ثم أما بعد:
فلا زلنا في باب الغسل وحكم الجنب، وقد وصلنا إلى قول المؤلف:
[ وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت: (يا رسول الله ! إني امرأة أشد شعر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة؟ - وفي رواية: والحيضة - قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات) رواه مسلم ].
أتى المؤلف رحمه الله تعالى بحديث أم سلمة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم قائلة: (إني امرأة أشد شعر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ -وفي رواية: والحيضة؟- فقال لها صلى الله عليه وسلم: لا، يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات)، وهذا الحديث موضوعه في نقض المرأة شعرها إذا كان مشدوداً، وشد الشعر يكون بظفره ظفائر، وسيكون الكلام هنا على حكم نقض ظفائر الشعر عند غسل المرأة من الجنابة والحيض، وبهذا الحديث يستدل من يقول: إن المرأة لا تنقض شعر رأسها للغسل سواء كان للجنابة أو كان للحيض، ولكن الجمهور على المغايرة بين غسل المرأة ونقض شعرها للجنابة وغسلها للحيضة، وفي الجملة تقدم لنا في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها في صفة غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أجمع حديث في غسل النبي صلى الله عليه وسلم حيث قالت: (فيدخل أصابعه في أصول الشعر)، والنبي صلى الله عليه وسلم أدخل أصابعه في شعر الرأس إمعاناً وتأكداً من وصول الماء إلى أصول الشعر، فإذا كان الشعر بذاته مظفراً فهل يصل إليه الماء أو لا يصل؟
ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات) أنه يكتفى بذلك سواء دخل الماء خلال الشعر أو لم يدخل، وكما يقولون: إن الشعر غضروفي لا يمنع دخول الماء، ولكن الماء يمر عليه بملامسته، وكذلك ريش الطير، فحينئذ يقول البعض: إن المرأة لا تنقض شعر رأسها، ولكن وجدنا في حديث آخر لأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها في الحج حينما حاضت قال لها: (لا عليك، انقضي شعرك - وفي بعض الروايات: وامتشطي - واغتسلي، وقولي: حجة في عمرة)، وكان غسل عائشة رضي الله عنها وهي محرمة، وهذا الغسل ليس لرفع حدث الحيضة، أما الحيضة فلم تطهر منها إلا بعد النزول من عرفات، فكونه يأمرها وهي حائض أن تفك ظفر شعرها، فلأن يكون فك ظفر الشعر لرفع حدث الحيضة من باب أولى، وقد جاء في بعض الروايات في غسل الحائض: أنها تنقض شعرها، وفرق بعض الفقهاء بين الغسل للجنابة والغسل للحيضة؛ لأن الجنابة أهون أو أخف من حدث الحيضة، وحدث الجنابة يتكرر، أما حدث الحيضة ففي الشهر مرة، فلو كلفت المرأة بنقض شعرها عند كل جنابة لكان في ذلك مشقة عليها، أما نقضها لشعرها عند غسل الحيضة فلا يكون إلا في الشهر مرة، وهذا لا مشقة فيه، وهذا هو خلاصة القول في ذلك.
وقد جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يأمر النساء بنقض شعرهن إذا اغتسلن من الجنابة ومن الحيض، فبلغ ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فعابت عليه ذلك وانتقدته كما سيأتي.
وأما أقوال العلماء في حكم نقض المرأة شعرها عند غسل الجنابة والحيض:
فالجمهور على التفرقة بين غسل الحيض وغسل الجنابة، وأنها لا تنقضه من الجنابة، وتنقضه للحيض، وجاء في بعض الروايات -في صفة الغسل للجنابة- أنها تجمعه بين كفيها، وتضغطه بيدها ليتخلل الماء داخل الشعر، وقال مالك رحمه الله: إن كانت الظفيرة مشدودة شداً قوياً تمنع تخلل الماء داخل الشعر فإنها تفكها، سواء كان ذلك في جنابة أو كان في حيضة.
وهل الرجل يلحق بالمرأة إن كان له ظفائر؟
قيل: إنه يلحق، وإن كان النص لم يأت فيه، ويوجد خلاف في قياسه على المرأة، وفي بعض البوادي بعض الرجال يطيل شعره ويظفره كما تظفره المرأة، فيكون حكمه وحكم المرأة في هذا سواء.
والقول الثاني في حكم ظفائر المرأة أنها لا تفكه كما سيأتي في حديث عائشة الأخير، وهناك من يقول: تفكه فيهما كما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وهناك من يفرق بين الجنابة وبين الحيضة، وهناك من يفرق بين شدة الظفر وقوته وبين سهولته وليونته، وهذا حاصل ما جاء في هذه المسألة.
حديث أم سلمة السابق في كيفية الغسل، وماذا تفعل المرأة في شعرها؟ وحديث عائشة هذا من أحكام الجنابة، وكان من حقه أن يكون مع حديث المنع من قراءة القرآن ونحوه، ونص الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر خرج على الناس، وكانت البيوت المجاورة للمسجد مفتحة أبوابها إلى المسجد، وطريقهم إلى بيوتهم من المسجد دخولاً وخروجاً، فأمر بتحول هذه الأبواب عن المسجد.
ولما أراد عمر أن يوسع المسجد، أراد أن يشتري من العباس داره فامتنع وقال: إنها دار أقطعنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أبيعها، فألح عليه عمر؛ لأن المسجد ضاق على المسلمين، ولا سبيل إلى التوسعة من المشرق، وأما جهة المغرب ففيها حجرات أم المؤمنين، وقال له عمر : إن بعتني أعوضك عنها الثمن التي تريد، أو أعطيك أرضاً أينما تريد، وأبني لك داراً فيها كيفما تريد، قال: لا، لا أعطيكها أبداً، وأخيراً قال: سآخذها، قال: لأنك أمير المؤمنين؟ لن تأخذها! قال: اختر من شئت نحتكم إليه، فاختاروا أبي بن كعب، وتحاكما إليه، وذكرلهما قصة بناء بيت المقدس، وأن الله أوحى إلى نبيه داود: أن ابن لي بيتاً، قال: يارب ! وأين أبنيه لك؟ قال: حيث ترى الفارس المعلم شاهراً سيفه، فأرسل الله له ملكاً في صورة فارس شاهراً السيف واقفاً في حوش، فضرب داود عليه السلام صاحب الحوش بيده وقال له: ثامني على حوشك، قال: اشتر، قال: بمائة ألف، قال: بعتك، ثم قال: يا نبي الله! أستنصحك: الثمن خير أم الأرض؟ قال: لا، الأرض خير، قال: أقلني. قال: أقلتك، قال: مائتي ألف، قال: بعتك، ثم قال: أستنصحك، الأرض خير أم الثمن؟ قال: الأرض، قال: أقلني، قال: أقلتك، قال: ثلاثمائة، وهكذا خمس مرات حتى وصل الثمن إلى خمسمائة، ثم قال له نبي الله داود: سل ما شئت أقدمه إليك؛ لأني أريد أن أبني فيه بيتاً لله، قال: أو تفعل؟ قال: نعم، قال: تملأ علي بيتي نعماً؛ إبلاً وبقراً وغنماً، فنادى نبي الله داود في بني إسرائيل: أن املئوا له بيته إبلاً وبقراً وغنماً، ولما جاء الليل ذهبوا إليه في بيته يهددونه، فلما أصبح قال: يا نبي الله ! أبيعاً أم غصباً؟ قال: بل بيعاً، وسأله: ما الذي حصل؟ قال: إن بني إسرائيل جاءوني وهددوني بكذا وكذا، قال: لا، بيعاً ورضاً، فقال: يا عمر أتأخذه غصباً من العباس ؟ قال: لا آخذه غصباً، ولكن يتخير العوض الذي يريده، قال: لا أريد، قال: إذاً انتهينا، فعندما خرج عمر استوقفه العباس وقال: انتهيت؟ قال: نعم، قال: لا سبيل لك علي، قال: نعم، قال: إذاً: البيت تبرعاً مني لمسجد رسول الله وللمسلمين عامة، قال: ولماذا من قبل؟ قال: في الأول كنت تأتي بسلطانك وسلطتك، فامتنعت عليك، والآن بالرضا وبالطيبة أنا أقدمه للمسلمين توسعة للمسجد.
ودار العباس كانت بالجهة الغربية، وكذلك دار أبي بكر رضي الله عنه، وكان في الجهة الشمالية بعض حجر زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحجر أخرى لأناس، وقد كانت أبواب تلك البيوت المبنية حول المسجد كلها مشرعة إلى المسجد، وكان طريق أهلها إلى بيوتهم من المسجد، ففي آخر الأمر نادى صلى الله عليه وسلم -كما جاء في رواية عائشة - بأعلى صوته: (حولوا هذه الأبواب عن المسجد)، ومن الغد لم يحصل شيء، وانتظروا لعله يأتي تغيير لهذا الأمر أو تأتي رخصة، ثم من الغد وقف ونادى بأعلى صوته، ولم يفعل أحد شيئاً، وفي اليوم الثالث قال: (حولوا هذه الأبواب عن المسجد، فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب -ثم استثنى- إلا باب
وحد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المؤشر عليه بالتاج الأخضر المقابل لمجلسنا الآن: هذا حد مسجد النبي، وبعد عودته صلى الله عليه وسلم من غزوة خيبر، قال صلى الله عليه وسلم: (حولوا هذه الأبواب عن المسجد، فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب)، والعلة أنه عندما تكون البيوت مشرعة أبوابها إلى المسجد، والبيوت فيها الجنب والحائض فيمرون من المسجد للوصول إلى بيوتهم، فلما تتحول تلك الأبواب إلى الخارج يستقلون عن المسجد، وتكون البيوت بأبوابها خارجة عن المسجد، إلا بيت أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وقال بعضهم: كان بيت عمر وبيت عثمان وبيت العباس كلها مشرعة إلى المسجد، فكلها تحولت، وبقيت خوخة أبي بكر.
وبعضهم قال: هذا من التنبيه ولفت الأنظار إلى مكانة أبي بكر وقوة ارتباطه برسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: (إني لا أحل) معناها: أن المسجد حرام على الحائض وعلى الجنب.
قوله سبحانه: وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ [النساء:43] قالوا: هذا في السفر، وقوم قالوا: هذا في الصلاة، فالجنب والحائض يمكن أن يكونا عابري سبيل، وبعضهم يقول: ليس على الاختيار لكن عند الاضطرار، فلو أن امراة حائضاً أفزعت ولم تجد ملجأً إلا المسجد، فلا بأس أن تدخل المسجد فراراً من الفزع، أو تريد أن تأخذ ماء من المسجد؛ لأن المسجد فيه بئر، ولا تجد ماء قريباً منها إلا في المسجد؛ فلا بأس أن تعبر وتأخذ الماء وتخرج، فهذا عبور سبيل، وكذا الجنب كأن يكون نائماً واحتلم فيعبر حتى يخرج.
وعلى كل: فإنهم أجمعوا على أن الجنب والحائض لا يمكثان في المسجد، فلا يأتي أحدهما يقول: أريد أن أستريح أو أستظل أو أن أنتظر فلاناً، لا، أما مجرد العبور فلا مانع، وقد جاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـعائشة : (ناوليني الخمرة من المسجد)وابن دقيق العيد يقول: وجاءت رواية: (من المسجد ناوليني الخمرة) وبينهما فرق: لأنه إذا قال لها: ناوليني الخمرة من المسجد -والخمرة: هي التي تشبه السجادة التي نصلي عليها- تكون (من) لانتهاء الغاية، قالت: (أنا حائض، قال: حيضتك ليست في يدك)، إذاً: هي ستدخل المسجد وتأخذ الخمرة وتأتي بها إليه، ويكون هو عند هذا القول في بيتها، وهذا يقتضي أنها ستدخل المسجد وهي حائض، ولكن لا تمكث فيه، بل مجرد عبور سبيل، أما الرواية الثانية: قال لها: (من المسجد) (من) هنا لابتداء الغاية، فحينما قال لها ذلك كان هو في المسجد، (قال لها من المسجد: ناوليني الخمرة) كان هو في المسجد كانت هي في بيتها، فتأتي بالخمرة، وهو عند باب الحجرة، والحجرة مشرعة على المسجد، فيكون هو في المسجد وهي في حجرتها، ويتناول منها الخمرة.
وجاء عن إحدى زوجاته صلى الله عليه وسلم قالت: (كانت إحدانا تكون حائضاً، فتقوم فتأخذ الخمرة وتفرشها في المسجد لرسول الله)، وهذا نص صحيح صريح بأن الحائض تدخل المسجد. قالوا: والجنب لا يمكث في المسجد على حدثه، لكن كونه يمر مروراً للحاجة فلا مانع من ذلك، وقد كره بعض الفقهاء أن يتخذ المسجد طريقاً؛ لأنه امتهان للمسجد، ومرورٌ به دون أن يؤدي تحية المسجد؛ لأنه عابر سبيل.
إذاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (إني لا أحل المسجد)، هذا عام في جميع المساجد، (أل) للجنس، سواء كان في مسجده صلى الله عليه وسلم أو غيره، فالحكم لجميع المساجد، فلحرمتها لا ينبغي للجنب ولا للحائض أن يمكثا فيها، أما للضروريات فلها أحكام تخصها، والله تعالى أعلم.
عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد - وفي بعض الروايات: من الجنابة -وتختلف أيدينا فيه) أي: في هذا الإناء، والحديث له تتمة تتعلق بفك ظفر الشعر،وقولها في نفس هذا الحديث: (وإني أشد شعر رأسي وأغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، تختلف فيه أيدينا، ولا أزيد ثلاث حفنات على شعري)، وكأنها تقول: ولا أنقض شعري ورسول الله صلى الله عليه وسلم يراني، وهذا الحديث قالته جواباً على ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فقد بلغها أن ابن عمر كان يأمر النساء أن ينقضن ظفائر شعورهن في غسل الجنابة وغسل الحيض، فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن! يأمر النسوة أن ينقضن شعرهن عند الغسل، أفلا يأمرهن بحلق رءوسهن؟! وهذا نوع من التأنيب على الفتوى على غير ما يراه الإنسان، ثم جاءت بالخبر وقالت: (كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد -يعني: وهو يراها- وكنت أشد شعري، ولا أزيد على أن أصب على رأسي ثلاث حثيات) فذكرت شد شعرها، وأنها لا تزيد على ثلاث حثيات، وذكرت أنها تغتسل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، ومقتضى ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاز ذلك العمل لها، وهو غسلها ظافرة شعرها ولم تنقضه، واكتفاؤها بثلاث حثيات.
إذاً: أتانا أثر عن عائشة رضي الله عنها في عدم نقض الشعر المظفر، ووجدنا أثراً لـابن عمر أنه كان يأمر النسوة أن ينقضن شعر رءوسهن، فوجدنا القولين مختلفين، فبأيهما نأخذ؟
جاء عنه صلى الله عليه وسلم -في بعض الروايات- أنه أمر النسوة أن ينقضن شعرهن لغسل الحيضة، وقد جمع صاحب المنتقى فيه آثاراً كثيرة، وكذلك ابن عبد البر في الاستذكار أورد آثاراً عديدة، والجمهور يفرقون بين غسل الجنابة وغسل المرأة من الحيضة، فيوجبون نقض شعرها من غسل الحيضة دون غسل الجنابة، وأما الإمام مالك رحمه الله فقال: ننظر إن كان شد الشعر شديداً يمنع وصول الماء إليه فتفكه، وإن كان شد شعر الرأس ليناً يسمح بوصول الماء فلا حاجة إلى نقضه.
أولاً: جواز اغتسال الزوجين معاً في وقت واحد.
ثانياً: صحة اغتسال الرجل بفضل المرأة والعكس، وقد تقدم معنا في باب المياه نهي النبي صلى الله عليه وسلم الرجل عن الاغتسال بفضل المرأة، ونهي المرأة أن تغتسل بفضل الرجل، ووجدنا البحث هناك إذا خلت به لغسل حيضة أو إذا خلت به لغسل جنابة، أما إذا كانا معاً كما في هذا الحديث فلا بأس؛ ولهذا يقول ابن دقيق العيد: النهي هناك إذا خلت به فلا يستعمله الرجل بعدها، ومذهب ابن عمر رضي الله تعالى عنهما إذا خلت به في غسل حيضتها، وعلل الفقهاء بأن المرأة الحائض عندما تريد تنظف المحل فلربما أفسدت الماء بشيء من ذلك المحل، ولكن إذا أفسدته أفسدته على نفسها أيضاً، فقالوا: المنع إذاً خلت به المرأة لغسل الحيضة أما غير ذلك فلا مانع، وهنا قالت: (نغتسل معاً) قال العلماء: إذا شرعا معاً، ومن المعلوم أنهما إذا اغتسلا معاً لابد أن أحدهما ستسبق يده إلى الإناء فيغترف، ويأتي الآخر ويغترف من بعده، وهكذا تتابع الأيدي من الطرفين على ذلك، فإذا اغترف الزوج أولاً اغتسلت هي بفضل مائه، وإذا اغترفت هي أولاً اغتسل هو بفضل مائها، وعلى هذا يكون هذا الحديث ناسخاً لحديث (لا تغتسل المرأة بفضل الرجل، ولا الرجل بفضل المرأة).
ولـأحمد عن عائشة رضي الله عنها نحوه، وفيه راو مجهول.]
أتى المؤلف رحمه الله بهذا بعد موضوع نقض الشعر للمرأة، وكأنه يلمح إلى ضرورة نقض شعرها، وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً فإنهم يقولون: هذا الحديث موقوف على علي رضي الله تعالى عنه، وبعضهم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والموقوف إذا لم يكن موضوعه محل اجتهاد يعطى حكم الرفع؛ لأن إثبات حكم الجنابة تحت كل شعرة، ليس من الاجتهاد، وإن كان موقوفاً على علي فيقال: يعطى حكم المرفوع؛ لأن علياً رضي الله تعالى عنه ليست عنده الإمكانيات لأن يحكم بأن تحت كل شعرة جنابة، إذاً: فلا يكون قد قال ذلك إلا بعد أن سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يصرح بسماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سواء كان مرفوعاً كما هو هنا، أو كان موقوفاً على علي -كما في بعض الروايات- فإن الموقوف هذا يعطى حكم الرفع؛ لأن موضوعه لايستفاد بالاجتهاد والرأي.
إذا كان تحت كل شعرة جنابة، فإن هذا من باب التأكيد، وإن لم تكن هناك شعرة، كأن يكون المغتسل أقرعاً، فكل جزئية تعادل شعرة في الجسم تحتها جنابة؛ ولذا أردف الخبر بأن تحت كل شعرة جنابة بما هو أعم فقال: (فاغسلوا الشعر، وأنقوا البشر)، فغسل الشعر إذا كان مظفوراً مشدوداً لا يتأتى، وهذا يرجح أولوية نقض الشعر المظفور ليتمكن من غسله، وقوله: (وأنقوا البشرة)، البشرة: من المباشرة، وسمي الآدمي بشراً؛ لأن بشرته مكشوفة بخلاف الحيوان فجلده مغطى بشعر أو صوف أو غير ذلك، ولا يوجد حيوان مكشوف البشرة إلا الإنسان، ومن هنا كانت البشرى، إذا سمع خبراً ساراً تغيرت أسارير بشرة وجهه، وظهرت على وجهه علامات الاستبشار، فهي مأخوذة من البشرة.
وبشرة الإنسان هي جلده، فكل ذرة من ذرات الجلد الظاهرة يجب إنقاؤها، وليس مجرد غسلها، ومن هنا أخذ مالك رحمه الله ضرورة الدلك؛ ليتحقق الإنسان في غسله أنه أنقى البشرة،وذكر ابن عبد البر عن كثير من المالكية أنه يبذل جهده؛ لأن المالكية المتأخرين يقولون: إذا لم تلتق يديه من وراء ظهره، ولم يشمل ظهره كله؛ يأخذ خرقة أو يأخذ منديلاً ويمرره على ظهره؛ ليتأكد أنه دلك جميع بشرته، وقال ابن عبد البر عن أصحاب مالك: لو أنه لم يفعل هذا التدليك المطلوب وكرر إضافة الماء فإن ذلك يجزئه عن الدلك، كما يحصل الآن عندما تقف تحت الدش والماء ينصب متوالياً، فيقول: إذا تكررت إفاضة الماء وتوالت فهي مظنة وصول الماء إلى جميع البشرة، أو إذا انغمس في ماء ومكث مدة،أو تحرك في الماء فإن هذا مظنة تعميم الماء إلى جميع البشرة.
وعند الآخرين يكفي إذا تأكد من وصول الماء ولو من صبة واحدة، وقد جاءت السنة أنه أفرغ على جسده ثلاث مرات.
وعلى كل: فما يتعلق بالتدليك وما يتعلق بإنقاء البشرة إنما هو تأكيد لرفع الجنابة عن جميع الجسم، وقد رأينا في الوضوء أنه إن ترك لمعة فقد جاء الوعيد (ويل للأعقاب من النار) وابن عبد البر يقول: إن الله سبحانه أمر المسلم أن يغسل أعضاء الوضوء، وغسلها لا يتأتى إلا بإمرار الماء عليها مع الدلك كما تغسل الثوب أو الإناء، أما مجرد مرور الماء على العضو فهذا ليس بغسل وإنما هو صب للماء، ولا يتحقق الغسل إلا بالدلك والفرك، ويقول: إن الله سبحانه وتعالى قال: في الغسل: وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء:43]، فكيف يكون الاغتسال الذي جاء مجملاً في كتاب الله مع الوضوء الذي جاء مفصلاً؟ فكما أمر الله المتوضئ أن يغسل أعضاء الوضوء، ولا يتحقق غسل الأعضاء إلا بإمرار اليد عليها، وعدم إمرار اليد لا يسمى غسلاً، بل يسمى إفاضة الماء على العضو؛ وكذلك في الغسل عليه أن يمر يديه على سائر بشرته كما يمر يده على أعضاء الوضوء التي جاء التنصيص عليها، والجمهور أنه كيفما اغتسل أجزأه.
تقدم في حديث عائشة (توضأ وضوءه للصلاة) يعني: مثل وضوئه للصلاة سواء بسواء، ثم أدخل أصابعه في أصول الشعر، ثم أفاض الماء على رأسه وحثى على رأسه ثلاث حثيات، فقالوا: إذا توضأ أولاً ثم اغتسل على ما قالت أم المؤمنين عائشة، وفي أثناء الغسل لم يمس فرجه بعد وضوئه، فإنه يصلي بهذا الغسل المسبوق بالوضوء .
ويقول ابن عبد البر: لم يأت نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه توضأ بعد الغسل، ولكن إذا حدث أثناء الغسل ما ينقض الوضوء الأول، فإنه لابد له من أن يتوضأ، وأكثر العلماء يقولون: إن الحدثين يتداخلان: الحدث الأصغر مع الحدث الأكبر، فإذا اغتسل وعمم البدن أثناء الغسل ناوياً رفع الحدثين معاً؛ فإن الحدث الأصغر يتداخل مع الحدث الأكبر، ويصبح طاهراً من الحدثين، فيصلي بهذا الغسل، والله تعالى أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر