الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين.
وبعد:
قال المصنف رحمه الله: [ وعن أبي بكرة رضي الله عنه، ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جاءه خبر يسره خر ساجداً لله) رواه الخمسة إلا النسائي ] .
يروي هذا الصحابي الجليل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا استجد له أمر يسره، أو جاءه أمر يسره سجد لله شكراً.
وسجود الشكر يكون على نعمة تتجدد أو نقمة تدفع -أي: لمجيء خير أو لدفع شر-، وهذان العنصران -مجيء الخير واندفاع الشر- هما مطمع جميع العقلاء في العالم، قديماً وحديثاً، فالإنسان أياً كان اتجاهه أو منهجه أو ديانته، لا يتحرك ولا يعمل ولا يسعى إلا لتحقيق أحد هذين الغرضين؛ إما أن يجلب نفعاً لنفسه، أو يدفع ضراً عنها، ولهذا قيل:
لمنافع يسعى اللبيب فلا تكن لشيء غيره الدهر ساعياً
وقال آخر:
إذا أنت لم تنفع فضر فإنما يرجى الفتى كيما يضر وينفع
ينفع نفسه وصديقه وأهله، ويضر خصمه وعدوه، والذي لا يستطيع أن ينفع ولا يستطيع أن يضر فهو في حكم العدم، ولذا عاب الله على المشركين عبادة الأصنام فقال سبحانه: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ [الشعراء:72-73] ، هل جاءكم منهم نفع فتعبدونهم طمعاً في نفعهم؟! وهل يدفعون عنكم ضراً فتعبدونهم ليدفعوا الضر عنكم؟! إذا كانوا لا ينفعونكم ولا ترجون نفعهم، ولا يضرونكم ولا تخشون مضرتهم، فلماذا تعبدوهم؟!
يقول أبو بكرة رضي الله تعالى عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تجددت له نعمة -أي: جاءه شيء يسره- سجد شكراً لله.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً كما ذكره صاحب المنتقى بشرح الشوكاني : (أنه صلى الله عليه وسلم خرج من مكة متوجهاً إلى المدينة، فوصل إلى موضع بسام أو إلى جهة الجحفة فسجد سجدة طويلة، ثم نهض ورفع رأسه ورفع يديه ودعا، ثم سجد سجدة طويلة، ثم رفع رأسه ورفع يديه ودعا، ثم سجد الثالثة، فقيل له في ذلك، قال: سألت ربي أن يرحم أمتي فأعطاني ثلثها فسجدت شكراً لله، ثم قمت فسألت ربي أن يرحم أمتي فأعطاني ثلثها الثاني فسجدت شكراً لله، ثم سألت ربي أن يرحم أمتي فأعطاني الثلث الثالث فسجدت شكراً لله) ، هذا العطاء لا شك أنه عظيم، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم في مواطن أخرى أن: (لكل نبي دعوة مستجابة قد عجل له بها، وادخرت دعوتي عند الله شفاعة لأمتي) ، ونحن نعلم جميعاً أن الشكر على النعمة من عوامل حفظها، والله سبحانه وتعالى قد بيّن لنا أن من حق المولى المنعم أن يُشكر فقال: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي [الأحقاف:15] .
وهذا دعاء وتعليم للإنسان أن يشكر الله على نعمته، وكما جاء في الحديث: (إن الله إذا أنعم على عبده نعمة أحب أن يرى أثر نعمته على عبده) ، ونحن في قانون البشر، لو أن لك خادماً أو مملوكاً وأنت تحسن إليه وتعطيه كل ما يحتاجه وزيادة حتى يكون في خير حالة، ولكنه يخفي هذا، ويظهر بمظهر من لا شيء عنده، فيقال لك: يا فلان! أهملت خادمك، وبخلت عليه، فتقول: لا والله! أنا قد أعطيته وأعطيته ولكنه لا خير فيه، ولا يثمر فيه معروف.
في غزوة تبوك نزلوا منزلاً، وجاء أبو طلحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بغرارة فيها قثّاء، فقدمه لرسول الله فأكل ثم قال: (من أين لك هذا؟) قال: جئت به معي من المدينة، فخرج غلام له ليذهب إلى الإبل وعليه ثياب رثة، فقال: (أليس عنده ثوب خير من هذا؟)قال: بلى عنده في الغرارة، فدعاه وأمره أن يغتسل، وأن يلبس الثوب الجديد، فلبسه فقال: (ضرب الله عنقه أليس هذا خير من ذاك؟)فسمعها الغلام وقال: في سبيل الله يا رسول الله! قال: (في سبيل الله)، فضربت عنقه في سبيل الله في تلك الغزوة.
ونحن ننبه أن العادة في البر أن يلبس الإنسان الثياب العادية؛ لأنها معرضة للتراب وللشق ولكذا ولكذا، وإذا جاء عند الناس يلبس الشيء الفاضل: كما فعل سيد عبد القيس، عندما جاء وفد عبد القيس إلى المدينة أسرع الوفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم بثياب السفر، فجلس هذا عند الإبلن وعقلها، وجمع الأمتعة، وأخرج عيبته، وأخرج منها أحسن حلة عنده، فلبسها وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم في أحسن حال، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم مقبلاً من بعيد، وسع له بجانبه، وقال: (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة. فقال: خلق تخلقت بهما أم جبلة جبلني الله عليهما؟ قال: بل جبلة، قال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب الله ورسوله) .
يهمنا أنه عند مجيئه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أخرج أحسن ثيابه، ولكن هذا الغلام لم يتركه صلى الله عليه وسلم في ثياب السفر وثياب البر والبادية؛ لأنه يعاني الإبل، ونحن نعلم أن من أساليب الحرب المظاهر، وقد أباح الإسلام في ميدان القتال وأرض المعركة ما لم يبحه في أرض السلم وعدم القتال: فأباح لبس الحرير، وأباح التحلي بالذهب في السلاح، وأباح البخترة في المشي كما قال صلى الله عليه وسلم: (والله إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن)؛ لأن العدو إذا رأى خصمه في أبهة النعمة، ومظاهر الخير، انكسرت نفسه، وقال: هذا إنسان واقف بنفسه، شبعان بخيراته، أما إذا رآه ضعيفاً هزيلاً رث الهيئة، فسيزدريه بنظره، فيتقوى عليه بنفسيته.
إذاً: شكر النعمة يحفظها، ومن هنا جاءت النصوص في كتاب الله وفي سنة رسول الله بالحث على شكر النعمة لأي نوع من أنواعها، وأعظم نعم الله على الإنسان هي نعمة الإسلام، بل هي أعظم من نعمة وجوده في الدنيا.
الأولى: إيجاد الإنسان من العدم فأنت -أيها الإنسان- قبل أن توجد إلى الدنيا طفلاً؛ ماذا عملت حتى جئت إلى الدنيا؟ لم تعمل شيئاً، فإن قلت: أبواي عملا، نقول لك: على رسلك، أبواك سعيا لقضاء حاجتهما، ولكن هل كل التقاء رجل بامرأة يأتي منه ولد؟ لا، قال تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً [الشورى:49-50]
إذاً: إتيان الإنسان إلى هذا الوجود نعمة من الله لا كسب له فيها.
النعمة الثانية: نعمة الإسلام، فالإنسان إذا كان مسلماً، ولو كان له ألف جد في الإسلام، فإن الإسلام نعمة من الله عليه، وقد رأينا الذين عاشروا عصر الرسالة والدعوة، فمنهم من أسلم، ومنهم من مات على الكفر؛ فهي منح من الله، وكما نعلم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين) فاختار الله عمر بن الخطاب على أبي جهل عمرو بن هشام .
إذاً: كان هناك اختيار من الله، وقضية إسلام عمر مشهورة.
وهكذا إلى أن تقوم الساعة، وكما جاء في الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسان أو ينصرانه) .
إذاً: أنت حينما ولدت، وقدر الله مجيئك إلى الدنيا، هو الذي قدر مجيئك بين أبوين مسلمين، أو نصرانيين، أو يهوديين، فالمولود الذي يولد بين أبوين مسلمين؛ هل كان له كسب في هذا الاختيار؟ وهكذا المولود الذي ولد بين أبوين نصرانيين: هل كان له كسب اختيار الأبوين؟ ليس لأحد في هذا اختيار.
إذاً: كل هذا من عند الله، وكونك تولد من أبوين مسلمين؛ أول ما يطرق سمعك: الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، الله أكبر، قد قامت الصلاة، لأن المولود عند ولادته يستحب أن يؤذن في أذنه اليمنى، وأن تقام الصلاة في أذنه اليسرى، فاختيارك بين أبوين مسلمين، نعمة أعظم عليك من نعمة ولادتك؛ لأن من ولد بين أبوين غير مسلمين يتمنى لو لم يكن وجد، كما قال الله: وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40] ، ولكن المسلم موته امتداد لحياة أخرى.
النعمة الثالثة: دخول الجنة كما جاء في الحديث: (والله! لن يدخل أحدكم الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) ، يقول العلماء في هذا: والأعمال هذه التي عملها الإنسان في عمره إذا كان عمره عشرين، أو خمسين، أو ستين، أو سبعين سنة، من صيام وعبادات، قالوا: هذه لا تعادل نعمة الأعضاء التي في جسمه، مدة ستين أو سبعين سنة، أذنه يسمع بها ستين أو سبعين سنة، قلبه ينبض في صدره ستين أو سبعين سنة، ولم يدفع في هذا أي مقابل، قال الله تعالى: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] فلو قابلنا عبادته بما أنعم الله عليه في نفسه وفي جسمه؛ لما وفى حق جسمه الموجود، فضلاً عن نعمة الإسلام التي لا يوازيها شيء.
إذاً: عمله لا يوازي أن يكون ثمناً للجنة، وإنما هي منحة من الله سبحانه، وأما قوله تعالى: أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43] ، فكما كنا نسمع والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: المهم هو دخول الجنة بفضل من الله، فإذا دخلوا الجنة فهناك يختصمون كيف شاءوا، ولكن المهم بطاقة الدخول، كما لو كان عندنا مثلاً وليمة ترسل فيها بطاقات يكتب في أسفلها: الرجاء عند الحضور إبراز هذه البطاقة، فإذا دخلت بالبطاقة هل هو محضور عليك موطن من مواطن الدعوة؟ الجواب: لا، المهم أنك قد اجتزت بالبطاقة؛ لأن البطاقة أتتك من صاحب الوليمة وصاحب الدعوة والاحتفال، تفضل بها إكراماً لك أن تحضر هذا الحفل، فإذا حضرت لا يحضر عليك فاكهة ولا طعام ولا شيء مما هو في الوليمة، ولله المثل الأعلى، فقالوا: دخول الجنة فضل من الله، وقالوا: كل إنسان من بني آدم له مقعدان؛ مقعد في النار إذا كفر، ومقعد في الجنة إذا أسلم، كل واحد من جميع الأمم، وهذا يؤيده الحديث: (إذا مات ابن آدم، ووضع في القبر، إن كان مسلماً فتح له باب إلى النار فيقال: هذا مقعدك لو لم تسلم ثم يقفل عنه، ويفتح له باب من الجنة يقال: هذا مقعدك يوم القيامة فيقول: يا رب! أقم الساعة، أقم الساعة، -والعكس- إذا كان كافراً فتح له باب إلى الجنة، ويقال: هذا مقعدك لو آمنت، ثم يقفل عنه ويفتح له الباب الثاني فيقول: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة) ، وكما في الحديث الآخر: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه) .
إذاً: كل إنسان له مقعد مهيأ في كلا الدارين، فإذا دخل أهل الجنة الجنة؛ فمقاعدهم في النار هل تكون خالية أو أن أحداً يحل محلها؟ وإذا دخل أهل النار النار فمقاعدهم في الجنة هل تكون خالية أو أن أحداً ينزلها؟
الجواب: لا تكون خالية، إنما بعد أن يستقر كل فريق في منزله -نسأل الله العافية والمعافاة، وأن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة، وأن يجيرنا وإياكم من النار- فتلك الأماكن التي خلت من أهلها في الجنة، وذهبوا عنها إلى النار، تقسم على أهل الجنة، وهل تقسم على مبدأ المساواة؟ الجواب: لا؛ لأن أهل الجنة ليسوا على مرتبة واحدة، وإنما ( بما كنتم تعملون)، فمنهم من يعطى مقعدين، ومنهم من يعطى ثلاثة؛ لأنه في درجة عالية، ومنهم من يحصل على مقعد واحد، ومنهم من لا يأخذ شيئاُ، ويكتفي بمقعده فقط، كما ورد في خبر آخر من يدخل الجنة: (آخر من يخرج من النار رجل يقول: يا رب! قربني من الجنة، وباعدني من النار، ولا أطلبك شيئاً غيره، فيقول له: لك مثل الدنيا ومثله معه...) .
إذاً: هذا الميراث أو التوارث إنما هو على درجة الأعمال بعد أن يستحقوا الدخول، أما قبلها فالدخول فضل من الله، وقد جاء في الحديث ويذكره العلماء في باب الشفاعات من كتب العقيدة: (أول من يطرق باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول خازن الجنة: من؟ فأقول: أنا محمد، فيقول: نعم أمرت ألا أفتح لأحد قبلك) .
إذاً: ثلاث نعم لا كسب للإنسان فيها، وهناك نعم أخرى قد لا يكون لك كسب فيها، بل تكون منحة من الله، كما جاء في الحديث الثاني: (جاءني جبريل فبشرني - بماذا بشره؟ - بأن من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه بها عشراً ) ، هل هذه من عند رسول الله؟ الجواب: لا، وإنما هي منحة من المولى سبحانه وتعالى، وتكريماً له ولأمته في فضل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: سجود الشكر من دواعي الاعتراف بالنعمة، وإذا تأملنا تعداد النعم على المصطفى صلى الله عليه وسلم نجد أن في آخرها السجود: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:1-3]، وقد كنا دائماً نتأمل في أنواع القسم في القرآن وظهر لنا -والله تعالى أعلم- أن كل قسم مع المقسم عليه بينهما ارتباط وثيق جداً، وهذا حري بأن يبحث بحثاً علمياً متقصياً، وعلى سبيل المثال:
نأتي إلى القسم الثاني: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى هوي النجم حركته، وهوي النجم عند العرب هو مثل الساعة الإلكترونية عندنا، كانوا يقيسون به الزمن ليلاً في الظلام كما قال تعالى: وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل:16] ، فالنجم هو الهادي لهم في ظلمات البر والبحر، والسالك الساري على ضوء النجم في سريانه وهويه لا يضل لا في بر ولا في بحر، فلكأنه يقول: نجمكم محمد صلى الله عليه وسلم: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى كما لا يضل المهتدي بالنجم في هويه، فهل بينهما مناسبة أو لا؟
الجواب: بينهما مناسبة، بل -والله- إنها لمناسبة قوية، وهكذا لو تتبعنا كل قسم في كتاب الله لوجد أن بين القسم والمقسم عليه مناسبة، وبهذا نعلم معنى كلام المفسرين جزاهم الله خيراً: الله يقسم بما شاء على ما شاء، ولا يجوز أن يقسم العبد إلا بالله، وإذا أقسم الله بشيء من مخلوقاته فإنما يقسم به لدلالته على قدرته، فلو جئنا بقسم النجوم في مواقعها إلى قوله: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ فهل يتناسب معه الجواب؟ لا يتناسب معه فالمسألة ليست مجرد دلالة على عظمة الله ولكن لها دلالة خاصة في موضوعها.
وإذا جئت أيضاً إلى البلد في قوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:1-4] ، وقوله تعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِين * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:1-4] ، سبحان الله! الإنسان في أحسن تقويم وهو في كبد، والموضوع هذا يأخذ علينا شيئاً طويلاً، وأرجو الله سبحانه أن يهيئ أحد طلبة العلم ليتتبع هذا في كتاب الله، وألا يتقيد بأي تأليف قديم، وإن كان يستنير ويستفيد مما تقدم في التوجيه فهذا خير كثير، ولكن ينظر إلى الربط بين القسم والمقسم عليه به ويستخلص ما بينهما من مناسبة.
ونرجع إلى قوله تعالى: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:1-2] ، الضحى بالنسبة للزمن هو في النهار، فجاء بأفضل الأوقات وأهدئها وأنسبها وأطيبها من طلوع الشمس إلى غروبها، وهو: وقت الضحى؛ ولذا كانوا يمتدحون النساء في العرب، ويقولون: نئومة الضحى يعني: في أطيب الأوقات تنعم بالنوم ولا تشتغل مثل الشاغلات وَالضُّحَى يقسم المولى بأطيب وأنسب وأحسن الأوقات الزمنية في النهار، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:2] الليل الساجي هو الهادي الذي يغطي بظلامه دونما عواصف ولا رعود، بل هو شاجٍ كما يقال: الطرف الشاجي أي: الهادئ الناعس إذاً: يقسم الله بخيري الزمن، ووحدة الزمن هي حياة الإنسان: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3] ، بل أنت في أحسن حالة عنده كأحسن حالتي الزمن ليلاً ونهاراً، كأنه يقول: أنت في وداعة وفي لطافة وفي إحسان من الله طيلة الزمن ليلاً ونهاراً: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:3-5] ، وهل بقي عطاء أكثر من هذا؟ حتى جاء أنه قال: (لا أرضى أحداً من أمتي في النار) ، ولاحظوا بهذه المناسبة قصة أبي بكر الصديق: وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:19-21] ، انظروا المشاركة هنا في قوله: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ ، وهذه منزلة أكبر من قوله: وَلَسَوْفَ يَرْضَى ، ثم قال: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:9-11] ، أي نعمة أنعمها الله عليك، سواء من نعم الدنيا، أو من نعم الرسالة، أو من نعم الآخرة.
إذاً: المولى سبحانه وتعالى يعدد على النبي صلى الله عليه وسلم نعمه، ثم يبين له شكرها من نوعها.
إذاً: هناك: أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ [القلم:17] ، وَلا يَسْتَثْنُونَ كان الجزاء: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ ، وهنا صاحب المزرعة لما كان يقسمها أثلاثاً ويتصدق بالثلث كان الجزاء أن سقاها الله بالسحابة، إذاً: شكر النعمة قد يكون من عينها.
ولهذا يقولون أيضاً: من شكر النعمة بعينها أن تعين أخاك فيما تعرفه وهو لا يعرفه وفي الحديث: (وأن تعين الرجل على دابته فتحمل له متاعه عليها صدقة)؛ لأنه في حاجة إلى نعمة العافية التي عندك فتستخدمها في حمله على الدابة، تفيض عليه بزائد طعامك، بزائد مالك، تنصحه، تعلمه، والرسول صلى الله عليه وسلم مر على رجل يسلخ شاة وهو لا يعرف السلخ فقال: (ألا أريك! وكشف عن كمه صلى الله عليه وسلم وأدخل يده الشريفة بين الجلد واللحم وأدارها وقال: هكذا فافعل) ، لا يعلم الناس كل شيء، فما تحسنه علمه أخاك، وكذلك طالب العلم إذا أنعم الله عليه بشيء فليبذله ولا يكتمه، وهكذا إذا استنصحك إنسان وأنت تعلم الحقيقة فعليك أن تنصح وأن تبين، وهكذا قد يكون شكر النعمة بعينها وقد يكون باللسان إلى غير ذلك، ومن ذلك السجود لله شكراً على هذه النعمة.
ومما وقفنا عليه: أن النجاشي رضي الله تعالى عنه استدعى المهاجرين الأولين الذين كانوا عنده فجاءوا إليه، فلما دخلوا عليه وفداً فزعوا لما رءوه في ثياب رثة، حاسر الرأس، وجالساً على التراب، وليس على فراش، فقال له جعفر : ما هذا أيها الملك؟ ماذا حدث؟ فقال: إن نبيكم محمداً لقي عدوه من العرب بأرض يقال لها بدر، وأنا أعرف ذلك الوادي، فهو كثير الأراك، وقد كنت أرعى به إبلاً، وقد نصره الله على عدوه، وإن مما أنزل على عيسى عليه السلام: إن الله يحب من عبده إذا أحدث له نعمة أن يحدث له تواضعاً وشكراً، فهذا الذي تراه مني تواضعاً لله وشكراً لله على نصره محمداً على عدوه، ففرح الصحابة، وقد كانوا خائفين من حدوث شيء.
إذاً: شكر النعمة بالتواضع وبالسجود وبإظهار المذلة والفاقة والحاجة أمر قديم مما أنزل على عيسى وعلى غيره، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وهذا يشهد له حديث التأمين ثلاثاً عند أن صعد صلى الله عليه وسلم على المنبر وكان ثلاث درجات فقال: (آمين، وفي الثانية: آمين، وفي الثالثة: آمين، فسئل فقال: أتاني جبريل عند الأولى وقال: يا محمد! رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك، قل: آمين. فقلت: آمين. والثانية: رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما ولم يدخلاه الجنة، فقل: آمين. قلت: آمين. رغم أنف امرئ أدرك رمضان وخرج فلم يغفر له، وفي بعض الروايات: باعده الله من النار، فقل: آمين. فقلت: آمين) ، وفي الحديث: (من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشراً) ، فهذه نعمة قابلها بأن سجد لله شكراً عليها.
وهذه نعمة كبرى بأن قطراً بكامله يسلم حينما أرسل إليه علياً ، وكان قد أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم رسولاً وأميراً وقاضياً، وفي قصة القضاء: (قال: ترسلني وأنا حدث السن قال: لا تقضي بين اثنين حتى تسمع من الثاني كما سمعت من الأول، قال: فعلمني القضاء آنذاك..) ، إلى آخره، وشبيه بهذه القصة قصة الصديق رضي الله تعالى عنه، عند أن جاءه خبر مقتل مسيلمة سجد لله شكراً، وهناك آثار عن السلف في هذا الباب كثيرة.
وختاماً أيها الإخوة! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوزعنا وإياكم شكر النعمة، وأن يحفظها علينا وعليكم في ديننا، وفي دنيانا، وفي أبنائنا، وفي بلدنا، وفي كل نعمة أنعمها الله سبحانه وتعالى علينا في هذا البلد الآمن الطيب، وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر