الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه، أما بعد:
قال المؤلف رحمه الله: [ وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فليتوضأ، ثم ليبن على صلاته، وهو في ذلك لا يتكلم) ] أخرجه ابن ماجة وضعفه أحمد وغيره.
هذا الحديث من الأحاديث المشكلات، تقول فيه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي) وتشديد الياء في المذي غير سليم.
هذا هو القيء، أما القلس فلا يصل إلى داخل المعدة، بل يرجع من أولها، وغالباً ما يكون من كثرة المياه عند الإنسان في نهاية الأكل، فإذا أكل وشرب ماء بكثرة لم يبق هناك محل للنفس، فإذا أراد أن يتنفس يطرد النفس السوائل التي في أول المعدة، فهذا هو القلس.
فالحكم هنا هو: هو أن من أصابه القيء يتوضأ، ومن أصابه القلس يتوضأ.
وبالمناسبة فإن من أصيب بالرعاف فأخذ ماء الليمون واستنشقه، أو ماء البصل واستنشقه فإنه يوقف عنه الرعاف.
فهذا الدم إذا خرج من الأنف فعلى من خرج منه أن يتوضأ، فإذا خرج الدم من اليد أو من الرِجْل فهل على من خرج منه أن يتوضأ أو هو خاص بالأنف؟ الجواب: من نظر إلى هذه المسميات قال: مجموعها نجس، فالدم نجس في الرعاف، والقيء نجس بتغيره في المعدة، واختلفوا في القلس هل هو نجس لخروجه من داخل أو ليس بنجس؛ لأنه لم يتغير بعد بل هو على ما هو عليه؟ فمن قال بالوضوء من هذه قال: كل نجس خرج من الجسم من أي موضع فهو ناقض، وهذه قاعدة يقول بها الإمام أبو حنيفة رحمه الله، وهي رواية عن أحمد : (الخارج الفاحش النجس من البدن ناقض).
فالإمام أبو حنيفة رحمه الله يرى العمل بهذا الحديث، ولكن روى مالك رحمه الله في الموطأ قال: باب الرعاف. وذكر فيه أربعة أو خمسة آثار عن ابن عمر وعن ابن عباس وعن غيرهما، أثر ابن عمر : أنه كانت تصيبه البثرة في وجهه فيفقؤها بإصبعه ويخرج منها القليل من الدم فيفتله بين أصابعه وهو يصلي، وكان يخرج منه الرعاف قليلاً فيتلقاه بأصابعه ويفتله بين أصابعه ويصلي.
وجاء عن سعيد بن المسيب في الرعاف أنه قال: (إذا كثر فاستلق على ظهرك) فاستلقى على ظهره ثم قام فذهب فغسل عنه الدم ثم رجع فصلى ولم يبطل وضوءه، وفي بعض الروايات: فذهب فتوضأ، فحمله من لم ير الوضوء من هذه الأشياء على أن (توضأ) المراد به الوضوء اللغوي، وأنه كما جاء في بعض الروايات: (غسل الدم ورجع).
الإمام أبو حنيفة رحمه الله يرى الوضوء من القيء ومن القلس ومن الدم الخارج، بشرط أن يكون فاحشاً لا أن يكون قليلاً، والفاحش: هو ما جاوز مكانه. وبعضهم يقول: هو بقدر الدرهم البغلي، والدرهم البغلي نسبة إلى رجل اسمه البغل كان يسك الدراهم لـجعفر البرمكي أو لدولة العباسيين، وقيل: هو أقل من الكف ... وأشياء عديدة، أو ما فحش في عين الناظر فإنه يكون حينئذ ناقضاً للوضوء.
أما بقية الأئمة الثلاثة فلم يقولوا بالوضوء من هذه الأمور إلا من الرعاف إذا كثر فيغسله، واستدلوا على عدم الوضوء بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه احتجم، وغسل موضع المحاجم وصلى ولم يتوضأ) والحجامة تخرج دماً كثيراً أكثر من الرعاف، فكونه صلى الله عليه وسلم غسل موضع الحجامة الذي هو موضع خروج الدم ولم يتوضأ معناه أن خروج الدم من الجسم ليس بناقض. والمشكل في هذا: أنه يذهب يتوضأ ويرجع ويبني على صلاته أي: بعد أن يذهب ويستدبر القبلة، ويأتي بهذه الحركات والخطوات، وقد تكون المسافة إلى المغسل، مقدار ربع كيلو متر، وهو لا يتكلم يرجع ويبني على صلاته، فقال بعضهم: إن هذا عمل كثير يخرجه عن هيئة الصلاة فيقطعها، ولكن إذا صح الحديث فلا قول لأحد معه؛ لأن الحديث قد جاء في أن المصلي يقتل الحية والعقرب وهي تزور عنه يميناً وشمالاً ومع ذلك لا يزال في الصلاة.
إذاً: بعد هذا العرض نرجع مرة أخرى إلى سند الحديث: الحديث أخرجه ابن ماجة وضعفه أحمد وغيره. فإذا كان الحديث سنده ضعيف فهل ينبني عليه حكم؟ نحن قلنا: بأن اليقين لا يرفع بشك، وهذا حديث ضعيف وأقل ما فيه أنه سيورث شكاً، إذاً: نبقى على الأصل وعلى هذا يكون غير ناقض.
والله تعالى أعلم.
في نهاية باب نواقض الوضوء، وقبل أن يتكلم المؤلف على أحكام أخرى غير أحكام الوضوء جاء بهذه المسألة، وهي من أشد المسائل خلافاً في نواقض الوضوء، وللناس فيها آراء متعددة، ألا وهي: الوضوء من لحوم الإبل.
قوله: عن جابر رضي الله تعالى عنه: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم).
قوله: (رجلاً) نكرة، غير مسمى، وهذا لا يضر في الإسناد؛ لأن هذا النكرة سأل رسول الله، يعني: أنه مسلم رأى رسول الله، فهو صحابي، والصحابي لا يفتش عنه؛ لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كلهم عدول؛ ولذا فإن المرسل إذا كان الذي لم يُسم فيه صحابياً فقط فإنه صحيح ويعمل به.
قوله: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم) ومقتضى هذا السؤال ما حاك عنده: هل هناك فارق بين لحم الإبل ولحم الغنم أو لا؟ أأتوضأ من لحوم الإبل؟ أأتوضأ من لحوم الغنم؟ فلما سأل عن لحوم الغنم قال له صلى الله عليه وسلم: (إن شئت) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن شئت) بدل (نعم) أو (لا) أخذ منه العلماء جواز الوضوء للمتوضئ؛ لأنه إذا لم يكن متوضئاً فليس أمر الوضوء متروكاً إلى مشيئته، بل يتعين عليه أن يتوضأ؛ لأنه غير متوضئ، ولكن معنى السؤال: المتوضئ الذي يأكل لحم الغنم هل يتوضأ بسبب ذلك أو لا؟ فكان الجواب في حق لحوم الغنم: (إن شئت) يعني: إن شئت توضأت، وإن شئت اكتفيت بالوضوء الذي كان قبل أكلك لحم الغنم، وبالتالي يكون أكل لحم الغنم ليس ناقضاً للوضوء.
قوله: (أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم) هناك فرقٌ بين (نعم) وبين الجواب الذي يتضمن صيغة السؤال، وقوله (نعم) أي: توضأ من أكل لحوم الإبل.
وهنا وجدنا فرقاً بين لحوم الغنم ولحوم الإبل في أن الأولى لا توجب الوضوء، والثانية توجب الوضوء، وجاء حديث آخر عام بلفظ: (توضئوا -بصيغة الأمر- من لحوم الإبل) وجاء أيضاً: (صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل) في هذا الحديث وذاك أمر منه صلى الله عليه وسلم بعدم المقارنة، فهذه بهيمة أنعام وتلك بهيمة أنعام، وكلاهما حلال الأكل، فيأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء من لحوم الإبل، ويخير الإنسان في الوضوء من لحوم الغنم، والنتيجة: أن لحوم الغنم ليست ناقضة، ولحوم الإبل ناقضة.
فنقول لهؤلاء: نحن أولاً وقبل كل شيء التزمنا باتباع رسول الله كما التزمنا بوحدانية الله، ولا يتم إسلام إنسان إلا بهذا الالتزام، ولا يدخل الإنسان في الإسلام إلا إذا أعلن أن "لا إله إلا الله" فإذا ما اعتقد ألوهية غير الله نقض "لا إله إلا الله"، وكذلك "محمد رسول الله" فإذا ما اتبع غير محمد نقض أن محمداً رسول الله، وإذا التزم بأن محمداً رسول الله الذي اعترف برسالته لزمه أن يأخذ كل ما جاءه به محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا ردّ شيئاً يكون قد نقض قوله: "محمد رسول الله".
ونحن هنا نقول: لو أن إنساناً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرق له بين المتماثلين، هل يملك أن يقول: لماذا يا رسول الله! فعلت ذلك؟ ولو أن رسول الله جاء إلى إنسان عنده، وأخذ رطبتين من طبق، وقال: هذه حلال لك فكلها، وهذه حرام عليك لا تأكلها. هل من حقه أن يقول: لماذا لا آكلها يا رسول الله؟! أو يتعين عليه ألا يأكلها؟ الجواب: يتعين عليه أن لا يأكلها ولو أكلها مع كونها رطباً جنياً لكان عاصياً، ولذا أجمع الأصوليون على أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور المباحة العادية، لو توجه إلى إنسان بعينه يصير فرضاً عينياً عليه، ولا يجزئ عنه إلا هو.
وقالوا: لو ركب صلى الله عليه وسلم ناقته، وسقط السوط من يده، وعنده عشرة أشخاص، وقال لواحد منهم: يا فلان! ناولني السوط. فهذا المسمى تعين عليه فرضاً عينياً كفرض الصلاة أن يناول السوط لرسول الله، ولا يحق له أن يقول: يا فلان! ناول رسول الله، أو أنت قريب من الناقة ناول رسول الله؛ لأن الأمر توجه إليه بشخصه.
إذاً: لا يمكن أبداً لإنسان مسلم أن يحكِّم العقل في ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا ثبت الأمر من رسول الله فالعبرة حينئذ بالثبوت، ونحن نقول أيضاً: لو جاءك رسول الله بكأسين من الماء، وقال: اشرب هذا، ولا تشرب هذا. فهل تملك أنت أن تشرب الذي قال لك: لا تشربه؟ الجواب: لا تملك ذلك.
فأقول: بهذه المناسبة، أنا أريد أن أطيل في هذه المسألة بالذات، لما فيها من الشبه، ولما فيها من توقف العقل: فهذا حدث وقع بين يدي أحد الملوك العرب في الجزيرة العربية: وهو أنه كان له وزير، وكان يتحرز منه، وكان الملك له أخت دونه في السن ذات عقل، وكانت تجالسه، ولما كبر وبلغ الستين كان يحضرها معه إلى المجلس؛ مخافة أن يكون منه خطأ أو زلل أو شيء هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كنوع حراسة له من كيد الوزير.
وحدث ذات مرة أن جاء الساقي بعدة كئوس للحاضرين -قد تكون عشرة- فيها شراب، وجاء بكأس واحد فارغ فوضعه أمام الملك، وجاء بزجاجة الشراب -وكانت مختومة- ففكها أمامهم وصب في الكأس الخالي وقدمه للملك، فإذا بأخته الفطنة حينما مد الملك يده إلى الكأس أمسكتها وقالت: لا تأخذها، فشرب الحاضرون من كئوسهم، ثم استدعت الطبيب وقالت له: انظر إلى هذا الشراب في هذا الكأس. فأخذه فبهت! لأن فيه سماً زعافاً، فقالت له: انظر إلى هذه الزجاجة التي صب منها، فأخذها وقال: لا شيء فيها. وهنا يأتي دور العقل! الزجاجة ليس فيها شيء، وفتحت وصب منها في كأس خال، وصار الشراب في الكأس سماً، فمن أين جاء السم؟ وهنا إما أن يقول: الزجاجة كانت خالية من السم، والكأس كانت خالية فلا سم فيحكم العقل ويكذب الطبيب فيشرب فيموت، وهذا بسبب تحكيم العقل، وإما أن يصدق الطبيب فيسلم.
وهنا تعجب الحاضرون! فسألها أخوها: كيف عرفت فيه السم؟ وكيف فطنتِ لذلك؟ قالت: لأن الساقي كان في السابق يأتي بالكئوس كلها مصبوبة ويبدأ باليمين، ويأتي إلى الملك فيأخذ إحدى الكئوس، وفي هذه المرة عين الكأس الذي سيشربه الملك، والكأس قد طلي بمادة سامة لا يظهر لونها، وهي شديدة الفاعلية، وفي النظر أنه زجاج صاف رائق لا شيء فيه، ولما صب الشراب على السم الذي صبغ ودهن في الكأس تحلل مع الشراب، وأصبح قاتلاً.
وهذه واقعة وقعت فعلاً، ولا أريد أن أسمي البلد ولا الملك وهو معروف، فالعقل هنا يقول: الكأس أبيض صقيل نظيف، والزجاجة التي صب منها الشراب ليس فيها سم، إذاً: الإنسان بين أحد أمرين: إما أن يحكم العقل ويقول: الزجاجة سليمة، والكأس نظيف، فلا سم فيشرب، وإما أن يصدق الطبيب فيسلم.
وهكذا أيها الإخوة! فإن المسلم إذا سمع عن رسول الله خبراً ثابتاً -وهنا الحديث رواه مسلم ، ولا مطعن فيه لأي مخلوق- فهو بين أحد أمرين: إما أن يقول: سمعاً وطاعة فيمتثل الأمر ولو لم يعلم ما وراء ذلك، وإما أن يحكم العقل وقد يورده المهالك، وقد وجدنا في الشرع الحكيم في نص القرآن الكريم أن الشيء الواحد قد يختلف حكمه باختلاف الحالات ابتلاءً وامتحاناً، يقول سبحانه وتعالى: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95] ويقول: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2] يعني: الصيد حين الإحرام حرام، وبعد الانتهاء من الإحرام الصيد حلال، فهل تغير الصيد؟ وهل تغير الإنسان؟ الجواب: لا، فكيف حرم الصيد وهو أحل الحلال على المحرم الذي توجه إلى الله يلبي، وهو حلال للبدوي الذي يسوق البعير، أو للسائق الذي هو غير محرم، يغني في الهواء ويقتل الصيد ويأكل؟! بين سبحانه الحكمة من ذلك فقال: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ [المائدة:94] لماذا؟ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [المائدة:94] إذاً: تحريم الصيد ليس شحاً بالصيد ولا امتهاناً للمحرم، ولكن ابتلاء، ليرى هل المحرم صادق في إحرامه، وصادق في إيمانه أو لا؟
وقد وجد هذا الامتحان في غير ذلك، ومن أمثلة ذلك قصة طالوت وجنوده الذين معه قال تعالى حاكياً قوله لجنوده: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ [البقرة:249] أي: نهر يجري، وقال: الذي يشرب منه فليس مني إلا من اغترف غرفة بيده لماذا؟ الجواب: لأنه يريد أن يمتحن هؤلاء؛ لأنهم اعترضوا على تنصيبه ملكاً عليهم كما قال الله عنهم: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ [البقرة:247] لأن عندهم مقاييس متغايرة فقال الله: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247] وزاده مكونات الملك: العلم والجسم، العلم في العقل والتفكير والتدبير، والقوة في الجسم للتنفيذ، وهذه هي مقومات الملك.
إذاً: الشرع يأتي بأمور معقولة قد يدرك العقل الحكمة من ورائها، وقد يأتي بما لا يدركه العقل -أي: أنه يتقاصر في قواه وإدراكه عما وراء ذلك- فإن كان الإنسان مؤمناً صادقاً فسيقول: سمعاً وطاعة.
وهذه أيها الإخوة! مقدمة بين يدي هذا الحديث وهذه المسألة التي هي في قوله صلى الله عليه وسلم: (توضئوا من لحوم الإبل) والتخيير في الوضوء من لحوم الغنم، فلا يقف العقل ويتطاول ويتساءل: لماذا فرق بين هذا وبين ذاك؟ بل نقول: إن لم تظهر لنا حكمة سكتنا وسلمنا ونحن على حق، وإن ظهرت لنا ازددنا إيماناً ويقيناً كما قال الله: وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260].
إذاً: من الناحية الفقهية فالأئمة رحمهم الله: أبو حنيفة ومالك والشافعي يقولون بعدم الوضوء، وأحمد رحمه الله المشهور في مذهبه الوضوء.
إذا كان الأمر كذلك فهناك تفريعات في هذه المسألة: السائل سأل عن اللحوم، فيأتي عند من يقول بالوضوء من اللحوم، هل الحكم مناط باللحم فقط في مسماه، وفي حقيقته العرفية، أو أنه يتبع اللحم غير اللحم عرفاً؟ وهل اللبن -لبن الإبل- يتبع اللحم؟ وهل المرق الذي طبخ فيه اللحم يتبع اللحم؟ وهكذا هل يتبع اللحم الكرش، والكبد، والدماغ، واللسان، ولحم الرأس؟ يقولون: كل هذه أصبحت في العرف متميزة، بدليل أنك لو أمرت خادماً لك أو إنساناً أن يأتيك بكيلو جرام لحم إبل، وذهب وأتى لك بكرش كامل، فستقول له: يا أخي! أنا ما قلت لك: كرش، أنا قلت لك: أريد لحماً. فإن قال: هذا لحم! فستقول له: لا هذا ليس بلحم؛ لأنه قد أصبح العرف عند الناس أن اللحم في البعير غير الكرش، والكرش له اسم مستقل.
ولو قال لك قائل: اذهب وائتني بلحم رأس. فذهبت وأتيت له بلحم فخذ، أو أتيت له بالسنام. فهذا كله لحم! لكنه لا يرضى بذلك، لما كانت أجزاء الحيوان لها أسماء عرفية عند الناس فهل يقتصر النقض على مسمى اللحم العرفي عند الناس أو يشمل جميع أجزاء الإبل؟ هناك من يقول: يشمل جميع أجزاء الإبل؛ لأن الله لما حرم لحم الخنزير شمل جميع أجزاء الخنزير.
وهناك من يفرق ويقصر الحكم على مسمى اللحم فقط.
فأجاب الآخرون وقالوا: لحوم الظباء ولحوم الحمام أشد زهومة وحرارة، وليس فيها وضوء.
والذي يمكن لإنسان متتبع، متطلع، يرجو الكشف عن شيء خفي عليه هو أننا إذا نظرنا إلى خصوص الإبل من حيث هي نجد أنها قد جاءت فيها دون بقية الأنعام أوصاف انفردت بها، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في معاطن الإبل) وهل النهي عن الصلاة في معاطن الإبل لأنها نجسة؟ قالوا: لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه العرنيون واجتووا المدينة أمرهم أن يذهبوا إلى إبل الصدقة ليشربوا من ألبانها وأبوالها، فأبوالها على هذا طاهرة، ولو كانت نجسة لم يأمرهم بالشرب منها، إذن: النهي عن الصلاة في معاطن الإبل إنما هو لشيء آخر، فما هو؟ قالوا: كشف عنه الحديث: (ولا تصلوا في معاطن الإبل؛ فإنها خلقت من الشيطان أو فإن معها شيطان) يقول العلماء في معنى شيطانها: معناه: أنها إذا جاءت إلى إنسان وهو يصلي في محلها بركت عليه؛ لأن البعير لا يحيد عن موطنه الذي يألفه، بخلاف الغنم فقد تكون قطيعاً يبلغ مائة رأس، وإذا أتت إلى إنسان يصلي تبقى حوله ولا تؤذيه ولا تنطحه ولا تقف عليه؛ لأنها موادعة ومسالمة، ليس عندها من الشر شيء.
وفي بعض الروايات: (ولا تصلوا في معاطن الإبل؛ فإنها خلقت من الشيطان) فخلقت من الشيطان، أو معها شيطان أي: أن هناك ارتباطاً بينها وبين الشيطان.
وإذا جئنا إلى جانب آخر نجد أيضاً في قضية الشيطان: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلاً شديد الغضب، قال: (انظروا إلى هذا -وقد انتفخت أوداجه واحمرت عيناه- لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لذهب عنه ذلك) وقال: (إن الغضب من الشيطان فاطفئوه بالماء) فإذا كان الغضب من الشيطان، فدواؤه أن نطفئه بالماء، وأرشد الإنسان أنه إذا كان قائماً حال غضبه فليجلس، وإذا كان جالساً فليتكئ، فإذا لم يذهب عنه بهذا كله توضأ؛ ليطفئ أثر الشيطان بالماء.
إذاً: هناك ارتباط بين الوضوء وأكل لحم الإبل.
وننتقل إلى الأكل: يجمع علماء التغذية والأطباء بأن كل طعام له خصائصه في الغذاء وله تأثير على الآكل، فهناك -كما تعلمون- الألبانيون، وهناك النباتيون، وهناك غير ذلك، فالنباتيون لا يأكلون اللحوم، ويرون أن اللحوم تؤثر على القلب وعلى الروح، وأن النبات أخف غذاءً، ويتفقون -أي: علماء التغذية والأطباء- أيضاً على أن تناول الحليب أو الألبان ومشتقاتها تهدئ الأعصاب، وأن أنواعاً من اللحوم توتر الأعصاب وتثيرها، وأن... وأن... إلخ.
ومن هنا نجد أن الشريعة المطهرة نهت عن أنواع من اللحوم لغرائز في أصولها، فنهى صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر الأهلية، بينما الحمر الوحشية تصاد وتؤكل، وكان الجميع يؤكل إلى عام خيبر، فنهى صلى الله عليه وسلم في عام خيبر عن أكل لحوم الحمر الأهلية، فقالوا: سبحان الله! هذه أهلية لا تؤكل، وقد كانت تؤكل من قبل، وتلك برية وحشية تؤكل.. لماذا؟!
فأجابوا وقالوا: إن الحمار من طبيعته اللؤم والخسة، بمعنى: أنه يخاف من القوي، ويتلاعب بالضعيف، فإذا وجد غلاماً صغيراً تلاعب به، وإذا وجد شخصاً قوياً انقاد إليه، ولذا قيل: ألأم من حمار، وهو أيضاً يصبر على الذلة ولذا قيل:
ولا يقيم على ذل يراد به إلا الأذلان: عير الحي والوتد
العير: هو الحمار، يضرب ويمتهن فيصبر على الذل ولا يحرك ساكناً، أما الحمار الوحشي فليس فيه ذلك؛ لأنه يعتمد على نفسه في حياته، وفي دفاعه عن نفسه من بقية الوحوش، ويسعى على أكله وطعامه، ولذا يقول أصحاب علوم الحيوان: إن التولبة -وهي أنثى الحمار الوحشي- إذا ولدت تولباً صغيراً كسرت رجله؛ ليبقى في جحره إلى أن يجبر الكسر، فيكون قد كبر وقوي، فيستطيع أن يسرع وأن يسابق الوحوش فيسلم منها، أما لو تركته قد يدب وهو صغير فيخرج من جحره فتأكله الوحوش.
إذاً: فهو يعتمد على نفسه في حياته وفي طعامه، بعيداً عن خصلة الذلة والإهانة.
وإذا جئنا إلى تحريم لحم الخنزير، يقول أبو حيان: إن كل الحيوانات لديها الغيرة على أنثاها إلا الخنزير؛ فإنه لا غيرة له على أنثاه، فمن أكثر من لحم الخنزير سلب الغيرة على حريمه -يقول في تفسيره-: وقد شاهدنا ذلك في بلادنا ممن يكثرون من أكل لحم الخنزير، أنه لا غيرة لديهم على نسائهم.
إذاً: نرجع ونقول: اللحوم وأنواع الغذاء تؤثر على الآكل، ولما كانت الإبل من الشيطان فإنها تؤثر على الآكل بالشيطنة، وهذا يثير فيه الغضب كما يثير الشيطان الغضب، ويؤيد هذا ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن مع الإبل الكبر والخيلاء، ومع الغنم الوديعة والسكينة) فصاحب الإبل الذي يسوق عشرين إلى خمسين بعيراً يشعر أن رأسه أعلى من سنام البعير، والذي يسوق الشويهة ويرفق بها ويصبر عليها يكون متواضعاً مع الناس، ولا تجد فيه كبرياء ولا شدة، ومن هنا يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي إلا وقد رعى الغنم) ولم يقل: الإبل؛ لأن راعي الغنم يراعي ضعفها، فيتتبع لها الماء والمرعى، ويرفق بها، ولذا تجد في يده عصا صغيرة، بخلاف صاحب الإبل فإن معه عصا كبيرة.
إذاً: هناك فرق في طبيعة الحيوانات، فالإبل تميزت بما يجرها إلى عنصر الشيطنة -لا أقول إلى الشيطان- ولحمها فيه هذه الغريزة، وكما يقول عمر : للحم خرمة. أي: تأثير على عقلية الإنسان، فإذا أكثر الإنسان من أكل لحومها انتقلت إليه عادتها، ومن هنا لما كان أثر الغضب من الشيطان كان إطفاؤه بالماء.
وبهذا يجد العقل -ولو التماساً- فرقاً بين لحوم الغنم ولحوم الإبل.
وبالله تعالى التوفيق.
هذه المسألة من المسائل الخلافية بين العلماء، والأئمة الأربعة لا يرون وجوب الغسل على من غسل ميتاً، ولا الوضوء على من حمله، وأما الحديث: (من غسَّل ميتاً فليغتسل) فقالوا: على فرض صحته يكون هذا الغسل لا عن حدث، ولكن عما يمكن أن يكون قد وصل إليه من رذاذ الماء الذي يغسل به الميت، وعادة الميت في تلك الحالة أنه ربما كان فيه ما ينبغي تغسيله، فقالوا: يغتسل احتياطاً للنظافة والطهارة لا عن حدث تغسيل الميت.
والقسم الثاني من الحديث: قوله: (ومن حمل ميتاً فليتوضأ) ( من حمل) معناه: بأنه بعدما يحمل الميت يتوضأ، والجمهور قالوا: (من حمل) أي: من أراد أن يحمل، كما في حديث أنس : (كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال...) فقوله: (إذا دخل) أي: إذا أراد الدخول؛ لأنه بعد دخوله لا يحق له أن يأتي بشيء فيه ذكر الله، وكما في قوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ [النحل:98] والمراد أن يستعيذ عند إرادته القراءة لا عند فراغه منها، فقالوا: وهنا أيضاً (من حمل) أي: من أراد أن يحمل ميتاً فليتوضأ، ولماذا يتوضأ؟ قالوا: لأن من يحمله سيذهب به إلى المصلى فينبغي أن يكون متوضئاً، حتى إذا قدموا الميت للصلاة عليه يكون حامله أولى الناس بأن يصلي عليه، وإذا كان سيصلي عليه يجب أن يتهيأ للصلاة عليه بالوضوء من قبل.
وجاء في تغسيل الميت في موطأ مالك رحمه الله: أن أسماء زوج الصديق رضي الله عنهما في وفاة أبي بكر كانت هي التي غسلته، ثم خرجت على الناس وقالت: لقد غسلت أبا بكر ، واليوم شديد البرد، فهل ترون عليَّ من غسل؟ فقالوا: لا. فهذا اتفاق من جميع الحاضرين بأنها لا غسل عليها من تغسيله، وعلى هذا -كما قال أحمد رحمه الله-: لا يصح في هذا الباب شيء.
إذاً: يكفينا عدم صحة الحديث، وهذا هو توجيه الحديث على افتراض أنه صحيح.
وبالله تعالى التوفيق.
والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر