الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:
فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً فجاءت برجل، فربطوه بسارية من سواري المسجد... الحديث) متفق عليه ].
هذا الحديث -كما يقول الشراح- له قصة، وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل، -وسمي في غير هذا الحديث- وهو ثمامة بن أثال ، وكان سيداً من سادات وادي بني حنيفة في نجد، فأخذ أسيراً، فجيء به فربط في سارية المسجد، وهذا هو موضع الدلالة، حيث أن ثمامة رجل مشرك أخذ أسيراً وأدخل المسجد وربط فيه، وهذا حكم من أحكام المساجد.
فلما ربط في سارية من سواري المسجد كان صلى الله عليه وسلم يأمر له بحلب سبع شياه فيشربه، ويمر عليه كل غداة ويقول: كيف بك يا ثمامة ؟ فيقول -وهو في الأسر-: يا محمد! إن شئت مالاً أرضيتك، وإن مننت مننت على كريم، وإن قتلت قتلت ذا دم لأن الله قد قال في حق الأسير فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً [محمد:4]، فالأسير إما أن يفادى بالمال، وإما أن يمنَّ عليه ويطلق سراحه بلا فداء، وإما أن يقتل، وكونه يسترق شيء آخر.
فكان يقول: إن ترد مالاً -يعني: فداءً- أرضيتك، أي: أعطيتك الذي ترضى. وإن تمنن -أي: تطلق سراحي بدون فداء- مننت على كريم -والكريم لا تضيع عنده الصنيعة-، وإن قتلت قتلت ذا دم. أي: فدمي لن يذهب سدى، بل ستجد من يطالب به، فهو يهدد وهو في الأسر؛ لأنه سيد من سادات قومه، فتركه على هذه الحالة ثلاثة أيام.
ثم مر عليه في اليوم الرابع فقال: أطلقوا ثمامة . فأطلقوه، فجاء إلى بعض الحاضرين في المسجد وقال: ماذا يفعل من يريد أن يدخل في دينكم؟ قالوا: تذهب فتغتسل، وتأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتشهد بشهادة الحق. فذهب إلى بيرحاء -وبيرحاء كان شمالي المسجد، وكان يبعد عن باب المجيدي حوالى ثلاثين أو أربعين أو خمسين متراً، وكان بستاناً قريباً- فاغتسل في الضحى، وفي صلاة الظهر استقبل النبي صلى الله عليه وسلم وشهد شهادة الحق.
ثم قال: يا رسول الله! أخذتني خيلك وأنا في طريقي إلى العمرة، فما ترى علي؟ قال: امض وأكمل عمرتك. فمضى إلى مكة، فبلغ مكة خبر إسلامه، وهناك ضيقوا عليه وآذوه لأنه أسلم، فلما رجع إلى وادي بني حنيفة منع الميرة أن تأتي من هناك إلى مكة، وكان وادي بني حنيفة في ذلك التاريخ يمول الحجاز، فقد كان مخصباً ومنتجاً وذا زرع، فمنع الميرة أن تصل إلى مكة، فأحس أهل مكة بالحاجة والجوع، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا محمد! مر ثمامة أن يسمح بالميرة لمكة؛ فإن لك فيها الخالات والعمات. فكتب إليه أن: اسمح بالميرة لمكة. فسمح بها.
ولما غدا صلى الله عليه وسلم وقال: أطلقوا ثمامة أتي في الليلة التي أسلم في نهارها بحلب شاة -مع أنه قبل إسلامه كان يشرب حلب سبع شياة- فشرب فشبع، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الكافر ليشرب في سبعة أمعاء، والمسلم -أو المؤمن- يشرب في معى واحد)، وقالوا: لأنه لما أسلم قال: (باسم الله)، وببركة (باسم الله) جعل الله في حلب الشاة الواحدة ما أشبعه نيابة عن السبع الشياه.
ويؤخذ من ذلك مواقف النبل في الرجال، أو مواقف عظماء الناس، فقد قيل له: يا ثمامة ! ما دمت فكرت في الإسلام فلماذا لم تسلم من أول يوم، ومكثت في الأسر مربوطاً ثلاثة أيام؟! قال: لئلا تقولوا: أسلم خشية السيف. أي: فلما أطلقت وصرت حراً طليقاً حينئذ أسلمت.
ونظير هذا الموقف أيضاً موقف زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو العاص بن الربيع فقد أخذ أسيراً في بدر وافتدي هو وأخوه، ثم بعد الفداء سافر بتجارة إلى الشام، وهو عائد أخذ هو وتجارته، فلما أخذ هو وتجارته استطاع أن يفلت منهم، ودخل على زينب رضي الله تعالى عنها واستجار بها فأجارته، فأطلت على الناس في صلاة الفجر وقالت: أيها الناس! إن عندي فلاناً -أي: زوجها- وقد أجرته. فقال صلى الله عليه وسلم: أو تسمعون ما أسمع -وما كان يعلم بذلك-؟ قالوا: نعم. قال: والله ما علمت بذلك إلا كما علمتم أنتم الآن، وإنا قد أجرنا من أجرت لأنه قد جاء في الحديث: (يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أحدهم) .
ثم قال صلى الله عليه وسلم: إن رأيتم أن تعيدوا عليه تجارته وتطلقوا سراحه فأعيدوا وأطلقوا سراحه، فأعادوا إليه تجارته وأطلقوا سراحه، فذهب إلى مكة -والتجارة التي كانت معه عبارة عن مضاربة لأهل مكة، فأعطيت له الأموال ليتاجر بها- فلما وصل ووزع الأموال على أصحابها وبرئت ذمته قال: يا أهل مكة! أشهدكم أني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقالوا له: ولماذا لم تعلن ذلك وأنت في المدينة؟ قال: أخشى أنكم إن سمعتم بإسلامي تقولون: أسلم ليذهب بأموالنا، ولما جئت بأموالكم وأعطيت الحقوق لأهلها، ولم يبق لأحد عندي شيء أسلمت بدون أي دافع آخر.
هذه مسألة -كما يقولون- فيها قليل من التطويل، وأخونا الشيخ عبد الله ولد والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه -في الآونة الأخيرة- جمع رسالة صغيرة في هذه المسألة. ووالدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في أضواء البيان تكلم عنها عند قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28]، والمسألة تتلخص في الآتي:
يقول تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28]، والمشركون جنس معين، وهم أهل الأوثان، بخلاف أهل الكتاب.
وقال تعالى: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ [التوبة:28]، فجعل مالك رحمه الله أصل المسألة في المشركين، وقاس عليها أهل الكتاب: يهوداً ونصارى، وأخذ المسجد الحرام كأصل، وقاس عليه جميع مساجد العالم، فقال مالك : لا يدخل كافر مطلقاً -سواءٌ أكان مشركاً، أم وثنياً، أم كتابياً يهوياً أو نصرانياً، أم بوذياً- أي مسجد من المساجد نصاً وقياساً.
والإمام أبو حنيفة رحمه الله جعل المسألة خاصة بالمشركين وبالمسجد الحرام فقط على نص الآية.
والشافعي وأحمد رحمهما الله جعلاها في عموم الكفار، وبخصوص المسجد الحرام.
فهذا خلاصة خلاف الأئمة رحمهم الله، وإذا جئنا إلى قصة ثمامة نجد أنه رجل مشرك أدخل المسجد، وربط في السارية، فهذا ينقض على مالك اعتبار عموم المساجد بالمسجد الحرام؛ لأنه قال: جميع المساجد يمنع منها جميع الكفار والمشركين فهذا مشرك دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتعميم في المساجد ينقضه دخول ثمامة .
وهنا أيضاً دليل آخر، وذلك لما جاء وفد ثقيف، ووفد ثقيف من الطائف وكانوا مشركين، جاءوا في السنة التاسعة من الهجرة -عام الوفود-، ونحن نعلم ما فعلت ثقيف برسول الله صلى الله عليه وسلم حينما جاءهم إلى الطائف سنة تسع من البعثة، فأساءوا إليه صلوات الله وسلامه عليه، ولما جاءوا سنة تسع من الهجرة -عام الوفود- أنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، وبنى لهم خياماً في المسجد، وكان ذلك في رمضان، وكانوا يرون الناس يصلون، وكان صلى الله عليه وسلم هو الذي يشرف على خدماتهم، وكانوا من شدة خوفهم لا يأكلون طعاماً جيء به إليهم حتى يأكل الذي جاء به منه أمامهم، وكان صلى الله عليه وسلم -من مكارم أخلاقه وحسن ضيافته- يأتيهم بعد العشاء، ويقف على خيمتهم، ويتحدث معهم في أيام العرب وفي أحاديثهم، ويراوح بين قدميه، فمرة يقف على اليمين، فلما يطول القيام قليلاً يريحها، ويقف على اليسار من طول ما يقف عند خيمتهم متحدثاً معهم.
فهذا وفد من المشركين نزل في المسجد النبوي.
وأما غير المشركين فأهل نجران، وليسوا وثنيين، ولما جاءوا المدينة جاءوا إلى المسجد، ولما جاءوا وطلب الرسول صلى الله عليه وسلم منهم المباهلة قالوا: أمهلنا إلى الغد. فكان فيهم السيد العاقب، فقال لهم: والله ما باهلت أمة نبياً إلا أخذوا عن آخرهم، ولو باهلتموه والله لن يبقى حتى الطير يطير في بلادكم، فأصبحوا وقالوا: يا محمد! نعتذر عن المباهلة، ونحن على السمع والطاعة لك، واتركنا على ما نحن عليه، وابعث معنا رجلاً أميناً يحكم بيننا في أموالنا إذا اختلفنا فيها. قال: نعم. لأبعثن معكم رجلاً أميناً. يقول عمر رضي الله تعالى عنه: فبت أتطلع. أي: لينال شرف هذا الوصف ويبعث معهم، ولكن دعا بأمين هذه الأمة أبي عبيدة ، فهؤلاء نزلوا في المسجد.
وعلى هذا يكون القول الراجح أنه لا يسمح لغير مسلم، أو لا يحق لغير مسلم أن يدخل المسجد بسلطة، وبنوع من التحكم، أما أن يدخل بأمان من المسلمين، وبعهد من ولي أمر المسلمين لحاجة نحن نحتاجه فيها، أو هو يحتاج إلينا فيها، كما كان اليهود يدخلون المسجد ويتحاكمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يستفتونه فلا مانع.
فغير المسلم يدخل المسجد للحاجة، فحاجته في التقاضي والقاضي في المسجد، أو الاستفتاء والمفتي في المسجد، أو للماء والماء في المسجد، أو لحاجة المسجد إليه لعمارة، أو لتدارك أمر ما، فحينئذ يسمح له بالدخول. والقضية تدور حول قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28]، وبعض علماء اللغة يفرق بين (نَجَس) و(نَجِس) فيقول: نجَس (بالفتح): نجاسة اعتقاد، ونجِس (بالكسر): نجاسة مادية، كالبول والعذرة، فهنا نجس المشركين في اعتقادهم، وكان بعض السلف -كـالحسن - يقول: من صافح مشركاً فليتوضأ؛ لأنهم نجس. ولكن يستدل الجمهور على أن نجس المشركين نجس اعتقاد بأنه لو أخذت سبية من العرب، وكانت تلك السبية على دين قومها. فإذا لامسها السيد فهل لامس نجاسة؟ وقد كانوا يضاجعونهن، وكانوا يستمتعون منهن بملك اليمين، ولم يُؤمر أحد منهم أن يغسل ما لامس النجس، فهو على التحقيق نجَس اعتقاد.
وبعضهم يقول: (نجَس) باعتبار الشرع؛ لأنهم كانوا يصيبون الجنابة ولا يغتسلون، فالنجاسة نجاسة معنوية، أو نجاسة حكمية، وليست حقيقة مادية.
والذي يهمنا في هذا أنه لا يُمكَّن غير المسلم من دخول المسجد لغير حاجة.
وهنا قضية محزنة مؤسفة، ففي بعض البلاد أصبحت بعض المساجد متاحف أثرية، فهجرت الصلاة فيها، وأصبح السُّواح يرتادونها على أنها آثار، فهل تدخل في هذا المعنى أم لا؟ الله تعالى أعلم، والواقع أن هذا تقصير من المسلمين.
يتفق العلماء على أن المسلم إذا دخل كنيسة أو بيعة -بخلاف بيت النار؛ لأن بيت النار يعبدون النار فيه- وحانت الصلاة، وأراد أن يصلي فله أن يصلي في تلك الكنيسة ما لم ير نجاسة؛ لأن الأصل في الأشياء الطهارة ما لم تتحقق النجاسة، وهذه قاعدة إسلامية، وعند أهل الكتاب الأصل النجاسة ما لم تتحقق الطهارة.
ولكن إذا كان في الكنيسة تماثيل وصور، كالتي ذكرتها أم سلمة رضي الله تعالى عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تصح الصلاة هناك، لا لكونها كنيسة، ولكن لكونها فيها التماثيل والصور.
ويذكر البخاري رحمه الله في قصة عمر لما ذهب إلى الشام أنه حينما حوصر أهل الشام واشتد الحصار عليهم أرادوا أن ينزلوا على الصلح -وقيل: كان نصفها صلحاً، ونصفها عنوة. وقيل: كلها عنوة. وقيل: كلها صلح- فكتبوا إلى أمير المؤمنين عمر إنا نريد أن ننزل على الصلح، ولكن تكون أنت طرفاً فيه.
فخرج عمر رضي الله تعالى عنه، هو وغلام معه فقط، وكان يتعاقب الركوب مع الغلام، فمرحلة يركب هو ويمشي الغلام، ومرحلة يمشي هو ويركب الغلام، إلى أن اقتربا من دمشق، وكان قميصه مرقعاً، فقالوا: لا يليق بك أن تدخل على الروم بهذا القميص فيقولون: هذا أميركم بهذه الثياب! وهذا قميص تلبسه. فنظر فيه فلم يقبله، وقال: ردوا علي فميصي، قالوا له: تمهل. دعنا نغسله. فغسلوه وردوه عليه، ولما جاء ودخل على الروم عرفوه بشكله وبوضعه فقالوا: والله هو هذا الذي نجده في كتبنا.
وتمت المفاوضة على الصلح، فجاء رجل من ذوي القسطنطين، وقال لـعمر رضي الله تعالى عنه: صنعت لك طعاماً وأريد أن تحضره فحضر، ثم دخل الكنيسة، ثم قال: أريد أن أصلي. فقال: صل مكانك. قال: لو صليت في الكنيسة لانتزعها منكم المسلمون وكان في عهد الصلح ألا تنقض لهم كنيسة، ولا تؤخذ أموالها، ولا يتعرض لصلبانهم، وأحوالهم تبقى على ما هي عليه، واشترط عليهم شروطاً وحقوقاً للمسلمين.
فقال: لو صليت هنا لجاء المسلمون من بعدي وقالوا: هذا مصلى عمر فينتزعونه منكم، فينقضون الصلح، وجاء عند العتبة وصلى.
ثم جاء ابن عمر، وجاء عمر بن عبد العزيز وغيرهما وقالوا: إذا كان فيها التماثيل أو الصور فلا تجوز الصلاة فيها، وإذا كانت خالية من تلك الموانع فلا مانع ما لم توجد فيها نجاسة أو موانع وعوارض أخرى.
وكما ربط ثمامة وهو مشرك ربط أبو لبابة نفسه وهو مسلم، فحين ذهب إلى بني قريظة سألوه عما سيفعل بهم، فأشار بيده إلى حلقه، أي: الذبح، ثم قال لنفسه: والله لقد علمت أني خنت الله ورسوله، فرجع وربط نفسه في سارية المسجد.
فالمسجد: معتقل للأسارى وسجن للمخطئين، فأدى رسالة بجانب المعبد، وبجانب المعهد؛ لأنه على رءوس الأشهاد وتحت أنظارهم، فاتسع نطاق رسالة المسجد إلى خطوة أخرى.
يقول: إن عمر رضي الله عنه مر بالمسجد، وعمر دائماً كان دقيق الملاحظة، فوجد حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه -وهو شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاعر الإسلام- ينشد شعراً، فلحظ إليه، واللحظة من عمر ليست بالهينة، ففهم حسان فواجهه: بأن عليك ألا تلحظ ولا تهتم، وما علي منك، فقد كنت أنشد الشعر فيه -أي: في المسجد- وفيه من هو خير منك. والذي هو خير من عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن لـعمر جواب، والحقُ يسكت.
وما هو الإنشاد الذي كان ينشده حسان في المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إن المؤلف ساق هذا ليبين لنا أن المسجد لا يصلح لإنشاد الشعر، ولكن سيأتي التفصيل في الإنشاد الذي كان ينشده حسان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل هو الوصف والغزل والتشبيب والهجاء، أو هو شعر معين؟!
لقد جاء الأثر بأن حسان رضي الله تعالى عنه قال: ائذن لي -يا رسول الله- بهجوهم -يعني: المشركين-، قال: كيف تهجوهم وأنا منهم؟! قال: أسلك منهم كما تسل الشعرة من العجين، ولا يلحقك من ذلك شيء. قال: اهجهم. فهجاهم، فنصب له كرسياً أو منبراً وقال له: اهجهم، فوالله لوقع كلامك عليهم أشد من وقع السهام في غلس الظلام.
فالسهم لما يأتي في النهار معلوم من أين أتى، أما في الليل فلا يعلم مصدر إتيانه، أمن يمين أو يسار، ولذلك لما تكلم أبو سفيان وهجا الرسول صلى الله عليه وسلم، رد عليه حسان قائلاً:
ألا أبلغ أبا سفيان عني فأنت مجوف نخب هواء
أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء
فمن هو شر الفريقين ومن هو أخيرهم؟ لا شك أن المشرك شر الفريقين، وأن المسلم خير الفريقين، قال حسان :
أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء
لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدره الدلاء
في أبيات عديدة امتدح فيها المسلمين وهجا المشركين، وخرج صلى الله عليه وسلم بقوله: شركما لخيركما الفداء.
وهذا -كما يقول نقاد الأدب- مأخوذ من القرآن، ولهذا القرآن عدّل في شعر الإسلاميين، فقوله: فخيركما لشركما الفداء، مأخوذٌ من قوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24]، وعلى هذا فـحسان رضي الله تعالى عنه كان ينشد الشعر في المسجد النبوي أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم يؤيده ويقول: (اهجهم وروح القدس يؤيدك)، وكان هجاء حسان على المشركين أشد من السهام في ليلة ظلماء.
إذاً فلا نقول: كل شعر ممنوع، ولا نقول: كل شعر جائز، فإذا كان الشعر لخدمة الإسلام والمسلمين -كهذا-، أو أنشد إنسان أبياتاً يظهر فيها ظلامته، أو أنشد شيئاً يمتدح فيه إنساناً فعل خيراً فذلك لا بأس به.
وربما يأتينا إنسان ويقول: ماذا تقولون في قول كعب بن زهير :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلت إلا أغن غضيض الطرف مكحول
أليس هذا غزل في سعاد؟!
يقول نقاد الأدب الإسلاميون: إن افتتاح الشاعر قصيدته بالغزل الرفيع المستوى في غير معين يعتبر من باب التشويق وتوجيه الأذهان إلى الموضوع الأساسي؛ لأن الشاعر انتقل من ذكر سعاد إلى قوله:
نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول
وذكر صفات الناقة، وذكر غير ذلك، وانتهى إلى موضوعه بأنه يلتمس العفو من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هناك الغزل، وهناك النسيب، وهناك التشبيب، فهذه أنواع من أنواع الشعر الغزلي بصفة عامة، أو ما يتعلق بالنساء، فإذا كان الغزل في امرأة غير معينة كسعاد فكلمة (سعاد) عند الشعراء رمز لمجهول، كما يقولون في العصر الحاضر: الجندي المجهول، فهم يأتون بها كوصف لتهييج السامع إلى ما وراءه، فيسهل الانتقال إلى الموضوع المقصود والذهن قد تهيأ لتلقيه، وهو هنا الاعتذار عن تأخره في الإسلام، وأنه مخافة أن يهدر دمه، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأعلن إسلامه، وقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا في الغزل، أما النسيب فهو في امرأة معينة بذاتها بأبيها وجدها، وأما التشبيب: فهو مأخوذ من شب يشب شبوباً وشباباً، تقول: شبت النار: أي: ارتفعت. وتقول: الشباب قوة غريزة وفتوة، فكذلك التشبيب هو إثارة الغرائز بأوصاف خاصة بالنسوة، خاصة في ما تحت الثياب، فهذا محرم وممنوع، وكعب بن الأشرف ما قتل إلا لذهابه إلى مكة يستعدي قريشاً على المسلمين، وتشبيبه ببعض نساء المسلمين.
فالغزل من حيث هو إذا كان لغرض ينتقل منه إلى غرض مباح إسلامي شرعي، وليس فيه النسيب ولا التشبيب فلا غبار عليه، وعلى هذا فإنشاد الشعر في المسجد إن كان لغرض ديني فلا مانع، وإن كان لهوى نفس فممنوع، فـعمر رضي الله تعالى عنه لما وسع المسجد بنى رحبة في الجهة الغربية، وقال: أيها الناس! من أراد الدين والآخرة فعليه بالمسجد لذكر الله، ومن أراد حديث الدنيا فليخرج إلى تلك الرحبة.
وبعض الروايات فيها: من أراد سوق الآخرة فليجلس، ومن أراد سوق الدنيا فليذهب إلى الرحبة. وهذا في الكلام العادي فضلاً عن كونه شعراً.
والشعر من حيث هو جاء فيه الحديث: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً)، وسئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها -وهي التي يذكرها ابن رشيق العزي في عدة الأدب- عن الشعر؟ فقالت: الشعر كلام موزون حسنه حسن، وقبيحه قبيح.
والوزن لا يغير ولا يبدل في المعنى، إنما هو في الصناعة وجرس السمع، فإذا كان الشعر كلاماً حسناً فهو حسن، وهناك شعر الحكمة والمواعظ والتعليم ونظم العلوم، وإن كان نظم العلم ليس بشعر؛ لأنه لا يخاطب الشعور، بل يخاطب العقل، كألفية ابن مالك، والرحبية، والبيقونية، وغيرها، فهذا يسمى نظماً وليس شعراً.
وبالله تعالى التوفيق.
هذا العمل مما ينبغي أن تصان المساجد عنه، فإذا من ينشد دابة -أو حاجته بصفة عامة- في المسجد فقل له: لا ردّها الله عليك.
والله هذا رد عجيب، ولم يقل: أسكتوه. ولم يقل: امنعوه. ولم يقل: أفهموه بأنه لا ينبغي هذا هنا، ولكن: (يدعن عليه: (لا ردّها الله عليك)، فيعامل بنقيض قصده، هو ينشد: من رأى لي دابة، صفتها كذا وكذا، يريد بذلك الحصول عليها، وأن ترد إليه، فيعامل بنقيض قصده، والذي يعلم أنه إذا أنشد ضالته في المسجد ردّ عليه المسلمون بقولهم: (لا ردها الله عليك) هل سيأتي وينشدها في المسجد ليسمع هذا الجواب؟ لا والله وقاس العلماء على الدابة كل ضائعة.
ثم قالوا: وإذا ضاعت الضائعة في المسجد، كإنسان جاء بما يسجد عليه فضاع منه، فبحثت عنه فلم يجده، أو سقطت منه محفظة ماله، أو سقطت ساعته من يده، أو سقط منه شيء كان يحمله، فليس له أن ينشده في المسجد، فأي ضائعة ضلت عليه في المسجد، أو في غير المسجد فهي كذلك، إلا أن بعضهم قال: إن كانت الضالة ضلت عليه في المسجد فلا مانع من إنشادها في المسجد. والآخرون قالوا: لا؛ فإن الحديث لم يخصص: (إذا سمعتم من ينشد ضالةً في المسجد) والضالة: الضائعة؛ لأن الضلال: الضياع والتلاشي وعلى هذا فإن قوله: (ضالته) يشمل كل ضالة، سواء كانت دابة، أم متاعاً، أم سلعة، أم أي شيء قليل أو كثير ضل على صاحبه في المسجد أو في غيره، فلا يجوز له أن ينشده في المسجد.
ثم قالوا: فأين ينشدها والمسجد موضع التجمع؟!
قالوا: يقف على باب المسجد، وعند خروج الناس من الصلاة ينشد ضالته، فيقول: من رأى لي ضالتي أو: ضل علي كذا. فمن رآه؟ فيكون إنشاده للضالة خارج المسجد.
ثم التعليل في الحديث: (فإن المساجد لم تبن لذلك) أي: لم تبن للبحث عن الضوال؛ لأن هذه أمور دنيوية.
ونظير ذلك ما فعله الأعرابي، فقد جاء أعرابي إلى المسجد فأناخ راحلته ودخل المسجد، ثم تنحى جانباً وجلس يبول، فقام الحاضرون ليخرجوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتركوه، ولا تزرموه) وأي: لا تحملوه على قطع البول؛ لأنه يؤذيه، وسيعدد مواضع البول؛ لأنه إذا أراق البول وهو جالس في مكانه انحصر البول في مكان محدود، لكن إذا أزرموه، وقام وهو يبول ستتسع المسافة إلى مقدار كبير، فنهاهم عن ذلك، فلما قضى بوله دعاه، وأمر بذنوب من ماء فأُهريق عليه، والذنوب: الدلو الكبير، وهذا تقدم في مبحث تطهير الأرض من البول بمكاثرة النجاسةَ بالماء. فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا أخا العرب! إن هذه المساجد لم تبن لذلك -كما قال في الأول-، وإنما بنيت لذكر الله وما والاه)، فذكر الله كقول: (لا إله إلا الله)، (أستغفر الله)، (الحمد لله)، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، وكل ما كان فيه ذكر الله، وما والاه حلق العلم، من المدارسة، ومن المذاكرة، ومن الموعظة، فكل ذلك داخل في ذكر الله وما والاه، كما قال تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36].
فالأعرابي لما رأى الفارق الكبير بين جماعة يريدون أن يضربوه ويهيجوه ومن يقول: يا أخا العرب ! إنها لم تبن لذلك، إنها لكذا وكذا قام في الحال، ورفع يديه وقال: اللهم ارحمني وارحم محمداً، ولا ترحم معنا أحداً. فقال صلى الله عليه وسلم: (لقد حجرت واسعاً)، فالله تعالى يقول: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156]، وأنت تريد أن تحصرها عليّ وعليك! والأمة هذه كلها ما مصيرها؟!
ويهمنا قوله: (إن هذه المساجد لم تبن لذلك، إنما هي لذكر الله وما والاه) .
فعلم الذرة والطاقة النووية، وعلم الفضاء، والغوص في المحيطات، والجيولوجيا في بطن الأرض، وكل ذلك حين يكون في يد المسلم، إنما هو خدمة للإسلام؛ لقوله سبحانه: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ [الأنفال:60]. ونقول أيضاً: تلك القوى الفتاكة إذا كانت في يد المسلم فهي كالسيف في يد العاقل، أما إذا كانت في يد الكافر فهي كالسيف في يد الأحمق.
ففي قضية كوبا حصل أنه نصبت روسيا فيها صواريخ، وكان كنيدي هو رئيس الولايات المتحدة، فأنذر إن لم تفكك هذه الصواريخ في ست ساعات فإن الولايات المتحدة على أهبة الاستعداد لاستعمال السلاح بقدر ما في طاقتها لتدميرها، فماذا قال خروشوف -؟ قال: إن هذا شاب متهور قد يفعلها. وبادر بتفكيك تلك الصواريخ من كوبا .
والذي يهمنا قول هذا العسكري في حق الآخر: شاب متهور. فالقوة مهما كانت في أي علم إذا كانت في يد المسلم فهي كالسيف في يد العاقل لا يستعمله إلا في موضعه، وتلك القوة في يد الكافر كالسيف في يد الأحمق لا نأمن فيمن يستعملها.
وهكذا إذا كان أبناؤنا الطلاب في أي حالة من الحالات يدرسون، وفي المساجد أياً كانت، فقد يجدون من الرفقة في المسجد ما لا يجدونه في البيت، وقد تكون في البيت مشاكل وأصوات ومشاغل، لكن في المسجد يوجد الهدوء وتوجد الراحة، وربما كانت مكيفة، وربما كان فيها الماء مبرداً، وقد لا يجد ذلك في بيته.
وقد لاحظنا في عهد قديم قبل تعميم الكهرباء في المدينة أن سبعين إلى تسعين في المائة من العمال في المدينة وفي رمضان يأتون للنوم في المسجد؛ لأنه كان مكيفاً بالمراوح، وكان ألطف مما يوجد في بيوتهم.
فالمساجد تكون مأوى الجميع، وتكون مرفقاً عاماً، فإذا كانت مذاكرتهم لا تشويش فيها ولا تضييق على المصلين، وإذا أقيمت الصلاة قاموا في صفوفهم وصلوا، لا أنهم عند الإقامة يتسربون من الأبواب إلى بيوتهم، وكأنهم لا يعرفون الصلاة، فإذا أتوا إلى المساجد لأداء الصلوات، وجلسوا لمذاكرة دروسهم في هندسة أو رياضيات أو جغرافيا، أو أي شيء فهم كمن يذاكر الفقه والحديث والتوحيد؛ لأن الكل يلتقي على خدمة هذا الدين، وخدمة الإنسان المسلم.
إذاً فإنشاد الضالة في المسجد لا ينبغي؛ لأنها مصلحة خاصة بصاحبها، وفيه تشويش على المسلمين، ولم تبن المساجد لذلك.
والله تعالى أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر