الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله، وبعد:
[ وعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، رواه البخاري].
كأن المؤلف رحمه الله اكتفى بما أورده من النصوص بما يتعلق بالأذكار عقب الصلاة، وهذا الباب باب واسع، والأولى لكل مسلم فضلاً عن طالب علم أن يعنى بهذا الباب، وهو الأذكار والأدعية؛ لأنها غذاء القلوب، وهي تكسي الروح برداء يستطيع به أن يكون دائماً على صلة مع المولى سبحانه وتعالى، وإذا تأمل الإنسان في الأدعية والأذكار يجدها تخاطب الأرواح دون الأشباح، ولهذا عني بعض العلماء بجمع ما يتعلق بالأذكار في مؤلفات أذكار اليوم والليلة، والصباح، والمساء، والأسفار، واللباس، والطعام، والنوم، والاستيقاظ، ولبس الثياب، وخلعها.. كل حركة تجد فيها دعاء أو ذكراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك ليكون الإنسان دائماً في كل شئونه مرتبطاً بالله سبحانه وتعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي [الأنعام:162]، كل حركة في حياته صلى الله عليه وسلم فيها ذكر لله، إن شربت الماء سميت الله، إن رفعت الكأس حمدت الله، إن اضطجعت في فراشك ذكرت الله، إن نهضت أثناء نومك بالليل ذكرت الله... وضعت قدمك في نعلك أو خلعتها.. لبست ثوباً جديداً.. حتى دخول الخلاء تستعذ بالله، وتكف عن ذكر الله في الخلاء؛ فكل حركة للإنسان في هذه الحياة يجد لها ذكراً وارداً، والأولى أن يتقيد بذلك بقدر المستطاع.
وبعد أن أنهى المؤلف ما اختاره من تلك النصوص جاء إلى حديث جامع شامل يعتبر أصلاً من أصول الدين وقاعدة ترجع إليها أعمال الصلوات كلها، وهو التعليم العملي، قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، وكما قال في الحج: (خذوا عني مناسككم).
إذاً: التطبيق العملي منه صلى الله عليه وسلم هو أعلى وسيلة في التعليم، وأعتقد أن علماء التربية يتفقون على ذلك؛ ونحن نشاهد الطفل الصغير وهو لا يعرف أن يتكلم .. وهو يحبي ينظر أمه قامت للصلاة فيأتي أمامها ويصلي مثلما تصلي، هو لا يعرف أنها صلاة ولا قبلة ولا أي شيء، ولكن يأخذها تلقائياً وتلقيناً.
وأصل هذا الحديث كما جاء في بعض رواياته: أن النبي صلى الله عليه وسلم رقى المنبر -ونعلم بأن المنبر ما صنع إلا في السنة الثامنة من الهجرة- وكان صلى الله عليه وسلم إذا خطب اتكأ على جذع من جذوع النخل التي كانت بداية لبناء المسجد، وبعد خيبر وسع النبي صلى الله عليه وسلم المسجد، وبنى جدرانه من الحجر والطين، وصنع له المنبر فتحول إليه -وقصة الجذع معروفة- وكان من ثلاث درجات، والكبرى عريضة، فوقف على الثالثة واستقبل القبلة وكبر وهو مستقبل القبلة، فقرأ وركع ورفع من الركوع وهو على المنبر، ثم نزل القهقرى عن الدرجتين الأخريين حتى كان في أصل المنبر ووسع لنفسه قدر السجود فسجد في أصل المنبر، ثم جلس ثم سجد ثم نهض فرقى المنبر وقرأ ورفع، ثم نزل القهقرى وسجد وجلس وسجد وتشهد وسلم، ثم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي). هل يحتاج أحد بعد هذه الصورة والمشاهدة أن يسأل عن كيفية الصلاة؟ لا يحتاج.
ومن هنا يقول العلماء: هذا الحديث أصل في الصلاة، فكل ما روي عنه صلوات الله وسلامه عليه في كيفية تلك الصلاة المنبرية -إن صح أن نسميها كذلك- أو غيرها من أحوال الصلاة، والمنبر ليس شرطاً، فما رأيتموني أفعله في الصلاة فافعلوا مثله، فيقولون: كل ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته فهو واجب، اللهم إلا إذا جاء ما يرفع الوجوب إلى الندب، والقاعدة الأصولية: أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم له سبع حالات كما هو مذكور في مذكرة الأصول وتسهيل الوصول إلى علم الأصول، وكتب الأصول كلها تقول: إذا كان الفعل بياناً لمجمل في كتاب الله فحكم الفعل حكم الحكم المجمل في كتاب الله، إن كان مُبيناً لواجب فالبيان واجب، وإن كان مبيناً لمندوب فالبيان مندوب، والصلاة واجبة، وهذا العمل مُبين للمجمل هناك في قوله: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43]، أقيموا الصلاة على أي صفة؟ هناك أشياء: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43] .. طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة:125]، ولكن: نسجد أولاً أم نركع أولاً؟ وكيفية الركوع والسجود ما هي؟ وكم نصلي ركعات؟ جاءت السنة وبيّنت لنا الأوقات والعدد والهيئة والكيفية وما نقول فيها، إذاً: البيان الذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم في حق الصلاة يكون حكمه حكم الصلاة ما لم يكن هناك صارف عن الوجوب.
ورأينا للنبي صلى الله عليه وسلم مغايرات بين الفرض والنافلة؛ قد نجده يصلي النافلة جالساً ولا يصلي الفرض إلا قائماً، قد نجده في حالات السفر يخفف الصلاة أو يطيلها، ويدخل بالجماعة بنية التطويل ثم يخفف رحمة بقلوب الأمهات.
إذاً: قراءته، تسليمه، كل ما جاء ونقل لنا عنه صلى الله عليه وسلم في الصلاة؛ فهو واجب ما لم يأت صارف يصرفه عن الوجوب.
وبعض العلماء يربط بين هذا الحديث في عمومه وبين حديث المسيء في صلاته في جملته، وأعتقد أنه لا حاجة إلى الربط بينهما، والقاعدة العامة: كل ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في أفعال الصلاة يجب أن نأخذها بالوجوب، فإذا كان يبدأ الصلاة بالله أكبر، فافتتاحية الصلاة بالتكبير، ولا يجوز غيرها؛ لأنه افتتحها بها، وإن كان يسكت هنيهة بعد التكبير والقراءة أحياناً ويترك السكوت، إذاً: السكتة الهنيهة ليست بواجبة إنما يمكن أن يأخذ بها ويمكن أن يتركها؛ لأنها غير مضبوطة، وقد يطول أو يقصر، بعد هذا كان يقرأ الفاتحة، إذاً: الفاتحة واجبة، وكان يقرأ السورة من القرآن إذاً: هي واجبة، ولكن وجدنا الصارف عنها، ثم اقرأ ما تيسر، وما تيسر هذا يصرف عن الوجوب، وإذا لم يتيسر فلا شيء عليك، إذاً: وجدنا هناك مفارقة بين الفاتحة وبين ما يقرأ معها في ركعة، إذاً: الركوع واجب، رفع من الركوع، إذاً: الرفع واجب، اطمأن في الركوع اطمأن في الرفع، إذاً: الطمأنينة واجبة، وجاء عنه ذكر في رفعه وركوعه، وجاءت روايات أخرى متعددة من الأذكار، إذاً: تتخير منها ما شئت، وهكذا إلى أن تسلم من الصلاة.
هذا الحديث النبوي الشريف يعتبر أصلاً في صلاة أهل الأعذار بصفة عامة، والعذر قد يكون مرضاً، وقد يكون خوفاً، وغير ذلك، وفي الحديث التدرج في كيفية الصلاة، وهو يُبيّن لنا إلى أي مدى وصلت سماحة الإسلام في خفة التكليف، وفي بعض روايات هذا الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286])، ونحن جميعاً في حاجة ماسة إلى دراسة هذا الحديث بتوسع إلى حد ما يشمله من أصناف الناس في صلاتهم، فقد يكون العذر يعتري الإنسان بنفسه، وقد يكون يعتري إنساناً يخصه، وقد يكون إنسان مسئولاً عن جماعة، وفي الجملة بعد هذا كله تأتي النتيجة الحتمية؛ لأن فريضة الصلاة لا تسقط بحال من الأحوال، والأصل في القيام: (صل قائماً) كما جاء في قوله سبحانه: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، والقنوت يكون بمعنى الخشوع، ويكون بكثرة الدعاء؛ فالقيام ركن في الصلاة، فإذا عجز الإنسان عن إتيان ركن القيام انتقل إلى ما بعده، فإذا عجز عما بعده انتقل أيضاً إلى بعد ما بعده، وهكذا نجد في أركان الإسلام جميعاً.
نجد في الصيام مَنْ كَانَ مَرِيضاً ، أي: لا يستطيع الصوم، أَوْ عَلَى سَفَرٍ ، يشق عليه، فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184].
والزكاة لا تجب إلا على من ملك النصاب بغنى؛ بحيث أنه يبقى عنده حتى يحول عليه الحول وهو لا يحتاج منه إلى شيء.
والحج من استطاع إليه سبيلاً.
والجهاد يسقط عن الأعمى والأعرج وأصحاب الأعذار، وهكذا نجد التكليف في كل أركان الإسلام بقدر المستطاع، فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] .. لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286].
ومع هذا أيضاً تذكر مباحث النوافل؛ فيمكن أن يصليها قاعداً أو قائماً صحيحاً أو مريضاً، ما دامت الفريضة تجزئ بالقعود عند الحاجة ولكونها فريضة لم تسقط، والنافلة مطلوبة، ولكن إذا لم تكن نافلة إلا من قادر على القيام ربما ضاعت كثير من النوافل، وحرم الكثيرون من فوائد وفضائل النافلة، فخفف في أمرها ترغيباً فيها، بقي إن عجز عن الصلاة قاعداً كيف يصلي؟ مضطجعاً، وإن عجز مضطجعاً كيف يصلي؟ مستلقياً، وإن عجز عن الإيماء كما قال: (فأومئ) ماذا يفعل؟
الفقهاء رحمهم الله فصلوا في هذا الباب إلى أبعد ما يمكن أن يخطر ببالنا، أما هيئة صلاة العاجز عن القيام ومتى يكون عاجزاً؟ وهل كل مرض يسقط عنه القيام؟
قالوا: القاعدة في ذلك: إن كان عاجزاً فعلاً أو ليس عاجزاً فعلاً إلا أن صلاته قائماً وهو مريض تزيد في مرضه أو آلامه أو تُطيل مدة برئه، ويرى بعض العلماء كما يذكر ابن قدامة في المغني: ننظره في أمر دنياه، هل هو في أمر دنياه يقوم ويجلس ويذهب ويأتي وعند الصلاة يقول: أنا لا أستطيع إلا أن أصلي جالساً؟! إن كان في أمر دنياه يأتيها قائماً، ويتحرك حركة طبيعية بدون مشقة؛ فهذا لا يسقط عنه القيام في الصلاة، وإذا كان يأتي أمور دنياه قائماً بتكلف نقول: لا، أمر الدنيا قد يضطر إليه، ولكن أمر الدين للرحمن الرحيم، فرحم الله عباده فخفف عنهم، فإذا كان كبير السن لا يقوى أو ممن عجز ولا يرجى زواله، أو كان مريضاً، والمرض له حالات: هناك أمراض يستطيع صاحبها أن ينهض ويقوم ويذهب ويأتي، ولكن بمشقة عليه فيعفى من القيام، وهناك مريض لا يكلفه القيام شيء، وقد تكون أمراضه مستوطنة أو طارئة أو عضوية وهو في تلك الحالة مستطيع القيام دون مشقة عليه؛ فلا عذر له، فإذا وجد العذر وثبت العجز عن القيام فيصلي على ما قال الفقهاء، وكيف تكون هيئته في صلاته؟
لو فكرنا في الهيئات التي يمكن أن يأتي بها الإنسان إما متربعاً وإما كجلسته في التشهد، أو قائماً على ركبتيه أو جالساً على مقعدته ورافعاً ركبتيه وضامم ساقيه بيديه محتبياً، أو ناصباً إحدى رجليه والثانية للأخرى، كل هذه الصور يمكن أن نجد إنساناً قاعداً على هيئتها، فالقاعدة عند الجميع: ما كان أيسر له يفعله، الأيسر في حقه يكفيه، حتى ولو على ظهره، ولو كان لا يستطيع الركوع ولا السجود، ويستطيع أن يكون قائماً أو متكئاً على العصا لا مانع أن يظل قائماً ويومئ بركوعه أقل من سجوده وهو قائم؛ لأن هذا الذي تيسر له، فإذا كان يستطيع فعل عدة صور مما ذكرنا فأولى الصور وأولاها في ذلك كله: أن يكون في الركن الذي فيه القراءة يؤديه وهو متربع، وركن القراءة يكون في القيام، إذاً: حينما يكون في أداء القراءة يقرأ وهو متربع، وركن الركوع ليس هناك تربيع، ولا يثني حقوه ناصباً ركبتيه وهو لا يستطيع هذه الهيئة، إذاً: يكون ثانيَ الركبتين لا يومئ وهو متربع؛ لأن حالة التربع لحالة القيام والقراءة، والركوع يثني ركبتيه ما دام يقدر على الجميع، وإن عجز عن ثني الركبتين للركوع والسجود بقي متربعاً وأومئ وجاء بسجود أخفض من ركوعه.
فالمريض العاجز عن القيام ينظر ما هو أيسر له من الحالات مما جاءت به من هيئات صلاة العاجز؛ فإن كان لا يقدر إلا بها فهي مجزئة، وإذا كان يستطيع لعدة حالات فالأَولى أن يكون في حالة ما يكون قائماً للقراءة متربعاً، وفي حالة الركوع والسجود إن كان مستطيعاً أن يعدل تربيعته، وأن ينهض على ركبتيه كجلسته للسجود ويومئ بالركوع أقل من إيمائه بالسجود؛ فهذه أولى الحالات للمريض أو للعاجز الذي لا يقدر أن يصلي قائماً.
إذاً: نبهوا الذين يرون إنساناً نائماً مستلقياً على ظهره في المسجد فيوقظه فيقول له: ماذا بك؟ قال: كيف توجه رجلك للقبلة، ويستنكرون هذا، ويفزعون النائمين المساكين، لماذا؟ هذه كما يقال: الضجعة الصحيحة، وقالوا في ذلك: حينما يصلي مستلقياً على ظهره سيومئ برأسه للركوع والسجود، فإذا أومأ للركوع أو للسجود فإنه وجهه سيكون على القبلة، ولا يجوز أن يُدير رأسه إلى القبلة؛ لأنه إذا أومأ يكون مومئاً إلى غير القبلة.
الآخرون قالوا: لا يضطجع على شقه الأيمن كما يضطجع الميت في لحده على شقه الأيمن مستقبلاً القبلة؛ لأنه حينما يكون الإنسان على شقه الأيمن ويريد أن يومئ وهو نائم ووجهه إلى القبلة يومئ إلى جهة غير القبلة، ومن هنا قالوا: يضطجع على ظهره أولى، ولكن النص في الحديث: (على جنبه)، وأصحاب الاضطجاع قالوا: لا، أو أصحاب الجنب قالوا: هو وإن كان في إيمائه سيتجه لغير القبلة، لكن السليم الذي يقوم ويركع ويسجد في حالة القيام مستقبل القبلة تماماً؛ وحينما يركع وجهه إلى الأرض، إذاً: انصرف عن القبلة إلى الأرض، قالوا: هذه حالات تطرأ على المصلي، وليس فيها انصراف عن القبلة يبطل الصلاة؛ لأنها طبيعة الركوع والسجود، فإذا كان المصلي مضطجعاً فقد استقبل القبلة بوجهه، وما يطرأ عليه من اتجاه بوجهه عند الإيماء لغير القبلة فهو نظير الراكع الساجد ينصرف وجهه عن القبلة.
الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن من صلى مضطجعاً على جنبه وسيومأ وستكون إيماءاته لغير القبلة، ومع ذلك قال: (مضطجعاً). هذه حالة العاجز عن القيام ويريد أن يصلي مضطجعاً أو مستلقياً.
هناك ناحية أخرى: إن لم يستطع القيام ولا الجلوس متربعاً أو متحافزاً أو محتبياً أو .. أو.. وتمدد في الأرض مضطجعاً أو مستلقياً، لكنه لا يستطيع أن يومئ برأسه محل الركوع والسجود، ماذا يفعل؟
نرجع أيضاً إلى الأصل: إذا كان الإدراك موجوداً ويفقه معنى الصلاة ويتكلم بها وبمعانيها، ولكن الرأس ثقيل، ولا يقدر على حراكه، أو المرض في عنقه أو بأي حالة؛ قالوا: يرمش برمش العين، في الركوع نصف غمضة عين، وفي السجود يغمضها، فسبحان الله! إلى هذا الحد، إذاً: أي عذر في الدنيا لا يُسقط الصلاة.
نقول: إن عجز عن القيام بالطهارة بنفسه ووجد من يقوم بتطهيره وضوءاً أو تيمماً -على حسب حالته- وجب عليه ذلك، فإن لم يجد يُصلي على حالته كما يُصلي فاقد الطهورين، فليس هناك عذر، لا في الطهارة ولا في أداء الصلاة. بعض الناس يقول: حركة العين خفية، وليس هناك تمييز بين الركوع والسجود، فالأولى أن ينصب يده ويحرك أصابعه، فيأتي بحركة اليد بدلاً من حركة هذا الجسم الطويل.
نرجع إلى المبدأ الأول: الصلاة واجبة، والقيام ركنها؛ فإن عجز عن هذا الركن انتقل إلى ما دونه بالتدريج، ويأتي في النهاية بأقل ما يمكن أن يشعر بأنه صلاة، ولعل في هذا القدر خلاصة ما جاء به شراح الحديث وما يأتي به الفقهاء، ولكن هناك حالة لم يتعرض لها لا النووي ولا ابن قدامة في المغني ولا كثير من كتب الفقه، وهي: إنسان ليس مريضاً يسقط عنه القيام، بل متعافياً يستطيع أن يأتي بكل القيام، وكان خلف الإمام، والإمام يقوم يقرأ الفاتحة وسورة البقرة، ولا يراعي من وراءه، ولا حالهم، قالوا: إن عجز عن مواصلة القيام مع الإمام جلس، وإذا ركع الإمام قام وركع مع الإمام من قيام، إن كان لا يستطيع أن يظل قائماً مع الإمام.
يقول الباجي رحمه الله في شرح الموطأ: من علم أن هذه حالة إمامه إذا ركع الإمام لا يركع ويبقى قائماً؛ لأن القيام أريح له، إلى أن يعلم من حال إمامه ما يغلب على ظنه أنه لم يبق له إلا ثلاث تسبيحات أو أربع، أو الذي يستطيعه هو؛ فيركع قبل أن يرفع الإمام ويُدرك الإمام في الركوع بقدر ما يثبت له به الركوع، وعند الرفع يرفع معه؛ لئلا يتأخر عن الإمام ولا يصح أن يتقدم عليه، وكذلك إذا سجد الإمام إن شاء هوى للسجود، أو جلس وانتظر الإمام حتى يأخذ راحته، وعلى قدر ما يعلم من حالة الإمام وتقديره فيسجد قبل أن يرفع الإمام رأسه من السجدة، ويدرك مع الإمام قدر السجدة التي تجزئه، ويرفع الإمام فيرفع معه، يبقى هناك نطاق: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].
بقي من المباحث: إنسان صلى مع الإمام وعجز عن مواصلة صلاته ماذا يفعل؟
بهذه الطريقة التي ذكرها الباجي لا يعجز، ولكن بالطريقة التي يقولها الآخرون يعجز، ويقولون: إن قدر على الصلاة قائماً منفرداً وعجز عنها مؤتماً وجب عليه الانفراد؛ لأن القيام ركن في الصلاة والجماعة سنة. هل توافقون على هذا الرأي أم أن الأول أفضل؟
الوجه الذي يريد أن يُضيع الجماعة منفي وليس بسهل، ثم التفضيل بأن الجماعة سنة هناك من يقول: إنها واجبة، أو يقول: شرط في الصلاة لا شرط في صحتها، يهمنا أن فيها نقاشاً، لكن لو أخذنا هذه الطريقة التي يذكرها الباجي : بأن المأموم إذا كان مريضاً أو عاجزاً يقدر لنفسه مع إمامه ما يستطيع أن يأتي به؛ فتتم له فضيلة الجماعة، ويسلم من المشقة عليه.
إذاً العاجز على القيام له أن يتكئ ويصلي مع الإمام متكئاً أو منفرداً، وبقدر ما يستطيع مع إمامه، هناك حالات طوارئ كإنسان جاء بحمد الله بعافية وكبر ووقف في الصف مع الإمام وقرأ ويستمع بصحة وكمال، وعندما ركع شعر بمغص -نسأل الله السلامة والعافية- وطرأ عليه ما يعجزه عن القيام في الركعة الثانية، هل له أن يكمل صلاته قاعداً أم لا؟
قالوا: إن جاء إلى المسجد وإلى الصف ويعلم بأنه مريض ولا يستطيع القيام وكبر وهو جالس، ولما تحرك وركع بالإيماء وسجد قدر المستطاع، وجد أن الألم الذي كان يشكو منه قد زال ووجد من نفسه خفة ويستطيع أن يقوم مع الإمام؛ فإذا قام مع الإمام في بقية الصلاة تكون الصلاة كلها صحيحة، أما إن قام ثم عجز أو كان عاجزاً ثم استطاع فيكمل صلاته على الحالة التي هو عليها؛ لأنه في حالة قيامه أتى بما استطاع، وعندما طرأ عليه العذر كانت هذه حالته، وعندما بدأ الصلاة بعذره كان هذا مشروعاً في حقه، وعندما زال العذر رجع إلى الأصل؛ فالصلاة تكون صحيحة، ويبني على ما مضى منها، ولا يستأنف صلاة جديدة.
ومما تدعو الحاجة إلى ذكره: صلاة الخوف، أليس من شروط صحة الصلاة استقبال القبلة؟ بلى، فإذا كانوا في ظروف لا يمكن أن يكونوا مستقبلين القبلة، بأن كان العدو في جهة أخرى، ولا يمكن أن يعطوا العدو ظهرهم، أو لا يستطيعون أن ينقسموا قسمين: قسم يصلي مستقبلاً القبلة، وقسم يواجه العدو، فإن اضطروا إلى الصلاة تجاه العدو صلوا وهم منصرفون عن القبلة؛ لأن هذه حالتهم.
وهكذا صلاة أهل الأعذار، الأصل في الصلاة القيام، ولكن إذا طرأ على الإنسان عذر فإنه يسقط عنه القيام، وينتقل إلى غيره، وهناك حالة: ربما بعض الناس يطرأ له مرض وعذر يبيح له الصلاة قاعداً، أو يُجهد نفسه ويكلفها ويتحمل فوق طاقته فيقف قليلاً ثم يسقط، أو يزيد عليه الألم فيمتنع من قبول الرخصة، ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه حينما أصيبت عينه، جاءه طبيب يهودي أو نصراني وقال له: أستطيع أن أعالجك وأتوقع لك البرء إن مكنتني منك أسبوعاً لا تجلس وتكون مستلقياً على ظهرك، فـابن عباس فكر في الصلاة، وسأل أم المؤمنين عائشة وأبا هريرة رضي الله تعالى عنهم: هل يجيب الطبيب لذلك أم لا؟ فقالا له: إذا أتاك الموت وأنت في الأيام السبعة هذه ماذا تفعل في صلاتك؟ فامتنع، نقول: ابن عباس حبر الأمة، ولكنه تورع من أن يترك القيام لأمر شخصي، ويعتذرون عن ذلك بأن الذي أخبره ليس بطبيب مسلم مؤتمن، ولعله لكون الطبيب غير مسلم لم يثق بكلامه، فلم يقبل منه، فبعضهم يقول: لعله طبيب واحد، مع أن الفقهاء يتفقون في باب الجنايات لو أن طبيباً واحداً ولو غير مسلم قدّر جناية في جراح يُقبل قوله، ويقولون: بأن الطب مهنة إنسانية لا دينية ولا سياسية ولا إقليمية؛ لأن موضوع الطب هو الإنسان، والإنسان من حيث هو هيكل بشري لا أثر للهيكلية في أمر الدين ولا السياسة ولا الموطن ولا.. ولا.. إلى آخره، ولو جئت بأسير حرب أو عبد أو بأضعف خلق الله وأعلى إنسان على وجه الأرض ما اختلف تركيبه الجسماني، إذاً: الطب مهنة إنسانية، يؤخذ بقول من عرف الأمانة فيها.
وعلى هذا لو أن إنساناً جاء إلى المستشفى وقيل له: يلزمك عملية، هل يسأل: العملية كم يوم، وكيف أصلي؟ نحن لا نعلم، الطبيب يقول: اسأل العلماء، أنا عليّ أن أجري العملية، وأنت عن صلاتك اسأل العلماء، فقال العلماء: نعم، إذا عملت العملية صلِّ وأنت جالس إن استطعت؛ فإن لم تستطع فعلى جنبك، وإن لم تستطع فمستلقياً و.. و.. إلى آخره، أعتقد أن هذا هو الإنصاف، وهو من حق بدنك عليك، (إن لبدنك عليك حقاً) فيقبل الرخصة كما أخبر صلى الله عليه وسلم (صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنبك وإلا فأومئ)، وبالله تعالى التوفيق.
تتمة لحديث صلاة صاحب العذر جاء المؤلف رحمه الله بأثر جابر رضي الله تعالى عنه، سواء أكان موقوفاً على جابر أو مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يقول جابر: (إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً عجز عن السجود إلى الأرض، فجاء بوسادة وسجد عليها، فأخذ الوسادة وألقى بها وقال: صلِّ على الأرض، وإلا فأومئ واجعل سجودك أخفض من ركوعك)، هنا يبحث العلماء: هذا المريض الذي عجز عن القيام وصلى وهو جالس، إذا كان لا يستطيع أن يصل إلى الأرض في سجوده، ويستطيع أن يأتي بالوسادة أو ما في معناها من مسند أو كرسي، فهل يكون موضوعاً على الأرض ويسجد عليه أو يرفع الوسادة إلى جبهته؟
ستجدون من الفقهاء من يُجيز السجود على وسادة أو ما هو مرتفع من الأرض كحجر ونحوه، والحديث هنا يقول: (رمى بها).
وتفصيل القول: إن رفع الوسادة لجبهته ليسجد عليها، وتكون الوسادة على يده وليست على الأرض؛ فالجمهور يمنعون من ذلك، ويذكر ابن قدامة في المغني من يقول بهذا، لكن من غير الأئمة الأربعة، ولا علماء السنن الستة، وإذا كانت الوسادة على الأرض متصلة بها، ثم هو في سجوده يضع جبهته عليها، فلا بأس، ويذكرون عن أحمد والشافعي وأبي حنيفة ورواية عن مالك : أن هذا يصح.
إذاً: الحديث هنا: (فأخذها وقال: صلِّ على الأرض؛ فإن لم تستطع فأومئ)، على أن الوسادة -على رأي الأئمة- قد رفعها، وما هو المانع من كونها على يده؟ قالوا: إذا سجد على الوسادة وهو يحملها يكون ساجداً على ما هو محمول له متحرك بحركته، ولو أخذ كفيه ورفعهما ووضع جبهته على كفيه، فما الفرق بين الوسادة والكفين أو شيء مرفوع إلى الجبهة لكي تصل إليه؟ وهذا بالاتفاق لا يجوز.
إذاً: الخلاف بين كون الوسادة أو ما شابهها على الأرض وهو يسجد عليها، وكون الوسادة وما شابهها يرفعه على يده ليصل به إلى جبهته، فالأخير ممنوع عند الجميع، والأول مشهور أو أكثر الأئمة يقول به.
يقول أحمد : لأن يسجد على شيء يصل إليه أولى من أن يومئ بدون شيء، ولكن النفس فيها شيء من هذا، والله سبحانه وتعالى هو الذي أمر بالصلاة، والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أُمر ببيانها وأخذ الوسادة وألقاها؛ سواء كانت على يده أو على الأرض، وذكروا عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: أنها كانت تصلي على الوسادة المطروحة في الأرض، ومن هنا جاء الخلاف، يهمنا في هذا أن من رأى إنساناً يسجد على شيء مرتفع أمامه ثابتاً على الأرض لا يُنكر عليه، ومن رأى من يصلي على شيء رافعاً إياه بيده فلا يقره عليه، وبالله تعالى التوفيق.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر