هذان الوقتان من عدة أوقات نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها، وهي سبعة أوقات:
الوقت الأول: ما بين الأذان والإقامة في صلاة الفجر، فلا يجوز للإنسان أن ينشئ صلاة من ذلك الوقت إلا ركعتي سنة الفجر، فلو أن إنساناً دخل المسجد بعد أذان الفجر، فإنه يصلي ركعتين سنة الصبح، ولا يحق له بعد صلاة هاتين الركعتين أن ينشئ تطوعاً حتى لو كان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي الصلاة فيه بألف صلاة، حتى ولو كان الإمام سيؤخر الإقامة مدة طويلة، فلا يقل أحد: أصلي ركعتين ركعتين إلى أن تقام الصلاة، فإن ذلك لا يجوز.
إذاً: الوقت الأول من أوقات النهي: ما بين الأذان والإقامة في الفجر إلا ركعتي الفجر أي: سنة الصبح.
الوقت الثاني: بعد الفراغ من صلاة الصبح إلى أول طلوع الشمس، فلا يصلي في هذا الوقت نافلة، إلا من فاتته سنة الفجر؛ فمن دخل المسجد والإمام يصلي الفجر، فإنه يدخل مع الإمام في الصلاة، ولا يفعل كما يفعل بعض الناس، فإن البعض إذا دخل والإمام يصلي أخذ وصلى سنة الصبح، ثم يدرك الإمام في الفريضة، وهذا هو ما يقول به بعض المذاهب، ويقولون: يجوز ذلك حتى لو فاتته ركعة أو جزء من الركعة الثانية، وهذا مخالف للسنة، فإذا دخل والإمام في الصلاة فإنه يدخل معه في الفريضة، وبعد أن يسلم الإمام يصلي السنة قبل أن تطلع الشمس.
فمن لم يصل سنة الصبح صلاها إن شاء بعد الصلاة قبل طلوع الشمس، وإن شاء أخرها إلى بعد طلوع الشمس.
إذاً: الوقت الثاني بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس إلا سنة الفجر لمن لم يدركها قبل الصلاة.
الوقت الثالث: حينما يبدو طرف الشمس الأعلى عند الشروق، فيمسك عن الصلاة حتى يكتمل القرص ويرتفع قدر رمح.
بمعنى: أنك ترى قرص الشمس مرتفعاً عن وجه الأرض بمقدار رمح، فيكون بين قرص الشمس والأرض قدر الرمح، وهو بمقدار قامة إنسان تقريباً، فإذا طلعت الشمس وارتفعت عن وجه الأرض قدر رمح فقد زالت الكراهة.
الوقت الرابع: حينما تستوي الشمس في كبد السماء حتى تزول، وبعضهم يقول: إلا يوم الجمعة، فإنه تجوز الصلاة في هذا الوقت، سواء كانت الفريضة أو النافلة، والفريضة على رأي الجمهور لا تصح إلا بعد تحقق الزوال، وقد حقق الإمام مالك رحمه الله ذلك في الموطأ بما لا مزيد عليه، ولكنهم أجازوا صلاة تحية المسجد للقادم يوم الجمعة سواء قبل أن يصعد الإمام أو بعد أن يصعد على المنبر ليخطب، فإذا دخل المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين، فإذا دخل عند استواء الشمس في كبد السماء يوم الجمعة فله أن يصلي، وأما عدا يوم الجمعة فلا.
الوقت الخامس: بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس.
الوقت السادس: عند تضيف الشمس للغروب، ونزول قرنها الأدنى عن النظر، فينتظر حتى يتكامل غروب قرص الشمس.
الوقت السابع: لمن كان جالساً في المسجد يوم الجمعة، وجاء الإمام وصعد المنبر، فتمنع الصلاة حينئذٍ على من كان جالساً قبل صعود الإمام، أما القادم من الخارج بعد صعود الإمام أثناء الخطبة؛ فإن الأئمة الثلاثة يجيزون له الصلاة ومالك رحمه الله يكره له ذلك.
والأمر دائر بين ترجيح الإصغاء والإنصات للخطيب أو الاشتغال بصلاة تحية المسجد، وقد جاء في النص أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب فرأى رجلاً دخل فجلس، فقطع الخطبة وقال له: (أصليت ركعتين؟ قال: لا، قال: قم، فاركعهما، وتجوز فيهما) أي: اركعهما أداء لحق المسجد، وتجوز فيهما حتى لا تفوتك الخطبة.
فهذه هي الأوقات السبعة المنهي عن الصلاة فيها، ولكن أشدها نهياً وأوضحها هو ما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، وعند الغروب، وما بعد صلاة الصبح إلى شروق الشمس وأثناء الشروق، وكذلك حينما تكون الشمس في كبد السماء.
ففي الحديث الأول قال: (لا) وهي نافية، (صلاة) وهي نكرة عامة تشمل جميع الصلوات (بعد العصر) وهذا خاص في الزمن، فهذا الحديث عام في الصلوات، وخاص في الزمن أي: فيما بين العصر إلى الغروب.
وفي الحديث الثاني -وكلاهما صحيح ثابت كالجبل- قال: (إذا أتى أحدكم المسجد) وقوله: (أتى) عام في الزمن، (فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)، وهذا خاص في الصلاة، ولذا يقول العلماء: بين الحديثين عموم وخصوص من وجه، فما كان عاماً في الحديث الأول كان خاصاً في الثاني، وما كان عاماً في الثاني كان خاصاً في الأول، وهذه من أدق المواضيع، وأرجو أن ييسرها الله سبحانه وتعالى.
والقاعدة عند علماء الحديث: لو جاء حديث عام من وجه، وجاء حديث خاص؛ حملنا الخاص على العام، وخصصناه بهذا الحديث المخصص له، كما جاء قوله: (أن في أربعين شاة شاة) مطلق، وجاء أن في سائمة الغنم الزكاة، وسائمة وصف خاص، فنقيد الإطلاق في قوله: (في أربعين شاة شاة) بالسوم الموجود في الحديث الثاني، فأصبح المعنى: في أربعين شاة سائمة زكاة، فهنا حديث عام وحديث خاص، فحملنا العام على الخاص، وخصصناه بما جاء في الحديث الثاني، وبهذا تجتمع النصوص.
وهنا حديث: (لا صلاة بعد العصر)، الصلاة عامة، والوقت خاص، وإذا جئنا إلى حديث تحية المسجد فالوقت عام، فهل نخصص عموم الوقت في الإتيان إلى المسجد بخصوصه بعد الصلاة؟ فنقول: إذا أتى أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين إلا بعد العصر، فنكون قد خصصنا عموم الإتيان في الزمن بخصوص الوقت في الحديث الآخر، ويكون هذا جمعاً صحيحاً.
لكن من العلماء من يقول: (لا صلاة بعد العصر) إلا تحية المسجد، ويأتي بالخصوص في تحية المسجد، ويخصص به عموم النكرة في قوله: (لا صلاة).
إذاً: كل من الحديثين مخصص للثاني، وكل منهما قابل عمومه للتخصيص بالمخصص الذي في الآخر، ولكن أي الحديثين نخصص به الآخر؟ هذا هو محل النزاع.
يقول ابن دقيق العيد رحمه الله: إذا لم يمكن تخصيص عموم أحدهما بخصوص الآخر، فليس أحدهما أولى من الآخر، فينبغي أن نطلب مخصصاً من الخارج، قال: فرجح الجمهور تخصيص الصلاة وأنها ممنوعة بعد العصر بحديث آخر، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)، قالوا: فجانب النهي أقوى وألزم في الالتزام به من جانب الأمر، فقوله: (لا صلاة بعد العصر) نهي، وقوله: (إذا أتى أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)، مضمونه الأمر بالصلاة، فإذا تعارض الأمر والنهي قدم النهي، والأمر بتحية المسجد سنة بالإجماع، والنهي أقل ما يكون فيه الكراهية إن لم يكن التحريم، فلأن نجتنب مكروهاً خير من أن نفعل مندوباً.
ومن هنا رجح ابن دقيق العيد أن حديث: (لا صلاة بعد العصر) عام في الصلوات كلها حتى تحية المسجد، ولا يخص من الصلوات إلا إذا جاء مخصص بصلاة معينة، كحديث: (من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها حين يذكرها)، فلو أن رجلاً صلى العصر، وقبل أن تغرب الشمس تذكر أنه لم يصل الظهر، فعليه أن يصليها حين ذكرها، ويخص من النهي أيضاً الصلاة على الجنازة وصلاة ركعتي الطواف، وقد جاء في الحديث: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار)، فقوله صلى الله عليه وسلم: (أية ساعة) مراعاة للنهي عن الصلاة بعد العصر، فكأنه يقول: في أية ساعة ولو من الساعات المنهي عن الصلاة فيها.
فحديث: (لا صلاة بعد العصر) يعم كل صلاة بعد العصر، فأخذ الجمهور بعمومه إلا ما خصه الدليل.
والشافعي رحمه الله خصص النهي بالصلاة المطلقة التي ليس لها سبب شرعي، أما الجمهور فعمموا قوله: (لا صلاة بعد العصر) مطلقاً، وعمر رضي الله تعالى عنه ثبت عنه أنه رأى رجلاً يصلي بعد العصر في المسجد النبوي، فضربه وقال: أتصلي بعد العصر؟!
وهناك من يقول: تجوز الصلاة ذات السبب بعد العصر إذا لم يتحر اصفرار الشمس، لحديث ابن عمر : (لا تحروا اصفرار الشمس بالصلاة)، فإذا صلى بعد العصر في أول الوقت صلاة ذات سبب فذلك جائز؛ لأن الشمس ما زالت حية بيضاء نقية.
ومعنى الصلاة ذات السبب: أي: سبب موافق في الزمن، أو سبب سابق، أو سبب لاحق، فالسبب السابق هو دخول المسجد، فهو سابق عن الصلاة، والسبب اللاحق هو الصلاة قبل الإحرام بالعمرة أو الحج؛ لأنك تصلي ثم تحرم، والسبب الملازم الموافق هو صلاة الكسوف؛ لأن صلاة الكسوف تكون وقت كسوفها، لا يتقدمها ولا يتأخرها، وعند الشافعية: أن صلاة ذوات الأسباب المقارنة والسابقة تجوز وقت النهي، أما ذات السبب اللاحق فلا تؤدى وقت النهي، ولهذا لا يصلون سنة الإحرام وقت النهي؛ لأن الإحرام يأتي بعدها، والله تعالى أعلم.
هذا الحديث مع أحاديث الباب تعتبر من باب تعارض الحديث، وللعلماء فيها مذاهب شتى، والنصان اللذان سمعناهما نستفيد منهما أن الأوقات المنهي عنها متفاوته في الكراهية.
وقوله: (ثلاث ساعات كان صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر موتانا) أول ساعة من هذه الساعات الثلاث هي: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، ثم: حين يقوم قائم الظهيرة.
وقيام قائم الظهيرة هو عند استواء الشمس في كبد السماء، وكما يقول علماء الهندسة: تكون في زاوية قائمة، أي: ليست حادة ولا منفرجة، وقد جاء في بعض النصوص أنه حينما تكون الشمس متعامدة على رأسك كالرمح، أي تنزل أشعة الشمس مستقيمة من السماء إلى الأرض.
وقوله: (حتى تزول عن كبد السماء): معرفة زوالها لا نستطيع تحديده بالنظر إلى الشمس بذاتها، ولكن بالنظر إلى الظل؛ لأن الظل معاكس لوجود الشمس، فحينما تكون الشمس في المشرق يكون الظل إلى المغرب، وحينما تتحول الشمس من كبد السماء من نقطة الصفر إلى الغرب يتحول الظل إلى الشرق، فنحن نعرف متى تزول الشمس عن كبد السماء ومتى لا تزول بالنظر إلى الظل في الأرض.
وقوله: (وحين تتضيف الشمس للغروب) أي: حتى تغرب.
هذه الأوقات الثلاثة هي من الأوقات السبعة المنهي عن الصلاة فيها؛ ولكنها تميزت عن بقية الأوقات بالنهي عن الصلاة مع إضافة النهي عن قبر الموتى، ولهذا كانت هذه الأوقات الثلاثة أخص وأشد من غيرها.
أما وقت ابتداء ظهور حاجب الشمس، أي: قرص الشمس الأعلى، إلى أن يكتمل ظهور قرص الشمس على وجه الأرض، ويرتفع عن سطح الأرض قدر رمح، وهو قدر قامة الإنسان تقريباً؛ فهذا الوقت يتفق الجميع بدون استثناء أنه لا تصح الصلاة فيه إلا وقت الضرورة الذي تقدم في حديث: (من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح)، فهو سيصلي الركعة الثانية أثناء طلوع قرص الشمس حتى ترتفع، وهذا هو الوقت الذي نهينا عن الصلاة فيه؛ لكن الصلاة في هذه الحالة ليست ابتداء ولا مستقلة، وإنما هي تابعة لدخوله في الصلاة قبل أن يبدأ قرص الشمس بالظهور.
وذكر ابن عبد البر عن بعض الفقهاء أنه يمنع من صلاة الصبح في ذلك الوقت، لكن يحمل هذا المنع على ما إذا بدأ الصلاة عند ظهور قرص الشمس، أما إذا بدأ الصلاة قبل أن يظهر قرص الشمس فإنه يكمل صلاته، ولا يضره أن تطلع عليه الشمس وهو في الصلاة.
أما الصلاة المطلقة عند بزوغ الشمس أو تضيفها للغروب، فلا يجوز باتفاق الجميع أن ينشئ صلاة في تلك الحالة إلا إذا كان سيصلي الصبح الفائتة أو العصر الفائتة.
إذاً: مالك رحمه الله يوافق الجمهور في عدم استحبابها، ولكنه يخالفهم في عدم منعه منها، ويستدل المالكية لقول مالك بحديث التبكير إلى الجمعة، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: (وصلى ما تيسر له حتى يخرج الإمام)، قالوا: والإمام لا يصعد المنبر إلا بعد دخول وقت الجمعة، ووقت الجمعة لا يكون إلا بعد زوال الشمس، فالقادم سيصلي حينما تكون الشمس في كبد السماء.
والجمهور يقولون: نعم، في يوم الجمعة نوافق المالكية، فننهى عن الصلاة عندما يقوم قائم الظهيرة ما عدا يوم الجمعة؛ لأنه جاء عنه صلى الله عليه وسلم أن القادم يقدم فيصلي يوم الجمعة حتى يخرج الإمام، ودليله حديث: (وصلى ما تيسر له)، قالوا: فيوم الجمعة مخصوص من بقية الأيام، ومالك يقول: ما دمتم خصصتم يوم الجمعة فبقية الأيام سواء.
إذاً: الأوقات الثلاثة فيها وقتان يتفق الجمهور على أنه لا صلاة فيهما إلا في تلك الحالة الضرورية لمن أدرك من الصبح ركعة وسيتم الصلاة عند ظهور الشمس، أو من أدرك من العصر ركعة وسيتم العصر عند غروب الشمس، وما عدا ذلك فلا.
بقي حينما تكون الشمس في كبد السماء، فـمالك لا يمنع ولا يحب، والجمهور يوافقون مالكاً في يوم الجمعة خاصة؛ ويخالفونه فيما عداها.
ويروى عن مالك أنه قال: لم أزل أرى أهل العلم في بلادنا يصلون وقت الزوال، ويحمل هذا على ما جاءت به النصوص الأخرى بأنه في يوم الجمعة فقط.
ولكن مالكاً رحمه الله يرى أنه من طاف بعد صلاة الصبح فلا يصلي ركعتي الطواف حتى تطلع الشمس، ومن طاف بعد العصر فيؤخر ركعتي الطواف إلى ما بعد غروب الشمس، والجمهور يجوزون ركعتي الطواف بعد الصبح وبعد العصر وعند الشروق وعند الغروب وعند قيام قائم الظهيرة، وبعض هذه الأوقات قصيرة وضيقة، لكن الإشكال في الأوقات الطويلة الواسعة.
فلو افترضنا أن إنساناً دخل المسجد فوجد لوحتين مكتوب في إحداهما: لا تجلس حتى تصلي، وفي الأخرى: لا صلاة بعد العصر، فإذا جاء في الضحى فإنه يعمل باللوحة الأولى التي فيها: لا تجلس حتى تصلي ركعتين، وهل اللوحة الثانية تعترضه؟ لا تعترضه؛ لأنه دخل وقت الضحى، والنهي إنما هو عن الصلاة بعد العصر، لا عن الصلاة وقت الضحى، فوجد الطلب يتوجه إليه بألا تجلس حتى تصلي ركعتين، فالطلب متوجه إليه بدون معارض، وكذلك الأمر لو دخل بعد الظهر قبل صلاة العصر، أو دخل بعد المغرب، أو دخل بعد العشاء، فسيجد طلب تحية المسجد قائماً، ولا يجد ما يعارضه.
لكن لو دخل بعد العصر، فسيجد اللوحة الأولى تطالبه بألا يجلس حتى يصلي؛ لأن قوله: (إذا أتى أحدكم..) مطلق في كل وقت، فيشمل بعد الظهر وبعد المغرب وبعد العصر، وسيجد اللوحة الثانية: (لا صلاة بعد العصر)، أي: حتى تغرب الشمس، وقوله: (لا صلاة)، يشمل كل صلاة حتى تحية المسجد، فماذا يفعل؟
هل يأخذ بحديث: (إذا أتى أحدكم..)؛ لأنه يشمل صلاة تحية المسجد في كل الأوقات حتى بعد العصر، أو يعمل باللوحة الثانية التي فيها: (لا صلاة بعد العصر)، أي: حتى صلاة تحية المسجد.
والجمهور يقولون: لا نصلي بعد العصر أي صلاة سواء كانت بسبب أو بغير سبب.
لعلنا الآن نستطيع أن نفهم وجه تعارض الحديثين، فحديث: (لا صلاة بعد العصر) يشمل جميع الصلوات، فلا تصلى تحية المسجد بعد العصر، وهذا على رأي الجمهور أن جميع الصلوات لا تصلى بعد العصر؛ لأن قوله: (لا صلاة بعد العصر) نكرة عامة تشمل جميع الصلوات، فقالوا: جميع الصلوات منهي عنها بعد العصر.
و الشافعي قال: لا، فقوله: (لا صلاة) يستثنى منه ذوات الأسباب مثل تحية المسجد، لقوله: (إذا أتى أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)، فـالشافعي يقول: الركعتان مستثنيتان من عموم النهي عن الصلاة بعد العصر، والجمهور يقولون: عموم النهي عن الصلاة بعد العصر لا يستثنى منه تحية المسجد.
فمذهب الشافعي أن تحية المسجد تصلى بعد العصر؛ لأنها ذات سبب، فيكون خصص عموم النهي بتحية المسجد، فقال: أستثني وأخص تحية المسجد من عموم قوله: (لا صلاة) والجمهور قالوا: لا، نحن نخصص عموم قوله: (إذا أتى)، فإن الإتيان عام في جميع الأوقات، لكن نخصص من ذلك صلاة تحية المسجد بعد العصر، فتصلى في كل وقت إلا بعد العصر.
نكرر ذلك فنقول: الشافعي يقول: أنا أخصص عموم الصلاة بتحية المسجد، فأصليها بعد العصر، وأنتم تقولون: لا صلاة بعد العصر، فأقول لكم: استثنوا تحية المسجد بعد العصر، والجمهور يقولون للشافعي : لا، نحن لا نستثني تحية المسجد من عموم النهي عن الصلاة بعد العصر، فننهى عن تحية المسجد بعد العصر، وإذا كان الأمر كذلك ودخل رجلان المسجد بعد العصر، فأحدهما مثلاً أخذ بمذهب الشافعي ، فصلى تحية المسجد، والثاني على مذهب الجمهور فترك صلاة تحية المسجد، فسيقول له الذي صلى: لماذا لم تصل؟ والذي لم يصل سيقول له: وأنت لم صليت؟
فكل منهما عنده حديث فيه عموم وخصوص، فمن تابع الجمهور سيقول: أنا أخصص عموم الوقت ببعد العصر، فحديث: (إذا أتى أحدكم) عام في كل وقت، ولكن نخرج منه بعد العصر؛ للنهي عن الصلاة بعد العصر، والثاني سيقول له: يا أخي! قوله: (لا صلاة) عام في كل الصلوات، لكن أنا أخصص عموم الصلاة بذوات الأسباب، فكل منهما له وجه، ولا نستطيع أن نحكم على واحد منهما أنه صاحب الحق؛ لأن هذا يقول: أنا أخصص الوقت، وهذا يقول: أنا أخصص عموم الصلاة، فكل منهما له وجه، ولا يحق لهما أن يتخاصما؛ لأنهما متساويان في الحجة، فكل منهما يخصص عموم ما عند الآخر بخصوص ما عنده، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فماذا نفعل؟
فالشافعية قالوا: حديث: (لا صلاة بعد العصر) لم يبق على عمومه، فقد خرجت منه بعض الأشياء، فمن نام عن الصلاة أو نسيها، ثم تذكر الصلاة الفائتة بعد العصر فإنه يصليها بعد العصر، فحديث: (لا صلاة بعد العصر) يستثنى منه صلاة قضاء الفائتة عند الجميع، فهذا العموم بعد أن كان مائة في المائة أصبح تسعين في المائة، وإذا طاف بالبيت بعد العصر ثم أراد أن يصلي، فالجمهور يسمحون له أن يصلي ركعتي الطواف، وهذا أيضاً يضعف العموم، فكأن العموم حزمة تراخت قليلاً.
فقال الشافعية: إذا كان عمومكم أخذ يخرج منه بعض الأفراد، فنحن أيضاً نخرج ذات السبب، فيكون النهي متوجهاً للصلاة التي لا سبب لها، فلو أن إنساناً صلى العصر وجلس في مصلاه، وبعد أن صلى العصر قام ليصلي فنقول له: لا تصل؛ لأنها صلاة لا سبب لها، ونوافقكم في النهي عن تلك الصلاة؛ لأنها لا سبب لها، لكن التي لها سبب، والإنسان يطالب بأدائها، فنحن نخرجها من عموم الوقت المنهي عن الصلاة فيه، كما أخرجتم أنتم بعض الصلوات الداخلة في عموم قوله: (لا صلاة) قال الجمهور: تلك الصلوات التي خرجت من العموم خرجت بنص مستقل، وما خرج بنص مستقل لا يعترض به على العموم؛ لأن قضاء الصلاة لمن نام عنها أو نسيها قد جاءت مشروعيته في حديث: (من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها حين يذكرها)، فهذا النص أخرجها من العموم، وكذلك سنة ركعتي الطواف خرجت بنص مستقل.
وقد قال الشوكاني في بحث هذه القضية: إذا خرج بعض أفراد العام من عمومه فإنه لا يقدح عمومه، فهذا عام، ولكن أخرّجنا منه البعض بنص، فيبقى الباقي على عمومه، فلو قلت لشخص: هؤلاء عشرة أشخاص، فأعط كل واحد منهم درهماً يوم السبت، ثم جئته يوم الجمعة وقلت: لا تعط فلاناً وفلاناً، فمن العموم المتقدم تعطي كل واحد من الثمانية الباقين درهماً درهماً، فهل بقي لهم حق في الدرهم أو خرجوا من العموم؟
بقي لهم حق، ولفظ العموم باق عليهم، فهم داخلون في العموم المتقدم، ولذا يقول الشوكاني : خروج بعض أفراد العام لا يقدح في عمومه؛ لأن حكم العموم يبقى لمن بقي بعد الخاص الذي أخرج.
الشافعي رحمه الله يقول: إن ذوات الأسباب ليست داخلة في النهي، والآخرون يقولون: إنها داخلة مع غيرها، ولا نخرج من هذا العموم إلا ما أخرجه نص مستقل.
ثم لا يزال التعارض قائماً؛ لأنه لو خرج بعض الأفراد وبقي العام على عمومه، فالباقي من العموم متعارض مع عموم الأمر بتحية المسجد، فنطلب دليلاً خارجياً لا من عند الشافعية، ولا من عند الجمهور، وهو القاعدة المشهورة عند الأصوليين: إذا تعارض أمر ونهي فإنه يقدم النهي.
وابن عبد البر أتى بدليل عجيب قوى به حجة الجمهور، وهو قوله تعالى في صوم رمضان: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184] فالأيام الأخر هذه هي ثلاثمائة وثلاثون يوماً، وهي ما عدا شهر رمضان، لكن جاء النهي عن صوم يومي العيدين، فهل يجوز لإنسان أن يصوم يوم العيد لقضاء رمضان؟ لا يجوز، فإن قيل: أليس يوم العيد داخلاً في الأيام الأخر؟
نقول: يوما العيدين هما من ضمن الأيام الأخر، لكن جاء النهي عن صومهما خاصة، فهنا قدم النهي على الأمر؛ لأن الأمر هنا هو القضاء في عدة من أيام أخر، ولكن ثبت النهي عن صوم يومي العيد، وهما من ضمن الأيام الأخر، فنقدم جانب النهي، ولا نقول: العيدان من الأيام الأخر، فيصح فيهما القضاء! ولكن نقول: الأيام الأخر عامة، والعيدان من ضمنها، ولكنهما خرجا بنص خاص يحرم صومهما.
قالوا: إذا كان الأمر دائراً بين جانب يطلب فعلاً وجانب ينهى عن فعل، فأي الجانبين نقدم؟ وأيهما أقوى في الطاعة والامتثال؟ القاعدة العامة عند العقلاء أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وكذلك المنهي عنه شرعاً مقدم على المأمور به شرعاً، خاصة إذا كان المأمور به ليس فرضاً واجباً، ولا فرضاً كفائياً كصلاة الجنازة، وقد جاء في الحديث الصحيح: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه) ولم يقل: فاجتنبوه ما استطعتم؛ لأن الترك ليس فيه استطاعة أو عدم استطاعة، فهو أمر سلبي، بل اتركوه كله.
إذاً: جانب النهي أقوى في المعادلة من جانب الطلب، خاصة إذا لم يكن فرضاً عينياً ولا كفائياً، وتحية المسجد هل هي فرض أو نافلة؟
نافلة بإجماع المسلمين، حتى ابن حزم نص على ذلك، ومن قال بوجوبها فقد أوجب ست صلوات! والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة).
ثم إننا نجد في السنة حديثاً فيه: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب)، وفي نص آخر: (لا تحروا غروب الشمس بالصلاة)، ولا تحروا أصلها: لا تتحروا، فإذا أخذنا هذا النص؛ وربطناه بحديث: (ثلاث ساعات كان ينهانا عن الصلاة فيهن)، فالوقتان عند غروب الشمس وشروقها داخلان في عموم النهي، وهما أخص الأوقات الثلاثة لقوله: (لا تحروا)، فهل يكون النهي لخصوص بعد العصر أو لخصوص غروب الشمس وشروقها؟
لخصوص الغروب والشروق؛ لأنه جاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الساعات الفاضلة للصلاة، والأوقات الممنوع من الصلاة فيها فقال: (إذا كان ثلث الليل الآخر فصل، فإن الصلاة مشهودة حتى تصلي الصبح، ثم أمسك عن الصلاة حتى تشرق الشمس، ثم صل فإن الصلاة مشهودة حتى تستوي الشمس في كبد السماء، ثم أمسك حتى تزول، ثم صل فإن الصلاة مشهودة إلى بعد العصر)، وفي رواية: (إلى أن تتضيف الشمس إلى الغروب)... إلى آخر الحديث.
وكان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه إذا سئل عن الصلاة بعد العصر يقول: أنا لا أنهى عن الصلاة مخافة من قوله سبحانه: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى [العلق:9-10]، ويقول: أنا لا أنهى أحداً صلى في أية ساعة، ولكن لا تحروا بالصلاة طلوع الشمس أو غروبها.
وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه القول الفصل في ذلك، فإنه رأى زيد بن خالد يصلي بعد العصر، فضربه بالمقرعة وهو في الصلاة، فلما أنهى صلاته قال: لماذا تضربني يا أمير المؤمنين؟! فقال: أتصلي بعد العصر؟ فقال: نعم، أصلي ركعتين، ولن أتركهما، فاضرب كما تريد! فقال: يا زيد ! إني لم أضرب عليهما إلا أني خشيت أن يتمادى الناس بالصلاة بعد العصر إلى أن تغرب الشمس، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تحروا بالصلاة غروب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان)، وبين علة أخرى للنهي بقوله عليه الصلاة والسلام: (فإن قوماً يسجدون لها في ذلك الوقت)، وكره أن يشابه المسلم الكافرين بالصلاة في ذلك الوقت، ومن مقاصد الشرع مخالفتهم.
إذاً: عمر كان يضرب عن الصلاة بعد العصر سداً للذريعة، حتى لا يصلي أحد عند الغروب.
واستدلوا بما أسلفنا، وبصلاة النبي عليه الصلاة والسلام بعد العصر ركعتين، وكان قد شغل عن ركعتي سنة الظهر بسبب وفد عبد القيس، ثم داوم عليهما، فكانتا قضاءً في أول الأمر، وبعد ذلك لم يصلهما قضاء.
وقد قيل: إن هذا خاص برسول الله؛ لأنه كان صلى الله عليه وسلم إذا فعل فعلاً داوم عليه، فهذا من خصوصياته، وقد قالت له أم سلمة : (أفنقضيهما إن فاتتا؟ فقال: لا)، وهو إذا فعل شيئاً ثم نهى عنه فإنه من خصوصياته، كما جاء في الوصال في الصوم، فإنه نهاهم عن الوصال فقالوا: إنك تواصل، فقال: (لست كهيئتكم)، ثم واصل بهم إلى يومين، وفي اليوم الثالث رءوا الهلال وقال: (لو لم نر الهلال لزدتكم)، قال الراوي: كالمنكل بهم؛ لأنهم ما امتثلوا في أول الأمر.
وعلى هذا قالوا: صلى النبي عليه الصلاة والسلام الركعتين قضاء، ثم داوم عليهما بعد ذلك، وهذا من خصوصياته صلى الله عليه وسلم، فكان إذا بدأ عبادة داوم عليها، فنقول للشافعية: ليس لكم حق في قياس ذوات الأسباب في الوقت المنهي عنه بصلاة النبي عليه الصلاة والسلام بعد العصر؛ لأن صلاته في ذلك الوقت من خصوصياته.
واستدلوا أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي بعد الصبح، فقال له: (ألم تصل الصبح معنا؟ قال: بلى يا رسول الله! ولكني لم أكن صليت ركعتي سنة الصبح فصليتهما الآن، فسكت عنه)، والنبي عليه الصلاة والسلام إذا سكت عن فعل فقد رضيه، فأجاز قضاء سنة الفجر، وهما ذاتا سبب، قالوا: فنحن كذلك نصلي ذات السبب بعد الصبح، فأجاب الجمهور بقولهم: هذه قضية عين ونخصها بعينها، ونقول: كل من فاتته سنة الصبح فهو بالخيار: إن شاء صلاها بعد الصبح، وإن شاء أخرها إلى ما بعد طلوع الشمس، ولا نقيس عليها غيرها كتحية المسجد وما شاكلها.
أيها الإخوة: هذه المسألة طويلة الذيل، وكثيرة التفريع، وابن عبد البر في الاستذكار أطال النقل والكلام فيها إلى حد بعيد، ثم جاء أخيراً بقضية الصوم ويوم العيد في خاتمة البحث، ورجح ما ذهب إليه الجمهور أنه لا صلاة شاملة عامة في جميع أنواع الصلوات إلا ما أخرجه الدليل، والدليل أخرج ما يلي:
ركعتا الطواف في مكة، وقضاء الفوائت، وكذلك صلاة الجنازة بلا خلاف، وقالوا: تجوز صلاة الجنازة عند قيام قائم الظهيرة، وعند الغروب، وعند الشروق إذا خيف على الجنازة أن تتغير، فحينئذٍ يجوز الدفن في ذلك الوقت، مراعاة لكرامة الإنسان، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأرجو من الله أن تكون هذه المسألة قد ظهرت لكم ولو بقدر خمسين في المائة، ونحن راضون فيها بهذا، وغيرها من المسائل نريد ظهورها لكم تسعين في المائة، لكن هذه المسألة يكفينا منكم خمسين في المائة.
[ والحكم الثاني عند الشافعي من حديث أبي هريرة بسند ضعيف وزاد: (إلا يوم الجمعة)، وكذا لـأبي داود عن أبي قتادة نحوه ].
يوم الجمعة استثناه الجمهور من عموم النهي عن الصلاة عند قائم الظهيرة، لا عند الشروق ولا عند الغروب، وأما مالك فإنه عمم جواز الصلاة عند قائم الظهيرة في غير الجمعة مع أنه يكره ذلك فقال: لا أمنع ولا أكره.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر