بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله.
أما بعد:
قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة -وأشار بيده إلى أنفه- واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين) متفق عليه].
بيّن المؤلف كيفية الصلاة، وبدأ بتكبيرة الإحرام، ثم جاء بقراءة الفاتحة، ثم الخلاف في البسملة، ثم التكبيرات: تكبيرة الإحرام، وتكبيرة الانتقال، وما يقول حال رفعه من الركوع، وما يقول وهو قائم بعد الرفع، ثم سيهوي إلى السجود، فكيف يكون السجود؟
هناك حديث في كيفية الهوي إلى السجود، ولكن الحديث هنا في كيفية السجود.
قال: (أمرت)، وهذا الحديث ورد بصيغ ثلاث: (أمرت)، (أمرني ربي)، (أمرنا)، كل هذه من صيغ هذا الحديث، وأصحها هذه الرواية: (أمرت)، وهذه عند علماء اللغة من صيغ المبني للمجهول أو ما لم يسم فاعله، (أمر) من الأفعال المتعدية، تقول: أمر زيد عمراً بفعل كذا، فهنا الفعل يحتاج إلى فاعل، ويحتاج إلى مفعول به، وما هو مأمور به، أمر علي زيداً: فهنا الفاعل علي، والمأمور زيد، والمأمور به موضوع الأمر.
وهنا: (أمرت أن)، ومعلوم أن ما بني للمفعول يكون قد حذف فعله، وأغراض حذف الفاعل تدرس في علم البلاغة، إما لمعرفته أو لا يذكر اختصاراً، كما جاء: حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ [ص:32]، لم يذكر الفاعل، وليس هناك مبني للمجهول ولا للمعلوم، ولكن حذف الفاعل لبيان السياق للمطلوب، بدليل الحجاب، توارت يعني الشمس.
وهنا: (أمرت)، إما أن يكون لمعرفته ولا يحتاج إلى تنصيص عليه، وإما لعدم إرادة ذكره، وحذف الفاعل: لعدم إرادة ذكره، أو عدم معرفته؛ حفاظاً عليه، أو خوفاً منه، وقد يكون لحقارته، وقد يكون لإعظامه وعدم تسميته باسمه، كل ذلك من أغراض حذف الفاعل، وإقامة المفعول به مقامه، وهنا من باب حذف الفاعل للعلم به، لما المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت)، من في الدنيا له أن يأمر رسول الله؟ أظن ليس هناك حاجة إلى سؤال؛ لأن الذي يأمره هو المولى سبحانه، إذاً: أمرت، معناها: أمرني ربي.
(أن أسجد)، السجود هو: وضع الجبهة على الأرض، وقد يسمى الركوع سجوداً، وقد يسمى السجود ركوعاً، وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43].
قال: (على سبعة أعظم) وأعظم جمع عظم، والعظم واحد العظام في الجسم، ثم ذكر وفسر، وهذا من الأساليب البليغة، وهي كثيرة في أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن يأتي بالمجمل ثم يفصل، (أمرت أن أسجد على سبعة) فتعد السبعة على يدك ثم تنتظر تفصيلها، فتحفظ السبعة لأنها سهلة، ثم تبدأ بالجزئيات التفصيلية.
(وأشار بيده إلى أنفه)، هنا البيان اشتمل على أسلوبين: أسلوب قول، وأسلوب فعل إشارة، والجبهة فوق والإشارة إلى الأنف، وكأنه في هذه المغايرة يقول: السجود على الجبهة والأنف، ولكن هل هما يستويان في الأمر بهما؟ أي: هل الجبهة والأنف مستويان في حكم السجود سواء أم هناك مغايرة بينهما؟ ولو كان هناك مغايرة فأيهما مائة بالمائة؟
الجبهة؛ لأنه نص صريح في العضو، وأشار إلى الأنف لأنها تتبع الجبهة في السجود، لكن هل هي تساويها في كل شيء؟ لا، لأنها لو كانت تساويها لقال: على الجبهة وعلى الأنف؛ فيكون هناك عضو ثامن؛ وقوله: (سبعة)، تمنع وجود عضو ثامن، وكذلك يمنع من نقص عضو فيصير ستة، فالتنصيص على سبعة يمنع من أن يكونوا ستة أو ثمانية.
إذاً: الأنف ليس عضواً مستقلاً، وليس مساوياً للجبهة، ومن هنا وقع الخلاف؛ فنجد من العلماء من يقول: يجزئ أحد العضوين؛ لأنه ذكر الجبهة وأشار إلى الأنف؛ فهما سواء، وعلى أيهما سجد أجزأ.
وقال الآخرون: لا؛ لأنه لم يكتف بواحد منهما، ولم تأت (أو) التي هي للتخيير، فما قال: على الجبهة أو الأنف، وإنما قال: (الجبهة) بلفظ صريح، وأشار إلى الأنف على أنها معها، وهناك من أوجب السجود عليهما معاً، فلو اقتصر على الجبهة فقط ما صح سجوده.
القول بإجزاء الجبهة فقط يروى عن الشافعي رحمه الله، والقول بأنه يجزئ على الأنف يروى عن أبي حنيفة، ويناقش هذا القول بأن: أبا حنيفة رحمه الله ما قال: إنه يجزئ عن الأنف وحده، وإنما قال هو مخير بينهما، ولكنا وجدنا فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه يسجد على الجبهة والأنف ويلامس الأرض، وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي).
وجاءت الأحاديث عن أبي هريرة وعن ابن عباس : (أنهما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم يسجد على أنفه وجبهته) ولما ذكر صلى الله عليه وسلم ليلة القدر قال: (أريت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين)، وجاء في الحديث: (ورأيت الطين على أرنبة أنفه)، والأنف من أول الجبهة إلى الشفة، والأرنبة في المحل المرتفع من الأنف، فلابد من السجود عليها حتى في وقت الطين.
فإذاً: ليس هناك حاجة للخلاف الطويل، والقول بأن الأنف تجزئ وحدها قول مطروح، لكن هل تجزئ الجبهة وحدها؟ هذا هو الخلاف الصحيح، والصحيح أنه يجمع بين الجبهة والأنف.
ولو جئنا إلى معنى جانبي الجبهة هي الناصية، والناصية هي موضع الشرف والرفعة من الإنسان؛ ولذا قال الله في تبكيت الكفار: نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ [العلق:16]، فوصف الناصية وأراد صاحبها، فالسجود على الناصية فيه كمال الخضوع للمولى سبحانه، وهو أن تعفر الجبهة -وهي أعظم وأشرف عضو عندك- بالتراب؛ تواضعاً لله، وكذلك الأنف كما يقال: (رغم أنف فلان) فرغم من الرغام، والرغام هو التراب الحار، فإذا أرادوا مذلتك قالوا: رغم أنفك تفعل كذا، يعني: تفعل وإلا وضعنا أنفك في التراب الحار، وليس بعد هذا إهانة، فالمصلي يفعل ذلك طواعية؛ وخضوعاً لله سبحانه وتعالى، فكأنه يقول: يا رب أضع جبيني وأغبر أنفي في التراب تواضعاً لك، وشكراً على نعمائك، ولا يوفي بذلك.
إذاً: جيء بالأنف مع الجبهة لأنهما العضوان اللذان بهما يشرف الإنسان أو عليهما تقع الإهانة، فبدل ما يرغم على ذلك من خصم أو عدو، فهو يفعلها طواعية لوجه الله تعالى.
النجاشي لما انتهت غزوة بدر، دعا المهاجرين الذين عنده فاشتد عليهم الأمر: ماذا يريد منا؟ فلما دخلوا عليه وجدوه جالساً على التراب حاسر الرأس لابساً حلساً قديماً واضعاً يديه إلى الأرض، في حالة في غاية من التذلل والتواضع، فقال له جعفر : أيها الملك! دعوتنا وجئنا ووجدناك على هذه الحالة، ما الذي حدث؟ يريد: هل حدث مصيبة أم ماذا؟ قال: دعوتكم لأبشركم بأن النبي صلى الله عليه وسلم التقى مع قريش في واد يقال له: بدر، ونصره الله على أعدائه، ومما جاء عن عيسى عليه الصلاة والسلام: (إن الله يحب من عبده إذا أحدث له النعمة أن يحدث له تواضعاً)، ونحن بفضل الله في كل لحظة نعم المولى تتوالى علينا، فجلوسك فقط معافى نعمة كبيرة، ولذا تأتي الصلوات الخمس في أوقات متفاوتة تجديداً للصلة بين العبد وبين ربه، وتجديداً للعلاقة بينهما.
وعلى هذا يشرع ضم الأنف إلى الجبهة وما نقول من جهة العقل معقولة، لكن حكمة التشريع فيها واضحة.
إذا كانت الغترة، أو عمامة، أو قلنسوة أو أي شيء على الحواجب، وسجدت على الأرض، فهل الجبهة باشرت الأرض أم أن بينهما حائل؟
الفقهاء يبحثون عن أثر وجود عازل أو حاجز بين الجبهة وموضع السجود على السجادة أو التراب أو الحصى، هل هو سجود على الجبهة أم سجود على الحائل دون الأرض؟
فنجد النزاع أو الخلاف يرجع إلى تحقيق المناط في حقيقة السجود، فنجد بعض العلماء وخاصة الشافعية يشددون في هذا ويقولون: لا يصح السجود إلا على الجبهة، ولا يصح على خارج عن الجبهة أو شيء يتحرك بحركة المصلي، هل تتحرك معك الغترة أم لا؟ نعم، إذاً: لا يصح أن تسجد على طرف الغترة، لابس درّاعة كبيرة واسعة أو برنس أو ثوب البادية وكمه يُدخل اثنين معك، أو أي شيء يتحرك بحركتك في قيامك وقعودك؛ لا يحق لك أن تسجد عليه عند الشافعي .
وغيره يقول: الأمر أوسع من هذا؛ لأن السجود يتحقق بالانحناء ووضع الجبهة إلى الأرض، وكونه يوجد حائل أو لا يوجد حائل فإن ذلك لا يمنع من كونه سجد، لكن يذكر الصنعاني في شرح هذا الحديث، وابن حجر في شرحه في الفتح روايات -وإن كان يضعفها البيهقي رحمه الله-: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يسجد على كور العمامة)، والكور: هو التكوير، والعمامة تلف مثل عمامة الرجل السوداني وأمثالها، فالاستدارة التي توجد على الرأس إذا كانت إلى الجبهة وسجد، فهل سجد على الأرض أم على كور العمامة؟
يقولون: هذا سجد على كور العمامة، وفي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً سجد على كور العمامة فأشار إليه أن يرفع) ولكن كما قلنا: البيهقي ضعف كل هذه الروايات.
قالوا: لا، فيستحيل كشف الركبتين للسجود؛ لأن فيه كشفاً للعورة وإبطالاً للصلاة، ولا تنسوا القاعدة التي يقولها ابن دقيق العيد : الفرع إذا عاد على الأصل بالإبطال كان باطلاً.
إذاً: هذا الفرع باطل لأنه سيبطل الأصل.
إذا قلتم بأن الركبتين كشفها عورة؛ فإذا كان لابساً الخف ومسح عليه، وله يوم وليلة أو ثلاثة أيام، ومعلوم أنه سيصلي في اليوم والليلة خمس صلوات؛ فهل يصح أن ينزع الخفين ليباشر بقدميه الأرض؟
لا؛ لأن من نواقض الوضوء لماسحٍ على الخفين نزع الخفين، هذا عند الجمهور بصرف النظر عن المخالف، فهل تقولون لمن لبس خفين: انزعهما لتباشر بالقدمين الأرض؟ لا.
إذاً: تسامحتم مع صاحب الشراب، ولو توضأ وغسل القدمين، لا تقولون: اخلع الشراب حتى تصح الصلاة.
فإذاً: يجوز ستر الركبتين والقدمين، وهل يمكن لإنسان يهذي ويقول: إذا لبس قفازات ما جاء النص أن يخلعها حتى تباشر بيديه الأرض، ولكن جاء حديث آخر يذكره ابن حجر ، ويذكره في نيل الأوطار بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون وأيديهم في ثيابهم، وكون اليد من داخل الثياب وهو ساجد، فالثياب حائلة بين يده وبين محل السجود، وهذا نص مختلف في رفعه ووقفه، والموقوف أصح، وسواء كان مرفوعاً أو موقوفاً على الصحابة؛ فإذا فعل ذلك أصحاب رسول الله، فليس من المعقول أن يفعلوا ما يبطل الصلاة.
والرد على من يقول: لا يصح السجود على متحرك بحركة المصلي يذكره مالك في الموطأ قالوا: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة الحر فلم يشكنا)، أي: لم يسمع شكوانا، بمعنى: كان المسجد تأتيه الشمس فتكون أرضه حارة، فإذا سجدوا كانت حرارة الحصوة على الجبهة لا تحتمل، (فكان أحدنا يسجد على طرف ثوبه -أي: على كمه- وكان بعضنا يأخذ القبضة من الحصباء)، أي: إذا سجد وقام للركعة التالية ملأ يده حصباء وأبقاها في كفه حتى يقرأ ويرفع ويركع (فإذا أراد السجود بسطها وسجد عليها) وهذه متحركة بحركته وهي أيضاً حركة زائدة، فالثوب لعله بضرورة الحال، لكن هذه قصداً يحملها معه في كفه، ثم يطرحها ويسجد عليها؛ لأنها تكون بعامل وجودها في كفه قد بردت من تلك الحرارة الشديدة.
وخروجاً من هذا الخلاف، وتحقيقاً للمعنى، وإبعاداً لشبهة احتمال الكبر كما في قصة الغرانيق، فالمشركون كلهم سجدوا مع رسول الله إلا واحداً رفع قبضة من الأرض ووضع جبهته عليها، فكان ذلك كبراً منه عن السجود؛ فنقول: إن كشف الجبهة أولى، خروجاً من هذا الخلاف، وتحقيقاً لمعنى الخضوع والخشوع بين يدي المولى سبحانه، وإبعاداً عن احتمال الكبر، وحتى لا يتذرع البعض بأن فلاناً يفعل كذا، وفلان يفعل كذا، وهذا جائز، وهو لا يفعلها على سبيل الجواز، ولكن يفعلها كبراً، خروجاً من هذا كله، فإنه يبتعد عن تغطية جبهته عند السجود.
إذاً: الحديث ممكن نقول: فيه نوع تجوز.
وهل في اليدين عظم واحد؟
كل إصبع فيها ثلاثة مفاصل، وأكثر سلامى الجسم في القدمين والكفين، وسمى اليدين عظمين، وفيهما عشرات العظام، إذاً: الحديث فيه مجال للتجوز والتوسع.
ونص على العظم الأول بأنه الجبهة، فالأولى أن يحاول الإنسان أن تكون الجبهة مكشوفة ما أمكن كشفها، ولا محذور فيها كالركبتين، وكالقدمين عند لبس الخفين، والله تعالى أعلم.
إذاً: لفظ اليدين هنا مجمل كما جاء الحد في قطع يد السارق، والتيمم، وجاءت مفصلة في الوضوء، قال في الوضوء: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، لكن في التيمم قال: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6] .. فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، ثم تأتي السنة وتبين إلى أين؟ وما المراد بمسمى اليد؟ هل هي بكاملها نبطحها ونمدها على الأرض؟ لا قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، ووجدنا أن المقصود بالعضوين هنا الكفين فقط، وستأتي نصوص تمنع أن يلامس الزند الأرض، وأن يفترش ذراعيه.
وهنا أيضاً مباحث للفقهاء في الكفين: كيف تسجد على الكفين: أتطبق يديك؟
لا، بل تبسط أصابعك، مفرجة أم مضمومة؟ مضمومة؛ لأن في تفريجها انحراف لبعض منها عن القبلة؛ لأن زاوية الأصابع زاوية حادة، وهذه الزاوية الحادة لو قسناها يمكن أن تكون ثمان درجات أو سبع، وستكون المسألة سهلة إذا كان الفارق عشرة سم، الآن الإصبع يتجه ربما إلى ركن المسجد هذا، وسيذهب إلى الشرق عن نقطة تلاقي الإصبع من هنا، إذاً: لو أن الإصبع الوسطى تلقاء الكعبة فعلاً كما هو محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فستكون التي تليها منحرفة عنها فعلى ذلك قالوا: ببعد المسافة يكون الانحراف بعيد جداً، يمكن أن تذهب أصبع إلى بلاد المغرب والأخرى إلى الهند.
فإذا كان مضموم الأصابع وسجد بسط كفيه وضم أصابعه، بخلاف وقت الركوع: فإن الأصابع تفرج وتقبض على الركبة، كما جاء: (كأنه قابض على الركبة).
إذاً: وضع الأصابع بين الضم والتفريج يختلف بوضعهما في مكانهما.
وهنا أيضاً بحث آخر: أين تكون الكفان من الجبهة؟ هل بعدها أم قبلها، أم على مساواتها؟
تكون الكفان مضمومتا الأصابع مقاربة للصدغين، لا تتقدم على الجبهة، ولا تتأخر بعيداً عنها؛ لأن هذه هيئة تنافي طبيعة الإنسان في سجوده العادي، وفيه تكلف أو تقصير.
قال: (وأطراف القدمين)، لم يقل: والقدمين؛ لأنه لو قال: (القدمين) فحيثما كانت القدمان أجزأا، وأطراف القدم هي الأصابع، وأحياناً ترى -وخاصة في مواسم الحج والعمرة- بعض الناس لم يتمرن كثيراً على الصلاة، وربما أنه بدأ يصلي لما عزم على الحج، فتجده يسجد ويرفع قدميه من الخلف، فهذا ما أكمل السجود؛ لأن عضوين من أعضاء السجود لم تستخدم في السجود.
وأطراف القدمين في السجود لها ثلاث حالات:
إما أن يسجد على الأصابع، وإما أن يثنيها متجهة إلى القبلة ناصباً القدمين، وإما أن يثنيها إلى الخلف، وأي الأوضاع مطلوب؟
أن تكون الأصابع مثنية إلى الأمام متجهة إلى القبلة، ولو جعلها واقفة على أطراف الأصابع على الأظافر فقد سجد لكنه ترك الأولى، كما لو ثناها إلى الوراء، وما دام أنه معتمد في السجود على الأصابع، فالسجود وافي، لكن الهيئة الأكمل أن تكون الأصابع متجهة إلى القبلة.
إذا عرفنا أن المراد بالكفين اليدين، وأن نص الفقهاء على أن تكون منضمة الأصابع، وجئنا إلى القدمين؛ وعرفنا بأن موضع السجود هو أطراف الأصابع وهناك حركة وهيئة تتعلق باليدين مرة أخرى جاءت هنا:
يقول ابن بحينة : (كان إذا صلى وسجد فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه)، ما المراد باليدين؟
انظر إلى قوله: (حتى يبدو بياض إبطيه)، أي جزء من اليد الذي يغطي الإبطين؟ إنه العضد، فإذا سجد الإنسان وضم عضديه على الكتاب أو العصا أو أي شيء، تضم العضدين على الجانبين فتلصقهما، ولا يمكن أن تسجد هكذا، لكن فرج بينهما حتى يبدو بياض الإبطين، وبعض الإخوة -أكرمنا الله وإياهم- يأتي فيصلي فإذا بهذا المرفق هناك، وهذا الآخر هنا، وآخذ نصف متر عن اليمين، ونصف متر عن الشمال، تعود هذا منفرداً، وإذا كنت منفرداً لك حرية، ويجب أن يكون المظهر بصفة عامة مظهر لائقاً، ولا يكون فيه تكلف، فتجد البعض قد يشدد على نفسه أكثر من اللازم في سجوده؛ حتى يكون الوركان منفرجان، واليدان ممدودتان، ويكون على سبيل الفطرة غير لائق، فإذا صلى في جماعة يظن أن السنة أن يفرج ليرى بياض إبطيه؛ فيؤذي هذا، ويؤذي هذا، وإذا كنت منفرداً أو إماماً فبقدر المستطاع، فالغاية القصوى من تفريج اليد عن الجنب حتى يُرى بياض الإبط، ولو فعل أقل من ذلك لأمكن، والمحظور هو أن تسجد ملصوق العضدين بالجانبين؛ لأنه لما تأتي تسجد وأنت هكذا تكون هيئتك هيئة هرة، دعك من الهرة لكن أنت تحكم عليه في شخصيته كأنه كسلان يصلي وهو عاجز، كأنه يقول: دعني أنتهي منها، لكن يفرج العضدين، والفقهاء يقولون: ليتميز كل عضو بسجوده لله سبحانه، وأحسن من هذا ما ذكره صاحب سبل السلام الصنعاني : لئلا يكون في مظهر الكسلان، فالغرض من هذا ألا تكون في صورة العجز والكسل، وليس الغرض من هذا كما يقولون: فتل الأعضاء والعضلات، لا، الصلاة خشوع، والصلاة خضوع، ومراعاة اللائق.
والحديث يشير: (حتى يُرى) رؤية الإبطين كانت سهلة؛ فلم يكن هناك ثوب وفنيلة كم، بل كان هناك الإزار والرداء والقميص، وكم القميص كان قصير وواسع، وأقل لفتة تبين الإبطين، والإبط ليس بعورة، ونحن الآن لا يستطيع أحد أن يرى إبط الثاني وهو ساجد، وأصبحت الثياب على وضع آخر بحسب ظروف الحياة، فلو كان رأساً إزاراً ورداءً أو محرماً فسوف يرى بياض إبطيه، وسيكون من السهل جداً أن يراه، وأدنى تفريج ولو سنتيمتر واحد سيرى بياض الإبط.
إذاً: ليست المسألة مغالاة ولا تفريطاً، وإنما المراد هو الخروج عن هيئة الكسلان الذي يأتي الصلاة بدون نشاط، وهذا خاص بالرجال، بخلاف المرأة فهي تضم نفسها، لما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه رأى امرأتين تصليان فقال: (ضما اللحم إلى اللحم)؛ لأن ذلك أستر للمرأة.
معنى الحديث: أن يبقى الكفان مرفوعين ولا يضعهما على الأرض؛ لأنه تقدم أن أعضاء السجود سبعة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم)، فذكر الجبهة وأشار بإصبعه إلى الأنف، وذكر الكفين واليدين والركبتين والقدمين، (ضع كفيك)، أي: على الأرض، (وارفع مرفقيك)، المرفق: هو المفصل الذي يفصل بين العضد والزند، وهو المنصوص عليه: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، وسمي هذا العضو مرفقاً؛ لأن الإنسان إذا أراد أن يستريح ارتفق على هذا العضو، وجعله على وسادة أو الأرض أو غير ذلك، فهو من الارتفاق والمساعدة في راحة الإنسان، ورفع المرفقين، أي: لا تكون اليد بكاملها مسطحة على الأرض، ويكون المرفق واصلاً إلى الأرض كما تصل الكف، هذه الصورة منهي عنها، بل يضع الكفين، ويرفع المرفقين بحيث لا يكونان ملامسين للأرض، وهذه الصورة جاء النهي عنها بصريح العبارة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن افتراش كافتراش السبع، والسبع إذا ربض بسط يديه من المرفق إلى المخالب على الأرض، وفي الحديث: أنه إذا رفع المرفقين لا يلصقهما بعضديه، ولكن يجافي بينهما، كما تقدم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجافي بين العضدين حتى يرى بياض إبطيه.
إذاً: من هيئة السجود: أن الساجد يضع كفيه على ما يسجد عليه سواء كان في الأرض أو على فراش أو نحو ذلك، وأن يرفع المرفق من أعلى لا أن يجعله مساوياً للكف على الأرض، فيسجد يضع الكفين ويرفع المرفقين، وأن يجافي بين العضدين لا أن يضمهما.
وتقدمت الإشارة إلى أن مجافاة العضدين على سبيل الاعتدال، وأن من سجد ضاماً عضدية يكون كالمنكمش في نفسه، ويكون في هيئة الكسلان؛ لأن هذه الحالة لا تصلح لمن أتى الصلاة عن رغبة ونشاط، كما بين صلى الله عليه وسلم وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي).
ونبهنا على أن هذا بالنسبة للرجال دون النساء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى امرأتين تصليان، فأمرهما أن يضما العضدين إلى الجنبين، وقال: (ضمَّا اللحم إلى اللحم)، فكلما كانت تضم بعضها إلى بعض كان ذلك أدعى إلى سترها، ولو كانت مغطاة.
وأشرنا إلى أن الإنسان إذا كان منفرداً أو كان إماماً فإنه يجافي العضدين مع رفعهما في هيئة معتدلة، لا إفراط ولا تفريط، وإذا كان في صف الجماعة فإنه يراعي من على جانبيه؛ فلا يجافي بين العضدين مجافاة تؤذي الجار، وتجعل الفجوة بين الأفراد، ولا يضمهما كما تفعل النسوة، والله تعالى أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر