الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين.
أما بعد:
فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رصوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق)، رواه أبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان ].
انتهى المؤلف رحمه الله من أحكام الإمام، ثم جاء بما يتعلق بالمأمومين، وبين موقفهم من الإمام، وأين يكون، سواء أكانوا أفراداً أم جماعات.
ويتفق العلماء على قضية، وهي أن المأموم إما أن يكون واحداً، وإما أن يكونا اثنين، وإما أن يكونوا ثلاثة فأكثر.
وهذا تقسيم عقلي، فإذا كان المأموم واحداً فلا يقال: (رصّوا)، إلا أنه بالنسبة لإمامه كيف يكون موقفه من الإمام؟
فمن الجهة -والجهات أربع: يمين، ويسار، وأمام، وخلف- اتفقوا على أنه لا تصح صلاة المنفرد أمام الإمام، ولا جماعة أمام الإمام لغير عذر، وكذلك لا تصح صلاة المنفرد عن يسار الإمام، فإذا كان الأمر كذلك فالأمام واليسار لا تصح الصلاة فيه، وبقي الخلف واليمين.
قالوا: لا يصف الواحد خلف الإمام كما لو كان صفاً كاملاً، وإنما يقف عن يمين الإمام.
فالمنفرد موقفه عن يمين الإمام، وقد جاءت به السنة، كما في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه -وسيأتي- قال: (قام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل يصلي، فقمت فتوضأت وقمت عن يساره، فأخذ بأذني وفتلني من وراء ظهره، وأوقفني عن يمينه)، فهذا موقف المأموم المنفرد.
وبقي التدقيق في موقفه عن اليمين، فقد يكون واقفاً عن اليمين لكن على بعد ذراع، أو يكون عن اليمين وهو متقدم شبراً، أو يكون عن اليمين وهو متأخر شبراً، فأين يكون تماماً؟
منهم من قال: يقف محاذياً له، كما لو كان اثنان في الصف، والآخرون قالوا: لا يستويان. فينبغي على المنفرد أن يكون متأخراً عن الإمام بالحد الذي لو رآه الرائي لعرف المتقدم من المتأخر، أي: لو تأخر عنه قدر أصابع يد كان ذلك كافياً، ولا يكون محاذياً محاذاة كاملة كما لو كانوا جماعة في صف واحد، بل يكون متأخراً قليلاً. فهذا موقف الواحد.
فإذا كانا اثنين فالجمهور على موقفهما خلف الإمام وراء ظهره، وهو أمامهما، ويروى عن ابن مسعود أو عن غيره أنهما إذا كانا اثنين فواحد يقف عن يمينه وواحد يقف عن يساره مع التأخر القليل، ولكن سيأتي حديث جابر وجبار حين كانا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة، قال جابر : (فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي..)، وجاء في الحديث: (..ثم جئت حتى قمت عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، ثم جاء
فهذان اثنان، وموقفهما خلف الإمام.
وعلى هذا فإذا كان المأمومون اثنين فأكثر فموقفهم عند الجمهور خلف الإمام.
فالرصّ بمعنى الجمع، تقول: رصه. أي: شد عليه. بمعنى: شد الحبل عليه شداً، فالتشديد في الحرف يدل على الشدة في المادة، مثل: عضّ، شدّ، مدّ، حدّ.. إلى آخره.
فقوله: (رصوا صفوفكم) يعني: لا تجعلوا بينها خللاً، ولتكن متراصة متلاصقة.
وأيضاً من معاني الرص: الاعتدال؛ لأنه لو وقف واحد متقدماً، وواحد متأخراً فلا رص، ولا يتأتى الرص إلا عند المساواة والاعتدال.
قال: (وقاربوا بينها)، قوله: (بينها) هل المقصود به في الأفراد أو الصفوف؟ في الصفوف.
وتقدم في الحديث: (تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم)، وهنا قال: (وقاربوا بينها)، وتقدم هناك حد التقارب بين الصفوف، وحده ما يقوله العلماء في حد السترة، فبعضهم يجعله ثلاثة أذرع من كعب القدم، وبعضهم يجعله ثلاثة أذرع من أطراف الأصابع، بحيث لا يتسع الفراغ لصف آخر بين الصفين، لا أن يكون بين الصف والصف ما يسع صفين وثلاثة.
ونجد الشارح هنا يتألم ويتوجع، فيقول: إن بعض المساجد تكون فيها الجماعة، فإذا أقيمت الصلاة فإنك تجدهم أوزاعاً في عدة صفوف، ولو اجتمعوا فلن يكملوا صفاً واحداً، وسيأتي التنبيه على هذا.
فقوله: (قاربوا بينها) أي: لا تجعلوا بينها تباعداً، وكما تقدم ألا تزيد المسافة بين الصف والصف، على ما يكون بين المصلي وسترته للصلاة.
قال: (وحاذوا بالأعناق)، الأعناق: جمع عنق، وهو: الرقبة. وتكون المحاذاة بالأعناق في الصف بأن لا يتقدم إنسان ماداً رقبته بالتقدم ولا يتأخر.
وكان السلف رضوان الله تعالى عليهم إذا قاموا في الصف حاذوا، يقول أنس : (كان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه)، فإذا كان الأمر كذلك فهذه حقيقة الرص والمحاذاة.
ونحب أن ننبه إلى فعل بعض المصلين، حينما يكون هناك انفراج في الصف، وهو يريد أن يحاذي ويقارب، فإذا به يفرج قدميه على شكل ثمانية، ويحاول أن يتكلف إلصاق قدمه بقدم من بجانبه، لكنه بهذا الفعل يكون قد أوجد فرجة في نفسه هو ما بين قدميه.
فحقيقة المحاذاة ليست بأطراف الأقدام، ولكن بالقدمين والركبتين والمنكبين، وقد جاء في بعض الآثار عن السلف أن أسرع ما كان يتآكل من فمصهم الكتف لكثرة احتكاك مناكبهم في الصلاة.
وهذه ناحية سيأتي التنبيه على خلافها أو ضدها، ولا يمكن أن تجد إنساناً يقف بجوارك ويلتصق بك وتلتصق به إلا إذا كان بينك وبينه ألفة، أما شخص تنفر منه، أو ينفر منك فقلّ أن يلتصق بك، بل ربما تباعد، وربما جاء بشخص ليقيمه بينك وبينه؛ لأن القلوب متنافرة، أما مع صفاء القلب، ومع طيب النفس وعدم وجود أي موانع أخرى ستجد الإنسان يستريح حينما يأتي إنسان يلصق نفسه به ليكمل الصف ويسد الفرج، وسيأتي التنبيه على مثالب عدم المساواة، وعدم الرص الذي نبه عليه صلى الله عليه وسلم.
لاحظ الترتيب البديع، فبعدما بين حكم الصف في المساواة والتراص انتقل إلى الصفوف وأحكامها، والمفاضلة بينها وبين بعضها، فذكر قوله صلى الله عليه وسلم: (خير صفوف الرجال)، أي حينما تكون صفوف الرجال متعددة.
فالحديث الأول إذا كان صفاً واحداً، وأيضاً في كل صف من الصفوف عليهم أن يتراصوا وأن يساووا الأعناق فيما بينهم.
والصفوف تكون قسمين: صفوف للرجال، وصفوف للنساء، فخير صفوف الرجال أوائلها، والأول يبدأ من أول المسجد من عند الإمام، فالأول هو الذي يلي الإمام، وشر صفوف الرجال أواخرها، والعكس مع النساء، ويلاحظ هنا أن لفظة (خير) هي أفعل تفضيل، ومعناها: اجتمع الخير في الجميع وزاد الأول بزيادة في الخيرية.
فكل الصفوف فيها خير.
فالخيرية ثابتة للجميع، ويأتي في مقابل هذا: (شر صفوف الرجال آخرها) فالأول أثبت الخير للجميع، وهنا أثبت الشر للجميع، ولا يمكن أن يثبت الخير والشر لشيء واحد في وقت واحد، فهذا يسمونه التناقض؛ لأن الخير نقيض الشر، فكيف تجمع وصفين متناقضين؟
قالوا: هذا من باب التفضيل، ومن باب الترغيب، وليس الشر هنا على حقيقته، والحكم حقيقته في الوصف الأول، لأن الصفوف كلها فيها خير، إلا أن الأول أفضل.
قالوا: لأن الإمام أفضل من المأموم من حيث الجملة، وبما أن الإمام أفضل من المأموم. فمن يلي الإمام أفضل ممن يلي المأموم؛ لأن الصف الأول يقتدي به الثاني، والثاني يقتدي به الثالث، ثم جاءت النصوص: (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي على الصف الأول المقدم ثلاثاً، وعلى الثاني مرة) وأيضاً هناك تفضيل ميامن الصفوف، فهناك مفاضلة، وإن كانت صلاة واحدة.
والذين يصلون في الصف الأول يأتون في أول الوقت، فهم يصدق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ورجل قلبه معلق بالمساجد)، وكلما سبق إلى المسجد كلما كان أفضل.
لكن لا يتأخر ثم يأتي يتخطى الرقاب من أجل أن يصل إلى الصف الأول لينال الخيرية؛ لأنه بهذا إنما يريد أن يصل إلى الخيرية على أشلاء الفضائل بإهانته للمصلين الذين يتخطى رقابهم، ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة قال: (اجلس؛ فقد آذيت وآنيت)، و(آنيت) من الأين، وهو الوقت، أي: جئت متأخراً فآذيت، فإذا أردت الصف الأول فاحضر مبكراً.
ولهذا كان الصف الأول خيراً من المتأخر، كما أن الأتبع للإمام من الصفين الصف الأول؛ لأنه يليه مباشرة، وإذا حدث للإمام حدث فالصف الأول أولى به.
فأهل الصف الأول يتابعون الإمام بالصوت وبالرؤية، وهم الذين ينقلون عن الإمام، أو يساعدون الإمام، وإذا حدث أي شيءٍ للإمام فهم أولى به، وسيأتي زيادة إيضاح ذلك عند قوله صلى الله عليه وسلم: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى).
أما النساء فعلى العكس من ذلك، قال: (خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)، وهنا تعليل عملي، قالوا: لأن أول صفوف النساء يلي آخر صفوف الرجال، فتكون النسوة قريبات من الرجال، والمرأة كلما بعدت عن الرجال كان خيراً لها ولو كان في الصلاة، ولهذا كانت صلاتها في بيتها خيراً لها من صلاتها في المسجد.
حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذا أورده المؤلف مختصراً، ولكن الحديث بتمامه فيه صورة تبين الفطرة والذكاء، أو حُسن النشأة، فحينما ينشأ الإنسان في بيت كهذا البيت فإنه يكون الناشئ فيه كما جاء في الحديث: (شاب نشأ في عبادة الله)، والشاب الذي نشأ في عباد الله سيجد عبادة الله أول ما يكون في البيت، فيتلقى العبادة والأخلاق والتوجيه أولاً وقبل كل شيء في البيت.
فـابن عباس كان غلاماً صغيراً، وذهب إلى بيت خالته ميمونة ، وبات عندها، ويقول في بعض الروايات: (فنمت في عرض الوسادة)، وعرضها يمكن أن يبلغ شبراً أو أكثر أو أقل، ونحن نسميه رأس المخدة، فالرسول صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين ميمونة توسدا طول الوسادة متجاورين، وابن عباس توسد رأس الوسادة أو عرض الوسادة.
ولا تقل لي كيف يبيت غلام عند زوج وزوجته؟! لأنها خالته، وأيضاً هو غلام، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين.
فلما كان ثلث الليل أو جزء من الليل قام صلى الله عليه وسلم وذكر الله وسبح، ثم قام إلى بيت الخلاء، فلما دخل الخلاء قام ابن عباس وأخذ أداوة من ماء وملأها من القربة ووضعها عند بيت الخلاء، فلما خرج صلى الله عليه وسلم وجد الأداوة مملوءة فقال: (من وضع هذا؟) قالت له ميمونة: وضع لك هذا عبد الله بن عباس ، فقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، فلم يقل: اللهم كبره وأغنه وسوده، وزوجه.
لأن ابن عباس أبدى نوعاً من الفقه والاستنتاج، وهذه هي المواقف التي تدل على الذكاء والفطنة، لا تلك المسابقات التي تعجز، ولا تلك الأحداث التاريخية، ففي هذه الحالة غلام لم يبلغ وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء، والذي دخل الخلاء إذا خرج يريد أن يتوضأ، فاستنتج الحاجة إلى الماء.
فالاجتهاد والاستنتاج يكون عقلياً ويكون دينياً، فهو استنتج بفكره، وأرشده الله سبحانه وتعالى، وأنار بصيرته فجهز الماء حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا نوع من الفقه، فكانت الدعوة مطابقة له، (فقهه في الدين) يعني زده فقهاً في الدين.
وفي هذا دلالة على أن أشرف العلوم الدينية هو الفقه في الدين.
فلو أن إنساناً حفظ مجموع السنة: صحيح البخاري، ومسلم ، وسنن أبي داود، والنسائي ، والترمذي ، وابن ماجة ، والجامع الصغير والكبير، والموطأ، وغير ذلك، ولكن المسجلة دون أن يفقه شيئاً، وإنسان قرأ بلوغ المرام فقط، وفقه في دين الله، فأيهما أنفع للأمة؟
يذكرون عن بعض شيوخ الأزهر أنه جيء إليه برجل، وقيل له: هذا الرجل حفظ صحيح البخاري. قال: وشروحه؟ قالوا: ليس بعد. قال: زادت نسخة في المكتبة.
وقد روي علي قوله: نحن في حاجة إلى من يعرب القرآن أكثر ممن يقرأ بدون إعراب.
فالفقه في الدين هو الأساس، و(من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).
ولكن الفقه لم يأت من ضرع الناقة، ولا من ضرع الشاة، ولا هو صيد من البحر، ولا هو طير في الهواء، الفقه مجموعة علوم، ولا يمكن لإنسان أن يكون فقيهاً إلا إذا حصّل أدوات التحصيل التي بها يصير فقيها، من أحاديث الأحكام، وآيات الأحكام، وليس من الضروري أن يحفظ الأحاديث كلها أو القرآن كله، ولكن المهم أن يحفظ الآيات التي تعرضت للأحكام، فالقرآن منه ما يتناول القصص التي فيها العظة والعبرة، ومنه ما يتناول الأحكام، سواء في الدماء، أم في الفروج، أم في الأموال.
وبعد أن يحفظ الإنسان آيات الأحكام وأحاديث الأحكام عيه أن يكون بارعاً متضلعاً في اللغة العربية؛ لأنها هي لسان القرآن ولسان السنة، وكيف تفقه معاني كتاب إن لم تفقه لغته!
ويذكرون عن الملك فيصل رحمه الله أنه كان له صديق مستشرق، فكان يذكر له دائماً إعجاز القرآن وآياته وبلاغته فلما أكثر عليه رجع هذا المستشرق إلى القرآن، ثم بعد فترة لقيه فقال: ما وجدت كل الذي كنت تقوله لي في القرآن! قال له: كيف قرأته؟ قال: بالترجمة، قال: ما قرأته، فإذا أردت أن تدرك بلاغته، وتدرك حلاوة أسلوبه وعباراته فعليك أن تقرأه بلغته التي نزل بها.
فرجع الرجل وأمعن في دراسة العربية، ثم جاء وقال: يا فيصل ! ما أعطيت القرآن حقه، هو فوق ما كنت تقول.
فمن أهم أدوات الفقيه تعلم العربية.
فمن أراد الفقه تعلم اللغة، ثم تعلم أصول الأحكام من أحاديث وآيات، ثم تعلم أصول الفقه؛ لأن أصول الفقه هي تلك القواعد التي عليها بني الفقه، وتؤخذ عن عالم سبق له أن أخذ عن غيره وهكذا.
ولعلنا أطلنا الكلام في هذه المسألة؛ لأنا نجد بعض الناس قد يستخف بدروس الفقه، أو لا يعنى بها، أو يقدم عليها الكثير من العلوم، وهذا خطأ.
وكنا نسمع من شيخنا الشيخ محمد بن تركي رحمة الله تعالى علينا وعليه حيث قرأنا عليه فقه الحنابلة، وقرأنا عليه صحيح البخاري يقول: قبل كل شيء تبدأ بالفقه، ثم تقرأ الحديث ليكون تطبيقاً لقواعد الفقه على الحديث، والفقه يفصل الحديث أكثر مما يكون.
ولهذا تجد في شروح الحديث قولهم: وهذه مسألة فرعية محلها كتب الفروع أي أن الفقهاء فصلوا في هذه المسألة أكثر مما يفصله أهل الحديث.
والشافعي في حديث: (يا
ولا يوجد في شروح الحديث ما يعادل هذه الثروة الفقهية من مثل هذه الألفاظ القلائل.
فـابن عباس رضي الله تعالى عنهما أعطاه الله ملكة في الفقه، ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزيادة فيها، فقال: (اللهم فقهه في الدين)، وعرفنا أن أكبر منزلة وأعظم عطاء يناله المرء أن يفقه في دينه.
ولقد جئت إلى والدنا الشيخ الأمين في المسجد النبوي، وقلت له: يا شيخ! أراك منذ أن بدأت التدريس في المدينة وفي الرياض وفي الجامعة اقتصرت على فنين فقط، مع أني أعرف أن لديك من الفنون كذا وكذا وكذا، وأنت تقتصر على التفسير وأصول الفقه؟
قال: ما سبب هذا السؤال؟
قلت له: هناك سبب، وهو أني قرأت عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه سُئل: أنت في زمن جمع الرواية والحديث، وفي زمن الخوض في مسائل الكلام والتوحيد، ولم نر لك مشاركة في جمع الحديث وروايته، ولا في جدل الكلام والمنطق، واقتصرت على الفقه! قال: نعم. أما مسائل العقائد فليست للعامة كما هي للخاصة، ولن تسلم من إنسان يرميك فيها بالزندقة، فلذلك تركنا الخوض فيها، وأما رواية الحديث فلها نقاد للرجال، ولن تسلم من إنسان -عامداً أو مخطئاً- أن يرميك بعلة من العلل التي يسقط بها الحديث فتلصق بك طول العمر، والرواة مشتهرون، والحديث مروي ومجموع، ورجاله متوافرون، أما الفقه فنظرت فإذا الناس عامة إمامهم، وكبيرهم، وصغيرهم، ورجالهم، ونسائهم، وغنيهم، وفقيرهم يحتاجون إلى الفقه فاشتغلت به لخدمة الناس.
فقال الشيخ الأمين : كلامه صحيح. أما أنا فنظرت فإذا في الحديث مجهود مزدوج، فتبحث عن الرجال وتوثق السند أولاً، ثم ترجع إلى المتن وتستنبط المعاني ثانياً، فهذا مجهود مزدوج.
وأما التوحيد فليس من العقل أن تثير القضايا العقائدية التي قد تورث شبهاً عند عامة الناس فتهلكهم، وإنما تأتي في المناسبات، أو في البحث العلمي للتحقيق، وأما علوم العربية فهي وسيلة وليست غاية.
وأما التفسير فإنه يأتي على الفقه في آيات الأحكام، ويأتي على العقيدة في آيات العقائد، ويأتي على المواعظ والزواجر في آيات قصص الأمم الماضية، وكل علم موجود الآن، مسطر عند العلماء فالتفسير يحتويه، وأما الفقه فإنك تجد -خاصة هنا- الفقه المقارن، فما تجد جماعة إلا وفيهم شافعي ومالكي وحنبلي وحنفي، وكل يريد مذهبه، وإذا أردت تحقيق مسألة فإنك تبذل جهداً رباعياً لكل مذهب جهد حتى تصل إلى نتيجة، فإن تركتها وجئت إليها بعد فترة احتجت إلى العودة إلى ذاك الاجتهاد مرة أخرى.
ولكن التفسير يجيء على جميع المعاني، وما من آية في كتاب الله إلا وعندي ما قيل فيها.
قلت: ما دمت بهذه المثابة، وعندك كل ما قيل في آيات كتاب الله من خلاف ونزاع ووفاق فهذا نعمة كبرى، وهذه ما تحتاج معها إلى غيرها.
ثم قلت: والأصول؟
قال: أما الأصول فلا غنى لطالب علم عنه؛ لأن العلماء يقولون: جهلة الأصول عوام العلماء.
ونحن إنما ننبه على هذا لزيادة التأكيد على دراسة الفقه، وأحب لكل طالب علم قبل أن يأخذ كتاباً في الحديث أن يأخذ كتاباً من أمهات الفقه أياً كان، كالمغني لـابن قدامة ، والمجموع للنووي ، والهداية للأحناف، أو غير ذلك، ويأخذ دقائق المسائل فيه ثم يأتي إلى كتب الحديث.
فالفقه مقدم، والحديث أدلته، فإذا جاء للخلاف أو للمقارنة فهذه مرحلة أخرى تزيد على مجرد الطلب، والله تعالى أعلم.
حديث أنس رضي الله تعالى عنه هذا فيه قصة صغيرة، وهي أن أم سليم دعت النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليها -ومنازل بني سليم عند مسجد القبلتين- فأتى إليها وصنعت له طعاماً، وبعد أن تناول الطعام طلبوا منه أن يصلي لهم في البيت ليتخذوه مصلى، فقام أنس إلى حصير قد اسود من طول ما لبس ونضحه بالماء، وفرشه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقام يصلي، وصلى بصلاته أنس واليتيم وأم سليم فكيف كان اصطفافهم؟
يبين لنا المؤلف رحمه الله إذا كان المأمومون رجالاً وصبياناً ونساءً كيف تكون الصفوف.
يقول أنس: (فقمت أنا ويتيم)، واليتيم: هو من مات أبوه قبل البلوغ، ويقولون: اليتيم في بني الإنسان من فقد الأب، وفي الحيوان من فقد الأم، وفي الطيور من فقد الأبوين.
ويقال من جانب آخر: اليتيم من فقد من يرعاه ويكلؤه، والأب هو الذي يرعى الولد، والحيوان ترعاه أمه، فقد تكون في الإبل عشرات ومئات النياق، بينما لا يكون فيها غير فحل واحد، وإذا نتحت الناقة فهي التي ترضع، أما في الطير فالأبوان يتناوبان على العناية بالبيض حتى يخرج الفرخ، ثم يتناوبان على إطعامه.
فهنا يقول أنس: (قمت أنا ويتيم)، ولا يتم بعد البلوغ، فهو دون البلوغ، وهنا يقال: هذا أنس رجل كبير، ومعه غلام دون البلوغ، أيتم الصف أم يعتبر في كون المأمومين غير واحد، ويكون موقفهم خلف الإمام، أو لا عبرة باليتيم، ويكون الرجل عن اليمين واليتيم بجانبه؟
وجدنا هذا عملياً، فأن الصغير إذا كان مميزاً يطمئن الكبير على بقاء هذا الصغير معه في الصف، بخلاف ما إذا كان عمره سنتين أو ثلاث، فبينما هو واقف يقف بجانب أبيه وإذا به فجأة يجري ويتركه، فهذا لا يعتد به.
فإذا كان مميزاً مدركاً، وسيقف ويتم الصلاة، فاعتد به، واعتبر الصف باثنين فأكثر، فيكون مكانهم خلف الإمام.
وموقف المرأة وراءهم، فالمرأة وراء الرجال.
لكن إذا قام زوجان يصليان فهل تقوم المرأة عن يمين زوجها أو تقف خلفه؟
والجواب: تقف خلفه، ولا تحاذيه في موقفها.
قال: (فقمت أنا واليتيم)، وفي بعض النسخ: (فقمت واليتيم)، والمشهور في اللغة (قمت أنا واليتيم)؛ لأن العطف على الضمير المتصل يحتاج إلى الإتيان بضمير مؤكِّد، ويكون العطف على الضمير المنفصل المؤكِّد، فالمشهور لغة: (قمت أنا واليتيم)، فضمير (أنا) راجع إلى التاء، وهي الفاعل في الفعل قمتُ، فـ(قمت): فعل وفاعل، والفاعل تاء المتكلم.
فجاء هنا في بعض النسخ: (قمت واليتيم)، والشارح ذكر أن هذا جائز، وهو لغة عند البصريين، فإذا وجدناها (قمت واليتيم) فهي صحيحة عربية، وإذا جاء (قمت أنا واليتيم) فهي صحيحة، وهي لغة الجمهور.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر