وبعد:
فقد ورد أن هناك من يرى أن المسافر مهما كانت ظروفه فله أن يقصر حتى يرجع إلى بلده كما فعل صلى الله عليه وسلم حتى رجع إلى مكة، ولكن ينبغي التأمل؛ لأنهم ينزلون هذا الحكم على صور لا تنطبق عليها أحكام السفر، ولعلنا سمعنا من البعض أنه يفتي الطلاب الدارسين في الخارج أن لهم الحق في الفطر في رمضان وقصر الصلاة حتى يعودوا إلى بلادهم، وهذا لا يتمشى مع قواعد السفر، لماذا؟
لأنهم متفقون على أن من كان مسافراً ونوى إقامة، فإن نية الإقامة تقطع حكم السفر، وخالف في ذلك الأحناف فهم يقولون: البدو الذين يتتبعون مواقع القطر نية إقامتهم في موطن من المواطن لا تقطع عنهم حكم السفر؛ لأنهم في ترحال دائم، إلا إذا بنوا خيامهم ومساكنهم فتكون نية الإقامة مصحوبة بالفعل.
وهؤلاء الذين يذهبون إلى الدراسة أو إلى الدورة العلمية لا يجهلون متى تنتهي دراستهم أو متى تنتهي دورتهم التدريبية، فهم قبل أن يخرجوا من بيوتهم يعلمون المدة التي سيمكثونها كأن تكون الدورة محددة بكذا أسبوع أو بكذا يوم، أو بكذا شهر، وإن كانت دراسة فالسنة الدراسية معلومة.
إذاً: لا ينطبق عليهم حالة الإقامة المجهولة الأمد، فهي معلومة عندهم، والإقامة المعلومة عندنا ليس رخصة فيها عندنا إلا أربعة أيام.
إذاً: كل من سافر لمهمة ويظل غائباً في سفرته إلى مدة يقال له: إن كانت مدة سفرك معلومة ومحددة بأربعة أيام فلك أن تقصر حتى ترجع، إن كانت محددة بأكثر من أربعة أيام فعليك أن تتم من أول يوم تصل فيه، وإذا كانت غير معلومة فلك الحق في القصر في مثل ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، والزائد عن ذلك حكمه الإتمام.
إذا كان كل من خرج في بعثة أو في انتداب أو في دورة يعلم مدة إقامته في ذلك المكان، فقد خرج عن كونه مجهول المدة، فلا يحق له أن يقصر نظراً لهذه الملابسات.
وإن كان خلاف هذا فقد قيل عن أبي حنيفة رحمه الله أو المذهب الحنفي بالرخصة إذا كان لا يعلم متى سيخرج، ويمثلون لذلك بالجيش المحاصر لبلدة ولا يعلمون متى سينتهي الحصار، فلهم أن يقصروا إلى العشرين يوماً، والأحناف يقولون: يقصرون حتى تنتهي المدة، ولو كانت شهراً أو شهرين أو أكثر أو أقل.
وهناك من يحتج بخبر عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: جاء رجل فسأل: ما حكم المسافر.. وإنا نقيم هناك العشرين يوماً نبيع ونشتري ... فقال ابن عمر : أو ما علمت، لقد كنا بأذربيحان، وكنا قد حاصرنا الثلج، ووجدتهم يقصرون ستة أشهر.
هنا قال بعض العلماء: هؤلاء أقاموا مدة ليست معلومة وقصروا ستة أشهر.
ولكن الجمهور يجيب عن ذلك ويقولون: أذربيجان ليست مدينة معينة، ولكنها إقليم، وهذا الإقليم متسع، كما لو قائل: كنت بالكوفة، كنت بالبصرة، كنت بالعراق، كنت بالشام، كنت بمصر، والغزاة هناك ليسوا مرابطين في مكان واحد، إنما هم يتجولون، فإذا انتقل في أذربيجان مسافة توجب القصر أو تبيح القصر كان دائم السفر.
فلو أن إنساناً سافر إلى الشام في مهمة، تقتضي أن يتنقل من دمشق إلى حمص، ومنها إلى حلب، وهكذا بين مدن الشام؛ فهو مسافر.
لو جاء الحاج إلى مكة والمدينة أو جدة، فمجيئه إلى جدة سفر، ومن جدة إلى مكة سفر، ومن مكة إلى المدينة سفر، ولو أراد أن يسافر من المدينة إلى الرياض أو إلى القصيم أو إلى الطائف، فكل هذا يسمى في حقه سفراً، وله أن يقصر فيه؛ لأنها أسفار ومسافات تبيح له القصر.
إذاً: كل الصور الموجودة في بعثات دراسية أو نحوها مدتهم معينة فلا يدخلون في الخلاف أبداً، ولا حتى عند الأحناف، أما إذا كانوا في مدد غير محددة فالأحناف يرخصون: لهم أن يقصروا، والجمهور يقولون: لا يزيدون عن المدة التي ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذا جئنا بشخصين أقاما خارج البلد لمهمة طويلة ومضت المدة، وأحد الشخصين أتم الصلاة، والآخر استمر على القصر، فنقول: يا فلان! عودك إلى الإتمام عودة إلى الأصل، وأنت يا فلان! استمرارك على القصر على أي أساس؟ وما هو الأحوط في حق الصلاة: العودة إلى الإتمام، أو البقاء على القصر بدون أصل يعتمد عليه؟
إذاً: العودة إلى الإتمام والرجوع إلى الأصل على سبيل الاحتياط يكون أولى، وهذه المسألة كما ذكرت كثر النقاش والكلام فيها قديماً وحديثاً، في هذا ما أحببنا التنبيه عليه لم هذه الحالة، ونسأل الله لنا ولكم التوفيق.
ما صنعه البيهقي رحمه الله هو -كما يقال- منهج علمي لطالب العلم ليخرج من مأزق اختلاف الروايات بما يمكن من الجمع بينها، فقد ورد: (تسعة عشر، سبعة عشر، خمسة عشر) فما هي الحقيقة؟
الكل حقيقة، باعتبار احتساب يومي الدخول والخروج في العدد، أو إسقاطهما، أو إسقاط أحدهما، وبقيت الخمسة عشر على أصول علم الحديث شاذة؛ لأنها خالفت الثقات.
ونظير هذا أيضاً في الحج: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال: يا ابن عباس : عجبت من أمر الناس، لم يحج الرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة، وأراهم يختلفون من أين أهلَّ، فمن قائل: أهلَّ في مكانه وفي مصلاه في ذي الحليفة، ومن قائل: أهل حينما استوت به راحتله، بعد ما صعد الناقة وقامت ونهضت، ومن قائل يقول: أهل بالبيداء، والبيداء المحل المرتفع فوق ذي الحليفة بمسافة قريبة، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: يا ابن أخي! أنا أخبرك، أهل في البيداء، وعلى راحتله، وفي مصلاه، والكل صادق!
هذه مواطن مختلفة، ومن قواعد الخلاف اختلاف الزمان والمكان، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: أنا أخبرك، صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح أو الظهر -على خلاف في الروايات- وأهلَّ من مصلاه، فسمع ذلك قوم وأخبروا بما سمعوا، فلما ركب راحلته ونهضت به أهل، فسمع بذلك قوم فأخبروا بما سمعوا، ولم يكونوا سمعوا ما قبلها، فلما استوى على البيداء أهلَّ، فسمع بذلك قوم فأخبروا بما سمعوا ولم يكونوا قد سمعوا ما قبلها، والكل صادق.
ولا معارضة في ذلك.
وعلى هذا فالواجب على طالب العلم حينما يمر بحديث ويأتي حديث آخر فيه شبه التعارض مع الحديث الذي مر عليه، فلا ينبغي أن يستقل بنفسه، ولا أن يقف بين الحديثين موقف المتردد أمام نصين شبه متعارضين عنده، وواجب عليه شرعاً ألا يتكلم في شيء من ذلك حتى يرجع إلى ذوي الشأن، وهم العلماء الذين جمعوا أطراف الأحاديث، ونظروا في الخلاف بينها، ثم جمعوا بين المختلف وبينوا لنا المنهج والطريقة، وهذا هو الذي يسلم به طالب العلم ويكون على بينة من أمره.
قال المؤلف: [ وله عن عمران بن حصين رضي الله عنه: (ثماني عشرة) وله عن جابر رضي الله عنه: (أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة) ورواته ثقات، إلا أنه اختلف في وصله. ]
الرواية المشهورة في تبوك: أنه مكث عشرين يوماً، سواء اختلف في وصله أو انقطاعه؛ فإن الروايات الأخرى عن ابن عباس وغيره أنه مكث عشرين يوماً، وإذا وقع خلاف في العدد فيكون على ما جاء في خبر مكة: تسعة عشر، ثمانية عشر، سبعة عشر .. إلى آخره.
إقامة النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك كانت للجهاد وكان قد علم الروم جمعوا وأنذروا وتواعدوا في تبوك، ونعلم أن تبوك هي منطقة الحدود بين الحجاز وبين الشام -موقع الروم- لأنه ليس بعد تبوك إلا الشام، فخرج صلى الله عليه وسلم حسب الوعد، في حالة شدة وحرارة، وقد بدأت الثمار بالنضوج وعنايتها مطلوبة، والناس يعانون من قلة ذات اليد، فندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى تجهيز الجيش، فقام عثمان رضي الله تعالى عنه وقدم المئات والآلاف من الإبل بأقتابها ولوازمها، وقيل: جهز جيش العسرة، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما ضر
ويهمنا أنه خرج صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة إلى تبوك، وكان من عادته صلوات الله وسلامه عليه في الغزوات إذا أراد غزاة أن يوري بغيرها، فإذا أراد أن يغزو في الشرق يتساءل عن أحوال أهل الغرب، وإذا أراد أن يغزو في الغرب يتساءل عن أحوال وعن طرق أهل الشرق، حتى يظن الناس أن عنده سفرة إلى الشرق وهو يريد الغرب، وهذا كما يقال: من السياسة في الحرب، والحرب خدعة، وكما جاء في فتح مكة: اللهم عم عليهم الأخبار؛ حتى باغتهم في مكة.
هكذا كانت عادته صلى الله عليه وسلم إلا هذه الغزوة؛ لطول المسافة، ولشدة الجهد وشدة الحر، أعلمهم قبلها بشهر، فقال: الموعد إلى تبوك في الوقت الفلاني، فأخذ الناس يتجهزون عياناً، فذهب صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ومكث فيها عشرين يوماً ينتظر الروم، فلما بلغه أن الروم لن يأتوا قفل راجعاً إلى المدينة.
هذه الغزوة كانت غزوة مباركة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صالح كل القبائل التي في طريقه وحولها، فأمن الحدود بالصلح مع تلك القبائل، ورجع بسلامة الله، والحمد لله.
والدارس لهذه الغزوة يجد أشياء عديدة: منها المبشرات: لما رأى أحداً من بعيد أسرع وقال: (هذا جبل يحبنا ونحبه)، ثم كانت حادثة مسجد الضرار، وأرسل صلى الله عليه وسلم من سبقه إليه فأحرقه على قضايا كانت قبل الذهاب وقبل الخروج.
ويهمنا هنا: مكثه صلى الله عليه وسلم في تبوك، فقد كان على غير تحديد للمدة؛ لأنه كانت ينتظر العدو، ولم يعلم متى يأتي هذا العدو، والله تعالى أعلم.
السؤال: ما نوع القصر في السفر: هل هو قصر كيفية أو قصر كمية بالعدد؟
الجواب: قصر كمية.
السؤال: هل هناك قصر كيفية أم لا؟
الجواب: الموجود ومحل البحث عند الجمهور قصر الكمية، بحيث تقصر الركعات إلى اثنتين.
السؤال: هل هناك من يقول بقصر الكيفية أم لا؟
الجواب: نعم. هناك من يقول بقصر الكيفية كما ذكره الفخر الرازي في التفسير والشيخ الأمين في أضواء البيان.
السؤال: كم طول السفر الذي يكون فيه القصر؟
الجواب: أربعة برد.
السؤال: كم مقدار البريد؟
الجواب: أربعة فراسخ، والفرسخ.. ثلاثة أميال، والميل كيلو ونصف تقريباً.
إذاً: الأربعة البرد ستة عشر فرسخاً، وستة عشر فرسخاً تساوي ثمانية وأربعين ميلاً.. والثمانية والأربعون ميلاً تساوي حوالي اثنين وسبعين كيلو متراً.
إذاً: المسألة تقريبية.
السؤال: متى يشرع المسافر في القصر؟
الجواب: يشرع للمسافر القصر إذا خرج من البلد التي هو فيها.
السؤال: وكيف يعرف أن قد خرج من بلده؟
الجواب: عند آخر معالمها. أي: نستطيع أن نقول: عند نهاية الخدمات الاجتماعية، فإذا خرج الإنسان عن تلك المناطق التي تشملها الخدمات العامة في البلد من كهرباء ومياه وصرف صحي وغيرها، فقد خرج من البلد.
السؤال: هل مسافة الاثنين والسبعين كيلو تشترط في الذهاب والإياب أم في الذهاب فقط؟
الجواب: الذهاب فقط، فلو أن السفر ذهاباً وإياباً مجموعه اثنين وسبعين كيلو فلا يصح فيه القصر.
السؤال: هل يكون القصر لضرورة كما جاء في الآية: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101] أم يجوز القصر مع الأمن والاستقرار والطمأنينة؟
الجواب: يجوز مع الأمن.
السؤال: هل القصر رخصة أم عزيمة؟
الجواب: اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: إنه عزيمة، وهذا بناء على أن قصر الصلاة في السفر واجب.
والقول الثاني وقال به الجمهور: إنه رخصة، واختلف هؤلاء، فمنهم من قال: رخصة والإكمال أتم، ومنهم من قالوا: رخصة والأخذ بالرخصة أفضل، وهم الإمام مالك وأحمد رحمهما الله.
الحمد لله على هذه النعمة، ونسأل الله تعالى أن يعلمنا ما جهلنا، وأن يذكرنا ما نسينا، ونسأل الله أن يشرح صدورنا، وينير بصائرنا، ويفقهنا في ديننا، إنه على كل شيء قدير.
قلنا: إن الأصوليين يقولون: تحقيق المناط هو التحقق من تطبيق النص على الجزئيات، ويقولون في قوله سبحانه: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ [المائدة:95]، فالحكم الأساسي في قتل الصيد أن من اصطاد شيئاً من النعم وهو محرم في الحرم، أنه يكلف بمثله، هذا الحكم هو حكم شرعي.
إذاً: تحقيق المثلية هو تحقيق المناط، وقلنا: من قتل غزالاً فالمثلية تكون بشاة، ومن قتل بقر الوحش فتحقيق المثلية في البقرة الأهلية، من قتل نعامة فتحقيق المناط فيها بدنة.
إذاً: تحقيق المناط، يعني: تطبيق الجزئيات على الحكم العام.
أما التنقيح فهو التصفية، مثلاً: إذا جمعت الحب ولم تنقه وجدت فيه -إن كان براً مثلاً- التبن والحصى، فيأتي الرجل المتخصص بهذا ويأخذ الغربال وينقح الحب، بمعنى: أن يطرد الشوائب الغريبة ليبقى الحب صافياً، فكذلك الأحكام الشرعية فيها تنقيح.
أي: تصفية الأوصاف الطردية التي لا اعتبار لها ولا تأثير في الحكم، وإبقاء الحكم للوصف المعتبر المراد، الذي هو علة الحكم.
ويمثل الأصوليون بالأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضرب صدره، ينتف شعره ويقول: هلكت وأهلكت -كل هذه صفات- فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما الذي أهلكك؟ قال: واقعت أهلي في رمضان، قال: تعتق رقبة، قال: ما أملك إلا رقبتي هذه، قال: فصم شهرين متتابعين، قال: وهل أوقعني في المهلكة إلا الصوم، قال: فأطعم ستين مسكيناً، قال: ليس عندي ما أطعم ...) يهمنا هنا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم رتب عليه الكفارة، عتق.. صيام.. إطعام.
إذاً: هذه الكفارة التي رتبها صلى الله عليه وسلم هل رتبها على كونه أعربياً يضرب صدره وينتف شعره، أم على كونه واقع أهله؟
فهنا يأتي العلماء ويقولون: ننقح وننظر: فكونه أعرابياً لا يؤثر في الحكم، فلا فرق بين الأعرابي والحضري، إذاً تعليق الحكم على وصف الأعرابي بأعرابي يلغى؛ لأننا وجدنا الشرع لا يعتبر ذلك في الأحكام، فلا فرق بين أعرابي وحضري وتركي وزنجي.
ووصفه: (يضرب صدره وينتف شعره) هل الكفارة فرضت عليه لكونه كان يضرب صدره وينتف شعره؟ الجواب: لا. إذاً: هذه أوصاف لاغية.
وبقي من الأوصاف قوله: (واقعت أهلي).
فأهله لو كانت جارية مملوكة فماذا يكون الحال؟ قالوا: إذاً: الكفارة أنيطت بعد التنقيح بالوقاع، فمن واقع في نهار رمضان زوجة أو مملوكة فعليه كفارة.
والإمام مالك رحمه الله أتى بغربال أنعم من هذا وزاد في التنقيح وقال: يلغى وصف (كونه واقع)، ويجعل الوصف المؤثر.
هو الفطر عمداً؛ لأنه بوقاعه أفطر عمداً فهو الوصف المناسب للحكم، فقال رحمه الله: من أفطر في رمضان عمداً فعليه كفارة، سواء كان بالوقاع أو كان بغيره؛ لأنه ألغى الوقاع في التنقيحة الأخيرة، وإذا ألغي الوقاع في هذه التنقيحات فلا يبقى إلا انتهاك حرمة رمضان بالفطر، والفطر كما يكون بالوقاع يكون بالأكل والشرب.
ولهذا تجدون أن من فقه مالك في الموطأ أنه أتى بحديث أبي هريرة : (أن رجلاً أفطر في رمضان، فأمره بالكفارة، وساق بعده قصة الأعرابي، فكأنه يقول: الأصل في ذلك الفطر، ثم يأتي بالحديث الآخر الذي عليه الجمهور.
إذاً: هذا يسمى تنقيح المناط.
قال أنس رضي الله تعالى عنه: (كان) وكان هنا تدل على التكرار والاستمرار. أي: كان من شأنه ومن عادته إذا سافر.
وقوله: (سافر) المقصود بالسفر هنا ما تقدم بحثه في قصر الصلاة، يعني: إذا سافر سفراً تقصر فيه الصلاة، ويبدأ المسافر الشروع في القصر إذا جاوز ثلاثة فراسخ أو ثلاثة أميال، ووقع التطبيق العملي منه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، لما صلى الظهر في هذا المسجد المبارك أربعاً تامة، وخرج من وقته ووصل إلى ذي الحليفة فصلى العصر هناك ركعتين. يعني: بدأ في إنشاء القصر بعد أن غادر المدينة، وهذه هي القاعدة في ابتداء القصر، وكذلك الجمع.
وبحث الجمع يدور حول صلاتي النهار: الظهر والعصر، وصلاتي الليل: المغرب والعشاء، هذا هو محل البحث في الجمع بين الصلاتين، بإجماع الأمة، فيقول أنس رضي الله تعالى عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم (كان) وهذه حكاية فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
ويستشهدون لذلك بقضية الحديبية، فإنه لما تم الصلح بين المسلمين والمشركين على أن يتحلل المسلمون في مكانهم، ويرجعون ولا يدخلون مكة، وفي العام القادم يأتون ولهم البقاء في مكة ثلاثة أيام يؤدون عمرتهم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: لقد اصطلحنا على أن نتحلل فتحللوا، فلم يبادر أحد، وتأخروا لا بقصد عدم الطاعة ولكن لأنهم كانوا يؤملون أن يتم لهم الوصول إلى مكة وقد وصلوا إلى مشارف الحرم.
بعض العلماء يقول: كانت خيامهم في الحل، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد الصلاة دخل إلى حدود الحرم وصلى في حدود الحرم؛ لأن الحديبية في حدود الحرم من جهة المشرق.
إذاً: أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبادروا إلى الامتثال، ولما دخل على أم سلمة رضي الله تعالى عنها وهو مغضب، قالت: من أغضبك أغضبه الله؟ قال: وما لي لا أغضب وأنا آمر الأمر فلا يؤتمر به، قالت: وما ذاك؟ قال: قد انتهينا مع أهل مكة على الصلح على كذا وكذا، وأمرتهم بالتحلل فلم يمتثلوا، قالت: اعذرهم، أتريد أن يفعلوا ما تحب؟ قال: بلى، قالت: خذ المدية أو السكين واخرج ولا تكلمن أحداً أبداً، واعمد إلى هديك فانحره، وادع الحلاق ليحلق لك، ثم الزم خيمتك...
وهذه سياسية لطيفة جداً، سياسة الرفق في الدعوة، بخلاف ما كان من عمر، فهو يقول: علام نعطي الدنية في ديننا، ألسنا على الحق وهم على الباطل، أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فكان يريد أن يقاتل، والذي يذهب إلى الجنة يذهب، والذي يذهب النار يذهب، ولكن أم سلمة رضي الله عنها جاءت بحل سلمي، وهو صلى الله عليه وسلم ولم يقل لها: أنت لا تعلمين شيئاً، أو ليس لك شغل في هذا، بل وجد صلى الله عليه وسلم أن الرأي مقبول، وهذا هو الواجب على طالب العلم، فإذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو الذي يأتيه الوحي من السماء يقبل بالرأي الصائب فكيف بنا؟
فأخذ السكين وخرج إلى هديه فنحره،ودعا الحلاق وقال: احلق، فلما رأى الصحابة ذلك لم يبق لهم مطمع في الدخول إلى مكة، وما كان منهم إلا أن بادروا حتى كادوا يهلكون من تزاحمهم على النحر والحلق.
إذاً: اتباع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم للفعل أسرع منهم اتباعاً للقول.
قوله: (إذا ارتحل) أي: شد الرحل على الناقة، وهي كناية عن بداية الرحلة.
قوله: (كان وقت ارتحاله في النهار) (قبل أن تزيغ الشمس): عادة المسافرين أنهم يصلون الصبح وينطلقون؛ لأن في ذلك الوقت بركة، وتكون الإبل مستريحة طوال الليل فيمشون إلى وقت الضحى، كما يقولون: (نضحي) أي: ننزل نضحي، فالضحوة قبل الظهر، (ونعشي) أي: بعد العصر قبل المغرب، فيريحون الإبل إلى أن يصنعوا عشاءهم ويدخل المغرب فيصلون.
فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صادف أن ارتحل في النهار إما أن يكون قبل الزوال وإما أن يكون بعد الزوال.
وقوله في الحديث: (تزيغ الشمس) بمعنى: تزول عن كبد السماء، يقول أنس رضي الله عنه: إن كان ارتحاله قبل الزوال -يعني: قبل مجيء وقت الظهر- وليس هناك صلاة لا تقديم ولا تأخير، فإنه يؤخر الظهر إلى التي تليها وهي العصر، ثم بعد ذلك ينزل، يعني: بعد أن يدخل وقت الظهر وهو في سفره، ثم يدخل وقت العصر وهو في سفره، فيصليهما جميعاً.
وعلى هذه الصورة يعتبر في هذه الحالة جمع تأخير.
يقول أنس رضي الله تعالى عنه: (فإن كان ارتحاله بعد أن زاغت الشمس) أي: بعد دخول وقت الظهر (صلى الظهر ثم ركب) أي: لم يجمع إليها العصر.
إذاً: في حديث أنس : الجمع جمع تأخير، وليس فيه جمع تقديم.
و
يتفق العلماء أو الباحثون أو شراح الحديث على أن جمع التأخير الذي في حديث أنس يقول به داود الظاهري وابن حزم، ولا يقولان بغيره.
إذاً: جمع التأخير فقط هو مذهب داود وابن حزم لحديث أنس ؛ لأن أنس ذكر لنا الحالتين، يرتحل بعد أن تزيغ، يرتحل بعد أن تزيغ، وهما حالتان متعادلتان، وذكر لنا جمع التأخير ولم يذكر لنا جمع التقديم، ورجح ابن حزم ما ذهب إليه في جمع التأخير، فقال: إن تأخير الظهر عن وقتها قد يكون عادة عند بعض الناس حيث ينامون عنها أو ينسونها، فإذا نام إنسان عن صلاة حتى خرج وقتها فإنه يقضيها في وقت الثانية.
قال: إذاً: هذه لها أصل، وكونه يقضيها في وقت الثانية يؤيد جمع التأخير، لكن لا يجوز أن نقدم صلاة عن وقتها.
فهذا ا لحديث أخذ به داود وابن حزم ، ولم يقولا بغيره من صور الجمع.
فجاء المؤلف بما يزيد على قول أنس رضي الله عنه.
فقال: [ وفي رواية للحاكم في الأربعين بإسناد صحيح: (صلى الظهر والعصر ثم ركب).
وفي رواية لحديث أنس عند غير البخاري ومسلم ، أتى بها الحاكم في مصطلح الحديث شأنه عجيب، يقولون: الحافظ من حفظ مائة ألف حديث، والحجة من حفظ ألف ألف حديث، والحاكم من حفظ كل ما يؤثر عن رسول الله، ونحن كم حفظنا؟ والله نحن صفر في الخانة الرابعة على الشمال، لأنا ما حفظنا شيئاً، وأعتقد أن الذي يدعي في الوقت الحاضر أنه من أهل الحديث قد ظلم نفسه، ولا أقول: ظلم الحديث بل ظلم نفسه.
فـالحاكم روى حديث أنس، والحاكم حافظ استوعب كل شيء، فهو يروي حديث أنس الذي رواه الشيخان، وهل رواية الشيخان للحديث تمنع أن يرويه غيرهما؟ لا، لأنهما ما قالا: قد استوعبنا كل ما يمكن أن يكون على شرطنا، فقد يتركون من الأحاديث ما استوفى شرطهما من اللقاء أو احتمال اللقاء، مع الثقة والعدالة والحفظ في كل راوٍ، لكن ما استوعبا كل هذه الأوصاف، بل اختاروا وانتفيا.
إذاً: البخاري ومسلم ساقا لنا حديث أنس على هذا الوضع، وغيرهم ساق لنا الحديث برواية أخرى.
قوله: [ وفي رواية للحاكم في الأربعين بإسناد صحيح: (صلى الظهر..)]
وورودها بإسناد صحيح، معناه أنه ليس لأحد أن يناقش فيها بعد ذلك.
إذاً: الحاكم حكم بأن إسناده صحيح فمن يقدر أن يعارض، فحكم الحاكم يرفع الخلاف.
إذاً: وفي رواية للحاكم في الأربعين التي اختارها بإسناد صحيح.
(صلى الظهر والعصر ثم ركب).
كأن أنساً رضي الله عنه يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر وصلاها مع العصر، وإذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس صلى الظهر والعصر ثم ركب.
إذاً: الفرق بين رواية الحاكم ورواية الشيخين في حديث أنس هي: ذكر العصر مع الظهر في وقت الظهر.
إذاً: سكوت الشيخين في رواية أنس عن تقديم العصر يأتي في رواية الحاكم وتثبت ما أسقطه الشيخان، فهذه زيادة عما في الصحيحين، والزيادة من ثقة، وزيادة الثقة عن المحدثين مقبولة.
إذاً: المؤلف رحمه الله بفعله هذا بين لنا صناعة الحديث، أن حديث أنس في رواية الشيخين اقتصر على الظهر فقط في وقت الظهر، وجاءنا غيره برواية ثقات بزيادة العصر معها.
إذاً: عند الحاكم جمع تقديم وتأخير، وليس جمع تقديم فقط.
وهنا وقفة أيضاً: أخذ الشافعي وأحمد أن الجمع بين الصلاتين المشتركتين في الوقت سنة عنه صلى الله عليه وسلم، إن شئت في التقديم وإن شئت في التأخير، ولكن على هذا الترتيب: إن كان الرحيل بعد دخول وقت الأولى صلاها وقدم الثانية معها، وإن كان الرحيل قبل دخول الأولى أخر الأولى إلى وقت الثانية وصلاهما معاً، فهذا قال أحمد الشافعي ، وقد انتهينا من ابن حزم في قوله بجمع التأخير فقط، وجاءنا هنا أحمد والشافعي رحمهما الله بقول في رواية الحاكم بأنه كان يجمع الظهر والعصر إذا دخل وقت الظهر قبل أن يرحل، وأخر الظهر مع العصر إذا ارتحل قبل دخول الظهر، وقالوا: لك أن تجمع على أي صورة شئت تقديماً أو تأخيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر