الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
قال المصنف رحمه الله: [ وعن عبد الله بن بحينة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر، فقام في الركعتين الأوليين، ولم يجلس فقام الناس معه ..) ] .
بدأ المؤلف رحمه الله بحديث ابن بحينة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر) .
والمؤلف هنا يجزم أنها صلاة الظهر، وتجدون في بعض المراجع: (إحدى صلاتي العشي) والعشي: ما بين الزوال إلى غروب الشمس، والصلاتان الواقعتان في هذا الوقت هما الظهر والعصر، ولذلك تجدون خلافاً طويلاً في تحقيق ما هي الصلاة التي ذكرها ابن بحينة .. ولكن المصنف هنا صرح وجزم بأنها الظهر، فاسترحنا والحمد لله، وسواء كانت الظهر أو العصر فالصورة واحدة؛ وهي أنه صلى الله عليه وسلم دخل في صلاة رباعية، والمعروف من قوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) أن نجلس للتشهد الأوسط في الركعة الثانية من الرباعية أو الثلاثية وبعد جلسة التشهد نقوم إلى الركعة الثالثة، وهنا صلى الله عليه وسلم في موضع الجلوس للتشهد الأوسط لم يجلس بل قام، فيكون ترك من الصلاة: التشهد الأوسط والجلوس له، وسيأتي: هل سجود السهو لترك الجلوس أو لترك التشهد، أو لتركهما معاً؟
لماذا قام الناس معه وهم يعلمون بأن هذا موطن جلسة؟ عند هذا يبحث العلماء مسألة: إذا كان المأمومون يعلمون نسيان الإمام عند هذا الموطن: فهل يتابعونه مباشرة أو ينبهونه؟ قالوا: يتعين على المأمومين أن ينبهوه.
وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث أنهم نبهوه وسبحوا، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يرجع، وفي بعض الروايات : (أشار إليهم أن قوموا، فقاموا).
لماذا لم يرجع الإمام؟
قالوا: هناك مقياس للإمام وللمنفرد، إذا كان الإمام قد نسي الجلوس ونهض للقيام فينبه، فإن كان أقرب إلى الأرض رجع، وإن كان أقرب إلى الانتصاب استمر.
إذاً: لم يرجع صلى الله عليه وسلم حينما نبهوه؛ لأنه كان أقرب إلى الانتصاب والقيام، فحينئذ من حقه عليهم أن يتابعوه، فهو قام نسياناً، وهم قاموا متابعة.
قوله : (فقام الناس معه .. ).
هل قام الناس معه ابتداء ؟
الجواب: لا، وإنما بعد أن نبهوه، وبعد أن قارب القيام، وأصبح من حقه أن ينهض، ومن حقه عليهم أن يتبعوه ويتابعوه، لقوله صلى الله عليه وسلم : (إنما جعل الإمام ليؤتم به) .
وفي سجود السهو حينما سجد وسجدوا معه، هو سجد لنسيانه، وهم ما نسوا، ولكنهم تركوا الجلوس والتشهد فسجدوا معه، فإذا كان السهو من الإمام فقط ولم يكن من المأمومين، فسجد الإمام لسهوه، فيسجد المأمومون معه، وسيأتي في بعض الصور: لو قام الإمام في الخامسة والمأمومون يعلمون أنها الخامسة، فنبهوه فلم يسمع لهم؛ لأنه لم يثق بكلامهم، وكان يقينه في نفسه أنها الرابعة، فمن قام من المأمومين مع الإمام مع علمه ويقينه أنها الخامسة بطلت صلاته، وعلى أولئك الموقنين بأنهم أتموا الأربع، وأن هذه ركعة زائدة عليهم؛ أن يبقوا في مكانهم حتى يأتي الإمام بيقينه، ويتشهد ويسلم، وإذا علم أو تأكد أو ثبت عنده بعد أن جاء بالخامسة أنها زائدة، فيتعين عليه أن يسجد للسهو، وأولئك الجلوس الذين لم ينهضوا معه ولم يأتوا بزيادة سهواً ولا عمداً عليهم أن يسجدوا معه تبعاً له، ثم يسلموا مع تسليمه .
إذاً : قام الناس معه اتباعاً وأداءً لحق : (إنما جعل الإمام ليؤتم به).
(قضى) تأتي بمعنى انتهى، قال تعالى : فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ [الجمعة:10] يعني: انتهى وسُلم منها، وقوله هنا: (حتى إذا قضى ..) أي: أتى ببقية الركعات بقرينة قوله: (وانتظر الناس أن يسلم)، فكلمة (قضى) كما يقول الأصوليون: ما قارب الشيء يعطى حكمه؛ لأنه أتى بالأعمال وأصبح قريب التسليم، فانتظر الناس السلام، فعبر الراوي بقوله: (لما قضى الصلاة ..) وإن كان ليس قضاء كاملاً؛ لأنه لم يسلم بعد، ولا تعتبر الصلاة قضيت إلا بعد إكمالها ولم تبق لها أي جزئية، كما في النص الكريم : فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا [الجمعة:10] ومعلوم أن ذلك بعد التسليم، لكنه هنا قال: ( فلما قضى الصلاة ) يعني: جاء بالباقي .
قوله : (وانتظر الناس تسليمه) يعني: أنه تشهد بعد أن أتى بالركعتين الباقيتين، وعلم أنه ترك الجلوس، بل قد أشار إليهم : ( أن قوموا) ، والآن جلس يتشهد على حسب نظام الصلاة، والناس معه يظنون أن ترك الجلوس قد مضى لسبيله وتمت الصلاة .
قوله: (كبر وهو جالس).
أي: وهو جالس للتشهد كبر تكبيرة الانتقال للسجدة، ولهذا يقولون: سجدتا السهو هما كأي سجدتين في صلب الصلاة: تكبر ،وتسجد ،وتسبح، وتطمئن، ثم ترفع من السجود وتجلس وتدعو الدعاء الوارد، ثم تكبر وتسجد، ثم تكبر وترفع.
إذاً: سجدتا السهو في الهيئة والصورة والعمل كسجدتي الصلاة سواء بسواء، فكما نفعل في السجدتين في صلب الصلاة نفعله في سجود السهو، سواء كان السهو في فريضة أو نافلة، على ما سيأتي إن شاء الله .
قال: (وسجد سجدتين قبل أن يسلم).
سجد سجدتين مرتبتين؛ سجد ثم رفع من السجود، أي: مكبراً أيضاً، وجلس حتى اطمأن، ثم كبر وسجد الثانية حتى اطمأن وسبح أيضاً ثم كبر ورفع.
قال: (ثم سلم).
وهذا سجود السهو كان قبل السلام، فلما أكمله سلم.
وسبب سجود السهو لا يخرج عن أحد أمرين: إما الزيادة في الصلاة كمن صلى خمساً أو جلس جلسة زائدة، وإما النقصان، والذي حدث في هذه الصلاة في حديث عبد الله بن بحينة هو نقصان التشهد، ونقصان الجلوس، والفرق بينهما: أن الإنسان لو كان منفرداً وجلس تلك الجلسة بعد الركعة الثانية، وفي مدة قراءة التشهد لم يقرأ التشهد وقام، فيكون قد ترك التشهد فقط والجلسة قد حصلت.. فهل يسجد للسهو لأنه ترك التشهد؟
الجواب: إن قيل بأن السهو للتشهد فيتعين على المنفرد إن جلس جلسة تكفي للتشهد ثم نسيه وقام؛ أن يسجد للسهو، وإن قيل: بأن السهو هو للجلسة، فجلس جلسة التشهد ولم ينسها ونسي التشهد فعلى هذا القول لا سهو عليه.
إذاً: هذا الفرق بين اعتبار السهو للتشهد أو للجلوس أو لهما معاً .
والصورة التي عندنا حصل فيها نقص، سواء قلنا: في التشهد أو في الجلسة للتشهد، فما كان عن نقص يأتي سجود السهو جبراناً للنقص، وجبران الشيء يكون منه، وهذه قاعدة عند أحمد : (كل سهو عن نقص يكون قبل السلام).
وأما موضع السجود للسهو عند الأئمة الأربعة :
فهناك من يقول: كل سجود للسهو يكون قبل السلام؛ حملاً على هذا .
وهناك من يقول: كل سجود للسهو يكون بعد السلام.
فأما الأول فهو قول الشافعي، وأما الثاني فهو قول الأحناف.
ومالك رحمه الله يقول: (ما كان عن نقص فقبل السلام، وما كان عن زيادة فبعد).
وأحمد يقول: ننظر الخمس الصور التي وردت عنه صلى الله عليه وسلم أين أوقع السجود فيها، فنطبقها فيما لو وقع من إنسان واحدة منها، فكل سجود عن نقص فهو قبل السلام، وكل سجود عن زيادة فهو بعد السلام، وإذا كان عن شك أو تحير، أو عدم يقين فيكون قبل السلام كما سيأتي إن شاء الله، لكن لو جاء سهو في مواطن خلاف المواطن الخمسة التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإمام أحمد يقول: نجعلها قبل السلام.
إذاً: كل ما جاءت صورته عن النبي صلى الله عليه وسلم بالذات نجعل سهوها كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في تلك الصورة، وما كان في غيرها فنجعله قبل السلام، فيكون القول بجعل السجود قبل السلام أكثر قائلاً، وأكثر اعتباراً، وهذه مجمل أقوال العلماء في ذلك، وسيأتي لها زيادة إيضاح إن شاء الله .
يهمنا في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام من الثانية وترك الجلوس، وترك الجلوس يستلزم ترك التشهد، فنبهوه فلم يرجع وقام الناس معه، وعرفنا متى يقوم الناس؟ ومتى لا يقومون؟ ومتى يستتم ناهضاً؟ ومتى يحق له أن يرجع؟
ثم بعد ذلك انتظر الناس تسليمه فلم يسلم، فسجد سجدتين وسلم بعدها، وأتى في سجود السهو بما يأتي به في صلاته العادية؛ بأن كبر للانتقال وسبح ودعا بين السجدتين، والله تعالى أعلم.
ينقل ابن عبد البر ، وابن قدامة ، والنووي ، وعلماء الحديث الإجماع على أنه مهما كان سبب السهو - وقلنا بأن السبب لا يخرج عن الزيادة أو النقصان - فسجد الساهي قبل أو بعد السلام فصلاته صحيحة، وأما تعيين السجود للسهو هل هو قبل السلام أو بعد السلام إنما هو للأفضلية، أما إذا سجد قبل السلام في موضع يكون بعد السلام أو سجد بعد السلام في موضع يكون قبل السلام، فإن الصلاة قد تمت، ولكنه ترك الأفضل في موضع السجود.
إذاً: التحديد بقبل أو بعد أو بأي صورة من الصور المذكورة هو بحث كبير، ونحن إذا كنا حصلنا على الأساس والأصل وصحت الصلاة فالحمد لله، فهذا القول من العلماء في هذه المسألة أو الجزئية يهون علينا مسألة السجود للسهو.
قال المصنف: [ وفي رواية لـمسلم : (يكبر في كل سجدة وهو جالس، ويسجد ويسجد الناس معه مكان ما نسي من الجلوس) ].
نقل الراوي : ( ويسجد الناس معه ) ليبين أن الناس لم يقع منهم سهو، بل هم متذكرون ونبهوا الإمام من أجل أن يرجع ولكنه لم يرجع، فسجودهم معه إنما هو متابعة للإمام.
هذا الحديث من أهم الأحاديث النبوية، وكلها مهمة، ولكنه لموضوعه اهتم به العلماء كثيراً، حتى إن بعض العلماء أفرده بتأليف خاص وإن كان لم يصلنا، لكنهم نقلوا عنه الشيء الكثير، وبعضهم ينقل عمن كتب في هذا الحديث أنه استخرج من هذا الحديث مائة وخمسين مسألة، وابن دقيق العيد رحمه الله لدقة أسلوبه يقول: إن الكلام على هذا الحديث من ثلاث جهات:
الجهة الأولى: جهة أصل الدين والعقيدة .
الجهة الثانية: جهة علم الكلام .
الجهة الثالثة: جهة حكم الحديث فقهياً .
ثم أخذ يتكلم عن كل قسم منها في كتابه: (إحكام الأحكام في شرح كتاب عمدة الأحكام)، وللإمام الصنعاني صاحب سبل السلام حاشية تسمى: (العدة على شرح العمدة)، تعقب ما جاء به ابن دقيق العيد بزيادة التفصيل، والتنبيه على ما يلزم التنبيه عليه .
أما موضوع علم الكلام: فإنه في هذه المحاورة والتي تعتبر عند المنطقيين قاعدة في الفرق بين الكل والكلية، وهي قوله صلى الله عليه وسلم لـذي اليدين : (لم تقصر ولم أنس)، وفي بعض الروايات : (كل ذلك لم يكن)، وهذا هو المبحث المنطقي.
ثم في أصول الفقه بحث فيما يتعلق بخبر الواحد، ويذكرون أن ذا اليدين أخبر رسول الله، فلم يكتف بإخباره وسؤاله، بل استوثق من الحاضرين فقال : (أصدق ؟) فيبحث الأصوليون مدى قوة خبر الواحد والاستدلال به.
ثم يأتي فقه المسألة: أنه صلى الله عليه وسلم بعدما سلم سجد ثم سلم. وهذا هو فقه المسألة، وهو ما يتعلق بسجود السهو.
وأرجو من الإخوة طلاب العلم أن يرجعوا إلى هذا الحديث سواء في الموطأ، أو في إحكام الأحكام لـابن دقيق العيد، أو في العدة للصنعاني، أو في فتح الباري، أو في جميع موسوعات الحديث التي تكلمت على هذا الموضوع بإسهاب، وبالله تعالى التوفيق.
وصلى الله على نبيه وآله وسلم تسليماً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر