فيقول المؤلف رحمه الله: [وعنه -أي: عن أنس -: أن عمر رضي الله عنه كان إذا قُحطوا استسقى بـالعباس بن عبد المطلب وقال: (اللهم إنا كنا نستسقي إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون). رواه البخاري ].
هذا العمل من أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه يدل دلالة عظيمة جداً على مكانة عمر أولاً، وعلى مكانة العباس ثانياً، وعلى ما ينبغي مراعاته في الاستسقاء بأهل الخير.
أما من جانب عمر رضي الله تعالى عنه فإنه أمير المؤمنين الملهم المحدث، الذي وافقه ربه في نزول القرآن في ستة مواطن، وهو الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما سلك
فهناك رجال يصلحون للعبادات والدعاء لقربهم من الله، وهناك رجال يصلحون لسياسة الملك، وقهر العدو، وإصلاح أمر دنيا الناس.
فـعمر يبين لنا هذه الخصائص، وقد جاء عن مالك رحمه الله قوله: لقد تركت تحت سواري هذا المسجد رجالاً إني لأرجو دعوتهم عند الله، ولم آخذ منهم؛ لأنهم ليسوا من أهل هذا الشأن.
فهم ليسوا من أهل هذا الشأن، تفوتهم بعض صفات الرواة، فيمكن أن يتساهلوا، ويمكن أن لا يضبطوا، فهم في شأن آخر.
فخصائص الناس تختلف، فمنهم من يصلح لأمر ولا يصلح لأمر آخر، وهنا عمر تواضع وهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي أمر المسلمين، ومع ذلك يتأخر، ويقدم العباس .
وذلك ما ينبغي على الإمام وكل من أراد أن يستسقي، وهناك حديث مكتوب في منبر عثمان رضي الله تعالى عنه: (أئمتكم وافدوكم إلى الله، فتخيروا من توفدون)، فالإمام الذي يصلي بنا وافدنا إلى الله قدمناه يسأل الله لنا، فيقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا [الفاتحة:5-6]، فهو وافدنا يسأل لنا الله، وقوله: (فتخيروا) أي: انظروا. (من توفدون)، أي: أفضلكم وأقرؤكم لكتاب الله.
ومن هنا نعرف مكانة العباس ، وجاء في بعض الروايات عن عمر : (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل
وهنا العباس رضي الله تعالى عنه عرف هذه المكانة، فقام عمر بين يدي الله قائلاً: اللهم إنا كنا نتوسل أو نستسقي برسول الله فتسقينا. والرسول صلى الله عليه وسلم مجاب الدعوة.
وفي فتح الباري أن رجلاً أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وطلب الاستسقاء، فرأى في المنام أن: ائت عمر . وهذا يعلق عليه الشيخ ابن باز في طبعته بأنه لم يصح.
والذي عليه الرواية الصحيحة هنا أن عمر لم يأت إلى القبر، ولم يأت أحداً، ولكن توجه إلى الله بالأصل، ولم يبعد عمر عن الأصل -أي: رسول الله-؛ لأنه قدم واحداً من آل بيت رسول الله، ألا وهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا يقول العلماء: إذا أراد الإمام أن يستسقي وفي الناس من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصالحين فإنهم أولى بأن يقدموا على غيرهم؛ لأن معهم زيادة فضل، وهو نسبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال عمر: وإنا الآن نتوسل إليك بـالعباس -ولم يكن التوسل بشخصه ولكن بدعاءه قم- يا عباس -فاستسق لنا. أو: قم- يا عباس -فادع لنا. فلو كان الاستسقاء بذاته لكان سيبقيه في مكانه، ولكن بدعائه، فقام العباس وسأل الله بمكانته من رسول الله، وبطاعته لله أن يسقي الناس فسقوا في حالهم.
بدأ المؤلف رحمه الله يذكر بعض جوانب أو آثار الاستسقاء لمن مطروا بغير استسقاء، أو بعد الاستسقاء، فتقدم صلى الله عليه وسلم إلى ماء المطر، وخاض بساقيه، وحسر ثوبه، وقال: (إنه حديث عهد بربه) تبركاً بهذا الماء النازل غوثاً للمسلمين.
يقول العلماء في تفسير قوله: (حديث عهد بربه): إن المطر جاء من السحاب، والسحاب دون السماء الأولى، والله سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه كما بيّن سبحانه وتعالى، وهذه أمور لا يدركها العقل.
قالوا: أي أن الله سبحانه وتعالى ساقه برحمة منه، فهو حديث عهد برحمة الله التي رحم بها أهل الأرض.
ومن هنا يتبرك به صلى الله عليه وسلم فيغمس قدميه فيه، وفي بعض الروايات: (رُئيَ المطر ينزل من لحيته)، وفي بعضها: (حسر عن رأسه، وقال: أصيبوا منه)، إلى غير ذلك، حتى قيل بأنه كان يشرب منه، وكان يتوضأ منه، وكان يخرج إلى وادي قناة، وكان أغزر أودية المدينة مطراً، إلى غير ذلك من الروايات، فلا مانع أن يصيب الإنسان من المطر إذا كان عند نزوله، أو يأتي إلى الوادي ويغسل يديه أو رجليه منه، أو يشرب منه إن طابت له نفسه إذا كان صافياً صالحاً للشرب، أو غير ذلك، فكل ذلك تبرك بهذا الماء الجديد لأنه حديث عهد بربه، أي: بأوامره وبإنزاله، وبإغاثته للعباد برحمة منه سبحانه.
تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر -أي: إذا نزل ورآه رأي العين وتأكد من نزوله- قال: (اللهم صيّباً نافعاً).
و(الصيّب) أصله: صيْوِب، وعند علماء الصرف أنه إذا اجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، كما في (جيّد)، فأصله (جَيْوِد)، من الجودة.
وأصل (الصيب) من الإصابة، تقول: صوب السهم فأصاب الرمية. وسمي المطر صيباً لأنه ينزل ويصيب مكانه، فإذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم المطر دعا الله أن يجعله صيباً نافعاً، وذلك مخافة أن يكون صيباً ضاراً؛ لأنه إذا زاد المطر عن مقدار تَحمُّل الخلق أو الأرض كان ضرره أكثر من نفعه، ونحن نشاهد ونسمع بالكوارث والحالات التي يأتيها المطر غزيراً فيهلك الزرع، ويهدم البنيان، ويكسر الطرق والجسور، فالنبي صلى الله عليه وسلم رحمة منه بالأمة حينما يرى المطر يقول: (اللهم صيباً نافعاً).
و(صيب) من أسماء المطر أيضاً، ومنهما (الوبل)، ومنها (الرذاذ)، ومنها (الهتان)، وكلها أسماء تأتي على حسب صفاته وحالاته وشدته ورقته، والله تعالى أعلم.
الجلال: جمع جلالة، والجلالة: الثوب الذي يوضع على البُدْن حينما تساق هدياً إلى بيت الله، وتقول: فلان جلل فلاناً بالنعم. أي: غطاه وغمره، فكذلك كانوا إذا ساقوا الهدي إلى بيت الله تكريماً وإمعاناً في القربة إلى الله، يزينون تلك البدن بنوع من الأقمشة الجديدة، فيجعلونها عليها تجميلاً لها، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما إذا أهدى إلى البيت كسا هديه من الجلال في أول خروجها، ثم إذا أراد أن يشعرها كشفها عنها، ثم بعد ذلك يلبسها إياها، ثم ينزعها حتى تدنو من مكة، فإذا دنت من مكة جللها وذهب بها إلى الموقف، ثم إذا رجع وأراد أن ينحرها، أخذ الجلالة عنها حتى لا يصيبها الدم، وتصدق بجلالها مع لحمها.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم جللنا سحاباً). أي: ارزقنا سحاباً يكون عامّاً شاملاً كما تشمل الجلال بهيمة الأنعام من البدن. وفيه إشارة لطيفة بأن تكون تلك السحابة من باب الجلال، أي: لطيفة نافعة؛ لأن الجلال لا تضر الإبل، فتحملها الإبل متزينة بها، فكذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم أولاً بطلب السحاب، وأن يكون شاملاً مغطياً عاماً كشمول الجلال لبهيمة الأنعام في البُدْن، والله أعلم.
وقوله: (سحاباً كثيفاً) السحاب يأتي خفيفاً، ويأتي كثيفاً متراكماً، والخفيف يسمى الكهام أو الجهام، وهي التي أمطرت ما فيها وأصبحت خفيفة، وتجد السحب الخفيفة سريعة المشي؛ لأنها خفيفة على الرياح، فتمضي سريعاً، أما السحاب المحمل بالماء فتجده بطيئاً في المشي؛ لأنه مثقل بالماء ومحمل به، فالكثيف المتراكم بعضه فوق بعض والمحمل بالماء بخلاف الكهام أو الجهام الذي أراق ماءه، أو لم يحتمل الماء.
وقوله: (قصيفا).
القصيف: فعيل من القصف يقال لصوت قصف الرعد، فالقصيف: الصوت الشديد، كقصف المدافع والأصوات الشديدة، فهذا يدل على كثافة السحاب وغزارة المطر.
قال: (دلوقاً).
الدلوق: فعول من (دلق)، والعامة قد تقول: دُلق ماء الإناء. بمعنى: أُفرغ ما فيه، وتقول: الماء اندلق ، والكأس اندلقت، بمعنى انكفأت وسقط ما فيها، فـ(دلوقاً)، معناها: غزير الماء.
ويقال: إبل دلوق، إذا كانت سريعة، أو: خيل دلوق، إذا كانت سريعة، وكذلك الإناء أو الكأس، فما أسرع خروج الماء منه فهو اندلاق.
قوله: (دلوقاً ضحوكاً). السحاب الضحوك هو الذي يكون فيه البرق، كأنه يتبسم، فهي أوصاف عجيبة جداً، من أنواع البلاغة، واستعمال اللطيف من العبارات، فيسمى أو يعبر عن ضوء البرق الذي يلمع بأنه ثغر آدمي يضحك.
قال: (تمطرنا منه رذاذاً).
(تمطرنا منه) كل ما تقدم صفات للسحاب، فإذا اكتملت تلك الصفات لهذا السحاب فكان مجللا، كثيفاً، قصوفا،ً دلوقاً، ضحوكاً قيل: ماذا ينزل من هذا كله؟ مخافة أن تكون هذه الصفات فيها من جرم الماء وكثرته ما يضر، فيكون الدعاء: ابعث لنا سحاباً هذه صفاته، وتمطرنا منه رذاذاً.
وفي فقه اللغة أن الصوت يوحي بالمعنى، ومن ذلك قول عباد الصيمري من علماء اللغة: إن بين اللفظ ومعناه رائحة شمها أولوا الألباب. بمعنى أن الفطن صاحب الفطرة الصحيحة إذا سمع لفظة فهم معناها من جرس صوتها، واستدل بذلك على أسماء الأصوات في اللغة، وبعض المصادر تدل على معانيها ولو لم تعلمها من القاموس، فتسمع -مثلاً- كلمة (غليان)، و(جريان)، فهذا النطق فيه حركات متوالية، ففي (جَرَيَ) ثلاث حركات متوالية بالفتح، فـ(جريان)، لا يدل على الجلوس، وإنما يدل على الانطلاق، و(غليان)، تدل على أن الماء تحرك. وحين تقول: (حفيف الشجر) فكلمة (حفيف)، توحى بأن شجرة تحركها الرياح وراءك، ولما تسمع (زقزقة العصافير) وتكررها بقولك: (زق زق زق) فكأن عصفوراً في القفص وراءك.
فقالوا: إن أسماء الأصوات مأخوذ من معانيها ما يدل عليها بجرسها، فهنا لفظة: (رذاذاً) كأنها تعطي المعنى، أي: خفيف خفيف.
قال: (تمطرنا منه رذاذاً قِطْقِطْاً).
قوله: (قِطْقِطْاً) هو كقولك: ليقطر نقطة نقطة، فليس هو صب القرب حتى تغرق الدنيا، ويكسر الشجر وتهدم البيوت، وإنما شيئاً فشيئاً، فكأنه شيء غير متواصل، فهو خطوة خطوة، ومقاطع منفصلة.
قال: (قِطْقِطْاً سَجْلاً).
قوله: (سَجْلاً) منه السِجل، والذَنُوب، وهي أنواع من أواني المياه.
هذه صفات الله سبحانه وتعالى، يتوسل بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى رب العزة في قضاء ما سأله إياه، والجلال والعظمة والكبرياء صفات هي صفات الجلال والكمال لله سبحانه وتعالى، ومن صفات العظمة والكمال والجلال الأسماء الثلاثة: الملك، والإله، والرب، وكلها جاءت في سورة الفاتحة، وفي المعوذتين في آخر المصحف.
وأما كونه ذا الإكرام فنحن نسأل ونطلب، فتسأل حاجتك وتطلبها من كريم، فنظهر ونتوسل بهذا الاسم وبتلك الصفة التي تناسب الحاجة.
ومن هنا يقول العلماء في قوله سبحانه: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، وفيما جاء الحديث (إن لله تسعة وتسعين اسماً -مائة إلا واحداً- من أحصاها دخل الجنة) يقولون: هل معنى (أحصاها) حفظها كما هي مكتوبة في آخر المصحف -كما في بعض الطبعات الهندية-، أن (أحصاها) فقه معناها؟
وحضرت مجلساً انعقد بين والدنا الشيخ الأمين -رحمة الله تعالى علينا وعليه- وفضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز في هذا الموضوع في بيت الشيخ، وتذاكرا وقتاً طويلاً، وأخيراً استقر الأمر على أن (حفظها) بمعنى: صانها من التحريف والتأويل، وتأدب بها، فإذا قرأ أو إذا ذكر اسم الله الكريم فلا يبخل، وإذا ذكر اسم الله الرحيم فلا يتجبر، وإذا ذكر اسم الله الرزاق فلا يمنع، وهكذا يتخلق بأخلاق مدلول أسماء الله سبحانه وتعالى.
وهنا يقولون في هذه الآية الكريمة: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] يقولون: لن يتأتى لإنسان أن يسرد تسعة وتسعين اسماً، ويقول: يا رب: أعطني، أو يا رب: ارزقني. أو: يا رب: اغفر لي.
قالوا: المراد هنا والمناسب أنك إذا سألت الله شيئاً انظر من أسمائه سبحانه ما يتناسب مع هذا الذي سألته، وتوسل إليه سبحانه بهذا الاسم، فإذا كان الإنسان فقيراً ويريد التوسع في الرزق، فهل سيقول: يا قهار، يا جبار، أم سيقول: يا رزاق، يا كريم؟ سيقول: يا رزاق، يا كريم.
وإذا كان يطلب المغفرة فهل سيقول: يا شديد العقاب يا شديد العذاب، يا جبار؟ إنه سيقول: يا غفار. يا رحيم، وهكذا.
وقد جاء في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها حينما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فضل ليلة القدر، فقالت يا رسول الله! ماذا أقول إن أنا صادفتها؟ قال: (قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعف عني).
أي: من صفاتك العفو، وأنت تحب العفو، وتحب من يعفو عمن ظلمه، فأسألك بما تحبه، وما أنت متصف به أن تعفو عني.
فالسؤال يكون بذكر الصفة التي يتصف بها الله سبحانه وتعالى، والتي يحبها في عباده، فـعائشة رضي الله تعالى عنها لم تقل: يا رزاق، يا كريم. ولم تقل: يا غفور، يا رحيم. ولم تقل: يا ذا الجلال والإكرام. ولم تقل: سبوح قدوس. وكل ذلك من صفاته سبحانه وتعالى، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم علّمها أن تأتي لمسألتها فتسأل الله بالصفة التي ترتبط بهذه الحاجة، وهكذا هنا: (يا ذا الجلال والإكرام).
هذا الحديث يستوقف كل مسلم وقفة طويلة، لا للاستسقاء فحسب، ولكن للتأمل في عجائب قدرة الله، وللتأمل فيما وهب الله لأصغر مخلوقاته من معرفته سبحانه، وما أهمه وجعل فيه من غرائز. تفوق عقل الإنسان في تصرفاته وعقائده.
وهذا الحديث يمكن أن يدخله العلم في عدة أبواب، فمثلاً في الأصول يدخل في مسالة (شرع من قبلنا هل هو شرع لنا) لأن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر لنا ما وقع لمن كان قبلنا، وهو نبي الله سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وسليمان عليه السلام قد خصه الله بملك لم يأته لأحد من بعده، فعلمه منطق الطير، وسخر له الجن والريح، وأعطاه -كما في كتاب الله- ما لم يؤت أحد من العالمين.
وها هو كما في كتاب الله يسمع خطاب النملة، ويفقه ما قالت، ويتبسم ضاحكاً من قولها، وها هو صلى الله عليه وسلم -وهو الصادق المصدوق- يخبرنا بأن نبياً قبلنا -وهو نبي الله سليمان- خرج يستسقي.
فالاستسقاء قديم في الأمم الماضية، وهو دأب المسلمين الذين يعلمون بأنه لا يسوق الخير إلا الله، ولا يدفع الشر إلا الله، ولا يقوى على إنزال المطر سواه، فخرج نبي الله سليمان يستسقي -أي: يطلب السقيا، وبمن معه- فإذا به يرى النملة.
وأما كيف رأى النملة وكيف سمعها فهذا أمر لا يقوى عقل البشر على إدراكه، وإنما عليه أن يؤمن بما وقع، ويترك كيفية وكنه ذلك لله رب العالمين.
وإن قيل: كيف يراها على صغرها وهو خارج في جمع من الخلق؟
نقول أيضاً: وكيف سمعها وهو في جنده وهي تقول: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ... [النمل:18]
فالله سبحانه وتعالى أعطاه القدرة على رؤيتها وهو في حالته، فلو كان جالساً أو ماشياً على قدميه فإنه يتفقد ما تحت رجله، أو ينظر إلى القريب منه، ويمكن أن نقول ذلك في هذه الحالة، لكنه خرج في جمع من أمته يستسقون رب العالمين، فكيف رآها؟
وعند هذه الآية الكريمة يروي بعض العلماء أن النملة رأتهم من مسافة ستة أميال قبل أن يصلوا، ثم أنذرت قومها، وسنرجع إليها إن شاء الله.
في موضوع الدرس هنا أن نبي الله سليمان خرج يستسقي -أي: يطلب السقي- فإذا به يرى نملة، ولم يرَ النمل كله، فيراها على تلك الحالة، ورأى قوائمها التي تكاد تكون أنحل من الشعر، وهي رافعة قوائمها إلى السماء، ولها ست قوائم. فاستلقت على ظهرها ورفعت قوائمها، وهذا فيه رد على من لا يرى رفع اليدين في الدعاء، فهذه نملة تعرف أين تتوجه، وتسأل المولى لا من بطن الأرض، ولا من شرق ولا غرب، ولكن من السماء من العلو، ترفع قوائمها إلى الله كالذي يرفع يديه مستصرخاً ضارعاً، كما تقدم لنا أنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه حتى رئي بياض إبطيه -أي: في هذه الحالة بالذات-، وهذه النملة مستلقية على ظهرها، ورفعت قوائمها تسأل الله.
ثم يروي لنا أنها قالت: (اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك)، أو (بذنوب العباد) كما في رواية أحمد : (فلا تهلكنا بذنوب العباد، لا غنى لنا عن سقياك)، وفي بعض الرويات -كما يذكرها الجاحظ : (إن لم تسقنا تهلكنا، إن لم تسقنا فأمتنا) أي: لنستريح من عذاب القحط.
فهذه نملة وهي أيسر ما تكون تأتي بهذا العمل، فمن أحق باللجوء إلى الله الإنسان أم هذه الحشرة؟ ومن أحق بالضراعة إليه الإنسان أم هي؟ ومن أحق بالاعتقاد بأن كل شيء بيده سبحانه؟!
فما كان من نبي الله سليمان إلا أن اكتفى بدعائها، وقال لمن معه: (ارجعوا؛ فقد سقيتم بدعوة غيركم).
فالله تعالى سمع دعاء النملة، كما يقول الزمخشري:
يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى نياط عروقها في نحرها والمخ من تلك العظام النحل
فالمولى سبحانه يسمع ويرى دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، فهذه هي القدرة الإلهية والعظمة الربانية، فهو الله ذو الجلال والإكرام سبحانه.
فإذا بسليمان ومن معه يرجعون.
فلله خلائق أخرى، ولله أمم وأجناس، فهو أرحم الراحمين.
وقد قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام:38]، فالطيور والوحوش والحشرات إنما هي أمم ولها نظامها.
يقولون عن هذه الآية الكريمة: حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ [النمل:18]: هل للنمل وادٍ؟ والجواب: نعم. وأتثبت الكتب والدراسات الحديثة أن في بعض الدول -خاصة في أمريكا وفي أفريقيا- ودياناً لا يسكنها إلا النمل، وقد يتخذ له بيوتاً، أو مساكن كما قالت النملة: ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ [النمل:18]، فللنمل مساكن، ويتفق علماء الحيوانات والحشرات وكتب التفسير على أن نظام النمل في بيته كنظام الإنسان سواءً، ففي بيوته دهاليز وطرقات وحُجَر، فحجرة يخزن فيها الطعام، وحجرة يضع فيها البيض الخاص بالنمل، وحجر لتصريف المياه، فإذا دخل المطر فإن حجر المياه تكون منخفضة إلى أسفل، والحجر التي فيها الطعام تكون مرتفعة إلى أعلى.
ويذكر بعض العلماء أن النمل يبني له قرية يسمونها (مستعمرة النمل) على اصطلاحهم، وتكون هرمية الشكل، فمن أعلى تنتهي برأس، ومن أسفل تنتهي بقاعدة، يقول بعض الكتّاب: ربما تسع اثني عشر رجلاً. وتكون على طبقات ودرجات، وكل طبقة فيها عدة بيوت، ومجموعها يسمى (قرية النمل)، أو (مستعمرة النمل)، وذكر الجاحظ عن أبي موسى الأشعري أنه قال: إن للنمل سادة. فسئل قتادة: وما معنى السادة؟ وقال: ساداته الذين يخرجون طلائع يطلبون الغذاء من كل جانب، ثم يرجعون وينذرون جماعتهم فيأتون إليه، وكلهم يتفقون على أن النمل أعطي من الحكم والسياسة ما أعطيه ساسة الأمة، أي: ساسة الدول، ومن الهندسة والمعرفة والقوة ما لا يرى نظيره عند البشر.
فمن الحكمة عند النمل أنه يجمع طعام الشتاء في الصيف، فإذا جمعه وخزنه فلقه نصفين -وانظر إلى الإلهام والغريزة-. وبعض العلماء يقول: إنه يفلق الحبة نصفين حتى لا تنبت ، وبعضهم يقول: هو لا ينصفها، وإنما يأتي إلى منبت الزراع فيخرم الحبة منه، ويخرج ما سيكون نباتاً مخافة أنه إذا بقي في الجحر وجاءته رطوبة يزرع وينبت، فلا يستفيد منه شيئاً، إلا حبة الكزبرة، فإنه يقسمها أربعة أقسام، فالبر والذرة وغيرهما يأخذ منه محل المنبت، وحبة الكزبرة بالذات يقسمها أربعاً؛ لأن حبة الكزبرة بذاتها فلقتان، وكل فلقة صالحة أن تنبت وحدها، فلو فلقت الكزبرة فلقتين فكل فلقة ستنبت نبتة، كما تنبت حبة البر الكاملة، فالنمل لا يكتفي بكسر حب الكزبرة نصفين كما يفعل في حبة البر ، لكن يكسرها أربعاً ليقسم كل نصف حتى لا ينبت النصف وحده.
وإذا قدر ودخل المطر عنده، أو جاءت الرطوبة انتظر طلوع الشمس، وأخرج كل ما عنده في مستودعاته ونشرها في الشمس، أو في الليالي المقمرة؛ لأنه يستفيد من ضوء القمر كما يستفيد من حرارة أشعة الشمس، فإذا ما جف وأمن عليه العفونة رده في مكانه، ويذكرون من عجائب النمل ما لا يستطيع إنسان أن يحصيه؛ فإن هناك أشياء كثيرة وغريبة وعجيبة، ولتقرأ في هذا كتب الأدب، ككتاب الجاحظ ، ومن كتب الثقافة العامة (حياة الحيوان)، أو أنواع التفسير، ومنها تفسير الفخر الرازي، ولكنه أشار إشارة خفيفة إلى عموم وأصول سياسة النمل وحياته.
ويتفق العلماء إلى أن أقوى مخلوق هو النملة، بمعنى أنه يحمل أضعاف وزنه، بخلاف الإنسان، فإنه في علم الرياضة أول درجة في البطولة هي من يحمل وزنه، فمن استطاع أن يحمل وزنه دخل في درجة البطولة، وكلما استطاع حمل أكثر من وزنه دخل في البطولة أكثر، أما النملة فتحمل أضعاف وزنها، حتى قال بعضهم: تحمل الصفف ثلاث مائة مرة.
ومن طبائع النمل أنه لا يجب الكذب، بل يقتل الكاذب، وذكروا عن بعض الأشخاص أنه كان في فلاة، وكان يتناول طعاماً، فسقطت منه فتاتة من طعامه، فإذا بنملة تأتي، ومن العجيب في شأن النمل والذباب أنك تكون في مكان لا نمل فيه ولا ذباب البتة، فإذا أخرجت طعاماً وسقط منه شيء على الأرض فسرعان ما تجد نملة عندك، أو ذبابة تحوم حولك، فتلك النملة هي رائدة القوم، فإن استطاعت أن تحمل ما سقط على الأرض أخذته بفيها وذهبت إلى جحرها، وإن لم تستطع أخذت قليلاً منه -إن أمكنها- وذهبت إلى جحرها، واستدعت جماعة يتعاونون على هذا الطعام الصغير، ويحملونه إلى الجحر، فهذا الشخص سقطت منه فتاتة، فجاءت النملة تحملها فما قدرت فذهبت، ولم تلبث أن جاءت بمجموعة من النمل، ففطن أنها ذهبت تدعوهم، فلما اقتربوا من تلك الفتاتة حملها هذا الرجل، فأخذ النمل في البحث في المنطقة فما وجد شيئاً فرجع، ثم وضعها بعد ذلك، فجاءت نفس النملة ووجدتها، فرجعت إلى جماعتها، فجاءت فحمل الرجل تلك الفتاتة، وفي المرة الثالثة لما لم يجدوا تلك الفتاتة جاءوا إلى النملة التي أخبرتهم وقتلوها لأنها كذبت عليهم.
فهو ينظم عمله، وينظم جماعته، ولديه ترتيب في بيضه، وفي حضانته، وفي غير ذلك، حتى قال بعض الناس: إنه يختزن طعاماً يكفيه عدة أعوام، ولسنا نطيل الأمر في ذلك، ومن أراد التوسع في أخباره فليرجع إلى تلك المراجع التي أشرنا إليها أو غيرها.
ويهمنا في هذا البحث الطلب والرجاء، وأن ندرك أن هذه النملة أدركت حياتها، وأيقنت بربها، وآمنت بقدرته وأنه القادر على ذلك، وإدراك النمل وإدراك الحيوان ثابت في القرآن الكريم والسنة النبوية أيضاً.
ففي القرآن الكريم ذكر الهدهد، وهو طائر من الطيور -كما أن النملة حشرة من الحشرات- ذهب فمكث غير بعيد، وجاء إلى نبي الله سليمان وقال: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ [النمل:22]، وأخبره عن بلقيس، ثم كان من أمره أن أنكر عليهم السجود للشمس والقمر من دون الله، فلم يكن أن أكتشف بلقيس فحسب، بل أنكر عليها الشرك بالله في عبادة الشمس والقمر، ثم كان من أمره ما كان.
وذكر مالك رحمه الله في الموطأ في فضل يوم الجمعة أنه تقوم فيه الساعة، وقال: وما من دابة إلا تصغي بسمعها بعد طلوع الفجر من كل يوم جمعة مخافة أن تقوم الساعة، أو شفقاً من الساعة.
فالدواب تميز بين الخميس والجمعة والسبت، وتصغي بسمعها يوم الجمعة بعد الفجر، وليس في الظهر والعصر، وتؤمن بأن القيامة تقوم في يوم الجمعة، وتصغي بسمعها.
وعلى هذا فجميع الحيوانات تدرك، ومن ذلك البعير الذي ند عن صاحبه، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب الرسول إليه، وأراد أن يدخل، فقال أبو بكر: على رسلك -يا رسول الله- فالجمل هائج فقال: (على رسلك أنت)، ودخل صلى الله عليه وسلم، واستقبله البعير، ووضع فمه على رأسه صلى الله عليه وسلم، وأصغى إليه رسول الله، ثم انتهى بعد ذلك وقال: (يا صاحب البعير! بعيرك يشتكي كثرة الكلف وقلة العلف) أي: إن قانون المعاوضة لم يعتدل، ولم يتزن، فتكلفه أكثر مما تعلفه، وهذا ليس عدلاً، فلما انتهى قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله! لكأن الجمل يعلم أنك رسول الله، فكيف جاءك وكيف خضع لك، وكيف جاء وكلمك وفهمت منه؟ فقال: (يا
وقد نكون أطلنا في هذا الموضوع، ولكن يهمنا تنبيه العقول، وتنبيه الضمائر، ولفت الأنظار إلى أن الكائنات كلها تعلم بوجود الله، وتؤمن بالله، وتؤمن باليوم الآخر، وهذا الذي أردنا التنبيه عليه، وإن كان خارجاً عن موضوعنا.
وقال بعضهم: لا حاجة إلى ذلك.
وهنا مسألة، وهي: هل يجوز قتل النمل أم لا يجوز؟
فمما يذكرونه عن عبد الله بن أحمد أن رجلاً رأى جارية له تقتل نملة، فقال: لا تقتليها. وطلب كرسياً وجلس عليه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها النمل! أخرجوا عنا. وفي بعض الروايات قال: إني لا أحب أن تقتل في بيتي، وبعضها يقول: اخرج عنا وإلا أحرقتك. قال: فأخذ النمل يخرج أرسالاً.
وجاء في الحديث أن نبياً من الأنبياء كان في طريقه -وبعضهم يعزوها إلى نبي الله موسى، فقال: يا رب! تهلك قرية لرجل فيها فاسق! -أي: لمعصية إنسان تهلك قرية بكاملها- فأراد الله أن يريه الآية، فخرج مرة ثم جلس في ظل شجرة، واتكأ ونام، وفي أثناء نومه -كان بجانبه بيت للنمل-، فجاءت نملة وقرصته، فانتبه مذعوراً، فقام وأفسد قرى النمل كلها، فقال له الله سبحانه وتعالى: أمن أجل نملة تهلك القرية كلها؟! فتذكر سؤاله الأول.
وأخبار هذه الحشرة كثيرة، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن قتل النمل والصرد والهدهد.
تقدم أن من هيئة صلاة الاستسقاء رفع اليدين حتى يُرى الإبط، وكيف يكون وضع اليدين في حالة رفعهما؟
يذكر العلماء أن الإنسان إذا سأل الله فإن سؤاله في أحد أمرين: إما أن يسأله جلب نفع، أو يسأله دفع ضر، وهذان الأمران هما مقاصد العقلاء في الدنيا، فلا تجد عاقلاً في أي بقعة من الأرض من أي جنس من الأجناس على أي دين من الأديان. إلا وهو يسعى لأحد أمرين، إما ليجلب نفعاً، أو ليدفع ضراً، فيقولون في آداب الدعاء: إن كان الدعاء لطلب نفع طلب بأكف يديه، وجعل أكفه إلى السماء، وجاء الحديث: (إن الله حيي كريم يستحيي من عبده أن يمد يديه فيردهما صفراً)، وإذا كان الدعاء لدفع مضرة. قالوا: يجعل ظهور يديه إلى السماء، كأنه يريد أن يدفع هذا الذي نزل، والاستسقاء فيه طلب نفع، وفيها دفع ضر، ولكن دفع الضر مقدم؛ لأن دفع الضر هو السبب لطلب الخير، والضر النازل هو القحط.
فقالوا: كان صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه إلى الاستسقاء قدم جانب دفع الضر الواقع بهم، كما في حديث عائشة (شكوتم إليّ قحط بلادكم)، والقحط ضر، فكان يجعل ظهور كفيه إلى السماء، والله تعالى أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر