عليه أن يطيع الرسول، فلم يقل له الرسول: وأنت أيضاً أطعني، عملاً بسنة التدرج، فقالها الغلام، وسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم والحاضرون من الصحابة، ثم فاضت روحه، فقال صلى الله عليه وسلم لمن معه من المسلمين: (تولوا أنتم أمر أخيكم) انظر محاسن الإسلام! انظر فضل الله على عباده! مجرد أن نطق بها صار أخاً من إخوانهم، صار صحابياً بين يدي رسول الله، وهذا من بركة زيارته صلى الله عليه وسلم.
وهذا باب كما يقولون يأتي في الآداب والأخلاق وحقوق الجوار... إلى آخره.
وكلمة: (أكثروا) تفيد الأمر بالتكرار، ولا تكون للغفلة، لكن من الصعب أن يوضع شريط على أذن الإنسان ليظل يذكره: اذكر الموت .. اذكر الموت.. ولكن لا تطل الغفلة، ومن هنا كلما صلينا على جنازة، فتلك دقة جرس جديدة، وتنبيه جديد، إذاً: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) ألا وهو الموت.
وإذا نظرنا -أيها الإخوة- إلى إلزام الخلق بحق الخالق سبحانه، فلن نجد أقوى من الموت: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة:83-87] ولن يستطيعوا إرجاعها: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34] ويقصد المعنى اللغوي بالساعة ستين دقيقة.. بل تصدق على لحظة، فلا يملكون حتى التأخير ولا التقدم، وأنت لو جلست وتأملت وتذكرت هذه الآية الكريمة.. فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ [الواقعة:83] فهناك الحشرجة في الصدر؛ لأن الموت يبدأ من القدمين، ثم يسري إلى الساقين.. إلى الفخذين.. إلى البطن.. إلى الصدر.. فتحشرج الروح أو النفس في صدره وحلقه، ثم تفيض إلى باريها، في تلك الحالة وهم حوله ينظرون، ولا يملكون له من قطمير، ولا نَفَساً واحداً يستطيعون أن يزيدوه: فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ [الواقعة:86] مدينين يعني: مغلوبين، مدانين، عاجزين، ومنه: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] يوم الحساب والجزاء.. إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ [الواقعة:86] غير ميتين ولا محاسبين، وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة:84-85] صحيح نحن لا نرى، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16].
فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة:86-87] لا والله لا تستطيعون إرجاعها، فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ [الواقعة:88] ما مصيره؟ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:89-91] يقول المفسرون: منذ أن تفيض روح المؤمن ويرى النعيم، يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عن طريقه وصل إلى هذا الحد، وبعضهم يقول: هذا سلام من الله باسم رسوله يأتي من الموتى، والأول أظهر وأوضح، والله أعلم.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ [الواقعة:92] عافانا الله وإياكم.
إذاً: أكثروا من ذكر هادم اللذات.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لابد متمنياً، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي) متفق عليه. (لا يتمنين أحدكم الموت لضرٍ نزل به) لأن تمني الموت لنزول الضر معناه عدم الرضا بالقضاء والقدر، ومعناه عدم الاستسلام لأمر الله، ومعناه الجزع وعدم الصبر، وهذا لا يتناسب مع الإيمان بالله، وإما إذا كان تمني الموت مخافة فتنة في الدين فبعضهم يقول: لا مانع؛ فإن تمني الموت لميتةٍ كريمة كالشهادة في سبيل الله لا مانع منه.
وقد ورد أن عمر رضي الله تعالى عنه في حجته الأخيرة جاء الأبطح واستلقى على ظهره فسمعه أحدهم يقول: [اللهم كبرت سني، وضعف عظمي، واتسعت رعيتي؛ فاقبضني إليك غير مفتون].
ما طلب لشيء نزل به، لا، إنما خاف من فتنة في الدين، أو على المسلمين، وقد أصبح الأمر ثقيلاً عليه، فطلب لقاء ربه.
فمثل هذا ليس داخلاً في هذا الأمر، أما لضرٍ نزل به: فقر، مرض مزمن، مضايقة من أي جهة من الجهات، فلا ينبغي أن يتمنى الموت بسبب ذلك، بل يصبر ويحتسب.
والعجيب أن الله سبحانه وتعالى جعل في رسله النماذج للمثاليات الكاملة في كل شيء، فجعل -مثلاً- نأخذ من إبراهيم عليه السلام صبره وصموده؛ حتى كان أمة، وشدة توكله على الله عندما ألقي في المنجنيق ليلقى في النار، فيأتي جبريل يقول له: ألك حاجة؟ فيقول: أما إليك فلا، وإلى ربي بلى. مثال في أعلى ما يمكن من اليقين بالله والتوكل عليه.
تأتي إلى نوح في صبره، وعزمه، وطول أجله, و... إلخ.
تأتي إلى موسى .. تأتي إلى يوسف عليه السلام مثالية نموذجية إلى أقصى ما يمكن أن يتصوره العقل البشري في العفة والطهارة: وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ [يوسف:23].
والرسول صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى في كل الجوانب، ولا شك في ذلك، كذلك نبي الله أيوب أصبح مثالاً عند الناس في الصبر، صبر على الابتلاء، وعلى فقد أهله، وعلى فقد ماله، و... و... والملائكة تقول: يا رب! ارحم عبدك، فيقول: إذا اشتكى لكم فأغيثوه، إن شكى لكم فأجيبوه، وهو ما زال يقول: ما دام قلبي سليماً لا يفتر عن ذكر الله وأخيراً: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص:42] فكان المثل.
فالمؤمن عندما يبتلى بمرض، أو أي شيء الصبر أفضل له، وقد جاء في الحديث: (إن الله ليكتب للعبد المنزلة فلا يصلها بعمله، فيصيب منه ليبلغ تلك المنزلة) يكتب له الأجر مائة في المائة، ولكن عمله خمسون في المائة فليس قادراً أن يصل إلى هناك، فيبتليه بالمرض ليصبر، وليصعد الباقي بالصبر على مرضه.
إذاً: ليس هناك شر عليه، وإذا صبر وجد الخير، وفي بعض الروايات أيضاً أن المريض يئن لمرضه، فالملائكة تقول: (يا رب! عبدك كان يقوم الليل، كان يصوم، كان يفعل، كان يذكر وهو الآن عاجز، فيقول: أنينه -هذا العبد الصالح- في مرضه خيرٌ من صوت الآخرين بالذكر والعبادة)
إذاً: لا ييأس الإنسان ولا يجزع، وليعلم أن ربه أرحم به منه، وإذا كان سيد الخلق: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:6] هذا النبي صلى الله عليه وسلم، فما بالك برب النبي؟!
إذاً العاقل المؤمن يسلم أمره لله، ويحمل نفسه -عقلاً وإيماناً وعقيدة- بأن ما أتاه الله به فهو الخير؛ لأنه أعرف بعبده من نفسه، ولهذا: لا يتمنين أحدكم الموت لضرٍ نزل به, ولكن إذا ضجر وكان تنفيساً له، فليقل مفوضاً الأمر لله الذي أنزل به الضر: (اللهم أحيني إن كانت الحياة خيراً لي) لم يقل: أحيني لأن الحياة خير لي، لا، أنت الذي تعلم إن كانت الحياة خيراً لي، أي: يطول العمر، ويستقيم في العبادة، ويعمل صالحاً، فخيركم من طال عمره، وحسن عمله.
فقد كان هناك أخوان صالحان، فمات الأول قبل الآخر، وكان الأول أصلح من الآخر، فبقي الآخر بعده، فذكروا ذلك لرسول الله، قالوا: (والله مات الأخ الصالح، قال: والثاني، قالوا: ليس مثل الأول، قال: لعله يصلي بعده، ويصوم بعده، ويذكر الله بعده فيلحقه)
إذاً: (اللهم أحيني إن كانت الحياة خيراً لي) أي: وأنت الذي يعلم ذلك، (وتوفني إن كانت الوفاة خيراً لي) حتى لا أفتن؛ لأن الذي يعلم ذلك هو الله، فكأنه أيضاً رجع إلى الله سبحانه وتعالى.
وعن بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن يموت بعرق الجبين) رواه الثلاثة وصححه ابن حبان .
بعدما قدم المؤلف رحمه الله تعالى في أوائل كتاب الجنائز حديث: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) وحديث: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وإن كان لابد متمنياً أو لا محالة فليقل: اللهم أحيني إن كانت الحياة خيراً لي، وأمتني إن كان الممات خيراً لي) وقد تقدم الكلام على هذين الحديثين أعقب ذلك ببيان حالة موت المؤمن، فأورد قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن يموت بعرق الجبين) هذه حالة يبينها صلى الله عليه وسلم من غالب وأكثر حالات الموتى المؤمنين، ثم نجد العلماء يذهبون في تفسير عرق الجبين إلى جانبين: جانب لفظي في موضعه، ومعروفٌ الجبين، وعرق الجبين يكون في حالة الشدة عند النزع. وقومٌ يفسرونه بجانب آخر وهو: الكد والكدح، أي أن المؤمن يسعى ويكدح ويعمل حتى يعرق جبينه فيأتيه الموت وهو على هذه الحال، سواءً كان هذا العمل لكسب الرزق، أو كان هذا العمل للعبادة، ولكن هذا الوجه ضعيف، والصحيح الأول؛ لأن الموت له شدة، وقد جاء: (اللهم هوّن علينا سكرات الموت) ولما دخلت فاطمة رضي الله تعالى عنها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في النزع قالت: (واكرباه عليك يا أبتي! فقال: لا كرب على أبيك بعد اليوم يا ابنتي) وتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مخضب فيه ماء -إناء صغير- إذا اشتد عليه أمر الموت غمس يده في الماء، ثم مسح بها جبينه) وذلك لشدة ما يعاني.
وجاء عند الترمذي : (نفس المؤمن تخرج رشحاً) والرشح وعرق الجبين سيان، فهذا مما يؤيد المعنى الأول، وهو عرق الجبين كناية عن شدة المعاناة، وكذلك أيضاً عن سرعة النزع فلا يطيل إطالةً شديدة حتى يتعذب في ذلك.
ثم قال صلى الله عليه وسلم في حديث الترمذي : (إن نفس المؤمن تخرج رشحاً، وأعوذ بالله من موتةٍ كموت الحمار، قيل: وما موت الحمار يا رسول الله؟! قال: موت الفجأة) فكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ من ميتة المفاجأة.
وقد بين العلماء بأن مفاجأة الموت تفوت على الإنسان أشياء كثيرة؛ فقد يكون في حاجة إلى أن يوصي، فتفوته الوصية، قد يكون يعمل في عمل دنيا بعيد عن ذكر الآخرة أو الموت، فيفوت عليه أن يكون آخر كلامه لا إله إلا الله، وبعض الناس يرى موت الفجأة راحة من آلام النزع، وهذا خطأ؛ فإنه وإن كان في النزع شدة ولكن كما قيل: تزول، فهي آلام مؤقتة، ولكن يكون عند المؤمن فرصة في هذا الوقت الحرج بأن يوادع الدنيا بوصية صالحة، ويستقبل الآخرة بشهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر قوله أو كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) وسيأتي الكلام عليها فيما بعد كما سمعنا إن شاء الله.
إذاً: المؤمن يموت بعرق الجبين، كناية عن الشدة والحالة التي تعتري الإنسان في حالة النزع وخاصةً المؤمن، وقد جاء في الحديث في الابتلاء: (أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل) وهكذا جاء في بعض الآثار (أنه صلى الله عليه وسلم كان يعاني أشد ما يعاني أشد الرجال) وكان صلوات الله وسلامه عليه يصبر على ذلك ويسأل الله سبحانه وتعالى التخفيف.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر