حديث معاذ هذا أصل في صلاة الجماعة، وفيما يجب على الإمام.
ومعاذاً رضي الله تعالى عنه هو معاذ بن جبل الذي قال صلى الله عليه وسلم في حقه: (أعلم أمتي بالحلال والحرام
الأولى: قولهم: كنا إذا أردنا الصلاة آذن بعضنا بعضاً -أي: أعلم- فقلنا: نتخذ وسيلة، فاقترح قوم ناقوساً، وقوم بوقاً، وقال قوم: نجعل ناراً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا. فجاء عبد الله بن زيد ورأى أنه عُلِّم الأذان في المنام، فأُذِّن للصلاة، فهذا أول شيء.
الثانية: كانوا يصلون إلى بيت المقدس، ثم تحولوا إلى الكعبة.
الثالثة: كانوا يصلون جماعة، فإذا جاء مسبوق سأل المصلين حال صلاتهم: كم صليتم؟ فيشيرون إليه بمقدار ما صلوا ركعة أو أكثر، فيكبر ويصلي ما فاته بسرعة، ثم يصحب الإمام حتى يسلم معه، فقال معاذ : والله لن آتي الصلاة ورسول الله صلى الله عليه وسلم على حالة إلا دخلت معه فيها فجاء مرة مسبوقاً، فكبر ولزم الإمام، فلما سلّم وعرف ما فاته قام يقضيه بعد السلام، فقال صلى الله عليه وسلم: (قد سن لكم
فـ معاذ بسببه حصل تشريع في الصلاة، وهو صاحب رأي، وله أمور أخرى في اتباع الجماعة وسماع النداء، وأنا أسمي معاذاً بعثة تعليميةً متنقلةً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم خلّفه في مكة بعد الفتح يعلمهم الإسلام، وعمر رضي الله تعالى عنه بعثه إلى الشام يعلم أهلها الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن يعلم أهلها الإسلام.
ففي هذه الحادثة صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، وذهب إلى قومه في قباء ليصلي بهم، فكبَّر وقرأ الفاتحة، ثم استهل بسورة البقرة، ورآه رجل كان معه ناضحان فأرسلهما ودخل في الصلاة، وبعض الروايات فيها: (كنت أسقي ماءً، فجئت ودخلت في الصلاة، فلما بدأ بسورة البقرة علمت أنه لن يركع دون إنهائها، فتركته وأتممت صلاتي)، وسواءٌ أكان انصرافه عن الإمام للماء، أم كان للناضحين، أم كان لتعبه طول النهار.
فعلم أن معاذاً صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وروحه مفعمة بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مانع أن يُصلي الليل كله لأن حياته كلها عبادة.
فعرف الطريق واختصره من بدايته، وذلك بانصرافه عن الصلاة مع معاذ.
فقيل لـمعاذ : إن فلاناً تركك وذهب! قال: إنه رجل منافق.
فبلغت الكلمة هذا المسلم فعظمت عليه، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكى معاذاً بعد أن رماه بالنفاق، وبين للنبي صلى الله عليه وسلم ما حدث، فاستدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً وقال: (يا
وهل أمرهم بمعصية؟ لقد سماه فتاناً لكونه أطال الصلاة.
وعثمان رضي الله تعالى عنه كان يقوم الليل بسورة الفاتحة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ البقرة والنساء وآل عمران ثم يركع، فهل في هذا فتنة؟ لا.
وإنما كان التطويل هنا فتنة لأن صلاة معاذ لها تعلق بالآخرين؛ إذ إنه كان الإمام، ولذا جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء).
قوله: (إذا أممت الناس) الخطاب خاص لـمعاذ ، وهو عام في كل إمام؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فمن أم الناس فليخفف.
وقد بين صلى الله عليه وسلم علة ذلك بقوله: (فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة)، وكصاحب الماء أو صاحب الناضحين، وقد يكون هناك إنسان له سياره محمّلة والناس ينتظرونه، أو لديه مريض ويريد أن يذهب به، أو يريد أن يرى حالته، أو أي حاجة من حاجات الناس، أو هناك إنسان يقوم في الصف ولا يستطيع أن يطيل القيام...إلخ.
فعلى الإمام أن يراعي حالة الناس، وقد جاء ما هو أخص من ذلك، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي؛ مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه).
فالأم حين تسمع طفلها يبكي هل ستصلي أم تُسكت ولدها؟ إن قلبها يطير، ولهذا جاء عن أبي قتادة : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالناس وهو حامل
قال: (إذا أممت الناس فاقرأ بالشمس وضحاها، وسبح اسم ربك الأعلى، واقرأ باسم ربك)، وهنا (اقرأ) في آخرها سجدة، وهذا رد على من يقول من المالكية: لا يجوز للإمام أن يقرأ بسورة فيها سجدة. ولكن يقولون: إذا كانت القراءة سرية وسجد فإن من خلفه لا يعلمون سبب سجوده، أما إذا كانت في الجهرية وسجد فلا مانع؛ لأنهم يسجدون تبعاً له.
فهذه السور على الأئمة أن يراعوها، أما إذا كان هناك جماعة متفقون على إطالة الصلاة، وكلهم يعرف ذلك فلا بأس، ويوجد هناك جماعات في بعض البلدان لهم مساجد خاصة، ويجتمعون فيها، ويطيلون الصلاة فيها، وسمعت من شخص جاء إلى المدينة وأنه رُشِّح أن يكون إماماً، فاشترط أن يسبح في الركوع ثلاث عشرة مرة، وفي السجود ثلاث عشرة مرة فرُفضت إمامته، وقالوا له: أنت لا تصلي لوحدك؛ فإن الناس وراءك ويسبحون ثلاث تسبيحات فقلت له: لماذا تشترط هذا؟ قال: أريد أن أهرب من الإمامة.
والذي يهمنا في حديث معاذ رضي الله تعالى عنه أن الإنسان إذا كان يعمل عملاً متعلقاً بالآخرين فيجب عليه أن يراعي حالة الآخرين، سواءٌ أكان في صلاة، أم في غيرها.
وقصة الرجل الذي انفرد وصلى وحده يمكن أن نضاف إلى أدلة من يقول: إن الجماعة ليست شرطاً في صحة الصلاة لأن هذا الذي دخل مع الإمام، ثم رأى الإمام طول فانفرد عنه هل استأنف الصلاة من جديد، أو بنى على ما كان؟
الذي عندنا أنه خفف صلاته وانفصل عن الإمام، وأكمل تبعاً لما تقدم من تكبيرة الإحرام ودخوله مع الإمام.
فهل هذا يكون عذراً أو يكون نفاقاً؟ لقد رد النبي صلى الله عليه وسلم على معاذ دعواه النفاق على هذا الرجل.
الشيء الآخر أيضاً أنه لا ينبغي لمسلم أن يرمي مسلماً بلقب كهذا، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن لعن المسلم، وعن نعته بالكفر، بل قال: (من قال هلك الناس فهو أهلكَهم)، أو (فهو أهلكُهم)، (فهو أهلكُهم): أي أشدهم هلاكاً. و(فهو أهلَكهم) بالفتح: أي هو الذي أهلكهم، وهم ليسوا بهالكين.
حديث عائشة في قصة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالناس وهو مريض، وهناك فرق بين: (مريض)، وبين: (اشتكى)، ففرق بين إنسان مريض وآخر رجله مكسورة، وفرق بين مريض وآخر يده مكسورة، فهذا يشتكي يده أو رجله أو صداع رأسه، ولكن هذا مريض، فالجسم كله مريض، وهذا يشعر لأول وهلة أن الحالتين متغايرتان.
قولها: (وهو مريض) المعروف أنه مرضه صلى الله عليه وسلم الذي قبض فيه، وإذا كان الأمر كذلك فتكون رواية (جُحِش) متقدمة، ورواية (مرضه) متأخرة، لنكون على وعي من الأمر في الزمن والتاريخ للحالتين.
قالت: (فجاء حتى جلس عن يسار أبي بكر).
قصة صلاته صلى الله عليه وسلم في مرضه متعددة، بمعنى أنه صلى الله عليه وسلم لما اشتكى، واشتد به الوجع، ولم يستطع الخروج للصلاة بالناس قال: (مروا
قال: (مروا
فـ أبو بكر مقدم، ومرة أخرى تأخر أبو بكر في مرض موته. فقدموا عمر ، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم الستار وقال: يأبى الله إلا أبا بكر .
فقال بلال : ما وجدت منك خيراً!
وهنا حفصة لما قال لها صلى الله عليه وسلم: (إنكن لأنتن صواحب يوسف)، قالت لـعائشة : ما رأيت منك خيراً قط!
وصواحب يوسف كن يخفين ما لا يبدين.
وهنا يأتي دور المتأمل الذي ينظر إلى الحقائق وما وراء الأحداث، فـعائشة لا ترفض أن يقوم أبوها مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هل الأمر من السهولة إلى هذا الحد؟
إن أبا بكر بالنسبة لـعائشة أبوها، فإذا بلَّغت عائشة الناس أن يصلي أبو بكر وكان فيهم ما فيهم فإن الشكوك والتهم تتوجه إلى عائشة من أجل أنه أبوها، فأرادت أن تبرئ نفسها وتبعد المسئولية عنها.
وقد قال عمر في السقيفة: ارتضاك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ديننا وآخرتنا، ألا نرتضيك لأمر دنيانا؟!
فكان تقديمه للصلاة مقدمة وترشيحاً للخلافة بعده صلى الله عليه وسلم.
فأُمِر أبو بكر، وكان يصلي مدة مرضه صلى الله عليه وسلم، تقول عائشة : فبينما أبو بكر يصلي بالناس، إذ وجد صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة، وفي بعض الروايات تفصيل آخر: (أراد أن يخرج فأغمي عليه، قال: ضعوا لي ماء في المخضب )، فاغتسل فأراد أن يخرج فعجز، وكل مرة يقول: (أصلى الناس؟! فيقولون: لا. وهم ينتظرونك )، وأخيراً تأخر وأعاد الأمر لـأبي بكر بالصلاة.
قالت: فوجد في نفسه خفة، فخرج يتهادى بين رجلين -قال ابن عباس للراوي: هل أخبرتك من الرجلان؟ قال: لا. قال: هما علي والعباس - قالت: تخط قدماه، حتى أتى الصف، فشعر به الناس، فالتفت أبو بكر -وفي بعض الروايات: ولم يكن يلتفت- فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم بجانبه وهذه رواية للبخاري وهي مجملة، وللبخاري رواية أخرى مفصلة: (فجلس عن يساره).
وهنا جلس عن يسار أبي بكر ، وفي بعض الروايات أراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه أن: مكانك وهذا في صلاة أخرى، ولكن الأخيرة التي فيها حديث عائشة تبين أنه جلس عن يسار أبي بكر .
ولماذا نحتاج إلى معرفة مجلسه صلى الله عليه وسلم هل كان عن يمين أبي بكر أو يساره؟
لأن معرفة موقعه عليه الصلاة والسلام من أبي بكر -أثناء الصلاة- بين لنا الإمام من المأموم، وعليه تنبني مسائل وخلاف بين العلماء، وبعض العلماء استدل بهذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم على جواز ائتمام القائم بالقاعد، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر صلى قاعداً وكان إماماً؛ لجلوسه عن يسار أبي بكر ، ولأن موقف المأموم من الإمام عن اليمين، وموقف الإمام من المأموم عن اليسار إذا كان واحداً، فـأبو بكر بدأ بالصلاة إماماً وانتهى فيها مأموماً، ولهذا تحرى الفقهاء مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر أهو عن يمينه أو عن يساره.
فهنا لما تبين أنه صلى الله عليه وسلم جاء وجلس عن يسار أبي بكر ، وفي حديث عائشة : (فأخذ أبو بكر رضي الله تعالى عنه يأتم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يأتمون -أو يقتدون- بصلاة أبي بكر ). عرفنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإمام، وأن أبا بكر كان مؤتماً برسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس يقتدون بـأبي بكر ، وجميع المؤتمين يأتمون بإمام قاعد.
ولهذا قالوا: لما كان في أول الأمر -لما جُحِش- أشار إليهم أن اجلسوا، وفي آخر الأمر لما قاموا خلفه وأبو بكر يقتدي به لم يأمرهم أن يجلسوا، ولم يأمرهم بالصلاة قعوداً خلفه وقد سئل أحمد -وهو ممن يبيح للمأموم أن يصلي قاعداً خلف الإمام القاعد- فقالوا له: لقد نسخ بأمر صلاته في آخر أمره! قال: لا؛ لأن فيه احتمالاً، وذلك أن أبا بكر بدأ الصلاة قائماً، فكان القيام ابتداءً، ومجيئه صلى الله عليه وسلم للصلاة قاعداً حدث بعد أن انعقد حكم القيام للجميع، ولا ينتقض بعد ذلك.
فـأحمد يرى لمن صلى خلف إمام قاعد أن يقعد، والجمهور يرون عدم ذلك، ويقولون: إن الحالة الأخيرة ناسخة للحالة الأولى، والقيام مقتضى النص؛ لأن القيام واجب على كل مصل إلا لعذر، فإذا عذر الإمام بالقعود فما عذر المأمومين؟!
والشارح وغيره يقولون: لقد أُمروا بذلك -أي: بمتابعة الإمام- والجمهور يقولون: قد جاء فعلٌ نَسَخَ هذا الأمر، أو أنه يكون للندب، أو للجواز، ولكن إذا جئنا إلى الأصل فكل من الإمام والمأموم مطالب بالقيام، لقوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، فإذا طرأ عذر لواحد منهما لا ينجر على الثاني، وبالله تعالى التوفيق.
قوله: (إذا أم أحدكم الناس فليخفف) التخفيف أمر نسبي بحسب ما يعلم الإمام من حالات المأمومين، وهذا من أقوى الأدلة لإثبات تعليل الأحكام؛ فإن هناك من يقول: لا تعليل للأحكام، وإن الله يشرع ما شاء، كما قال تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الأنبياء:23] ، فلا يقال: لماذا حرم هذا؟ ولماذا أباح هذا؟ فهو غني عن التعليل.
والإجابة عن ذلك أن التعليل وحكمة التشريع ليست راجعة إلى الله، فإن الله هو الغني الحميد، ولكن راجعة إلى العباد، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أم أحدكم الناس فليخفف)، الفاء: (فاء السببية، أي: بسبب ما في الناس أو في المأمومين من ضعيف ومريض وذي حاجة وكلمة (ذا الحاجة) عامة، سواءٌ في شخصه أم في غيره.
وقد تقدم لنا أنه صلى الله عليه وسلم كان يخفف الصلاة من بكاء الأطفال شفقة على الأمهات، وهذا من الحاجة.
أو نقول: هذا نص في بيان تعليل الأحكام؛ لأن علة الحكم إذا ثبتت، ثم بعد عهد التشريع وانقطاع الوحي وتمام تدوين السنة، ثم جاءت حادثة، أو جاءت صورة لم تكن منصوصاً عليها -فيما تقدم من النصوص من كتاب وسنة- بالعلة التي علل بها الحكم نستطيع أن نلحق المستجد بعد عصر التشريع بما سبق أن شُرِّع ونُصَّ على تعليله، كما جاء تعليل تحريم الخمر بالإسكار، وجاء تحليل الميتة مع ما فيها من مضرة للجسم للضرورة... إلخ.
فمن هذا الحديث يستدل على تعليل الأحكام، واعتبار العلة في تأثيرها في الحكم.
قوله: (فإذا صلى وحده)، أي: منفرداً، (فليطول ما شاء)، فتصح الصلاة منفرداً.
وهذا أيضاً من أدلة صحة الصلاة منفرداً، فيطوِّل ما شاء لأنه أمير نفسه وأدرى بحاجته، وإن تعب خفف.
وذكر الشارح هنا مبحثاً، وهو إذا كان يصلي المغرب أو يصلي الصبح وحده، وبدأ في الركعة الأولى بالبقرة كما فعل معاذ في صلاة العشاء، ثم بدأ في الثانية بآل عمران، فستطلع الشمس وهو لم ينته بعد، فهل (يطول ما شاء) على عمومه، أو قد قُيِّد هذا العموم بما لم يخرج وقت الصلاة؟
بعضهم يقول: حتى ولو خرج وقتها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (فليطول ما شاء). نقول: نعم ما شاء، لكن هذا له حد لا يتعداه.
قالوا: جاء عن الصديق رضي الله تعالى عنه أنه صلى الصبح فأطال، فلما سلم قالوا: كادت الشمس أن تطلع علينا. قال: إن طلعت علينا لم تجدنا غافلين.
ولكن هذا أثر موقوف على أبي بكر رضي الله تعالى عنه، والله أعلم بصحة هذا الأثر، وعلينا أن نتقيد بالوقت، لا أننا نطيل ما شئنا حتى يخرج الوقت.
هذا الحديث بداية مبحث من أحق بالإمامة؟
اتفق العلماء على أن أحق الناس بالإمامة أتقاهم وأقرؤهم وأعلمهم، وكل من جمع تلك الصفات الخيرة.
فإذا لم توجد كل هذه الصفات فمن أحق؟
نعلم أولاً أن هناك حديثاً -وإن كان سنده فيه شيء-، وهو مكتوب على محراب المسجد النبوي في القبلة (إن أئمتكم وافدوكم إلى الله، فانظروا من توفدون)، فلو كان لنا حاجة عند ملك، وأردنا أن نرسل شخصاً أوشخصين فإنا نرسل الأشخاص الذين يحسنون مخاطبة الملوك.
فإذا كنا -ولله المثل الأعلى- قدمنا الإمام ليدعو ونؤمن بعده فهو وافدنا إلى الله، فمن الذي نختاره وافداً لنا يفد على الله، ويسأل حاجتنا؟ إنه أفضلنا وخيرنا.
والخيرية أنواع، وفي أبواب متعددة، فمنها الشجاعة، والكرم، والعلم، والمعرفة، وكل هذه من صفات الخير، ولكن هناك صفات ترجع لأمور الدنيا، وهناك صفات ترجع لأمور الدين، فنجد النبي صلى الله عليه وسلم وضع المبدأ في هذا المقام (أقرؤكم)، و(أقرأ) هنا أفعل تفضيل، فهل معنى القراءة من مادة (قرأ) بمعنى: تلا كتاب الله، أو (قرأ) بمعنى فقه؟
نجد بعض الناس يختلفون في ذلك، ولكن إذا كان الشخص قارئاً فقيهاً ورعاً زاهداً فهو أولى، ولا شك في ذلك، وإذا وجدت بعض الصفات، بأن كان عابداً زاهداً ورعاً لكنه عامي لا يحسن التلاوة، ووجد إنسان من عامة الناس مستور الحال، وهو أجود الحاضرين قراءة لكتاب الله، بمعنى: أجود الناس قراءة -كما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه تفسيره: بأن يكون مجوِّداً معرِباً لكتاب الله- فنحن في حاجة إلى من يقرأ القرآن معرِباً، لا لمن حفظ حروفه، فمجرد حفظ الحروف مع عدم إقامة التلاوة لا يصلح في هذا المقام.
فـ(أقرؤكم) أي: أجودكم قراءة وبعضهم يقول: (أقرؤكم) أكثركم قراءة.
فيحتمل هذا المعنى، فمثلاً: يوجد عندنا شخص يحفظ جزءاً واحداً، لكنه يقرؤه قراءة مجودة، فيعطي كل حرف حقه، ويخرج الحروف من مخارجها، ويعرف كيفية النطق بالحروف في القراءة.
وشخص آخر يحفظ نصف القرآن، لكنه لا يعرف قواعد القراءة، فحفظه مجرد سرد، ولا يعرف أماكن الوقف، أو لا يحسن النطق -كما يقولون- في المد والغنة والتنوين... إلخ.
فأيهما يُقدم (أقرؤكم) بمعنى: أكثركم، ولو لم يعرب القرآن، أم (أقرؤكم) بمعنى: أجودكم قراءة؟
لاشك أن الأجود قراءة هو المقدم.
وهنا مسألة: هل إعراب القرآن في القراءة بمعنى الفقه، أم أن الفقه قسم مستقل، والإعراب قسم ثان مرجِّح؟ سيأتي الحديث الآخر: (فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة)، فأعلمهم بالسنة يتعلق بجانب الفقه.
نبقى في حديث عمرو بن سلمة
: أن أباه جاء وقال: (جئتكم من عند النبي حقاً)، و(حقاً) تأكيد لمعنى النبوة؛ لأن المجيء أمر محسوس، فهو مشاهد حين ذهب وأتى، فهو يقول: من عند النبي نبوة حقيقية.
ولا يسمع صوت المؤذن شجر ولا مدر ولا حجر ولا جن ولا إنس إلا شهد له والأذان أمر ليس بالهين، وفي الحديث: (ثلاثة يوم القيامة على كثبان من المسك) وذكر منهم: (ورجل أذن محتسباً..).
فشأن المؤذن عظيم، والأذان هو شعار الإسلام، ولذلك قال: (فليؤذن لكم أكرمكم)، فعلى سبيل المثال، لو كنا في مخيم وفيه الخدم والمشتركون، وفيه أمير للمخيم، فجاء واحد من الخدم ونادى: هلموا تعالوا. وجاء أمير القوم أو من دونه، أو مِن مساعديه ونادى: هلموا يا قوم. فالإجابة الأكثر تكون للشخص الذي هو أعلى درجة وله مكانة في المجتمع، فكذلك المؤذن.
لكن الآن كثر الأذان والمؤذنون، ولا نستطيع أن نجمع أكرم الناس ليؤذنوا، وجاء في الآية: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، فإذا وجد إنسان مستقيم الحال على قدر من الصلاح، ومعروف بين الناس بالاستقامة فلا مانع أن يؤذن لنا.
قال: (فليؤذن أحدكم -وفي رواية: أكرمكم- وليؤمكم أكثركم قرآناً).
هذا اللفظ يفسر لنا: (أقرؤكم لكتاب الله) بأن المراد من وعى قرآناً أكثر من غيره، ولكن على ما تقدم ليس مجرد حفظ حروف دون تجويدها وإعرابها.
يقول بعض العلماء: إن حفظ القرآن في الصدر الأول يتضمن الفقه؛ لأن السلف كانوا كما قال ابن مسعود : (كنا إذا أخذ أحدنا عشر آيات لا يجاوزهن -وفي حديث ابن عمر: خمس آيات- حتى يحفظهن ويتعلمهن ويعمل بهن، فأخذنا كتاب الله حفظاً وعلماً وعملاً)، فقالوا: من حفظ القرآن أو حفظ بعض السور معناه أنه حفظ حروفها، وفقه معانيها، وعمل بها، فالأكثر قرآناً أكثر فقهاً وعلماً وعملاً.
ولكن نجد في حديث عمرو هذا أنه كان غلاماً عمره ست أو سبع سنوات، وفي بعض الروايات: (ثمان سنوات)، قال: (فنظروا فلم يكن أحد في القوم أكثر قرآناً مني)، وهو ابن ست أو سبع أو ثمان سنوات. ويذكرون في سبب ذلك أنه كان غلاماً فطناً ذكياً، وكان المسلمون الذين يفدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم يمرون بهم ذهاباً، ويمرون بهم عند عودتهم، وينزلون عندهم، فيسألهم: ماذا سمعتم من القرآن؟ فيسمع منهم ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحفظ عنهم، ولم يكن يفعل ذلك من قومه أحد، فكان لتلقيه المسلمين العائدين من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وسؤالهم عما لديهم من القرآن يحفظ أكثر من الموجودين في بني سلمة.
ولذلك قدموه ليصلي بهم وهو ابن ست أو سبع، وفي رواية: (ابن ثمان)، وليكن ابن ثمان فسنه -قطعاً- دون البلوغ، وفي تتمة خبره أنه كان يصلي في بردة، وكانت قصيرة فإذا سجد تقلصت، وقال نسوة: استروا إمامكم أو غطوا عنا است صاحبكم.
قال: (فاشتروا قماشاً، فخاطوا لي قميصاً، فما فرحت بشيء كفرحي بذلك)... إلخ.
إن إمامة الصبي، وإمامة المرأة، وإمامة الفاسق، وإمامة الأعرابي للحضري كل هذه مباحث مفصلة في كتب الفقه، ومن أكثر من فصل في ذلك صاحب كتاب: (كشاف القناع) عند الحنابلة.
فيرى بعض العلماء صحة صلاة البالغ الكبير في الفريضة خلف المميز الصغير، ونجد بعض العلماء يقول: لا تصح صلاة المفترض البالغ خلف الصبي فماذا عن هذا الحديث؟
قالوا إنه كان في النافلة، وابن عبد البر وغيره يقول: صرف هذا إلى النافلة بعيد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآناً)، فيؤمهم في النافلة أم في الفريضة؟
ثم أيضاً في سياق كلام أبيه حين جاء وقال: أمرنا صلى الله عليه وسلم أن نصلي صلاة كذا في وقت كذا، وصلاة كذا في وقت كذا يعني: علمهم أوقات الصلاة، وأمرهم أن يؤذن أحدهم، وأن يصلي بهم أكثرهم قرآناً، فهل السياق في النافلة أم في الفريضة؟ في الفريضة بلا شك.
وقوم أخذوا بهذا الحديث، ولكن كره مالك إمامة الصبي، وكل من لم يصحح اختلاف النية في الصلاة قالوا: هل صلاة هذا الصبي التي يؤم فيها فريضة أم نافلة؟
هي في حقه هو نافلة؛ لأنه لم يجر عليه التكليف بعد.
وليس عليه فريضة في الإسلام إلى الآن، فقالوا: كيف يؤم المتنفل المفترضين؟ وعدم البلوغ يدل على عدم التكليف!
وآخرون قالوا: هذا نص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: ليس هذا نصاً من رسول الله، فنص رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدة عامة، والتطبيق جاء من قومه، فهل قال: يصلي لكم عمرو بن سلمة ؟ وهل قال: يصلي لكم الصبي الحافظ؟
وهل قال: أكثركم قرآناً ولو كان مميزاً صغيراً؟
لكنهم لما سمعوا قاعدة التشريع: (أكثركم قرآناً) جاؤوا يبحثون عمن هو أقرؤهم قرآناً فما وجدوا إلا هذا الغلام فقدموه.
فقاعدة التشريع العامة سليمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصالحة لكل زمان ومكان، ولكن التطبيق العملي يكون من الناس، فهل -يا ترى- لما قدموا هذا الغلام علم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرهم على ذلك، أم أن هذا اجتهاد منهم؟
هذا اجتهاد منهم في تطبيق القاعدة.
وأجاب الآخرون فقالوا: إنه اجتهاد منهم في تطبيقها على أهم أعمال الإسلام وهي الصلاة، ثم لم يأت بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم: إن إمامكم لا تصح إمامته. ولم يأت أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم فيما بعد.
وقد كان صلى الله عليه وسلم لا يُقَر على شيءٍ باطل، ولو كان لا يعلمه، فقد نبِّه على القذارة في نعليه، فكان يصلي وفي أثناء الصلاة أتاه جبريل وقال: اخلع نعليك؛ لأن فيهما أذى. فخلع نعليه وهو في الصلاة، وخلع الناس نعالهم، فلما سلم قال: (ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا. قال: أحسنتم) يعني: تأسياً بما رأوه من الفعل، وإن لم يعلموا السبب. ثم قال: (إن جبريل صلى الله عليه وسلم أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً)، فبين لهم أنه خلعهما عن إخبار من جبريل، أي: لم يقره الله على ما هو عليه من صلاة بأذى في النعلين.
فلا يُقرُّه على إمامة الغلام لقومه، وكل هذا -كما يقال- تعليل لما ذهب إليه كل فريق.
فالخلاف في إمامة الصبي، ولكن إذا اجتمع قوم لا يوجد فيهم قارئ إلا غلام مثل هذا، كما لو قدر أن قوماً في البادية ليس عندهم قارئ، فإنه يصلي بهم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر