إسلام ويب

كتاب الطهارة - باب نواقض الوضوء [3]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الخلاف سنة الله عز وجل في خلقه، والخلاف أنواع: منه الجائز، ومنه المحرم، ومن الخلاف الجائز: اختلاف الأفهام، واختلاف التنوع، واختلاف الأفهام هو أكثر ما يحصل في المسائل الفقهية، فلا ينكر على من قال أي قول إذا كان متحرياً للحق، ولكن واجب المسلم أمام الخلاف أن ينظر الأقرب إلى الحق، والموافق للدليل، ويسعى جاهداً إلى معرفة الراجح، والعلماء رحمهم الله قد بينوا لنا طرق الترجيح، وطرق الجمع بين المسائل المتعارضة.

    1.   

    الشك في الوضوء

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    قال المصنف رحمه الله: [ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه: أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) أخرجه مسلم ].

    الأحكام والقواعد المأخوذة من حديث: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً..)

    يسوق المؤلف رحمه الله تعالى في باب نواقض الوضوء حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه: أخرج منه ريح أو لا؟ فلا ينصرفن من صلاته أو من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) هذا الحديث يعتبره علماء الحديث وعلماء الأصول والفقهاء أساساً لقاعدة فقهية، وهي: أن اليقين لا يرفع بالشك.

    ومعنى قوله: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً) يعني: حركة قد تحصل في البطن بتحرك غازات أو ما يسمى بالمغص أو شيء من هذا.

    قوله: (وأشكل عليه) الإشكال مأخوذ من الشكل، وهو عند علماء المنطق التشكيك، وذلك: أن الصورة الذهنية بالنسبة لموضوع معين تشتبه بين أمرين: إذا نظر إلى هذا قال: هو منه، وإذا نظر إلى ذاك قال: هو منه، فشك بأيهما يُلحق أو من أيهما يكون، ولذا قالوا: الشك هو: استواء الطرفين دون ترجيح.

    وقالوا: إن العلم هو: ما وقر في النفس دون منازعة، والظن هو: ما نازعه ما هو أضعف منه، فإذا تعادلت الكفتان ثم رجحت إحدى الكفتين بأحد المعنين فالراجح ظن، والمرجوح وهم، وإذا تعادلت الكفتان دون ترجيح فهو شك.

    وهنا لما وجد الشيء في بطنه وأشكل عليه: شك، وقال في نفسه: هل يا ترى مع تلك الحركة التي في البطن هل خرج شيء أم لا؟ فحينئذ عليه أن يلغي هذا الشك ويبني على ذاك اليقين؛ لأنه في الصلاة -كما في بعض الروايات- والصلاة ما دخلها إلا بيقين الطهارة، أو في المسجد -على بعض الروايات- والمسجد ما أتى إليه إلا بكامل الطهارة، إذاً: الذي أشكل عليه طارئ بعد يقين الطهارة، إذاً: الطهارة هو متأكد منها وثابتة عنده بيقين، فلا يحكم برفضها وإبطالها إلا بيقين مثله، وهكذا قالوا في عموم الأمور، فمثلاً: لو توضأت في بيتك أنت وزميلك، وكل منكما متأكد بأنه توضأ مع الآخر في مكان واحد ومن إبريق واحد، ثم خرجتما، وفي طريقكما إلى المسجد دعاكما بعض الإخوان لتناول الشاي، فذهبتما معه وجلستم، ثم قمتم لتذهبوا إلى المسجد، وعند باب المسجد قلت: هل أنا أحدثت أو لا؟! الطهارة أنتم متيقنون فيها أنت وهو، ولكن الشك حصل في كونك هل أحدثت بعد تلك الطهارة المتيقنة أو لا، فصاحبك يقول لك: نحن توضأنا معاً، وأنت تقول له: نعم، أنا متأكد أننا توضأنا معاً، لكن لا أدري عندما جلسنا نشرب الشاي هل حصل مني شيء أو لا؟

    الآن عندنا طهارة وشك في الحدث، والطهارة ثابتة بيقين، والتفكير في الحدث شك طارئ، فنقول: الطهارة ثابتة باليقين فتبقى على ما هي عليه، وعندنا استصحاب الأصل، والأصل الطهارة وهي ثابتة، وأما الحدث فهو أمر مشكوك فيه، فلا نترك اليقين بسبب الشك.

    وكذلك العكس: فإذا تيقن الحدث وشك في الطهارة، فيلغى الشك في الطهارة ويعتمد الحدث ويتوضأ، مثلاً: أنت وصاحبك كنتما في البيت، ودخلتما الحمام، وخرجتما، ثم لقيكما صاحبكما ودخلتما عنده، وقلتم: هيا نذهب إلى المسجد. فقلت: أنا أحدثت في البيت ودخلت الحمام، ولكن ما أدري هل توضأت أو أتوضأ الآن؟ إذاً: الشك هنا هو في الطهارة؛ لأن الحدث ثابت ويشهد عليه بيت الخلاء، لكن الوضوء هو الذي شككت فيه، إذاً: الوضوء هنا يكون على اليقين، فإذا تيقنت في الحدث وشككت في الوضوء، فألغ الشك، وابنِ على اليقين بالحدث وتوضأ.

    وهكذا أيها الإخوة! حتى في المعاملات يقولون: لو قدر أنك اقترضت من زيد ألف ريال، ثم جاء يطالبك، فقلت له: هذا صحيح، ولكن هل أنا أعطيتك الألف؟ قال: لا، ما أعطيتني. فقلت: يا أخي! أظن أنني أعطيتك. وليس هناك سند، ولا شهود.

    فإذاً: القرض هنا ثابت قطعاً وأنت معترف به، والدفع مشكوك فيه؛ لأنك تدعي وهو ينفي، فالشك طارئ على السداد، فابنِ على اليقين بأن القرض لا زال ثابتاً في ذمتك حتى يثبت السداد يقيناً.. وهكذا.

    فهذا الحديث أصل عظيم، ومنه أخذت القاعدة: اليقين لا يرفع بالشك، كما تقدم.

    وهنا قال: (حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً)، وقد ذكرنا قصة أبي موسى الأشعري فيما يتعلق بالنقض بالنوم، فقد كان ينام وإخوانه حوله، فإذا استيقظ قال لمن حوله: هل سمعتم شيئاً؟ فإذا قالوا: لا. قال: فهل شممتم ريحاً؟ فإذا قالوا: لا، قام فصلى، لأنه لما لم يسمع جلساؤه منه صوتاً، ولم يشموا منه ريحاً بنى على اليقين الأول الذي هو الطهارة قبل النوم؛ لأنه كان ينام في المسجد بعد أن يصلي، فهو على طهارة، ولما كان النوم مظنة الحدث لم يقطع بأنه أحدث؛ لأن الحضور المشاهدين لم يسمعوا صوتاً ولم يشموا ريحاً.

    لكن لو أن الشك في غير الريح، أي: في شيء آخر من نواقض الوضوء، كأن تكون ذهبت إلى أقاربك زائراً، وجاءوا -على عادات بعض الناس- إليك فصافحتك امرأة منهم، ثم شككت هل صافحت فلانة أو لم تصافحها؟ فحصل عندك شك في كونك صافحت أو لم تصافح، فعلى كونك صافحت يكون قد حصل اللمس، وعلى قول من يقول بالنقض فعليك الوضوء، ولكن أنت متأكد من الوضوء وشككت في وقع النقض بالمصافحة. إذاً: عليك أن تبني على اليقين وهو بقاء الوضوء.

    فسماع الصوت أو وجدان الريح في الحديث إنما هو على سبيل المثال؛ حتى يتأكد الإنسان في الأمر الذي أشكل عليه، فيرفع الإشكال ويبني على اليقين.

    1.   

    الوضوء من مس الفرج والمذاهب في ذلك

    قال المؤلف رحمه الله: [ وعن طلق بن علي رضي الله عنه قال: (قال رجل: مسست ذكري أو قال: الرجل يمس ذكره في الصلاة، أعليه الوضوء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، إنما هو بضعة منك) أخرجه الخمسة، وصححه الترمذي وابن حبان ، وقال ابن المديني : هو أحسن من حديث بسرة ].

    هذه المسألة يعنون لها: بالوضوء من مس الفرج، أو الوضوء من مس الذكر -بخصوص الذكر في الرجل-، والقضية عند من يبحثها تشمل كل ذكر لرجل أو فرج لامرأة، ومن يبحثها أيضاً يبحث هل هو خاص بالذي يمس شخصياً أو يشمل مس ذكر غيره أيضاً، وهل يشمل مس فرج امرأة أيضاً؟ والبحث في هذا الموضوع يتناول المس أو اللمس قصداً أو سهواً.. ببطن الكف أو بظاهرها.. من صغير أو من كبير.. من إنسان أو من حيوان.. كل ذلك يبحث في هذه المسألة تحت هذا العنوان.

    ساق المؤلف أولاً حديث طلق بن علي ، وطلق بن علي هو: رجل من أهل اليمامة ورد على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبني المسجد البناية الثانية -أي: سنة سبع من الهجرة- بعد عودته من خيبر، وكانوا يبنون بالحجارة والطين، ومما جاء عنه أنه مر برجل من الأنصار يخلط الطين بالتبن، فلم يعجبه عمله، وقال: أرني حتى أريك. فأخذ منه المسحاة وخلط خلطة جيدة، والرسول صلى الله عليه وسلم يراه، فقال: (دعوا هذه لهذا، فإنه أعرف بها) وهنا يقال: هذا مجال التخصص، فهذا نوع من أنواع البناء والتجهيز فمن كان أتقن لعمل فهو أحق به؛ ولذا نجد التخصصات في مواد البناء أمراً عجيباً! حتى قيل: كان أكبر مهندسي الخرسانة معتقلاً في بعض المعتقلات، وعند بناء السد العالي استعصى عليهم مكان فاضطروا أن يخرجوه من المعتقل حتى ينفذ لهم هذا المكان ثم ردوه إلى معتقله.

    فالأعمال إذا كان هناك من هو ذو تخصص فيها فهو أولى بها، ونحن نجد الآن أنواع التخصصات الطب، وقد كان الطب طباً عاماً، الطبيب يداوي العين والأنف والمعدة والكبد والطحال والجرح وكل شيء، لكن الآن أصبح الطب قائماً على تخصصات، حتى الجراحة فيها تخصصات، فهناك جراحة خاصة بالقلب، وجراحة خاصة بالدماغ، وجراحة خاصة بالأنف والأذن، وجراحة خاصة بالعظام... إلخ، فمن دقة العلم وتوسع الاطلاع في المادة أصبحت هناك التخصصات، وصاحب التخصص في مجاله أولى من غيره.

    وكذلك وجد التخصص في العلوم الدينية: فالرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى أن: (أفرضكم زيد) إذاً عنده تخصص في علم الفرائض، (وأمين هذه الأمة أبو عبيدة) ، (وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ) ، وقال لـابن عباس : (اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل) فأصبح عندهم تخصصات علمية، فإذا أشكل على الصحابة شيء في موضوع من تلك المواضيع رجعوا إلى صاحب التخصص فيها.. وهكذا.

    وذكرنا ذلك لبيان تاريخ مجيء طلق بن علي ، قالوا: إن طلقاً ورد على النبي صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة في بادئ الأمر، والمرة الثانية: عند بناء المسجد، وروى حديث الوضوء مرتين، وهذا الحديث مروي عن قيس بن طلق عن أبيه: (أن أعرابياً جاء ووقف على النبي صلى الله عليه وسلم وسأل: الرجل يمس ذكره بعد أن يتوضأ، أيعيد الوضوء؟ قال: لا، إنما هو بضعة منك) أي: وهذه البضعة مثل أي بضعة أخرى من أبضاع الجسم، فاليد بضعة، والأذن بضعة، والساعد بضعة، والساق بضعة... كل هذه قطع، والبضعة: القطعة.

    إذاً: مادام هو بضعة من الإنسان فهو كسائر أجزاء الجسم يمس بعضها بعضاً فلا وضوء، وفي هذا إشارة إلى القياس، وإشارة إلى إتباع الشيء المختلف فيه بالمتفق عليه.

    وبهذا أخذ من يقول: إن مس الذكر ليس ناقضاً. فإذا كان ليس ناقضاً فلماذا ذكر هذا الحديث في باب نواقض الوضوء؟

    الجواب: هو أن المؤلف رحمه الله جمع هذا الكتاب -بلوغ المرام من أدلة الأحكام- فهناك من يقول: لا وضوء. وهناك من يقول: فيه الوضوء. إذاً: القولان متقابلان، فذكر دليل من يقول: لا ينقض، وسيأتي بدليل من يقول: نعم، ينقض، وقد تكلم المؤلف على هذا الحديث فنقل: أن ابن المديني -وهو إمام جليل في علم الحديث- قال: هو أحسن من حديث بسرة . وأين حديث بسرة هذا؟ يأتي به المؤلف مباشرة بعد حديث طلق ليبين طرفي الاستدلال عند من يقول: ينقض، وعند من يقول: لا ينقض.

    قال المؤلف رحمه الله: [ وعن بسرة بنت صفوان رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مس ذكره فليتوضأ) أخرجه الخمسة، وصححه الترمذي وابن حبان ، وقال البخاري : هو أصح شيء في هذا الباب ].

    حديث بسرة بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مس ذكره) فخص المس بذكره المضاف إليه، إذاً: عموم الفرج ليس وارداً هنا، فقوله: (من مس ذكره) لا يتناول ذكر غيره، ولا يتناول فرج المرأة، ولا يتناول الدبر، لا يتناول إلا ما جاء النص فيه؛ ولذا فإن هناك من وقف عند هذا اللفظ وقال: لا ينقض الوضوء إلا إذا مس ذكره. وأما ما يتعلق بكيفية المس، فقالوا: أن يكون بغير حائل. كما جاء في حديث أم حبيبة رضي الله تعالى عنها مرفوعاً: (من أفضى بيده إلى فرجه ليس بينه وبينه حائل فليتوضأ)ويقول أحمد عن هذا الحديث: هو أحب إليّ من الجميع.

    ومن هنا توسع النطاق قليلاً فقوله: (من أفضى) تفيد العموم، فتشمل الرجال والنساء (أفضى) الإفضاء: الملاقاة (بيده إلى فرجه)والفرج يشمل ذكر الرجل وفرج المرأة (فليتوضأ) إذاً: المرأة كذلك: إذا أفضت بيدها إلى فرجها فعليها الوضوء.

    وجاءت رواية أخرى بلفظ: (من أفضى بيده إلى فرجٍ) بالتنوين من دون إضافة، فقالوا: هذا شمل جميع أنواع هذا العضو، حتى قالوا: ولو من بهيمة، وحتى قالوا: من حي أو ميت؛ لأنه يصدق عليه أنه فرج.

    وخلاصة هذا البحث عند الجمهور: أنه قد جاء حديث طلق مرفوعاً: (إنما هو بضعة منك) وجاء حديث بسرة مرفوعاً: (من أفضى بيده إلى فرجه فعليه الوضوء)، وجاء أيضاً عن أبي هريرة رواية أخرى مرفوعة: (من مس فرجه فليتوضأ) فجاءت الروايات بهذا، فقالوا: إن حديث طلق وإن قال ابن المديني عنه: هو أحسن من حديث بسرة . إلا أن البخاري قد صحح حديث بسرة ، والشافعي قد عارض في صحة حديث طلق ، وقال: إنما جاء من طريق قيس بن طلق ، وسألنا عن قيس بن طلق هذا فلم نجد من يعرفه. والذين قالوا: لا وضوء منه، أخذوا بحديث طلق قالوا: حديث بسرة قال عنه البخاري: هو أصح شيء في الباب، فقيل: من أين أخذه؟ قالوا: إنه جاء من طريق مروان بن الحكم ، فقد جاء في رواية تذاكرنا ما يكون منه الوضوء، فقال مروان : من مس الفرج الوضوء. فقال أبي بن كعب : ما سمعنا بهذا! فقال مروان : أخبرتني بذلك بسرة .ثم أرسل مروان حرسياً له إلى بسرة فسألها، فرجع الحرسي وأخبرهم بما أخبر به مروان ، فلما أنكر المنكر على مروان أرسل رسولاً إلى بسرة ، ورجع الرسول بمصداق ما قال به مروان ، فقالوا: هذا الحرسي لم نعرفه، فيكون في الحديث مجهول، ولكن يقولون: حديث بسرة قد جاء عن أربعة عشر صاحبياً، وقال به من الصحابة عمر وغيره، ومن التابعين مجاهد وعطاء ، ومن الأئمة أحمد والشافعي ، ولم يقل به أبو حنيفة .

    وهنا لما جاءت الأحاديث، التي شملت حديث طلق والذي يقول فيه ابن المديني : هو أحسن من حديث بسرة . وحديث بسرة يقول فيه البخاري : هو أصح شيء في هذا الباب. والشافعي يقول: حديث طلق من طريق ولده قيس . وقد سألنا عن ولده قيس فلم نجد من يعرفه، فقالوا: تعارض الحديثان. وعند التعارض نرجع إلى النسخ، ثم إلى الجمع، فإن لم يكن فإلى الترجيح، وهذه الطرق الثلاث هي التي يعتمدها العلماء عند تعارض الأدلة، فبعضهم قال: نمضي إلى النسخ؛ لأن بسرة أسلمت في عام الفتح، وطلق بن علي وفد إلى النبي وهو يبني المسجد، وشارك في البناء، وكان سنة سبع، فيكون حديث بسرة ناسخاً لحديث طلق الذي فيه: (إنما هو بضعة منك).

    والآخرون قالوا: لا نسخ، فـطلق بنفسه قد رجع بعد تلك المرة التي كان فيها بناء المسجد وروى عن رسول الله حديث الوضوء.

    إذاً: يكون طلق بنفسه بروايته الأخيرة قد نسخ الأولى.

    والآخرون الذين يقولون: لا نسخ يقولون: نجمع بين الحديثين، فهذا يقول: لا وضوء. وهذا يقول: وضوء.

    يقول مالك رحمه الله: الأمر بالوضوء للندب؛ نظراً لحديث المنع. فأخذ قولاً وسطاً، ليس فيه القول بالإيجاب الناقض المبطل، وليس فيه القول بعدم المشروعية، وعنده: من مس فرجه بعد الوضوء ناسياً وصلى، فإن تذكر قبل خروج الوقت توضأ وأعاد الصلاة، وإن تذكر خروج وقت الصلاة فلا يعيد، ويتوضأ لما يستقبل.

    وهناك من ينقل عن مالك رحمه الله في الجمع: أن من مس فرجه بشهوة فليتوضأ، ومن مس فرجه بدون شهوة فلا وضوء عليه. فجعل نقض الوضوء من مس الفرج كنقض الوضوء من مس المرأة.

    خلاصة القول في الوضوء من مس الفرج

    وهكذا تكون النتيجة: أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله لا يرى وضوءاً من مس الفرج، والشافعي وأحمد رحمهما الله يرون الوضوء من مس الفرج على العموم، ومالك وقف موقف التفصيل، فنقل عنه بأن الوضوء للندب وليس للإيجاب، وقول آخر ينقل عنه: أن الوضوء يجب إن وجد شهوة، ولا يجب ولا يندب إن لم يجد شهوة.

    وهذا حاصل الأقوال في هذه المسألة، وبالله تعالى التوفيق.

    وعلماء الحديث يرجحون الوضوء؛ وجاء هذا القول عن بعض السلف المتأخرين، وكذلك عن بعض الصحابة، ومن ذلك ما جاء عن سعد بن أبي وقاص : أن غلاماً كان يمسك له المصحف وهو يقرأ، قال الغلام: فاحتككت، فقال لي: هل مسست فرجك؟ قلت: نعم، قال: فأخذ مني المصحف وقال: قم فتوضأ، أي: يتوضأ لحمل المصحف، فهذا عمل من صحابي يدل على أن المس يقتضي الوضوء.

    وكذلك روى سالم عن عبد الله بن عمر : أنه توضأ وصلى بعد أن طلعت الشمس، فقلت له: ما هذه الصلاة التي لم أكن أراك تفعلها؟ قال: توضأت ومسست فرجي، ونسيت -أي: أن أتوضأ- وصليت، فهأنا أتوضأ وأعيد الصلاة. فعند ابن عمر : لزوم إعادة الصلاة ولو خرج الوقت. وعلى هذا لما عمل بذلك ابن عمر ، ونقل عن عمر ، ونقل عن سعد بن أبي وقاص وغيرهم قالوا: إن هذا يرجح أن اللمس ناقض، وإذا كان هناك حديثان: أحدهما: يبقي على البراءة الأصلية، ولم يزد شيئاً، والآخر: ينقل عن البراءة الأصلية إلى تكليف جديد، فالناقل يكون أولى.

    والله تعالى أعلم.

    والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765797089