وبعد:
فيقول المؤلف رحمه الله:
[ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء) متفق عليه، زاد مسلم : (في الصلاة) ].
تقدم الكلام على النهي عن الكلام في الصلاة، كما بيناه في سبب نزول قوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238] ، وجاء النص: (فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام) .
والقنوت له معان فوق عشرة، منها السكوت، ومنها الخشوع، ومنها دوام العبادة، ومنها خشية الله، وكل هذه من معاني القنوت.
وأتى المؤلف رحمه الله تعالى في هذا الباب بعدة نصوص لبعض الصور التي قد تطرأ على المصلي فيحتاج إلى أن يتكلم، وهو منهي عن الكلام أثناء الصلاة، فماذا يفعل؟!
فأورد قول النبي صلى الله عليه وسلم: (التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء) ، والمعنى: أن المصلي إذا نابه شيء وأراد أن ينبه عليه، ولا يستطيع أن يقول: يا فلان! احذر كذا، أو يا فلان! افعل كذا، أو إذا كان مأموماً وسها إمامه، فهو لا يستطيع أن يقول: يا إمام! أنت سهوت فتركت ركعة، أو أنت قمت من الركعة الثانية، ولو قال هذا بطلت صلاته؛ لأنه مأمور بالسكوت، منهي عن الكلام، فإن له أن ينبه الإمام بأن يسبح فيقول: سبحان الله.
وكذلك إذا كان إنسان في صلاته، وأمامه إنسان يريد أن يكلمه، فحينما همّ بالانصراف قال: (سبحان الله) فلفت نظره لذلك، فجلس ينتظر ما وراء قوله: سبحان الله.
وفي بعض الحالات قد يضطر الإنسان أن يخرج من الصلاة للضرورة، كإنسان يصلي وطفل أمامه، وأمام الطفل شيء خطير، كنار تلهب، أو كهرباء، أو شيء آخر، وخشي على الطفل أن يهلك، فله أن يخرج من صلاته وينقذ الطفل، وآخرون يقولون: لا. لكن يبقى في صلاته ويسعى ويأخذ الطفل ويبعده، وله أن يسبح ليسمع أحداً قريباً فينتبه لهذا التسبيح، ويدرك الغلام.
فالرجل إذا نابه شيء في صلاته يقول: سبحان الله. وهذا هو (التسبيح) من باب النحت، والتحميد قول: (الحمد لله)، والتهليل: (لا إله إلا الله)، والتكبير: (الله أكبر)، والحوقلة: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، فهذه كلمات نحتت، وهي تدل على جمل كاملة، فالتسبيح للرجال، فإذا نابه شيء قال: (سبحان الله)؛ لينبه غيره، والإمام إذا سمع المأمومين يقولون: (سبحان الله). وكان على شك رجع إلى صوابه وإلى يقينه، واستفاد من قولهم: (سبحان الله).
أما المرأة إذا نابها شيء فلكون صوتها لا ينبغي أن يرتفع، ولا ينبغي أن يسمعه الأجانب فإنها تصفق، ولا تصفق كما تصفق في اللعب، وإنما قالوا: بإصبعين من يمينها على يسراها، وهل ذلك في باطن الكف أم في ظاهره؟
بعضهم يقول: في باطن الكف والغرض من هذا التنبيه، فبإصبعين من كفها الأيمن تضرب كفها الأيسر مرتين أو ثلاثاً أو أكثر حتى تنبه من تريد أن تنبهه.
فنحن نهينا عن الكلام، وأمرنا بالسكوت عندما نزل قوله سبحانه: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238] أي: خاشعين صامتين لا تتكلمون.
فلو أن إنساناً تكلم سهواً أو جهلاً فماذا يكون الحكم؟
الجواب: إن كان ناسياً فلا شيء عليه عند الأكثر؛ لقوله تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا [البقرة:286]، وقوله عليه الصلاة والسلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان).
وإذا تكلم جاهلاً بالحكم فبعضهم يجعل الجهل كالنسيان، وبعضهم يقول: الجاهل لا يعذر؛ لأن هذه أمور تعرف من الدين بالضرورة، ودليل القائل بأن الجاهل كالناسي حديث معاوية بن الحكم لما عطس بجواره رجل، فقال: يرحمك الله.
ولما أنهى صلى الله عليه وسلم صلاته دعاه وقال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التكبير والتسبيح وقراءة القرآن)، فهو قالها جهلاً، ولم يأمره صلى الله عليه وسلم بإعادة صلاته، مع أنه تكلم جاهلاً.
والآخرون يقولون: هذا كان في أول التشريع، وما كان يعلم الجميع حكم هذا، وهو لم يعلم حكم ذلك، وخاصة الذين ذهبوا إلى الحبشة، وكان النهي عن الكلام في الصلاة في مكة قبل الهجرة، وبعد الهجرة علموا بذلك.
فالمؤلف رحمه الله بيّن لنا أن المصلي لا يحق له أن يتكلم، وأنه يلزمه أن يسكت، ثم ذكر عدة نصوص لعدة حالات، وهذا من حسن التأليف.
هذا الصحابي الجليل يروي لنا أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل، أي: القدر الكبير الذي يغلي. والأزيز من أسماء الأصوات، كما تقول: خرير الماء، وتقول: صفير الطيور، وزقزقة العصافير، وصلصلة الجرس، وغليان الماء.
والألفاظ التي فيها تكرار الحروف تدل على حركة، أو على صوت، قالوا: الأزيز هو: صوت يكون داخل الصدر لانفعال الإنسان، ولا يكون باللسان ولا بالهمهمة، إنما يكون لانفعال داخلي في صدر الإنسان، وسبب ذلك هو انفعال نفسي، كأنه يريد البكاء ويحبس بكاءه، فهو صوت في جوف الإنسان وفي صدره.
فهو صوت يعيه السامع، فهل هذا كلام مما نهي عنه، أم أنه خارج عن حد الكلام فلا يبطل الصلاة؟
قالوا: إن البكاء بالعين بدون التلفظ باللسان، والأزيز في الصدر بدون حرف يخرج منه لا يبطل الصلاة، وهي حالة -كما يقولون- روحية تغلب على صاحبها ولا يمكلها، وتتحكم هي فيه، كما جاء في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مروا
فأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كان لها نظر بعيد جداً، وله أثره في الخلافة؛ فقيام أبي بكر رضي الله تعالى عنه إماماً بالناس بدل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في مرضه يدل على أن الذي سيتولى الصلاة بعده هو الذي سينيبه صلى الله عليه وسلم ويستخلفه بعده، وإن لينص عليه، وهذه واحدة.
والثانية: إذا كان لك شخص عزيز كريم في عمل، فسافرت ورجعت ووجدت إنساناً غيره في هذا العمل فحالاً تتساءل بلهفه: أين فلان؟ وتخاف أن يكون وجود فلان هذا كناية عن وفاة الأول، وهذا قام مقامه، فالقلب يتأثر حينما يرى شخصاًآخر يقوم مقام من تعلق قلبه به، فـعائشة رضي الله تعالى عنها حسبت حسابين:
الأول: حسبت أن يحزن الناس حين يرون أبا بكر قام مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا نوع من التشاؤم، وأي مسلم يجد شخصاً في مكان رسول الله يتأثر ويتألم؛ لأنه لا يريد أن يغيب رسول الله عن هذا المقام.
والثاني: أدركت أم المؤمنين عائشة أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر أن يصلي بالناس مقدمة لاستخلافه، ولذلك لما اجتمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم في السقيفة صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر : أيها الحاضرون! هذا أبو عبيدة، وهذا عمر ، فاختاروا من شئتم، وبايعوا له ولا تختلفوا، فقال عمر : سبحان الله! ارتضاك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا بالصلاة، ولا نرتضيك لدنيانا! مد يدك لأبايعك فبايعه، فكان أمره صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر أن يصلي بالناس فيه إشارة إلى أنه هو الذي سيتولى الأمر من بعده.
فإذا كان الأمر كذلك فأم المؤمنين عائشة خافت إذا أمر رسول الله أبا بكر أن يصلي بالناس، أن يقال: هي التي دفعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقدم أباها؟ ولا تسلم من التهمة، وحفصة موجودة، وعائشة موجودة، وهذه بنت عمر وهذه بنت أبي بكر ، فأقل شيء أن يقال: هي التي من وراء هذا، وهي التي سعت، وهي السبب، فلما كان هذا الاتهام وهذا التساؤل محتملاً -وهو خطير حين تتهم أنها هي وراء اختيار أبيها- أعلنت للناس عند رسول الله قولها له: إن أبا بكر رجل أسيف، إذا قام في الصلاة لا يتمالك عينيه من البكاء، فكأنها تقول: لا يصلح لذلك، فإذا حصل ذلك تقول: أنا ليس لي ذنب، كان رأيي من قبل أنه لا يصلح لهذا.
ومن هنا ندرك معنى قوله: (إنكن صواحب يوسف)، فما الذي جاء بصواحب يوسف إلى هنا؟
والجواب: لأنهن أخفين شيئاً وأظهرن شيئاً آخر، وأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصد عائشة وأنها تريد أن تدفع عن نفسها شبهة التهمة بأن لها سبباً في تقديم أبي بكر على غيره.
والشاهد من هذا قول عائشة : (إن أبا بكر رجل أسيف، إذا قام في الصلاة لا يتمالك عينيه من البكاء)، فالبكاء لا يبطل الصلاة، والبكاء والأزيز يكون في حالة الخشوع، وحالة الخوف من الله سبحانه وتعالى، وقد يكون في الصلاة، وقد يكون خارج الصلاة، وهي منح يمنحها الله سبحانه وتعالى للمؤمن الصادق، ومن علامات ليلة القدر رقة القلب،كما قالت عائشة : ألا تجد في نفسك أحياناً رقة القلب ودمعة العين؟ فذاك إذا صافحك جبريل، فأحياناً الإنسان يحس برقة قلبه، وتدمع عينه ولا يعرف السبب، وقد يكون عقب قراءة آية، أو عقب تأمل في موقف، غير ذلك، وقد يكون لمجرد انطلاقه بروحه في عالم ملكوت المولى سبحانه، فيجد عالماً بعيداً يرقق قلبه، ويدر دمعته.
فالإنسان قد يعرض له ما يرقق طبعه، ويزيد قوة روحه، فتحصل له هذه الحالة، فقد يبكي ويفرج عن نفسه، وقد يكتم البكاء، قال ابن تيمية رحمه الله: القوي الذي يكظم ذلك، ويقدر على نفسه، بخلاف هؤلاء الذين يصيحون ويصرعون، ويقولون: المخلص المكثر من العبادات قد يحدث له حالة صرع وغيبوبة مع الله سبحانه وتعالى، ولكن هذا لضعفه، وقوي الشخصية هو الذي يتحمل هذه النفحة، ويتحمل هذا الانفعال، ويتماسك.
فأزيز صدره صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة لشدة خشوعه بين يدي الله، ولذة مناجاته لله، فإذا حصل مثل هذا للإنسان وهو في صلاته لا يبطلها، والله تعالى أعلم.
قوله: كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدخلان، أي: إذا جئته وهو في حجرة عائشة واستأذنته للدخول، فكان له مدخلان، فعند مدخل يقول: ادخل، إذا لم يكن في الصلاة، وعند مدخل يتنحنح إذا كان في الصلاة، ولا يمكن أن يقول: ادخل، فقد أمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام، وبعض الناس يمثل النحنحة بصفارة الإنذار، فالتنحنح صوت يخرج من الحلق بدون حروف أو كلمات، فإذا تنحنح المصلي، لم ينطق بكلمة، وإنما أسمع صوتاً أخرجه من الحلق، فكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا تنحنح يعرف علي رضي الله تعالى عنه أنه في الصلاة، فيعلم أن الرسول أذن له بالدخول.
والتنحنح في الصلاة لا يبطلها، ولو كان يبطلها ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يقول: هذا في النافلة، أما في الفريضة فلا؛ لأن النحنحة ربما تخرج حرفاً دون قصد، مثل: (أح أح) فيخرج الهمزة والحاء، فقالوا: لا يجوز التنحنح في الفريضة، وقالوا: كان علي رضي الله تعالى عنه لا يذهب يستأذن على رسول الله إلا وهو في بيته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في بيته النافلة، ولو كان في المسجد لم يستأذن عليه علي؛ فإن المسجد بيت الله، وكل الناس يدخلون المسجد بلا استئذان، كما جاء عن الحسن رضي الله تعالى عنه أنه قال: (إذا أردت أن تدخل على ربك بلا استئذان، وتخاطبه بلا ترجمان، فأسبغ وضوءك، واستقبل القبلة، وقم في محرابك، وكبر للصلاة)، فعندما تدخل المسجد تقول: باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنبي، وافتح لي أبواب رحمتك. وتدخل وتقوم في محرابك، وتخاطب ربك بلا ترجمان، وكم في الصف الواحد من ألسنة متعددة؟ وكلهم يناجي ربه بلسانه!
فحديث علي رضي الله تعالى عنه يدل أن هذا الاستئذان كان في البيت، وهو يصلي النافلة، وهل يجوز ذلك في الفريضة أم لا؟
قيل: في الفريضة لا، والحاجة لا تدعو إلى ذلك في الفريضة، ولكن تدعو إلى ذلك في النافلة في البيت.
ولو قدر أن مريضاً أو خائفاً أو غيرهما ممن تصح له الصلاة في بيته، كان يصلي فرضه فاستأذن عليه إنسان، فهل يتنحنح في الفريضة كما تنحنح رسول الله صلى الله عليه وسلم في النافلة؟
الذين يفرقون بينهما يقولون: النافلة يغفر فيها ما لا يغفر في الفريضة، بدليل أن المسافر يتنفل على راحلته، ويومئ حيث ما توجهت به، بخلاف الفريضة فلابد أن ينزل إلى الأرض ويركع ويسجد وهو على الأرض، ويكون مستقبل القبلة، ففرق بين الفريضة وبين النافلة، والله تعالى أعلم.
في قوله: كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليكم السلام؟ قال: (يقول هكذا وبسط كفه). اختلف أهل العلم:
هل بسطه كان إلى الأعلى، أم بغير ذلك؟
فبعضهم يقول: يقبض أصابعه ويمد السبابة، وبعضهم يقول: يمد الكف كاملاً، وهو دليل على جواز رد السلام بالإشارة.
ويقول بعض العلماء: هذا الرد كان قبل النهي عن الكلام؛ لأن الرد بالإشارة كالكلام، فكأنك تتكلم. والآخرون يقولون: إن الحركة باليد ليست كلاماً، والنهي عن الكلام في الصلاة المراد به كلام الناس في الصلاة.
وقالوا: هذه الحركة كانت قبل الهجرة، وقبل أن يسافروا ويهاجروا إلى الحبشة، فقد جاءت الأخبار بأن بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا في مكة يسلمون على المصلين ويردون عليهم السلام، وهذا يدخل في عموم قول الراوي: (كان أحدنا يحدث صاحبه بحاجته وهو في الصلاة، حتى نزل قوله سبحانه: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام).
قالوا: قوله: نهينا عن الكلام، أي: بعد الهجرة في المدينة، وكان تكليم بعضهم لبعض في مكة قبل الهجرة إلى المدينة، فكانوا يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، ويرد عليهم السلام بالقول؛ لأنهم لم ينهوا عن الكلام في الصلاة، فهاجر بعض الصحابة إلى الحبشة، فلما رجع أحدهم من الحبشة قبل الهجرة إلى المدينة دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فسلم عليه فلم يرد عليه، قال: فجمعت الماضي والحاضر -يعني: أخذت أفكر في تاريخي الإسلامي وفيما مضى وفي حاضري- فظن أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يرد عليه سخطة عليه، وما علم أنهم قد نهوا عن الكلام، فاشتد الحال عليه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد عليه، ولما سلم النبي صلى الله عليه وسلم وفرغ من الصلاة رد عليه السلام، وقال له: (إن في الصلاة لشغلاً)، يعني: كنت مشغولاً بصلاتي عن أن أرد عليك السلام.
فاستدلوا بحديث: (إن في الصلاة لشغلاً)، بأن من سُلم عليه وهو في الفريضة لا يرد، وإذا أنهى صلاته رد السلام على من سلم عليه، أما في النافلة فيبسط اليد.
وبعضهم يقول: إن النهي عن الكلام وقع في مكة أيضاً؛ لأنه في بعض روايات الرواية المتقدمة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رد السلام بعد الصلاة، قال له الصحابي: ماذا حدث يا رسول الله؟ قال: (إن الله يحدث من أمره ما شاء، وقد أحدث من أمره أنه نهانا عن الكلام في الصلاة)، ومن هنا وقع الخلاف بين العلماء في مسألة من سلم عليه وهو يصلي، ففي هذا الحديث أنه كان يبسط كفه، وفي الحديث الآخر: (إن في الصلاة لشغلاً)، ورد على المسلِّم بعد أن فرغ من صلاته، فجمعوا بين الحديثين وقالوا: حديث: (إن في الصلاة لشغلاً) يحمل على ما إذا كانت فريضة، فلا يرد ولا يبسط كفه، وإذا فرغ من صلاته رد السلام على من سلم عليه، وإذا كان في نافلة رد بالإشارة وبسط كفه لمن سلم عليه، والله تعالى أعلم.
حديث أمامة بنت زينب -كما يقول ابن دقيق العيد - فيه إشكالات، وأمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو جدها، وأبوها أبو العاص بن الربيع زوج زينب، وهو ابن أخت خديجة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخديجة هي التي خطبت زينب لابن أختها، فتزوج ابن خالته.
وكان صلى الله عليه وسلم يحب أمامة حباً جماً، حتى إنه أتى بقلادة فقال: (لأعطينها لأحب أهلي إلي) فقالوا: لمن يعطيها؟ فقال بعضهم: مَنْ غير الصديقة بنت الصديق؟ فإذا به صلى الله عليه وسلم يدعو بـأمامة فألبسها إياها.
وفي هذا الحديث أنها تعلقت به صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فمتى كان هذا، وفي أي صلاة؟
أكثر الروايات على أنها في صلاة الظهر أو العصر في المدينة، وبعض الناس يقول: كان هذا قبل الهجرة عند إباحة الكلام وإباحة الحركة. لكن واقع التاريخ يرده؛ فـزينب رضي الله تعالى عنها أُسر زوجها أبو العاص يوم بدر، ولما جاء فكاك الأسارى، أرسلت زينب رضي الله عنها بقلادة لها لتفدي زوجها، وتلك القلادة كانت لـخديجة رضي الله تعالى عنها، وقد أهدتها إليها ليلة زواجها بابن أختها، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك القلادة ذكرته بـخديجة ، وأخذته العاطفة، فقال لأصحابه: (إن رأيتم أن تردوا إليها قلادتها وأسيرها فعلتم)، فقال: (إن رأيتم)، ولم يلزم؛ لأن الأسارى حق للمقاتلين، وهو صلى الله عليه وسلم لا يبطل حقاً لحق آخر، وقد روي أن العباس لما أخذ أسيراً يوم بدر قال الأنصار: ائذن لنا -يا رسول الله- أن نفكه بلا فداء. فقال: (لا؛ والله، ولا درهماً واحداً)، وقد كان قادراً على أن يدفع الفداء.
فرد المسلمون لـزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلادتها، وأطلقوا العاص بن الربيع ، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرسل إليَّ ابنتي
فـزينب ما جاءت بـأمامة معها إلا بعد الهجرة.
فهذا العمل كان بعد النهي عن الكلام، وبعد أن منعت الحركة في الصلاة، فكيف يحمل طفلة معه؟ وكيف تحرك هذه الحركات؟
ثم من ناحية أخرى تلك طفلة ليست بالغة، وليست في حد التمييز، فكيف حملها مع أنه لا يؤمن أن يحدث منها شيء ينزل على رسول الله وهو يصلي؟ فالإشكالات متعددة.
فمن العلماء من يقول: إن هذا الأمر قد نسخ بالأمر بالسكوت والنهي عن الكلام.
لكن قيل: كيف ينسخ قبل أن يقع؟ لأنه وقع في المدينة، وقيل: إن هذا من خصوصياته صلى الله عليه وسلم، فالله أعلمه أن أمامة لن تحدث شيئاً حتى تنتهي الصلاة، لكن قال قوم آخرون: الخصوصيات تحتاج إلى دليل.
وأشكل على الشافعية وغيرهم الحركة إذا سجد، وإذا قام وهو حاملها، والحركات المتوالية تبطل الصلاة، فعندهم ثلاث حركات متواليات تبطل الصلاة، فأجاب بعضهم بأن أمامة كانت تتعلق هي برسول الله صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنها جاءته وهو ساجد، فلما أراد القيام تعلقت به وهو لم يحملها، فلما أراد أن يسجد وضعها، فكانت منه حركة واحدة في كل ركعة.
وأجيب عن ذلك بأنه جاء في رواية: (كنا ننتظر النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة، فخرج علينا حاملاً أمامة بنت زينب ، فصف وصففنا وراءه وصلى بنا)، فهي لم تتعلق به، بل هو الذي أتى يحملها معه من البيت، فهو الذي يضعها، وهو الذي يحملها.
وقال بعض العلماء: هذه حالة لضرورة، إذ لم يجد من يكفيه مؤنة حفظها ورعايتها في البيت، وهو جدها وولي أمرها، فاضطر أن يحافظ عليها، فحملها معه وأتى بهذه الحركات، والضرورة مبيحة للمحظور.
يقول ابن دقيق العيد رحمه الله: كل ذلك يمكن أن يرد، وليس لنا إلا التسليم لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلو كان واحد منا عنده طفلة فهل هي كـأمامة بنت زينب ؟ أي: هل له أن يعاملها معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لـأمامة بنت زينب ؟
وهل فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بها أو بغيرها مرة أخرى؟
الجواب أنه حدث مع الحسن والحسين في البيت، فقد سجد صلى الله عليه وسلم وجاء الحسن وامتطى ظهره، وانتظر صلى الله عليه وسلم ساجداً حتى نزل، فقالوا: ما هذا يا رسول الله؟! قال: (إن ابني قد ارتحلني -يعني: اعتبرني راحلة له- فكرهت أن أعجله عن حاجته) ، لكن في الفريضة لم يأت هذا.
وأما هل جاء عن أبي بكر، أو عمر، أو عثمان، أو علي، أو عن أحد من أ صحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعل مثل ذلك فأنا لم أقف على شيء من هذا.
فلم يبق عندنا إلا وجه واحد، وهو أنه من كان معه طفل، وكانت هناك حاجة ماسة لحمله، واقتضت الضرورة أن يحفظه، ولو تركه لذهب يميناً ويساراً، وربما خرج من باب المسجد إلى الشوارع وهي مليئة بالسيارات فحينئذ له أن يحمله في صلاته.
وقد قال بعض العلماء: ورد النهي عن استصحاب الصغار إلى المساجد، فكيف جاء بـأمامة بنفسه؟
قالوا: نعم، ينبغي أن تصان المساجد عن الصبيان والمجانين، فلا تأتي وتترك الصبي يلعب في المسجد.
ولقد شاهدنا أطفالاً صغاراً لا يعرفون شيئاً، وأهلهم يأتون بهم ويتركونهم، فيجعلون المسجد ملعباً.
فيمنع الأطفال من اللعب في المساجد، أما إذا جاء رجل ولزم طفله فلا مانع، لكن أن يأتي به ويتركه يعبث بالمصاحف، أو يلعب، أو يؤذي الآخرين، أو يصيح ويبكي، فهذا يمنع.
وعلى هذا لو أن الإنسان كان في حالة اضطرار، وليس عنده في البيت أحد، وعنده ولد وليس عنده من يرعاه، فإن تركه وأغلق الباب خاف عليه أن يحدث شيئاً، فله أن يأخذه معه إلى المسجد.
وإذا جاء إلى المسجد فهو أمام أحد أمرين، إما أن يقبضه بيده، وإما أن يتركه عرضة للخطر.
فنقول له: عامله كمعاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لـأمامة.
بقيت مسألة الاحتراز من نجاسة الطفل، فبعضهم قال: إن من خصوصيته صلى الله عليه وسلم أن الله أعلمه بأنها لن تحدث شيئاً، ولن تفسد صلاته.
وبعضهم يقول: إن ثياب الأطفال محمولة على الطهارة ما لم تشاهد فيها النجاسة.
وبعضهم قال: كان من عادة أهل المدينة أن ينظفوا الأطفال في أوقات معينة، فلعله حمل أمامة بعد تنظيفها، وقد ذكروا أشياء كلها للاحتراز من أن يوجد شيء يعارض الصلاة.
والواجب على الأم وعلى الأب، وعلى كل من يصحب طفلاً معه إلى المسجد أن يحتاط مع هذا الطفل فيما لو أحدث شيئاً، حتى لا يلوث المسجد، فالطفل ليس بعاقل، وليس له تمييز، فقد يحدث منه ما يحدث، فينجس المسجد، أو ينجس ملابس الأم فيفسد عليها صلاتها، فإذا ألبسه الحافظة وأدله المسجد للضرورة فلا بأس.
وقد عقدت لجان لمعالجة هذه القضية، حتى إنه في بعض الاجتماعات اقترح مدير الشرطة أن تجعل استراحات على أبواب المساجد، فكل أم تجيء بطفلها تضعه في الاستراحة، وبعد أن تنتهي من الصلاة تأخذ طفلها وتذهب.
ولكن أي أم ستترك طفلها في الاستراحة؟ وأي أم ستضمن راحة ولدها فيها؟ ، فكان هذا حلاً غير عملي.
ولكن الحل العملي هو ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة أمامة بنت زينب.
وقد يقال: لماذا نسبها الراوي إلى أمها فقال: أمامة بنت زينب ، ولماذا لم ينسبها إلى أبيها؟
والجواب: ذلك لبيان عاطفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، فـأمامة هي بنت زينب بنت رسول الله فهو جدها، وهو مسئول عنها، أما لو قال: أمامة بنت أبي العاص فإنه سيقال: من هو أبو العاص ؟ فيطول الشرح حتى نعلم أنها بنت زينب بنت رسول الله ، فاختصاراً قال: بنت زينب.
ومن النسبة إلى الأم ما تذكره كتب الأدب أن محمد بن الحنفية والحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما كانا أخوان لأب، فأبوهما علي ، ومحمد أمه من بني حنيفة، والحسن أمه فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ، فذكروا أنهما خرجا إلى السوق، وكان بينهما ما قد يقع بين الإخوان في الأسواق، فرجعا متغاضبين، وذهب كل إلى بيته، فإذا بـمحمد رضي الله تعالى عنه يأخذ قصاصة من الورق ويكتب فيها: (من محمد بن الحنفية -ولم يقل: ابن علي- إلى الحسن بن فاطمة بنت رسول الله -وانظر إلى هذا! فقد أبرز نسب الحسن إلى رسول الله تكريماً للحسن ، وليبني عليه ما يأتي بعده- قال: أما بعد: فقد علمت ما كان بيني وبينك، ولقد هممت أن آتيك إلى بيتك لأستسمحك وأسترضيك، ولكن كرهت أن يكون لي فضل السبق عليك وأنت ابن بنت رسول الله -يعني: أنا ابن الحنفية ، أبي وأبوك واحد، لكن أمينا مختلفتان، فلا ينبغي أن يكون لي فضل عليك- قال: فإذا وصلك كتابي فخذ عليك ثيابك، وشد نعليك، وائتني في البيت؛ ليكون لك الفضل عليّ.
فانظر كيف كانوا يؤثرون على أنفسهم حتى في مكارم الأخلاق! وهكذا أبرز نسبة الحسن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق فاطمة.
جاء المؤلف رحمه الله تعالى بهذا الحديث لبيان شروط الصلاة، فمن شروط الصلاة ستر العورة واستقبال القبلة، وفي حديث أمامة حصلت حركات من حملها، ولكنها حركات لا تبطل الصلاة.
وأما الكلام في الصلاة فخلاصة ما يقوله الفقهاء أنه ينقسم إلى قسمين: كلام لصحتها، وكلام لا علاقة له بصحتها، قالوا: إن الكلام لصحة الصلاة مع الإمام جائز في بعض الأحوال، كما جاء في سهوه صلى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين عندما قال: (أصدق
وهذه الجملة المناطقة الآن يبنون عليها قواعدهم، فقوله: (كل ذلك) يقولون فيه: هذه صورة كلية، وجاء النفي فيكون النفي للجميع، يعني: ما قَصرت ولا نسيت، ونقيضها -كما يقولون- الجزئية الموجبة، فقوله: (بعض ذلك قد كان)، يعني: بعض ذلك حصل. فالتفت إلى الصحابة وقال: (أصدق
فحصل كلام من ذي اليدين ، وكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكلام من المصلين، فتوجه صلى الله عليه وسلم إلى القبلة، وأتى بالركعتين، ثم أتى بسجود السهو، وتمت الصلاة.
قالوا: إذا كان في مثل هذه الصورة فلا يبطل الصلاة، والحركة إذا كانت لمصلحة الصلاة لا تبطلها، وجاء في الحديث: (أفضل خطوة يخطوها المسلم أن يخطو إلى الصف أمامه ليتمه)، فإذا وجدت فرجة أمامك فاخط خطوة إلى الصف، وسد الفرجة التي فيه.
وهنا قال: (اقتلوا الأسودين: الحية والعقرب)، وقتل الحية والعقرب لابد له -قطعاً- من الحركات، ولو كانا مقيدين فستأخذ آلة تضربها بها، فأخذك الآلة وضربك إياها حركة، مع أنها إذا شعرت بك لن تستلم لك، بل ستهرب يميناً ويساراً، وتتبعها حتى تقتلها، وأنت في الصلاة، فترجع إلى موقعك.
فهذه الحركات لمصلحة الصلاة؛ لأنك لا تستطيع أن تصلي والحية جوارك، فمن مصلحتك ومصلحة الصلاة أن تقتلها.
وقالوا أيضاً: لو أن الإنسان في صلاة، ورأى الأسد مقبلاً عليه، فله أن يشرد، ولكن أين ذهب فالأسد سيسبقه، فقالوا: إذا وجد شجرة صعد عليها، وهو في كل ذلك لا يتكلم، ويكمل صلاته فوق الشجرة إيماءً.
ولو كان عدوك جاءك وأنت تصلي وقد سل سيفه ليقتلك، فلك أن تسل سيفك وتسايفه وأنت تصلي، وهكذا لو كنت تصلي فجاء إنسان وخطف متاعك، فلا تستسلم وتقول: أنا أصلي فسأدعه يذهب لا، بل اتبعه واجر وراءه حيثما سار، وبعد أن تأخذ متاعك أكمل صلاتك في مكانك هناك، ولا حاجة أن ترجع إلى المكان الأول؛ لأنه يكون عملاً زائداً على مصلحة الصلاة.
فهنا يأمرنا صلى الله عليه وسلم أن نقتل الحية والعقرب في الصلاة، وقتل الحية والعقرب يستلزم الحركة، والله تعالى أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر