وبعد:
فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا
تأملوا يا إخوان هذا الأسلوب! هذا أسلوب عتاب، أم أسلوب ممازحة، أم أسلوب ترغيب، أم أسلوب ترهيب؟
كيف نصنف هذا الأسلوب النبوي الكريم؟: (يا
ابن حجر رحمه الله يقول: قوله: (لا تكن مثل فلان) لم أقف على اسم هذا (فلان) في طريق من طرقه، هكذا يقول ابن حجر في فتح الباري، وهو مؤلف الكتاب.
وبعضهم يقول: إن فلاناً هذا أمر رمزي، لا تكن كشخص من الأشخاص يقوم ويترك، مثل الآية الكريمة: كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا [النحل:92] هل هناك امرأة بالفعل نقضت غزلها، أم هذا من باب العموم، أن الذي يعمل عملاً ويشرك فيه أو يرجع فيه كالتي تغزل الغزل ثم ترجع وتفك الغزل هذا إلى صوف منثور؟
لا أعتقد أن امرأة ستفعل هذا بالذات، ولكن يكون هذا على سبيل المثال في نقض العمل بعد إبرامه، والله تعالى أعلم.
ولكن يقولون: من الأدب النبوي الذي نتعلمه: لعله يعلم شخصاً بعينه، ولكنه لم يسمه ستراً عليه؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه كان يعلم من بعض الناس بعض الأفعال، ولكن لم يسمهم، ويخطب ويقول: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا)، من هم هؤلاء؟ لا حاجة لنا بمعرفتهم.
وكما جاء في رواية الموطأ: (عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يخطب يوم الجمعة، فدخل رجل وعمر يخطب، فقال: ما هذا يا فلان؟ -رواية الموطأ هكذا ما سمت أحد- قال: والله ما زدت أن سمعت الأذان فتوضأت فجئت، فقال: والوضوء أيضاً؟!) يعني: تأخرت في المجيء ولم تغتسل! خطآن ارتكبتهما! بعض الروايات تسمي الشخص هذا الذي دخل، فيكون عدم تسميته كما يقال: حتى لا ينسب إليه هذا التقصير، وهو ليس من أهل التقصير.
ولكن هنا: (لا تكن مثل فلان) هذه ملاطفة ومداعبة، وحث وترغيب في العبادة، بالإشادة أو التنويه أو العتاب، فلان هذا ما هو شكله وما هو وصفه؟
(كان يقوم الليل ثم ترك)، فهل ترضى لنفسك يا عبد الله أن تقوم الليل فترة ثم تترك؟!
ويقف عند هذا العلماء ويقولون: بم نستفيد من هذا الحديث في مشروعية قيام الليل، أواجب هو أم سنة؟
يقول بعض العلماء: كان قيام الليل في أول الأمر واجباً، ثم شق عليهم فنسخ الوجوب إلى الندب عندما فرضت الصلوات الخمس، طيب! الصلوات الخمس فرضت في مكة، والذي يهمنا أنه لا فرض بعد الصلوات الخمس، ويقولون: هذا الحديث دليل على أن قيام الليل ليس بواجب؛ لأنه لو كان فلان هذا الذي ترك قيام الليل ترك واجباً، فهل يكون موقف النبي صلى الله عليه وسلم ممن انتهك واجباً مجرد أن يقول: (لا تكن مثل فلان)؟ لا.
هذا الحديث يدل على الترغيب في قيام الليل، والأحاديث الواردة في الحث على قيام الليل عديدة، ولكن والله -يا إخوان- إن الإنسان ليذكر هذا الحديث وهو في غاية من الاستحياء، ومن العجب أيضاً أن يكون التفريط من طلبة العلم! يقول أحمد رحمه الله: (عجبت لطالب العلم ليس له ورد من ليله!)؛ لأن قيام الليل هو أكبر غذاء للإنسان، اللهم إلا إذا كان يقوم من الليل بدراسة، في تفسير.. في حديث.. في فقه، بما يجد نفسه منشرحاً إليه، وكما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما سأله رجل: (ماذا أصنع في رمضان: أقرأ القرآن أم أصلي القيام؟
قال له: إنما أنت مرتاد لنفسك -يعني: تسيمها المرعى- فحيثما استجابت معك فارعها). إن كانت تستجيب معك برغبة وبإمعان واستفادة في القراءة فاقرأ، وإن كانت تستجيب معك في الصلاة والمناجاة والخشوع والركوع والسجود فصل، وهكذا يقال لطالب العلم.
وقد جاء أن رجلاً جاء إلى ابن المسيب وقال: ألا تكن مثل آل فلان يحيون القيلولة ويقيمون الليل! قال: دع عنك بني فلان، والله لتعلم مسألة في الفقه خير من عبادة آل فلان.
إذاً: مجال القربى والزلفى إلى الله واسع، لكن لابد أن تكون هناك ساعة عبادة لا في العلوم الأساسية خاصة الفقه، الفقه له قساوة وشدة، وله أيضاً طلاوة وحلاوة، لكن ما كل إنسان يقوى على مكابدته، فلابد له من ساعة يذكر الله فيها، يأخذ آيات من كتاب الله يقرؤها ويتلوها ويتمعن فيها، وقد سبق أن الخليفة عثمان رضي الله عنه كان يقوم الليل كله، وأقول: والله! لو أن إنساناً شرح الله صدره، وأنار قلبه، وأخذ الفاتحة ليالي عديدة ما أدى واجبها، ويقول عنها علي رضي الله تعالى عنه: (لو شئت أن أكتب حمل بعير على سورة الفاتحة، لفعلت)، ومن أراد أن يعرف حقيقة أمرها فليأخذ مقدمة تفسير الفخر الرازي على الفاتحة، ولينظر كم أخرج منها من مئات وآلاف المسائل والأبواب!
أيها الإخوة! قيام الليل كل بحسبه، لو أن إنساناً عامياً لا يقرأ ولا يكتب، ثم استيقظ من ليله واستغفر ربه، وسأل الله فله أجر عظيم، كما جاء في الحديث: (ما من إنسان يتعار من الليل فيذكر الله ويستغفره إلا كان له من الأجر كذا وكذا..) نسأل الله تعالى أن يشرح صدورنا، وأن ينير قلوبنا، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
فلابد للإنسان من ساعة يخلو فيها مع الله، كما قال عمر لجليسه: (اجلس بنا نؤمن ساعة) وهل كانوا غير مؤمنين؟
لا. المراد: نجدد الإيمان، نقوي الصلة بالله، نجدد الرغبة بأن نتذاكر فيما بيننا، سواء آية، أو حديثاً، أو مسألةً، أو نتذكر اليوم الآخر إلى غير ذلك.
تلك الساعات تغذي الروح، وترطب القلوب التي قست فأصبحت كالحجارة أو أشد قسوة، وليس لها دواء ولا شفاء إلا بذكر الله سبحانه وتعالى، وليس الذكر مجرد إطلاق اللسان بأي حالة من الحالات: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191] بأي حالة من الحالات.
وهناك من يقول: لا، أهل القرآن الذين حفظوه واشتغلوا بعلومه، وكانوا من أهل القرآن تلاوة وعلماً وعملاً، فإذا حملناه على العموم فهو كالعموم المتقدم: (الوتر حق) فإذا حملناه على الخصوص كان لخصوص الفقهاء والعلماء، وإذا حملناه على العموم فهو يضاف إلى الأحاديث التي يستدل بها على وجوبه: (أوتروا) وإذا حملناه على الخصوص خرج عن كونه للوجوب؛ لأن الواجب يعم حملة القرآن وغير حملة القرآن، والجمهور على أن المراد بأهل القرآن حملة القرآن.
ولماذا يخصهم؟
قالوا: لأنهم هم الأولى بذلك، وهم الأحرى بأن يلتزموا بسنن العبادات مع فرائضها، وهم الأولى بأن يكونوا القدوة لغيرهم؛ إذاً: على العلماء واجبات أكثر من العوام، وعلى أهل القرآن مسئوليات أكثر من غيرهم، ولما كانت وقعة اليمامة ورجع بعض الناس، وثبت فلان وقال: (ما هكذا كنا مع رسول الله، يا أهل القرآن هلموا)، وكذلك صلى الله عليه وسلم لما كان في غزوة حنين، ورجع الناس عندما فاجئوهم بالنبل، قال للعباس : (ناد: يا أهل بيعة الرضوان!) لماذا خصهم؟ لأنهم بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على الموت، وعلى ألا يفروا، وهذا وقتهم، فلما نادى كذلك رجعوا وتجمعوا عنده صلى الله عليه وسلم، وأعادوا الكرة ونصرهم الله.
إذاً: اختصاص أهل بيعة الرضوان بالنداء يوم حنين في تلك الشدة لأنهم أخص الناس وأولاهم بذلك؛ ولأنهم بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت في سبيل الله، أو على ألا يفروا، والآن قد فروا فليرجعوا.
وأقرب ما يحمل عليه الحديث أن أهل القرآن هم حملته، وقد يقال لهم: القراء، وكلما كان الإنسان طالب علم أو أقرأ لكتاب الله كان أدعى وأولى بأحكامه، وبالله التوفيق.
قوله: (فإن الله وتر يحب الوتر).
هذا التذييل: (فإن الله وتر يحب الوتر) هذا الحديث يجرنا إلى الحديث عن أسماء الله الحسنى بكاملها، فإن الله وتر، ولما كان وتراً يحب الوتر، لا نقول: للمجانسة، ولكن لما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا أخرجنا ذات المولى سبحانه، وجئنا إلى المخلوقات، وجدنا أن الأجناس تتجانس وتتآلف في وحدة الجنسية، فأيما جنس لقي جنسه تآلف معه؛ لأن وحدة الجنس تجمعهم، والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك كله، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أوتروا.. فإن الله وتر يحب الوتر)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وتر) هذه جملة مكونة من مبتدأ وخبر، وليست على سبيل الحصر، ولكنها مشعرة بأنه لا وتر إلا الله، وبأن جميع الكائنات زوجية مزدوجة، والله خلق جميع المخلوقات، ولنبدأ من أرقاها وهو الإنسان، ثم عالم الجن، ثم الحيوان، ثم النبات، ثم الحشرات، فنجدها تعيش مزدوجة، ما بين ذكور وإناث، وكذلك المخلوقات الأخرى، حتى الجمادات نجدها مزدوجة وليست وتراً، وكما أشرنا إلى ما يقول علماء الذرة بأن الذرة لها نواة، وهو الجزء الذي لا يتجزأ عند المناطقة.. الجوهر الفرد، والآن قد فجروا هذا الفكر، ووجدوا بأن النواة التي يتكون منها كل جرم سواء كان معدنياً أو كان حجرياً أو كان غير ذلك، فإن تلك النواة وهي نهاية الجزء في هذا الجرم تتكون من جزءين، وفيها قطب سالب وموجب.
إذاً: كل الكائنات زوجية، ولها أجزاء يكمل بعضها بعضاً، ولولا الجنس المزدوج في بني آدم لما وجد الإنسان، ولو بقي أبونا آدم على ما هو عليه ما جاء أحد إلى الدنيا، ولو ذهب أبونا آدم وجاءت حواء وحدها ما كان أحد على وجه الدنيا، اللهم إلا القدرة الإلهية تظهر في آحاد البشر، كما جاء في مريم عليها السلام، فالله عز وجل جعلها آية، ونفخ فيها من روحه، فجاءت بعيسى بلا أب، هذه آحاد بيان القدرة، حتى لا تكون عادة أو تنسب إلى الطبيعة، فإن الله خلق آدم من تراب، وأيضاً ليس من تراب وحده، بل ماء وتراب، وليس من التراب فحسب ولا من الماء فحسب، بل من عنصري الماء والتراب، ثم خلق حواء من ضلعه ولحمه ودمه، ثم تناسل الناس من هذين الأبوين، وهكذا النباتات والطيور والحيوانات والحشرات إلى غير ذلك، والله وحده سبحانه هو الوتر.
إذاً: فإن الله وتر يحب الوتر، فإذا كان الله يحب الوتر: (أوتروا يا أهل القرآن) إذاً: الوتر واجب أم سنة؟ سنة.. الله سبحانه وتعالى يحب كل العبادات (ما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) إذاً: كل العبادات محببة إلى الله، والوتر بخصوصه؛ لأنه ليس فرضاً لازماً، ويأتيه الإنسان تطوعاً، فمحبة الله إياه حملت العبد بحبه لله أن يأتي بالوتر.
نقول: هذا الحديث على وجازة لفظه يتكلم في جانب، ويأتي الحديث الثاني: (لا وتران في ليلة) إذا أخذنا الحديث الثاني على حدة، ونقول: إن إنساناً صلى العشاء وأوتر، ليس له أن يعيد الوتر مرة أخرى؛ لأنه قد أوتر، ولا وتران في ليلة، فهو أوقع الوتر في آخر صلاته، فلا يعيد الوتر؛ لأنه يتكرر، ولا وتران فضلاً عن ثلاثة، وكلا الحديثين يعمل عمله إذا انفرد، من كان يوتر أول الليل ولم يقم آخره صلى العشاء وما يسر الله له، وأوتر ونام حتى يطلع الفجر، فهو جعل آخر صلاته بالليل وتراً، وانطبق عليه هذا الحديث بدون أي معارض.
إنسان صلى الوتر ثم استيقظ بعد نومه، وأراد أن يعيد الوتر، هل يجوز له ذلك؟
لا؛ لأن أمامه حديث: (لا وتران في ليلة)، فكل من الحديثين يعمل عمله إذا انفك أحدهما عن الثاني، ولكن إذا ارتبط الحديث الأول بالثاني ماذا يفعل؟ وهذه هي المسألة التي كثر الكلام عليها، وتعالج بناحية منهجية، وصورتها: صلى العشاء فأوتر، أخذ بالعزيمة، فصدق عليه أنه جعل آخر صلاته بالليل وتراً، وأعمل الحديث الأول بأن جعل آخر صلاته بالليل وتراً، ثم يسر الله له القيام، فصلى من الليل ما تيسر له، طيب! بعد أن صلى من الليل ما تيسر له، وقد أوتر وتره، يأتيه الحديثان معاً، الحديث الأول يقول: (اجعل آخر صلاتك بالليل وتراً)، لأنك صليت الآن اجعل آخر صلاتك بالليل وتراً، والحديث الثاني يقول: لا، (لا وتران في ليلة) فما هو المخرج؟
من أراد تحقيق هذه المسألة بأوسع ما يكون فعنده كتاب: قيام الليل للمروزي ، أو مختصر هذا الكتاب، وكذلك فتح الباري لـابن حجر ، وغيره من مجموعات الأحاديث، وأدق ما يكون في ذلك بحثاً ما كتبه الإمام العلامة ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، فهؤلاء يقولون: ما دمت قد أوترت أولاً فصل ما شئت ثم لا توتر، طيب! حديث: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) أين تذهب به؟ تعارض حديث نهي مع حديث أمر!
وبعض العلماء يقول: هذا التعارض أنا ألغيه، ألغي الوتر الذي في أول الليل، وكيف تلغيه؟ أليس الوتر ركعة واحدة؟ بلى، قال: أنا عندما أقوم من ثلث الليل الآخر قبل أن أصلي من الليل ما أريد أصلي ركعة واحدة، وأرسلها إلى الوتر في أول الليل، يصبح الوتر الذي في أول الليل شفعاً، يقول: ألغيت الوتر الأول، ثم أستأنف قياماً جديداً وأوتر، فأجعل آخر صلاتي من الليل وتراً.
وهناك من يقول: هذا عمل غير صحيح، وروي عن ابن عباس وأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنهما أنهما قالا: هذا تلاعب بالوتر؛ لأنه بعد أن صلى الوتر نام، وربما وجب عليه غسل، تكلم.. أكل.. شرب.. ثم بعد هذا كله ربما يعتريه موجب للوضوء أو موجب للغسل، وأكل وشرب، ونوم، وكلام ثم يصلي ركعة يضيفها للتي قبلها؟! كيف تنضم إليه؟ جاء عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه كان يفعل ذلك، وابن عمر كان يفعل ذلك، فـعثمان رضي الله تعالى عنه يقول: (ما أراها -يعني: الركعة الثانية التي سأرسلها- إلا كشاردة الإبل)، فلا ينبغي أن يضم هذه الركعة الواحدة بعد النوم والأكل والشرب ونواقض الوضوء إلى ما تقدم.
طيب! ماذا نفعل؟
قالوا: ننظر في التوفيق بين الحديثين، فالحديثان في فن الأصول ليس بينهما عام وخاص حتى نحمل العام على الخاص، وليس فيهما مطلق ومقيد حتى نقيد المطلق بقيد مقيد، ولكن كلاهما صحيح صريح في موضع يعارض الآخر: (لا وتران ...).. (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) وهنا يقول ابن دقيق العيد : نخرج خارج نطاق الحديثين بالمرجحات الأصولية، وما هي؟ قال: متون الحديث صريحة صحيحة لا غبار عليها، ولكن مضمون الحديثين ما هو؟
قال: مضمون حديث: (لا وتران في ليلة) هذا نفي ونهي أم ندب وطلب؟ نهي ونفي، سواء كان نفياً في أن توقع وترين؛ لأنه لا يوجد وتران في ليلة، أو نهياً عن أن توقع الوترين في ليلة. وحديث: (اجعلوا آخر صلاتكم..) هذا طلب أم نهي؟ طلب، وأقل مقتضيات النهي هنا الكراهية؛ لأن النهي إما حرام أو مكروه، وأقصى درجات الطلب الوجوب ما لم نجد صارفاً، وهل الوتر واجب؟
أصل مشروعية الوتر ليست واجبة، إذاً: كيفيته، أحكامه، لا ترتقي إلى الوجوب: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل ...) إرشاد لإيقاع الوتر، وهو طلب دلالته الندب.
إذاً: الحديثان متعادلان في الصحة والصراحة في القول، ولكن اختلفا في المضمون، فأحدهما: مضمونه كراهية إعادة الوتر، والثاني: مضمونه أن تجعل آخر صلاتك بالليل وتراً، وإذا كان لا وتران في ليلة لو أننا أعدنا الوتر نكون وقعنا في مكروه، ولو أننا اكتفينا بالوتر الأول وصلينا بعد ذلك ما تيسر دون أن نعيد الوتر تركنا مندوباً، وتجنب صفات المكروه أولى من اقتحام فعل المندوب، فيكون ترجيح: (لا وتران في ليلة) على (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)، إذاً: من أوتر أولاً ثم قام بعد ذلك فليصل ما شاء ولا يعيد الوتر.
ويقول ابن عباس في من يصلي ركعة الشفع: (هذا جاء بالوتر ثلاث مرات وليس مرتين)، أوتر بعد العشاء، ثم صلى ركعة واحدة وهي تعتبر وتراً، ثم صلى ما تيسر له وجعل آخر صلاته بالليل وتراً، كأنه أوتر ثلاث مرات، وهذا مقتضى قولهم: (تلاعب بالوتر).
وعلى هذا يا إخوان يكون المتقرر عند الجمهور بأن اجتهاد ابن عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما عارضه اجتهاد غيرهما من الصحابة أمثالهما، وإذا كان اجتهاد صحابي تعارض مع اجتهاد صحابي آخر فإنهما يتعادلان فيتساقطان، كما هو النظام في البينات، إذا تعادلت البينتان تساقطتا، ويطلب بينة جديدة، وهنا: لم يبق عندنا إلا الترجيح في مضمون الأحاديث، أحدهما للنهي وأقل حالاته الكراهة، ولا ينبغي أن نرتكب مكروهاً، والثاني للطلب، وأعلى درجاته الندب، ولأن نقصر في مندوب خيراً من أن نرتكب مكروهاً، والله تعالى أعلم.
ثم يؤيد القول بعدم إعادة الوتر بأنه جاء عن أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث.. بخمس.. ثم يصلي ركعتين وهو جالس، بل في حديثها: كان يوتر بثلاث عشرة ركعة، فلما أسن وأخذه اللحم صار يوتر بسبع، ومعنى: (يصلي ركعتين وهو جالس)، يعني: صلى بعد الوتر، ولم يعد الوتر بعد ذلك، ولم يلغ الوتر الذي تقدم.
إذاً: (لا وتران في ليلة) راجح على (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)، وبالله تعالى التوفيق.
في هذا الحديث بيان ما كان يقرأ به صلى الله عليه وسلم في الوتر، وقوله: (كان رسول الله) يقول العلماء: (إن كان) هنا تدل على الدوام والاستمرار، ونظروا في هذه السور الثلاث (سبح) و(الكافرون) و(قل هو الله أحد)، وتقدم الكلام على السورتين الكريمتين: (قل يا أيها الكافرون) و(قل هو الله أحد) فيما يتعلق بالقراءة في سنة الصبح، وفي ركعتي الطواف، وهنا جاء تكرارهما، وكذلك في ركعتي سنة المغرب، وأن هاتين السورتين يسميان: سورتا الإخلاص، أو سورتا التوحيد، وأن في (قل يا أيها الكافرون) نبذ لعبادة ما سوى الله، وفيه أيضاً تميز الإسلام والمسلمين عن غيرهم.. لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ [الكافرون:2-4]، أي: في الحال وفي الاستقبال، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] تفردت هذه السورة الكريمة بموضوع واحد وهو: إفراد الله سبحانه وتعالى، وبيان أنه الواحد الأحد الفرد الصمد، واحد في ذاته، وواحد في صفاته، وأنه الصمد الذي يصمد إليه جميع الخلق، أي: يعمدون إليه ويقصدونه، وهنا يضيف إلينا أبي بن كعب : سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]، وباجتماع هذه السورة مع تلك السورتين نجد افتتاحية السورة الأولى: سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]، والتسبيح بمعنى: التنزيه والتقديس عما لا يليق بجلال الله، وقد جاءت مادة سبح في القرآن الكريم بكل تصاريفها، سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الحديد:1].. يُسَبِّحُ لِلَّهِ [الجمعة:1] حتى المصدر سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1] فجاء التسبيح بأنواع تصاريفه؛ لبيان تنزيه المولى سبحانه وتعالى عما لا يليق بجلاله، وقد أشرنا سابقاً أن معنى التسبيح من حيث مادته في اللغة أصلها (سَبَحَ) بمعنى: يسبح في الماء، والإنسان إذا وجد في ماء عميق لا بد أن يسبح وإلا غرق وهلك، ويقال: إن سبح وسبّح (سَبَحَ الله) أي: كأنه يبعد جلال المولى سبحانه عن كل ما لا يليق بجلاله، وإلا هلك هذا الإنسان، أو أنه يسبح ويطلب طرق النجاة بتنزيه الله سبحانه عن كل ما لا يليق بجلاله، بخلاف أولئك الذين اتخذوا الله ولداً، أو اتخذوا له صاحبة، أو اتخذوا له شريكاً، أو وصفوه بصفات لا تليق بجلاله سبحانه، كما وقع اليهود في وصف الله سبحانه بالفقر وبالغل.. إلى غير ذلك من الصفات التي لا تليق بجلاله سبحانه.
وقد بين لنا الحديث الصحيح في قوله صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله تملأ الميزان، والحمد لله تملأ ما بين السماء والأرض) وكما جاء في الحديث الآخر: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) وهاتان الكلمتان جمعتا طرفي التوحيد؛ لأن (سبحان الله) تنزيه ونفي عن كل ما لا يليق بجلاله، و(الحمد لله) إثبات وإقرار بكل المحامد، وبهذا يجتمع للإنسان بهاتين الكلمتين تنزيه الله سبحانه، وتحميده بكل ما يليق بجلاله، وهذا هو طرفا التوحيد في حق الله.
وهنا قوله: سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1] التسبيح هنا متوجه إلى (.. ربك الأعلى)، ومن سبح اسم ربه فقد سبح ربه من باب أولى، فإذا سبح الإنسان وقدس ونزه أسماء الله العلي العظيم فإنه قد سبح ونزه وقدس المولى سبحانه وتعالى.
ثم جاء بعد هذا التسبيح وهذه الافتتاحية بقوله: .. الأَعْلَى [الأعلى:1]، والوصف بالعلو ثابت، وكذلك الاستواء على العرش، وكل ذلك مفهوم في العقيدة، ثم جاء بما يدل ويثبت القدرة الإلهية والربوبية للعالم، رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:1-3] إلى آخر السورة الكريمة مما فيه جماع كمال الصفات لله سبحانه.
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى [الأعلى:2]، لو وقف إنسان عند كلمة: (فسوى) طيلة عمره ما استطاع أن يستوفي مدلولها، لو نظرت إلى بني آدم من أبينا آدم إلى آخر إنسان في الوجود، ونظرت في تسوية خلقه لما وجدت اثنين متفقين تماماً متطابقين تمام المطابقة، ولكن كل مخلوق سواه الله تسوية خاصة به، ولو جئت إلى رعاة الحيوانات وبهيمة الأنعام لتجد الإبل والبقر والغنم كلها تتفق في صورة واحدة، ولكن تسوية كل واحدة منها تغاير غيرها من بني جنسها، وتجد الرعاة يختلطون بمئات من رءوس الغنم، فإذا آواهم المبيت تجد كل راع يعرف شياهه ويفصلها عن شياه شريكه ومن كان معه.
وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه يقول: إذا أردت أن تعرف هذه الآية وهذه القدرة الإلهية قف عند جمرة العقبة، وانظر تلك الوجوه التي جاءت من كل جنس، ومن كل قطر، ومن كل صقع يرمون الجمرات، لن تجد اثنين اتفقا في صفاتهما، بل إن علماء التشريح اليوم يقولون: إن بصمات الناس لا تتفق أبداً، بل إن أصابع الإنسان العشر في يديه لا تتفق بصمة إصبع مع بصمة إصبع أخرى، كم من ملايين الخلق مضوا وفنوا، ويوجدون الآن، ويوجدون بعد ذلك؛ ولا تتفق بصمة إصبع إنسان مع بصمة إصبع إنسان آخر!!
هذه المغايرة لو وكل ذلك لأفراد الحذاق من العالم بأن يضعوا لها فيلمات، وأن يضعوا لها صوراً متفاوتة مختلفة لوقفوا عند مليون أو مليونين أو مائة مليون، أما أن يأتوا بأشكال متساوية من العالم كله فهذا يعجز عنه البشر، فالله هو الذي خلق فسوى، وأعطى كل شيء خلقه فهدى، خلق البعير على ما يتلاءم في خلقته، وخلق الأغنام على ما يتلاءم في خلقتها، وخلق الإنسان على ما يلائمه، وخلق عوالم البحار على ما يلائمها، فالإنسان والحيوان لا يستطيع أن يعيش في الماء؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يستخلص عنصر الحياة من الماء وهو الأكسجين كما يقولون، بينما حيوانات الماء خلقها وسواها على أنها تستطيع الحياة في ذلك الماء، وأيضاً منها ما يستطيع الحياة في الماء وفي البر كما يقال: برمائي، أي: يعيش في الماء وفي البر، فهذه التسوية وهذا الخلق لا يستطيع إنسان أن يحصي كنهها، ولا أن يستوعب مدلولها.
سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:1-3] تقدير الخلائق، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [الرعد:8]، هذه المباني نحن نعلم أنها لو اختلت مقادير نسبة موادها البنائية لما استطاعت أن تقوم، حتى يقول المهندسون: لو زادت نسبة الحديد في التسليح لتكسر المسلح، ولو نقصت نسبة الإسمنت فيه لتشقق؛ فلابد من نسبة معينة محكمة، فإذا اختلت تلك النسبة فسد البناء!
وأنتم تعلمون جميعاً الذي اكتشف الآن فيما يتعلق بفصائل الدم، وأنه مقادير معينة، ونسب معلومة، وكل شيء في هذا الوجود له تقديره الخاص، والله سبحانه هو الذي قدره.
وأيضاً: وهدى ما خلق وقدر إلى ما خلقه إليه، إذا جئت إلى الطفل، أو إلى الحمل، أو إلى الإنتاج من الحيوان فإنك ستجد الشاة تلد السخلة، وقبل أن تقف على قدميها أو على أرجلها تبحث عن ثدي أمها وتلتقمه وتمتص منه الحليب، من الذي علمها ذلك؟! هل أنت علمتها؟! لا، هو قدر لها الحياة بذلك، وهداها لطريق حياتها، وإذا جئت إلى جميع أنواع الحيوانات تولد النتاج صغاراً، من الذي علمها الازدواج، من الذي ألهم الذكر الذكورة، والأنثى الأنوثة، ثم جمع بينهما ثم كان التناسل، ثم كانت الزيادة والنماء وبقاء الجنس?!
من الذي علمهم ذلك؟
إنه قدر لكل شيء حياته ومقاديره، وهداه إلى ما قدره إليه.
لو جئنا إلى عالم الحشرات تجد كما يقولون: مملكة النحل، من الذي هدى النحلة إلى ما هي عليه، ويعجز كبار حذاق المهندسين أن يوجدوا الأعمال التي تعملها النحل في بيتها، وفي جمعها للعسل، وفي بناء بيتها من الشمع، لا يوجد في خلية النخل سراب للهواء ألبتة، بل مسدسات متلصقات، بيت وبيت، وكيف تعمل؟ وكيف تتنظم؟ وكيف شكلت من جماعتها جماعات على أعمال مختلفة؟ كل هذا بتقدير الله، وهداها لما قدره إليها.
فإذا قرأ الإنسان ذلك.. ولو استمر الإنسان مع السورة الكريمة لما فرغ منها. هذا مناسبة قراءة هذه السورة مع سورتي الإخلاص في الوتر؛ ليقف الإنسان في كل ليلة وفي صلاته للوتر على عجائب خلق الله، ومن وراء ذلك تجديد الإيمان واليقين بالله سبحانه وتعالى. والله تعالى أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر