الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فيقول المصنف رحمه الله: [عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) متفق عليه].
قدم المؤلف رحمه الله تعالى في هذا الكتاب المبارك أبواب الصلاة، وما يلزم لمقدماتها من الطهارة واللباس، وبيان الأوقات، والأذان والإقامة، ثم صفة الصلاة من حيث هي، وأتبع ذلك بتوابعها من النوافل الراتبة معها، وأتبع تلك الرواتب التابعة للفرائض بالرواتب المطلقة، كما جاء في الوتر وفي الضحى.
وهنا يأتي إلى باب من أهم أبواب الصلاة، وهو ما يتعلق بأداء الصلوات الخمس في جماعة، والجماعة مشروعة للصلوات الخمس، ولبعض الصلوات الأخرى كالجنازة والاستسقاء والكسوف وقيام الليل في التراويح خاصة في رمضان، وما عدا ذلك تكون فرادى.
فهنا بدأ المؤلف رحمه الله بهذا الحديث، وهو نص عند العلماء في فضل صلاة الجماعة، ويريد أن يبين كما بين غيره أن صلاة الجماعة لها فضيلة على صلاة الفذ، والفذ المنفرد.
فالإنسان قد يصلي وحده لعذر، أو لضرورة، كمن هو في سفر وليس عنده أحد، أو لمرض في البيت، إلى غير ذلك.
وكذلك بعض النوافل، خاصة نوافل البيت يصليها وحده.
ولكن الجماعة قد شرعت، فما مدى مشروعية هذه الجماعة للصلوات الخمس؟
وابن عمر رضي الله تعالى عنهما انفرد برواية (سبع وعشرين)، وأبو هريرة وأنس وغيرهما يروونه بلفظ: (بخمس وعشرين) والجمهور: على صحة حديث ابن عمر : (بسبع وعشرين)، فقوم يقولون: الزيادة من الثقة مقبولة، والسبع والعشرون تتضمن الخمس والعشرين وزيادة، والبعض الآخر يقول: هذه زيادة من ثقة خالف فيها الثقات، فتعتبر في عرف علماء الحديث من الروايات التي تسمى شاذة، وهو ما خالف الثقة به الثقات.
والخمس والعشرون متفق عليها، وهي ضمن السبع والعشرين.
أما فقه الحديث ففي قوله: (صلاة الجماعة) والجماعة تصح باثنين إمام ومأموم، حتى قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: إن الجمعة تصح بثلاثة أشخاص؛ لأن الله تعالى قال: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ.. [الجمعة:9]، فالنداء لا بد له من منادٍ، وذكر الله الذي نسعى إليه لابد له من شخص يذكر الله، وهو الإمام، والساعي إلى ذكر الله هو المأموم، فتم العدد: بمنادٍ للصلاة، وإمام يؤم، ومأموم يأتم.
فقالوا: تنعقد الجماعة في الصلوات الخمس بإمام ومأموم ولكنهم يختلفون في حقيقة المأموم، فإذا كان المأموم صبياً ليس ببالغ، وهو مميز يدرك معنى الصلاة، وقد أُمر بواسطة وليه بقوله عليه الصلاة والسلام: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر) فهل تصح هذه الجماعة وتنعقد؟
وكذلك إذا كان المأموم امرأة، والمرأة لا تجب عليها الجماعة، ولكن إذا حضرتها صحت منها، وقالوا في المملوك والمرأة والمسافر: ليست عليهم جمعة. وهو قول الجمهور، فإذا حضرها أحدهم اعتبرت منه وصحت.
هل يكمَّل به العدد عند من يقول بعدد معين أم لا؟
فهذا الحديث يثبت أن صلاة الفذ لها فضيلة، وبالتالي تصح، وصلاة الجماعة لها فضيلة، ولكن صلاة الجماعة تزيد فضيلتها عن صلاة الفذ، ثم ناقش في الأفضلية مباحث أخرى طويلة.
وبقي عندنا ألفاظ الحديث المختلفة: (سبع وعشرين درجة)، (بخمس وعشرين جزءاً)، (بخمس وعشرين ضعفاً).
أما الضعف فلا يتعارض مع الدرجة ولا الجزء؛ لأن ضعف الشيء ما يساويه ويتكرر ضعفين، أو ثلاثة أضعاف، أو أضعافاً كثيرة.
وبقي التفريق بين الدرجة والجزاء، قالوا: الدرجة أعلى من الجزء وقالوا: الدرجة في الجهرية والجزء في السرية. وقالوا في (سبعٌ وعشرون) و(خمس وعشرون): سبع وعشرون في الليلية، وخمس وعشرون في النهارية، ويزيد الفضل في كثرة الجماعة، وفي أفضلية المكان، وغير ذلك.
فإن فضل الجماعة يختلف، فكلما كثر العدد زاد الفضل؛ لأن كل مصلٍ يدعو ويُشرك غيره في دعائه، وذلك بقوله: اللهم اغفر لنا، اللهم ارحمنا، اللهم عافنا، وكذلك الإمام يدعو للجميع، فكلما كثر العدد زاد الفضل، وقالوا: المسجد القديم، والمسجد الذي فيه إمام راتب من ولي الأمر يزيد الفضل فيه عن غيره.
وقال العلماء: هذا الحديث -حديث ابن عمر - لا يستدل به على وجوب الجماعة، ولكن يستدل به على فضيلتها، والأفضلية لا تقتضي الوجوب، فما هي الفضيلة؟
إنها تفضل صلاة الفذ سبعاً وعشرين أو خمساً وعشرين درجة، أو جزءاً، أو ضعفاً.
فلا ينبغي للإنسان أن يحرم نفسه من هذا الفضل بأن يقصر في تحصيله، وحكم صلاة الجماعة سيأتي الحديث عنه في الحديث الذي يلي هذا.
فنأخذ من هذا الحديث أفضلية صلاة الجماعة، ونأخذ بما قاله ابن دقيق العيد، ففيه تنبيه وإيماء إلى صحة صلاة المنفرد، مع أنها تنقص عن فضيلة الجماعة، وهذا حدنا في هذا الحديث، وتتمة الكلام عن صلاة الجماعة إنما هي مستوفاة عند الحديث الآتي إن شاء الله.
قال: [ولهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (بخمسة وعشرين جزءاً)، وكذلك للبخاري عن أبي سعيد وقال: (درجة)].
أبو هريرة وأبو سعيد الوارد عنهما في الصحيحين: (بخمس)، (جزءاً)، و(درجة)، كل ذلك لا بأس به، لكن يهمنا أن المؤلف يسوق في رواية أبي هريرة وأبي سعيد الخدري (بخمس)، ولذا قالوا: لم يرو السبع والعشرين إلا ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، إلا أن الاختلاف في خمس وسبع أمر يُتجاوز فيه، ولا يتعارض في الفضيلة.
ثم اختلف القائلون بوجوبها، فمنهم من قال: هي شرط في صحة الصلاة، بحيث لو صلى منفرداً بطلت صلاته ومنهم من قال: هي واجبة، ولكن ليست شرطاً في الصحة، بل هي واجبة بذاتها. بمعنى أنه: لو صلى منفرداً يكون قد ترك واجباً آخر وهو الجماعة، فتكون الصلاة صحيحة مسقطة للفرض، وهو آثم بترك واجب.
فمن العلماء من يقول: هي واجبة وجوباً عينياً ومنهم من يقول: هي واجبة وجوباً كفائياً ومنهم من يقول: ليست بواجبة، ولكنها سنة.
والذين قالوا: هي واجبة وجوباً عينياً انقسموا إلى قسمين: قسم قال: واجبة وجوباً عينياً وهي شرط في الصحة، فلو صلى بغير الجماعة بدون عذر، فصلاته باطلة؛ لفقدانها شرطاً من شروط الصلاة.
والقسم الثاني يقولون: هي واجبة بذاتها، فإن صلاها منفرداً صحت، ولكنه ترك واجباً فهو آثم بتركه.
والجمهور على أنها سنة.
والحديث لـأبي هريرة رضي الله تعالى عنه يقول فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لقد هممت).
وغير المؤلف يذكر مقدمة للحديث، منهم صاحب عمدة الأحكام في المتفق عليه بين الشيخين، وتلك المقدمة التي تركها المؤلف ينبني عليها معرفة الحكم، أو لها دخل في تحقيق المسألة، وذلك أن أول الحديث فيه: قال صلى الله عليه وسلم: (إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بالصلاة فينادى لها، ثم آمر برجل يصلي بالناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم)، أو (إلى رجال لا يشهدون الصلاة)، أو (إلى رجال يتخلفون عن الجماعة بلا عذر)، وبعض الروايات: (لولا ما في البيوت من النساء والصبيان..).
فيقول بعض العلماء: أصل السياق في المنافقين (أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر).
ويقول ابن دقيق العيد رحمه الله: خصت العشاء والفجر لأحد أمرين: إما لأنهما في الظلام والمنافق إنما يرائي الناس في الصلاة، كما قال تعالى: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ [النساء:142]، فالعشاء والصبح تكونان في ظلام لا يرى أحد أحداً، فما دام لا أحد يراه فلن يذهب للصلاة، لكن الظهر تؤدى في النهار، وكذلك في العصر والمغرب الناس موجودون، فسيرائي في صلاته.
والأمر الآخر أنه إذا كان الوقت صيفاً، وجاءت صلاة العشاء كان ذلك بداية برودة الجو بعد عناء في نهار الصيف؛ فيكون أدعى إلى الراحة والخلود، وفي الفجر يقصر وقت الليل، ثم مع قصر الليل يكون ليل الصيف في آخره أبرد، فهو أدعى إلى الخلود والراحة في الفجر.
وإذا كان الشتاء فإن وقت العشاء مع قصر النهار وظلمة الليل وشدة البرد يخلّد إلى السكون، ومع طول الليل يشتد البرد، وهذه دواعي الجلوس والترك، ومن هنا كان الوعيد على الفجر والعشاء أشد؛ لأنهما يكتنفان بعوامل القعود والترك، ولذا جاء التحريض على هاتين الصلاتين بقوله صلى الله عليه وسلم: (من صلى العشاء في جماعة، فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله).
وإن كان النص قد جاء في صلاة العصر: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسطى [البقرة:238].
وفي رواية الموطأ أن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها عندما طلبت من الكاتب أن يكتب لها مصحفاً قالت: إذا وصلت إلى هذه الآية فآذني فآذنها فأملت عليه: (والصلاة الوسطى صلاة العصر).
فهذه يعتبرها علماء التفسير من الروايات المفسرة للمعنى، وليست زيادة في القرآن، ولهذا لا تكتب عندهم في صلب المصحف، وإنما على الهامش على أنها مفسِّرة لماهية الصلاة الوسطى؛ لأننا وجدنا خمسة أقوال في الصلاة الوسطى، منهم من يقول: هي الصبح لأهميتها وثقلها ومنهم من يقول: هي العشاء لأهميتها وثقلها ومنهم من يقول: هي المغرب لأنها وتر النهار ومنهم من يقول: هي العصر، كما جاء في الرواية. ومنهم من يقول: هي الظهر لأنها وقت القيلولة فالأقوال متعددة.
يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه) أي: عنده هم وعزم مؤكد.
وهنا يتكلم المفسرون رحمهم الله في قصة يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مع امرأة العزيز، حيث قال تعالى عنه: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف:24] فقالوا: همها هي من النوع المؤكد القاضي، ولذا لم يمنعها من تنفيذ ما أرادت إلا أن: أَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ [يوسف:25]، ولحقته وشقت قميصه، وهمّه هو بها ليس من هذا، وإنما من خطرات النفس؛ لأنه رجل مكتمل الرجولة، وليس عنيناً أو لا إرب له، وإلا لما كان له فضل في ذلك، فنوازع النفس الفطرية خطرت في باله، لكنه راجع نفسه، أو لم يقدم، أو لم يعزم، أو لم يصل الفكر النفسي معه إلى ما وصلت إليه هي؛ لأنه رأى برهان ربه.
وإذا كان الأمر كذلك فالهم همان: همٌ هو عزم قاطع، وهمٌ هو خطرة على بال، كالواحد يكون في رمضان وفي شدة الحر يرى الماء البارد أمامه، فإن العين تنظر، والخواطر تخطر، لكن مهما خطر على البال، فإنه يضع يده في الماء البارد، ويتمنى لو جاء المغرب، ولكن يعلم بأن هناك مانعاً، فهو يعلم بأن الله سبحانه وتعالى هو المطلع عليه، فيرى برهان ربه، فلا يتناول ذلك الماء.
وعلى هذا فقوله: (لقد هممت)، من أي أنواع الهم؟ أهو خطرة البال أم العزم المصمِّم؟ إنه العزم المصمِّم؛ لأنه لم يقتصر على هم النفس، إذ كانت هذه خطة مرسومة، ولذا قال: (يُنادى للصلاة) وقال: (آمر رجلاً فيؤم الناس)، وقال: (أخالف برجال معي بحزم من حطب فأحرق..)، فهذا هم مؤكد وعزم، لكنه رأى موانع ذلك فقال: (لولا ما في البيوت من النساء..)، وهؤلاء لا ذنب عليهم؛ لأنهم لا جماعة عليهم.
فالهم مصمِّم مؤكد، ولكن هناك موانع منعت من فعله.
وهو مثل قوله: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، وما أمرهم، فالسواك سنة.
وقوله: (إنه لوقتها، لولا أن أشق على أمتي) فما كلفهم به.
فالقائلون بأنها واجبة على الأعيان قالوا: هم رسول الله بأن يحرق أقواماً، وهذا تعذيب شديد، ولا يتأتى أن يهم بفعل هذا على أمر مسنون.
ومنهم من يقول: هي فرض كفائي، والفرض الكفائي لو قام به البعض سقط عن الباقين.
ويقول المالكية: لو أن أهل قرية تركوا الأذان لقاتلهم الإمام عليه، ولو أن قوماً تركوا الجماعة في المساجد لقاتلهم الإمام عليها، فإذا قام به بعضهم كأن يكون شخص يؤذن في القرية كلها سقط عن الجميع.
فقالوا: إذا قالوا: هي فرض كفائي فالفرض الكفائي حاصل برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يصلي معه، ولا يتوقف على المتخلفين في بيوتهم! فالقول بأنها فرض كفائي لا دليل له.
وكونكم تقولون سنة فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يحرق بالنار على ترك سنة.
فهؤلاء يستدلون بنفس الحديث على أنها فرض عيني لهمه صلى الله عليه وسلم الصادق بأن يوقع هذه العقوبة الشديدة، ويتبعون البحث بالتأديب بالمال، حيث يحرق البيوت وما فيها.
ففي غزوة تبوك النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن رجلاً اسمه سويلم من المنافقين، له بيت في قباء كان يجمع الناس هناك، ويبث الدعاية للتثبيط عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، فعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه ثلاثة أن: أحرقوا عليهم الدار فذهب الثلاثة ومنهم رجل من جيران هذا الرجل، فدخل بيته وأخرج شعلة من النار ودخل بها إلى البيت وأشعل فيه النار، حتى إن بعضهم فر وسقط من فوق السطح وانكسرت رجله.
فيمكن أن توقع العقوبة بقدر الخطر الذي يرتكب، وأيضاً لا مانع من جمع العقوبة المالية مع البدنية.
ولذلك قال الذين قالوا: هي سنة: السياق في المنافقين، فيكون تحريق البيوت على نفاقهم، لا على تركهم الجماعة.
وأجاب الآخرون وقالوا: لا، فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهتم بأمر المنافقين؛ لأنه أمر فرغ منه.
ولذا قال له عمرو -في بعض المواقف: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فيقول صلى الله عليه وسلم: (دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه).
فقالوا: لا يقتلهم على النفاق لأنه عرف أمرهم، ولم يعاتبهم ولم يعاقبهم عليه، بل ترك أمرهم إلى الله.
لكن يقال من جانب آخر: هم التزموا بالإسلام ظاهراً، وبه عصموا دماءهم وأموالهم، واستحقوا المواريث من المسلمين ومصاهرتهم، واستحقوا السهم في الغنيمة إذا قاتلوا معهم، فيلزمون بحق الإسلام، فإذا حرق عليهم البيوت فليس على النفاق، ولكن على ظواهر أعمال الإسلام.
وقال الذين قالوا هي سنة: كيف يذهب صلى الله عليه وسلم ومعه غلمان --وقيل: هم عشرون- ويترك الجماعة لرجل يصلي بالناس؟ فبما أن الجماعة فرض عين فكيف يجوز لهؤلاء ترك الجماعة؟! فلماذا لا يصلون أولاً، ثم بعد أن يصلوا يذهبون لإحراق البيوت على أولئك الناس؟
فقال أولئك الآخرون: وما الذي يمنع؟ فوقت الصلاة موسَّع، فهؤلاء يصلون بالناس المجتمعين، وهؤلاء يذهبون لتنفيذ مهمتهم، وبعد أن ينتهوا يصلون جماعة، وهم جماعة بأنفسهم، ولا مانع من صلاة الجماعة مرة ثانية لتنفيذ المهمة.
فكل فريق يحتج بجانب، ويجيب عليه الفريق الآخر بجانب آخر.
ثم قالوا: أرأيتم أهل الأعذار! هل الجماعة في حقهم فرض عين؟ قالوا: لا، لأن العذر يسقطها، وما كل عذر يسقط الجماعة، فالرجل الأعمى الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! أنا بعيد الدار، وأخشى الهوام، وليس لي قائد فائذن لي أن أصلي في بيتي فأذن له، فلما ولى دعاه وقال: (هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب).
قالوا: ما هي الأعذار بعد هذا؟! أعمى لا يجد من يقوده في ظلام الليل!
قالوا: هذا رجل يعرف الطريق متردد عليه لا يحتاج إلى قائد، بدليل أنه كان يأتي إلى المسجد قبل ذلك، وبعض العميان قد يدل على الطريق، ولذا يقول الشاعر:
أعمى يقود بصيراً لا أبا لكم قد ضل من كانت العميان تهديه
فقالوا هذا الأعمى لا دليل فيه، ثم لما رخّص له ابتداءً عرفنا أنها ليست بواجبة، ولما أمره بعد الرخصة كان الأمر للندب، وليس للوجوب..
وأما قوله: (والذي نفسي بيده) فهو قَسَم كان يقسم به صلى الله عليه وسلم عند الاهتمام بالأمر، وعرفنا أن للحديث مقدمة، ولها دخل في معنى الحديث، والذين قالوا إنها سنة، قالوا: سيق الحديث في أمر المنافقين، ولأن نهاية الحديث: (لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً أو مرماتين..) والمرماة: اللحم اللين الرقيق بين الضلعين، فالغشاء الذي يربط بين الضلوع يسمى (مرماة)، فكما تقول: يُرمم البنيان.
والعرق: وصلة اللحم التي بين ظلفي الشاة، يعني: لو كان يعلم أنه يجد شيئاً ضئيلاً لخرج إليه.
فهل من صفات المؤمن أنه يفضل مرماة على صلاة الجماعة، أم أن ذلك من صفات المنافق؟! إن المؤمن لا يعادل بالجماعة شيئاً، حتى كنوز الدنيا، ولا يفاضل بين الجماعة ومرماة اللحم إلا منافق.
فالحديث سيق في أي شيء؟
قالوا: الحديث سيق في الوعيد والتهديد، وللحاكم أن يهدد بما لا يفعل.
وقالوا: القاعدة أنه إذا وُجِد خطر لا تأتي بأقوى أنواع رده، بل تتدرج، فلو صال عليك صائل من حيوان أو إنسان، وأتى من بعيد يهدد ويسخط ويسب ومعه العصا، أتأخذ بندقية وترميه، وتقول أدافع عن نفسي؟
فعندما يأتيك إنسان معه عصا أو سوط يقود بها دابة لا تقابله بعصا غليظة تقتل وتهشم العظم، وتقول أدافع عن نفسي، بل تدفعه عنك بالتدرج، فتعده وتتوعده، وتهدده بيدك، أو بعصاً مثل عصاه.
فالتدرج في الوعيد مطلوب، وللإمام أن يهدد بما لم يفعل زجراً وتخويفاً، كما يقال: (علِّق سوطك حيث يراه أهلك).
وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم حين أعلن هذا الوعيد الشديد فإن إعلانه سيصل إلى أولئك في بيوتهم.
قالوا: لقد انزجروا بالوعيد أو قال ذلك ولم يفعل لينتظر أثر الوعيد والتهديد بالقول، فأثمر فانتهوا وتركوا، فلم تكن هناك حاجة للتحريق بعد هذا.
ثم حديث التحريق وحديث المفاضلة أيهما أسبق؟
لقد ادعى من قال: إن الجماعة سنة أنه كان الأمر الأسبق بالوجوب، ثم نسخ بالمفاضلة.. (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)، وانتهى أمر التحريق.
وبعد هذه المقدمة -وهي خلاصة لما يقال في هذا الموضوع- نرجع إلى كلام الأئمة رحمهم الله.
فنجد المالكية والأحناف يرون أنها سنة مؤكدة، ونجد عن أحمد رحمه الله ثلاث روايات، يذكرها صاحب الإنصاف، والأولى بطالب العلم أن يقف عليها، فرواية أنها واجبة، أي: الجماعة الواجبة، لكنها ليست شرطاً في صحة الصلاة، ويقول صاحب الإنصاف: إن هذا من مفردات المذهب.
والرواية الثانية: أنها فرض كفائي؛ لأنها شعار للمسلمين في إظهار الجماعة.
والرواية الثالثة: عن أحمد : أنها سنة، كقول الجمهور.
والمشهور عند الشافعية أنها سنة، ويذكرون عن الشافعي رواية في الأم أنها فرض كفائي، فلم يقل: إنها واجبة وجوب عين واحد من الأئمة الأربعة، ولكن قال بذلك داود الظاهري وطاوس، وبعض أهل البيت وغيرهم، وهو قول خارج عن نطاق المذاهب الأربعة.
ولكن جاء عن ابن مسعود قوله: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات الخمس حيث ينادى بهن، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا الرجل المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم).
وجاء حديث -وقد تكلموا في سنده-: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) ولكن نرجع إلى العمومات، وهي حاجة المسلمين إلى الاجتماع والوحدة، بل إن معاذاً في أثره يقول: (ولا يقولن أحدكم: إني أصلي في بيتي! إنكم إن فعلتم ذلك تكونون قد تركتم هدي نبيكم).
ومن آكد ما سمعت في ذلك قول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في معرض الكلام على صلاة الخوف، قال: لو أن الصلاة -وهي وفرض- تسقط بشيء لسقطت في القتال، ومع ذلك والرءوس تتطاير تؤدى، فإن كانوا مقيمين ولا قتال، ولا فر ولا كر في أرض المعركة قسم الإمام الجماعة قسمين: قسم لحراسة العدو، وقسم يصلي معه، وهذا مما يدل على وجوب الصلاة، وأنها لا تسقط بحال من الأحوال، وقالوا: إنها لا تسقط مادام العقل موجوداً وعنده إدراك.
وتقدم في صفتها: (صل قائماً، فإن لم تستطع فجالساً...) فكل ذلك يدل على وجوب الصلاة.
ونحن نقول: صلاة الخوف نجد فيها الجماعة بقدر المستطاع، ولا تسقط الجماعة في صلاة الخوف إلا إذا دخل وقت الصلاة وهم في حال الكر والفر، ولا يمكن أن يقع اجتماع ولا إمامة، فكلٌ يصلي لنفسه على حالته مستقبلاً الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب، ولا مانع في ذلك.
وعلى هذا فأقل ما يقال: في ذلك العناية بالجماعة.
قال داود الظاهري وطاوس وغيرهما: إنها واجب عيني، وشرط في صحة الصلاة، ومن صلى منفرداً بغير عذر فلا تسقط فريضته.
يليهما أحمد في رواية عنه أنها: هي واجب عيني، وليست شرطاً في صحة الصلاة، فتصح صلاة المنفرد دون الجماعة، وهو آثم بترك الواجب، كما قال أبو حنيفة رحمه الله في الطواف، قال: الطهارة شرط، لكن ليست شرطاً في صحة الطواف، فيصح طوافه، وعليه دم لتركه واجباً وهو الطهارة، فللصلاة نظير أيضاً عند غير أحمد .
فعند أحمد أنها فرض عين، ولكن ليست بشرط صحة، ورواية أنها فرض كفائي، ورواية أنها سنة كما يقول الجمهور.
وعند الشافعي: هي فرض كفائي، وجمهور الشافعية على أنها سنة مؤكدة.
ومالك وأبو حنيفة -رحم الله الجميع- على أن الجماعة سنة، وليست بواجب.
فأراد بعض العلماء معرفة موجب التضعيف إلى الخمسة والعشرين.
ثم ذكر عشرة أو اثني عشر وجهاً، ومنها أنه قال: عزمه عندما سمع النداء بأن يجيبه طاعة، والعزم على إجابة المؤذن طاعة، فأجاب المؤذن فيما قال، وأسبغ الوضوء. ومشى إلى المسجد، ثم دخل المسجد وصلى تحية المسجد، ثم وقف ينتظر الإمام حتى يقيم، ثم ائتم بالإمام وأمَّن وراءه، أو اشترك في تأمينه، وسمع القراءة في الجهرية، واشترك مع الإمام في هذا الجمع، ثم تعرف على إخوانه، وتآلف مع الآخرين، ورجع من المسجد إلى البيت ماشياً، فهذه حسنات، وكل واحدة تساوي درجة من صلاة الفذ؛ لأن الفذ ليس عنده شيءٌ من ذلك.
وبعضهم يقول: إن أقل الجماعة ثلاثة، وكل واحد من الثلاثة نوى الجماعة بغيره، وغيره نيته الجماعة بغيره، فيكون هنا ثلاثة أشخاص لهم نية جماعة، والحسنة بعشر أمثالها، فتصير ثلاثين حسنة.
وأحسن ما يقال في هذا الحديث أنه يتهيأ إلى الصلاة، ولأنه منذ أن يسمع النداء أو يعلم دخول الوقت يتوجه بفكره إلى أداء الواجب، ثم يسبغ الوضوء، وإن كان الإسباغ مشتركاً في كل الصلوات، ثم يخطو الخطوات إلى المسجد، وجاء في الحديث الآخر أن له بكل خطوة حسنة أو درجة، وتمحى عنه سيئة، فلا يأتي المسجد إلا وقد محيت خطاياه، وتكون الصلاة نافلة له.
وهناك أيضاً حديث الوضوء، وإن كان أعم من ذلك: (إذا توضأ العبد المسلم -أو المؤمن- فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء..) فجاء الحديث في تكفير الذنوب المقترفة بهذه الحواس.
ولعلنا بهذا ندرك أن كون الوضوء في هذه الأعضاء لأنها الحواس والجوارح المكتسِبة، فالظهر لم يكتسب شيئاً، والرأس لم يكتسب شيئاً، لكن العين والأنف والفم واليد والرجل كلها تكتسب، فيكون غسلها بماء الوضوء غسلاً لآثار ما اكتسبت واجترحت من سيئات.
فهذه ناحية لمن أراد من طلبة العلم أن يقف عليها، ولا أقول: الوصول إلى تحقيق الغاية، أو تحقيق المناط في تضاعف صلاة الجماعة سبعة وعشرين، ولكن إلى ما حاول الفقهاء رحمهم الله أن يستنتجوه أو يرسموه؛ ليكون نوعاً من أنواع استنتاج الأحكام أو تعليلها.
ونعلم قصة الشافعي رحمه الله في حديث: (يا
فعلينا أن نطرق أبواب العلماء فيما بوبوه في كتبهم لننظر فيما ادخروا لنا في تلك الخزائن النفيسة.
قال صلى الله عليه وسلم: [وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً)].
هذا النص صريح بأن الثقل: على المنافقين، والهم: بالتحريق كان أيضاً موجهاً على المنافقين.
ونكتفي بهذا القدر، ونسأل الله تعالى لنا ولكم الهداية والتوفيق.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر