بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
قال رحمه الله: [ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه)، أخرجه الثلاثة، وهو أقوى من حديث وائل بن حجر : (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه)، أخرجه الأربعة ، فإن للأول شاهداً من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وصححه ابن خزيمة ، وذكره البخاري معلقاً موقوفاً ].
هذا الحديث وما يأتي بعده يتناول هيئة من هيئات الصلاة ألا وهي: حالة الهوي إلى السجود، وقدم المؤلف رحمه الله تعالى حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير)، إلى هنا نص الحديث، وإلى هنا أداء المعنى المطلوب في هذا التشبيه، تأتي الزيادة: (وليضع يديه قبل ركبتيه)، هذه الزيادة أوجدت عند العلماء الخلاف، حتى قال ابن القيم : إن في الحديث قلباً، ودعوى القلب أو الغلط في الحديث تشوش، وإذا انقلب اللفظ في هذه الرواية فقد ينقلب في غيرها، ونأتي إن شاء الله بشيء من التفصيل في هذه المسألة.
ونقدم قبل كل شيء: بأن هوي المصلي بعد رفعه من الركوع إلى السجدة بأية حالة من الحالات لا يتعارض مع صحة الصلاة في شيء، إن نزل على ركبتيه أو كفيه فالصلاة صحيحة، ولا يمكن أن ينزل على رأسه أو مرفقيه؛ إما أن ينزل على كفيه أو ركبتيه، ولا تخرج حالة المصلي من هذه، والحالات الأخرى التي للرياضيين غير داخلة في الصلاة.
قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير)، لو جئنا إلى هذه الصورة فقط: كيف يبرك البعير؟
في هذه الصورة التشبيه العملي بصورة البعير، وكل إنسان قد رأى بعيراً يبرك، وكل حيوان من ذوات الأربع عنده أربعة أرجل، لكن نحن نسمي المقدمتين اليدين، والمؤخرتين الرجلين، ويقولون في الزرافة: طويلة اليدين قصيرة الرجلين، وكلهن أرجل.
فإذا كان البعير بصورته العملية عند بروكه لا ينزل بالخلفيتين ولكن ينزل بالمقدمة، نسميها رجلين، فبروك البعير: أن يقدم المقدمتين اللتين نسميها في غيره اليدين، إذاً: هو لا يبرك كما يبرك البعير، فمن نزل إلى السجدة على يديه يكون برك بروك البعير وخالف الحديث؛ فإذا نزل إلى السجدة بركبتيه وبدأ بالخلفيتين، -أي: القدمين المقابلة في البعير بالخلفيتين- فإذا نزل على ركبتيه من قدميه خالف البعير وصادق الحديث.
إذا اكتفينا إلى هذا القدر نكون قد انتهينا من المشكلة وتم الحديث، ولكن جاءت عبارة: (وليضع)، وكأنها تفصيل للمنهي عنه، (وليضع يديه قبل ركبتيه) فإذا وضع يديه قبل ركبتيه يكون شابه البعير وكأن الحديث يناقض آخره أوله، (لا يبرك كما يبرك البعير وليقدم يديه)؛ لأن البعير يقدم يديه.
ولهذا التعارض يرى بعض الناس أن قوله: (وليضع) سائلة فيحاول أن يلغيها؛ لأنها ستأتينا بإشكال فتتعارض مع المتفق عليه عندهم وتنقض الصورة المتقدمة، وبعضهم أعلّ الحديث بها، وهو ظاهر البخاري رحمه الله في صنيعه كما أشار إليه المؤلف بأن حديث وائل بن حجر له شاهد، وحديث وائل يتعارض مع حديث أبي هريرة في: (وليضع)، ولكن البخاري قال: وابن عمر كان يضع يديه قبل ركبتيه، إذاً: هناك مناقشة، وإيرادات على كلمة: (وليضع)، فمنهم من يلغيها، ويقول: إنها مدرجة في الحديث، ومنهم من يُعل بها الحديث، وذكروا ذلك ونسبوه للبخاري ، وهو لم يذكر الحديث ولكن نسب إلى ابن عمر الفعل موقوفاً عليه، وسنأتي له على الكلام على حديث وائل لاحقاً.
فنحن الآن نأخذ الجزء الأول من الحديث وندع لفظه: (وليضع)، مع حديث وائل ، مع ما نسب إلى ابن عمر موقوفاً عليه، ونص الحديث: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير): يقتضي أن الإنسان لا يقدم يديه، وبهذا النص يأتي حديث وائل بن حجر : (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه)، ووضع الركبتين مخالف البروك البعير.
إذاً: حديث وائل يتفق مع حديث أبي هريرة في أن الإنسان لا يقدم اليدين، قبل: (وليضع).
فإذا جئنا إلى كلام المؤلف قال: وإن الأول -يعني: حديث أبي هريرة - له شاهد مما ساقه البخاري تعليقاً بدون سند: وكان ابن عمر يضع يديه، أعتقد أننا كطلبة علم فعلاً نتساءل، هل هذا فعل عموم الصحابة أم خاص من ابن عمر ؟
النص هنا: (وكان ابن عمر ) أين بقية الصحابة؟ إذاً ممكن أن نقول: إن هذا الصنيع من البخاري يشعر بأن فعل ابن عمر إما أنه مقصور عليه أو أنه قليل جداً، وأنه تخير ابن عمر من ضمن من يرى ذلك، ويكون بقية الصحابة على خلاف هذا، وإلا لو كانوا يفعلون مثله ما خصينا ابن عمر بالذكر، ويقال: (وكانوا يضعون) كما هو الحال في كثير من العبارات عندما يكون العمل عاماً، وعلى هذا يكون فعل ابن عمر في جانب، وحديث أبي هريرة دون (وليضع) مع حديث وائل بن حجر معاً في جانب، وبقي كلمة: (وليضع) فإن قلنا: إنها مدرجة، ولما سببت هذا الاضطراب نلغيها، وإن قلنا: واردة لا يمكن أن نلغيها، ولا نملك أن نلغي شيئاً ثابتاً ولو عن الصحابي، واضطروا إلى أن يقولوا -كما يذكرون عن ابن القيم في الهدي- وقع في الحديث قلب والأصل فيه (وليضع ركبتيه قبل يديه)، لكن نحن عندنا النص: (وليضع كفيه)، فنحن نأتي بالقلب حتى يتفق معنى الحديث آخره مع أوله، ويتفق حديث أبي هريرة مع حديث وائل ، وعندها لن يبقى أي مخالفة إلا فعل ابن عمر ، ويمكن أن نقول: هذا رأي ابن عمر ، ورأي بقية الصحابة مع الحديثين، والقضية منتهية على هذا الحد، وتكون المسألة قريبة، ولا خلاف فيها بعيد.
وإذا قفزنا قفزة إلى الأمام وجئنا إلى المذاهب الأربعة: وجدنا الأئمة الثلاثة أبا حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله على حديث أبي هريرة وحديث وائل ، والرواية عن مالك مختلفة، فأصحاب مذهبه -كما ينص في الشرح الصغير- على أن من مندوبات الصلاة: أن يضع كفيه قبل ركبتيه، فلنجعل هذا الرأي مع ابن عمر ونجعل المذاهب الثلاثة مع الحديثين.
ونعلم جميعاً كما قدمنا: أنها هيئة من هيئات الصلاة، ولكن هل كل الناس في هويهم إلى السجود سواء، وهل الإنسان في ذاته وفي جميع حالاته سواء، ولذا يقول العلماء: إن هذه الحالة ينظر فيها إلى ما يناسب المصلي، ولو أن إنساناً بدين الجسم كبير السن وحركة النزول على أعصابه صعبة، ويشد أرجله حتى ينزل على ركبتيه، وأراد أن يقدم كفيه ليستريح في النزول، وهل نقول له: لا، قدم ركبتيك؟ لا، إنسان نشيط وبحركة عادية يمكن أن يفعل هذا ويفعل هذا، نقول له: ماذا ترجح عندك؟ عندك حديث أبي هريرة بدون (وليضع) وحديث وائل ، وعندك انفراد ابن عمر فقط بأنه كان يضع كفيه قبل ركبتيه، ماذا تختار؟ لو أن المسألة بالمكيال أو بالميزان نجد كفة أوفى في الكيل وأرجح في الوزن.
إذاً: على هذا لا ينبغي أن نطيل النقاش في هذه المسألة، ولا حاجة إلى أن نكثر ونقول: حصل في الحديث قلب أو انقلب على الراوي، وأهون عندي أن نقول: إن الرواية مضطربة من أن ندعي بأن هناك انقلاباً في الرواية من حديث رسول الله يقلبه الصحابي علينا؛ لأنه يفتح باب شر في تغيير الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول الحديث يغني عنها، والله تعالى أعلم.
هذه هيئة الجلوس في التشهد (وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، واليمنى على اليمنى)، ولم يجلس على فخذه لا قابضاً ولا مرسلاً ولا بين فخذيه.
(وعقد) العقد في الحساب عند المتقدمين، هو علم قد اندثر، وكان لهم في الحساب من بُعد بالإشارة رموز لم يبق عندنا منها إلا ما حفظه لنا هذا الحديث، والأصابع الخمسة كل واحد عقد فهو عشرة، عشرين، ثلاثين، أربعين، خمسين، (ثلاثاً وخمسين)، والثلاث دون العقد كانوا يرمزون إليها، كما جاء في الحديث، والإبهام مع الوسطى تلي السبابة، والوسطى بالنسبة للأصابع هي الثالثة، فلما جاء العقد بالإبهام وهو الخامس كان العقد خمسين، فيأتي بالإصبع الذي هو العقد على المفردات، ويضع الإبهام على الوسطى وينصب السبابة، وفي بعض الروايات: (حلّق بين الإبهام والوسطى)، حلّق، أي: عمل حلقة، والأولى أن تكون بطن الإبهام على جانب الوسطى أو تحتها، والمشهور فوقها، فالإبهام مع الوسطى تشكل العدد، والسبابة يشير بها، بقي عندنا الخنصر والبنصر، كيف يكون وضعهما؟ بعضهم يقول: مقبوضتان على الركبة، وبعضهم يقول: أصل اليد اليمنى على الركبة مفرجة الأصابع، فإذا عقد يبقى الإصبعان الأول والثاني منفردين ويقبض الإبهام والوسطى ويشير بالسبابة، ولكن قبض الإصبعين مع هذا العقد والإشارة بالسبابة قد يكون أيسر.
ويأتي خلاف عند الفقهاء هو: متى يعقد وإلى متى؟ والسبابة هل تتحرك أم أنها ساكنة؟
ونجد للأسف أن هناك في بعض الجهات من يرى في إشارة السبابة جناية، وقد يسيئون إلى من يفعل ذلك، وقد يدعون بطلان الصلاة، ولكن الآخرون يقولون: هذا العمل للسبابة لأنها في اتصال خلقتها بعروقها وأعصابها لها علاقة في التكوين بنياط القلب، فإذا ما تحركت نبهت القلب حتى لا يقع في غفلة ولا نسيان وهذا داخل في علم التشريح، والله تعالى أعلم.
إن لم يكن هناك نص صحيح صريح مرفوع إلى الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فهي قابلة للنقاش، والبعض الآخر يقول: هي حركة لئلا يغفل أو ينام؛ لأنه ما دام يحرك أصبعه فإنه ليس بنائم؛ لأن النوم يغطي الأعصاب، ولكن لا نقول هذا ولا ذاك، نقول: السنة جاءت بهذه الصورة وبهذه الهيئة: أن الإنسان في التشهد إذا جلس فيده اليسرى على ركبته اليسرى، ويده اليمنى على ركبته اليمنى عاقداً (ثلاثاً وخمسين)، وأخذها لاحق عن سابق بأن وضع الإبهام ببطنها على جانب الوسطى، وإصبع يقولون فيها أكثر من عشر لغات: أُصبع، وإِصبع، وأُصباع، وأصبوع ... إلخ.
وبعضهم يقول: يضع يده إلى أن يقرأ في التشهد أشهد أن لا إله إلا الله، وعندها يرفع إصبعه كأنه يشير بالإصبع الواحدة إلى حقيقة الوحدانية، وإذا كان الأمر كذلك فلعل هذا التعليل يكون أقرب ومناسب للفظ، أما كونه متعلق بنياط القلب أو كونه لا يغفل أو لا ينعس فهذه أشياء الله أعلم بها، فهو يشير إلى الوحدانية، كما أشارت الجارية لما سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أين الله؟ أشارت إلى السماء)، فتكون الإشارة رمز وبيان للاعتراف عملياً بالنطق مع الفعل: أشهد أن لا إله إلا الله.
وإلى متى يظل هذا الإصبع هكذا؟ قالوا: حتى إذا انتهى من التشهد، وبعضهم يقول: ينتهي من الشهادتين يرد الإصبع إلى ما كانت عليه، والبعض يقول: إلى أن يسلم، ومهما يكن من شيء أيها الإخوة -كما أشرنا- فإنها هيئة من هيئات الصلاة لا يتوقف عليها صحة ولا بطلان، ولكنها السنة وينبغي على المسلم أن يتحرى في صلاته فعل السنة لقوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي).
وللنسائي : (كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد).
ولـأحمد : (أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه التشهد وأمره أن يعلم الناس) ].
التشهد جاءت فيه أحاديث تعليمية، منها حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، بعض روايته: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن)، وجاءت ألفاظ عديدة في التشهد، ومن الروايات المتعددة أيضاً صيغة الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيأتي زيادة إيضاح فيما يتعلق بلفظي الصلاة والتسليم، كما جاء عن كعب بن عجرة : أنه أتى أهل قباء فقال: (يا أهل قباء! ألا أهدي لكم هدية؟ قالوا: بلى، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله رجل: يا رسول الله! عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟)، وكانوا في السابق يقولون: السلام على الله، السلام على عباد الله الصالحين، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا السلام على الله؛ فإن الله هو السلام، قولوا: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقالوا: عرفنا كيف نسلم، فعلمنا كيف نصلي -وفي بعض الروايات: كيف نصلي عليك- إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا فقال: قولوا)وعلمهم الصلاة الإبراهيمية، فهنا فضيلة العلم والتناوب فيه، فهذا رجل من أهل قباء حضر مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع فيه علمه، فذهب به وأهداه إلى أهله وقومه، وأي هدية أعظم من التعليم في الدين.
إذاً: التحيات أو التشهد أخذ حيزاً في النصوص.
الصلوات: جمع صلاة، كما قال الله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ [الأحزاب:56]، وأصل الصلاة في اللغة الدعاء، كما قال ذاك:
وقابلها الريح في دنها وصلى على دنها وارتسم
يعني: دعا عليه ألا يفسد، وكذلك وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103]، يعني: وادع لهم، فالصلاة من العبد دعاء، فتدعو الله لمن تصلي عليه، (اللهم صلِّ على آل أبي أوفى)، يعني: ارحمهم وأكرمهم، والصلاة من الله على العبد رحمة وإكرام، (من صلى عليّ مرة صلى الله عليه بها عشراً).
وجاء معها الطيبات، وهي كل الأفعال الطيبات من عبادة بدنية، أو مالية، أو كلمة طيبة.. كل الطيبات ترجع إلى الله، والله هو الذي يثيب عليها، وهي أيضاً لله يمنحها من شاء والطيبات لله.
هذه الجملة تكلم بها الرسول أمام ابن مسعود، ولماذا لم يقل بدلاً عنها: (السلام عليّ)، عليك راجعة لمن؟ وعليّ راجعة لمن؟ لأن عليك كاف خطاب من المتكلم إلى المخاطب، وعليّ من المتكلم إلى نفسه، وهنا يعلمهم ماذا يقولون، فلو قال: السلام علي، فلو أن إنساناً قال: السلام عليّ، يكون بهذا سلم على نفسه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم هنا ما قال: (ثم صلوا عليّ)، فهو يعلمنا أنه جرد من نفسه شخصية التعليم، بالنسبة لصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم، فقال: قولوا: (السلام عليك أيها النبي)، صحيح أنا النبي، ولكن واجب عليكم أنتم أن تسلموا على النبي عليه الصلاة والسلام.
إذاً: علمهم عندما كانوا موجودين أن يخاطبوه، سواء كان موجوداً عنده أو من غاب عنه، وكيف يخاطب من انتقل إلى الرفيق الأعلى، والخطاب لكل موجود؟ قال بعضهم: نقول: (السلام على النبي ورحمة الله وبركاته) ولا تقل: (السلام عليك)؛ لأن هذه كاف الخطاب، وتكون للحاضر الموجود.
لا والله؛ لأنك حينما تقول: السلام عليك أيها النبي، ذهنك وشعورك وقلبك وروحك وإحساسك يتصور شخصية رسول الله وكأنك تخاطبه، وتجدد العهد بإيمانك، وتقوي الصلة برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو وإن لم يكن حاضراً عندك في مجلسك فهو حاضر في قلبك وإيمانك حيثما كنت في الدنيا كلها، فأنت تخاطب من آمنت به: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ولا تصح عبارة أخرى قطعاً.
ثم نجد أن بعض العقلانيين يقولون: أنتم في القرآن في السور الثلاث تقرءون: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:1-2] .. قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] .. قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] ، وليس هناك داعٍ لكلمة: (قل)، ابدأ بسم الله الرحمن الرحيم، أعوذ برب الفلق .. أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ لأنها تحصيل حاصل وأنت قائلها. هل هذا العقل سليم؟ لو قلت: بسم الله الرحمن الرحيم أعوذ بالله، إذاً: (أعوذ بالله). جاءت منك أنت أو من وحي سبق؟ عندما نقول: بسم الله الرحمن الرحيم أعوذ، كأنه منك أنت، لماذا تتعوذ؟! قال: لأني أريد أن أعوذ، لكن لو قلت: بسم الله الرحمن الرحيم. قل. فهذا أمر من الخالق سبحانه الموحي، فلكأنك تقول: أنا أقول ما أمرت أن أقوله.
إذاً: الرسول ما أتى بشيء من عنده، بل هو مأمور بأن نقول: هو الله أحد، فكلمة (قل) جاءت بالوحي نصاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليكون في موقف المنفذ لما قيل له، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] ويكون القائل هو الله سبحانه، وأنت تقول ما قال الله سبحانه وتعالى. وهكذا هنا: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته). ونحن نقول لهؤلاء العلمانيين: في حياة رسول الله وهو إمامهم في الصلاة ويصلي خلفه آلاف الرجال كما في فتح مكة، إذا صلى النبي صلى الله عليه وسلم، من في آخر الصفوف يقول سراً: السلام عليك أيها النبي، هل أسمع رسول الله؟ وهل خاطبه بذاته؟ لا والله، إنما يقول ما أمر أن يقوله، وحتى في المسجد الأول كما ترونه من خلف المنبر بسارية واحدة إلى الحجرة، كان سبعين ذراعاً في سبعين ذراعاً، وفي الصف الأخير النسوة اللاتي خلف صفوف رجال لما يقلن: السلام عليك، هل كان يسمع أصواتهن؟ والذي في الصف الأول في طرفه من هناك هل الرسول يسمع صوته حينما يقول: السلام عليك أيها النبي؟ لم يسمع منه، إذاً: هذه ألفاظ تعبدية يجب أن يقولها الإنسان ويلتزم بها ولا تتعارض مع العقل الصحيح.
كان يقول الصحابة: السلام على الله، السلام على رسول الله، السلام على فلان فعلمهم أن يقولوا: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا)، والسلام: هو الدعاء بالأمان، وهو تحية الإسلام، وتحية أهل الجنة في الجنة، وهو شعار المسلم، مع المسلم بأن يعلن له أنه آمن، السلام عليك: أي أنت سالم مني، وكأنه أعطاه عهد بالأمان والسلامة فلا يخاف شراً. وهذا أعظم ما يكون بين المتلاقيين ولو لم يعرفه، ولذا معلوم في الفطرة والجبلة: لو أن إنساناً لقي آخر ولم يسلم عليه عرف أن عنده نية شر؛ لأنه ما بدأ بالسلام.
والسلام في التحية له آدابه، وقد عقد له البخاري باباً في الأدب المفرد، وجاءت النصوص في السلام العادي والتحية بين الناس بـ (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)، وهي أكملها، جاء أن رجلاً مر بالنبي صلى الله عليه وسلم وهم جلوس فقال: (السلام عليكم، وجلس، فردوا عليه، وقال الرسول: عشر -أي: عشر حسنات-، وجاء الثاني وقال: السلام عليكم ورحمة الله، فردوا عليه، فقال الرسول: عشرون -أي: عشرون حسنة- وجاء الثالث وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فردوا عليه التحية، فقال صلى الله عليه وسلم: ثلاثون، قالوا: ما عشرة وعشرون وثلاثون يا رسول الله؟! قال: الأول قال كلمة واحدة: السلام عليكم، والحسنة بعشر أمثالها، والثاني قال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال كلمتين، والحسنة بعشر أمثالها، والثالث قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فهي ثلاث كلمات بثلاث حسنات، والحسنة بعشر أمثالها). أو كما قال رسول الله.
ودائماً يا إخوان! إذا وجدت في الحديث النبوي متفرقات فاعلم بأن هناك رابطة، كحديث: (آمين آمين آمين) على درجات المنبر الثلاث، وهنا: (السلام عليك أيها النبي، السلام علينا وعلى ...)، موجود الارتباط القوي، بل هو أقوى ما يكون، وظاهر وواضح جداً.
وبدأ بالنبي؛ لأن الفضل كله من الله على يديه، وجلوسنا في التشهد وتلفظنا بالتحية وسلامنا المبدأ الأول فيه من الله على يدي رسول الله فهو الذي علمنا ذلك.
يلي هذا (علينا)، وفي الحديث لما جاء رجل وقال: (عندي دينار، قال: أنفقه على أهلك، على زوجك، على .. على .. وقال: أولاً: ابدأ بنفسك)، وهنا الحديث بدأ بالرسول، ولِم لم يقل: السلام علينا، والسلام على النبي، والسلام على عباد الله؟ كما هو الترتيب الطبيعي، لا، النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب:6] .. (والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه) ، فهو مقدم على النفس.
كيف تكون الصلاة؟ وما الصيغة التي يلتزمها الإنسان فيها؟
النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يصلي، وهذه الصلاة إما أن تكون نافلة وهو الأغلب، وإما أن تكون فريضة فاتته، المهم: أن هذا الرجل دعا الله في صلاته دون أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الدعاء، فقال صلى الله عليه وسلم: (عجل هذا)، أي: تعجل في الدعاء ليحصل على الإجابة المطلوبة، ثم دعاه فقال له: (إذا صلى أحدكم فليبدأ بالثناء على الله، وليصل على النبي) انظروا الصيغة هنا ما هي؟ (وليصل على النبي)، ولم يقل يصل عليّ؟ لأن الغرض ليست الصفة الشخصية الذاتية لمحمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، ولكن الغرض الصفة المندمجة من شخصيته الذاتية وصفته النبوية.
انظروا يا إخوان هنا! لتنظروا المغايرة، وما يسمى في البلاغة بالتجريد في قضية الحفاظ على الحدود وإقامتها لما قال: (أتشفع في حد من حدود الله، لو أن
قال: [إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه].
يبدأ بتحميد ربه سواء أراد البداءة في الفاتحة أو التحيات؛ لأنه حمد لله، وهذه مقام: (التحيات لله).
قوله: [والثناء عليه] هذه مقام: (الطيبات المباركات).
[ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم].
هنا الحديث: (إذا صلى أحدكم): تعليم متعلق بالدعاء في الصلاة: بأن يحمد الله ويثني عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسأل الله حاجته، وجاء هذا التعليم أيضاً خارج الصلاة مطلقاً، مثلاً: مشيت في الطريق ولك حاجة، وتريد أن تسأل الله إياها: ابدأ فاحمد الله واثن عليه، وصل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سل الله حاجتك، واختم الدعاء بالصلاة على النبي، وهذا . (قمنٌ أن يستجاب له) أي: حري بالإجابة، ويقول العلماء: لأن الحمد لله والثناء عليه، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم القربات إلى الله، ويكفينا قوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيُِّ [الأحزاب:56]، ويكفينا بأن الله يصلي عليه بالمرة عشر مرات، فهي من أعظم القربات إلى الله، وورد حديث في الصلاة، (أجعل نصف صلاتي لك، أجعل كل صلاتي..، فقال: كفيت أمرك)، وهذا باب واسع مستقل لا يحتاج إلى إيضاح، فإذا قدّم بين يدي حاجته هذه القربات لله سبحانه بالحمد والثناء عليه، والصلاة على رسوله، ودعا وختم بالصلاة قالوا: هذا الثناء في أول الدعاء والصلاة في أولها وآخره كالجناحين يرتفع بهما السؤال إلى الله، فإذاً عنده آلة رفع ترفعه إلى المولى سبحانه، فإذا قُدم السؤال في باقة من الزهور والورود بين دعاء وثناء على الله سبحانه معطر ومطيب بهذه الطيبات حري أن يستجاب، لكن جئت ورفعت يدك وقلت: اللهم اغفر لي، حسناً، دق الباب واستأذن، تلطف قليلاً، استعطف، أظهر الحاجة والفاقة.
مثاله: (اللهم إنك عفو تحب العفو) . فهنا قدمت مقدمة لحاجتك وسؤالك، وهي قولك: (اللهم)، وتريد عافني واعف عني، ولكن أيها ألطف؟ يا رب! أنت عفو وتحب العفو، وبعفوك ومحبتك للعفو اعف عني، يكون السؤال ملطفاً ومقدماً له بمقدمة، وحري بإجابته هكذا.
إذاً: المقام هنا يتعلق بالصلاة، وجاء المقام عاماً خارج الصلاة، فإذا كان الأمر كذلك تكون قاعدة مطردة في الصلاة وفي غير الصلاة: إذا سأل الله أحد من الناس فليقدم بين المسألة ما يقربه إلى الله، وبيّنه صلى الله عليه وسلم بالحمد والثناء والصلاة على النبي، هذا عام وإذا كان في الصلاة كذلك، وبيّن صلى الله عليه وسلم أنه لا يعجل، بل يحمد الله ويثني عليه، ثم يصلي على النبي، ثم يتخير المسألة.
وبعد أن قدم المؤلف رحمه الله هذا الأمر كأنه يشعر بفعل النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل، هو سمعه في الصلاة أو خارج الصلاة؟ أين سمعه؟ الرجل يصلي، قال: (عجل هذا ثم دعاه فأخبره) هل رده ليعيد الصلاة لعدم صلاته على النبي أو أقره على صلاته؟
إذاً: الصلاة على النبي التي تركها في تلك الصلاة مندوب إليها، ومن هنا قدم المؤلف هذا الحديث ليعطي مقدمة فقهية، وهي: أن الصلاة ليست واجبة مع الخلاف الموجود عند العلماء.
إذاً: أخذنا من هذا الحديث ما ينبغي على الإنسان أن يُقدم على الدعاء من الصلاة على النبي والثناء على الله. (ثم يدعوا بما شاء).
وتقدم في حديث ابن مسعود : (وليتخير من المسألة أعجبه)، وتقدم أيضاً التنبيه على قوله: (يتخير) وهنا: (بما شاء)، ولكن هل المشيئة مطلقة أو مقيدة بأقل شيء بالأدب الشرعي؟ المشيئة مقيدة، وفي الحديث: (والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون هواه -مشيئته، إرادته، رغبته- تبعاً لما جئت به ).
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر