الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيقول المصنف رحم الله: [وعن حمران (أن
أصل مشروعية الوضوء الكتاب والسنة والإجماع، فجاء في الكتاب في قوله سبحانه: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، وهكذا جاء القرآن بالأمر بغسل هذه الأعضاء الأربعة، ولكن سنجد في صفة الوضوء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصور والكيفيات ما هو زائد عن كتاب الله، فالزائد عن كتاب الله نسميه سنة، والسنة من الوحي، كما جاء عن السيوطي أنه قال: الوحي وحيان: وحي أمرنا بكتابته، وتعبدنا بتلاوته الحرف بعشر حسنات، ووحي لم نؤمر بكتابته، ولم نتعبد بتلاوته، ألا وهو سنة النبي صلى الله عليه وسلم. واستدل بقوله سبحانه: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7].
فما يأتينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سواءٌ في الوضوء أم في الصلاة فإنه وحي، ويجب العمل به على مراتبه، ولا يحق لأحد أياً كان أن يزيد أو أن ينقص، وليس لإنسان أن يرد سنة جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: لم نجد هذا في كتاب الله! بل كل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبتت الرواية عنه به فهو في كتاب الله، أو فهو من كتاب الله، كما جاء عن عبد الله بن مسعود أنه كان في المسجد وحدث، فمما جاء في حديثه تلك الليلة قوله: (لعن الله في كتابه الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة)، فمرت امرأة ووقفت فسمعت هذا وذهبت، ثم جاءت ووقفت عليه في حلقته وقالت: لقد قرأت القرآن من دفته إلى دفته فلم أجد ما قلت فيه! فاحتجت عليه بالقرآن، فقال: لو كنت قرأتيه لوجدتيه، فلم ينف عنها القراءة، لكن أخبرها أنها لو قرأته بإمعان وتأملت كل ما فيه لوجدت ذلك، ثم قال لها: ألم تقرأي قوله تعالى: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7]؟ قالت: بلى. قال: هذا مما أتانا به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقام الشافعي رحمه الله في مكة وقال: ايا أهل مكة! أنا من الراسخين في العلم -وهذه دعوه كبيرة والله- سلوني عمَّا شئتم أجبكم عنه من كتاب الله فقام رجل -وكما يقال: لا يفل الحديد إلا الحديد- فقال: أخبرنا عن المحرم يقتل الزنبور ماذا عليه في كتاب الله؟ -الزنبور: الدبور مثل النحلة، ويلسع أشد منها- فقال: نعم. يقول الله سبحانه وتعالى: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7]، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) -فالقرآن أحاله على رسول الله والرسول أحاله على سنة الخلفاء الراشدين- ثم قال: وحدثني فلان عن فلان -وذكر السند- عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن المحرم يقتل الزنبور ماذا عليه؟ قال: لا شيء. فلا شيء عليه في كتاب الله.
وإنما أتيت بهذه المقدمة لأن هناك أموراً تعبدية ليس لنا فيها طريق إلا ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نعم هي مراتب من الندب إلى الإيجاب، فما جاءنا لا ينبغي لعاقل مسلم أن يتردد في مشروعيته وإن اختلف الناس في مرتبته من الوجوب إلى الندب إلى الاستحباب فنبدأ هنا بهذا الحديث، ولعله أجمع الأحاديث في فروض الوضوء.
عثمان هو: عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء...)، وابن تيمية رحمه الله لما سئل عن صلاة الركعتين قبل الجمعة التي يفعلها الناس قال: ليس لها أصل من فعل رسول الله لأن بلالاً كان يؤذن والرسول يخطب حالاً فليس هناك فرصة لأدائها، والآن يؤذن المؤذن وبعد فترة قليلة يصعد الإمام على المنبر، ثم يؤذن بعد ذلك بين يدي الإمام قبل أن يخطب، وهذه الفترة القليلة يقوم الناس ليصلوا فيها ركعتين، فسئل ابن تيمية عن هذه الصلاة، فقال: ليعلم طالب العلم أنها لا أصل لها في سنة رسول الله؛ لأنه ما كان هناك وقت، ولكن طالب العلم إذا رأى العوام يعملونها، ويرى أنه إن أنكر عليهم ساءت العلاقة بينهم، ولن يعودوا يقبلون منه النصح والتوجيه، وسيقولون: هذا سيعطل السنة فإنه في نفسه لا يفعلها؛ لأنه طالب علم، ويعلم أنها لا أصل لها، وإذا رآهم التمس لهم عذراً -وهي الطريقة والحكمة والسياسة في الدعوة- من عموم قوله صلى الله عليه وسلم: ( بين كل أذانين صلاة)، وفي وهذا الحديث المراد بالأذانين من باب التغليب، كالعمرين والقمرين، يعني: الأذان والإقامة، فبين كل أذان وإقامة في الصلوات الخمس صلاة مسنونة، فالأذان الثاني هو لوقت الصلاة، والأذان الأول الذي يقوم الناس بعده أذان أنشأه خليفة راشد، فأصبح له حكم المشروعية، بدليل: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)، فاعتبره رحمه الله من تشريع الخلفاء، وعذر العامة في ذلك.
بينما بعض تلامذته حينما سئل عن هاتين الركعتين قال: لا يفعلمها إلا أجهل من حمار أهله، فانظر إلى الفرق بين الجوابين، وانظر إلى منهج الدعوة، وأنا أسمي هذا سياسة الدعوة بالرفق والتماس الأعذار للعامة.
والذي يهمنا قوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي)، فـ عثمان رضي الله تعالى عنه ما جمع الناس وقال: أيها الناس! هلموا أعلمكم وضوء رسول الله كان إذا توضأ فعل وفعل وفعل فهذا يحتاج إلى عشرات المرات حتى يرسخ في عقول الناس، ولكن لما أراد الطريقة المثلى -وهي الطريقة العملية المشاهدة- دعا بوضوء، فقال: انظروا وتوضأ لهم على النحو الذي ساقه المؤلف، ثم قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا).
وهكذا كان السلف يتبعون هذا المنهج العملي من سنة رسول الله، وكان بعض الصحابة يأتي إلى الحي ويقول: ألا تريدون أن أصلي لكم صلاة رسول الله؟ فيصلي لهم، وهذا أبلغ من أن يخطب فيهم عشرات المرات في كيفية صلاته؛ لأن الذاكرة -كما يقولون- تأخذ بالعين أو المشاهدة أكثر مما تأخذ بالسمع؛ لأن هذا يشترك فيه الإنسان والحيوان فسنة رسول الله التعليم العملي، فقد صعد المنبر صلى الله عليه وسلم ووقف على الدرجة الثالثة، فاستقبل القبلة وكبر، ثم قرأ الفاتحة وركع ورفع وهو على المنبر -وكان ثلاث ردجات-، ثم نزل القهقرى -وهو محافظ على استقبال القبلة- حتى وصل إلى الأرض، وتأخر حتى أوجد فرجة، وسجد في أصل المنبر السجدتين، ثم صعد المنبر وفعل في الركعة الثانية كما فعل في الأولى، ثم نزل القهقرى وسجد، ثم سلم، ثم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي).
وكذلك في الحج، فما جاء وخطب وقال: افعلوا وإنما حج وقال: (خذوا عني مناسككم) مع أنه أيضاً في الفتوى كان كلما سئل أفتى، لكن الأخذ المباشر الفعلي عنه هو الأصل.
وهكذا نجد المنهج التعليمي العملي المشاهد هو الطريقة المثلى، ولذا استن أصحابه رضوان الله تعالى عليهم به صلوات الله وسلامه عليه، فأخذوا يعلمون الناس عملياً، وهكذا انتقل الإسلام إلى الآفاق اقتداءً وتأسياً بالمسلمين التجار ليس العلماء ولا الخطباء- فما يفعلون يفعلون مثلهم.
وهكذا في هذا الحديث نجد عثمان رضي الله تعالى عنه يشرع في تعليم هؤلاء القوم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم تعليماً عملياً.
ونحن نشاهد الطفل الصغير حينما يرى أحد أبويه يصلي فإنه يأتي ويحاكيه في الفعل، فيقف ويركع ويسجد، وقد يستقبل أباه في صلاته لا يعرف القبلة من شرق أو من غرب، ولكن يحاكي، فتلك المحاكاة، فلو أردت أن تقول له: افعل كذا وكذا لا يدرك ولا يحسن، ولكن عندما يشاهدك يفعل، وهذه الطريقة فطرية.
وما دمنا بصدد هذا الأمر، فهناك حادثتان لا بأس بذكرهما:
كنت أدرّس في معهد الأحساء، وجئت إلى باب صلاة الخوف، وقد كنت أثناء الدراسة عاجزاً عن فهم هذه الصور، فكيف تكون جماعة، وكيف تركع جماعة، وكيف تأتي جماعة، وكيف تذهب وكيف تجيء، وبعد التي واللتيا أدركت، فعلمت أني مهما بذلت من جهد مع الطلاب ستكون حالهم كحالي، فعمدت إلى المنهج النبوي وقلت: الرسول صلى الله عليه وسلم علّم أصحابه الصلاة على المنبر ولم يعدها مرة ثانية، فأخذت طالباً وجعلته إماماً، وأخذت بعضاً من الطلاب وجعلتهم مصلين، فكانت صورة أنها أغنتني عن تكرار الكلام وإعادته.
وأضحكني أن الإمام التفت إلي وقال: أنا أركع وأسجد وأصلي ولا أرى ماذا يفعل ورائي، فهم تعلموا وأنا ما تعلمت، فقلت: والله لك حق، فقدمت واحداً من الذين صلوا خلفه وجعلته في أحد الصفوف، وأعدنا الصلاة من أجله هو، فما رجعت إليها بعد ذلك طيلة العام الدراسي.
الحادثة الثانية: أدركت أن هذا المنهج فطري حتى عند الطيور، فلي قصة لا أدري أأسمح لنفسي أن أورد هذه القصة، أو لا أوردها، ولكن ما دام أنها في سبيل التعليم فلا بأس بذلك.
كنت آلف الدواجن، وأربي دجاجاً وأرانب في البيت، فباضت دجاجة، وتركت لها بيضها حتى أخرجت الفراريخ الصغار، وجعلت لها حجرة خاصة، فلما بدأت الفراخ تمشي صارت تدور بهم في الحجرة، وفي يوم من أيام الشتاء في ضحوة النهار إذا بالدجاجة تخرج من الغرفة، وتنزل إلى فناء الدار، وهو منخفض عن الغرفة حوالي عشرة سنتيمترات، فكانت تأتي وتقفز، وأولادها يقفزون وراءها، ثم تمشي فيمشون خلفها كما تمشي ثلة من الجنود خلف قائدها، على خط منتظم تماماً، وأخذت تدور على أرض الفناء وهم معها، ثم توسطت الفناء ووقفت، وأخذت تحرك منقارها وهم يحركون مثلها تماماً، فتحرك أرجلها ويفعلون مثلها، ثم لما أخذت الدفء من حرارة الشمس رجعت، ولما جاءت راجعة -وأنا أتابعها- أتت إلى عتبة الغرفة وضمت أرجلها وقفزت، وهي تستطيع أن ترفع رجلاً وتؤخر الأخرى، لكن فعلت هذا لأجل أن يأتي الفراخ الصغار فتفعل مثلها، فتضم أرجلها وتقفز لتدخل.
فوقفت عند عتبة الباب من الداخل تنظر إلى الفراخ كأنها تستعرضهم عند الدخول، وبقي واحد حاول أن يحاكي إخوانه أو أمه فلم يستطع، فالعتبة عالية قليلاً، فنزلت مرة أخرى وقفزت ثانية من أجله، فحاول فعجز، إذ ارتفاع الأرض مختلف مع العتبة، فذهبت إلى تلك الجهة التي الفارق فيها قليل ووقفت عندها، ووراءها هذا الفرخ، ثم ضمت رجليها وقفزت، فجاء يحاول فعجز.
وأنا خظت هذا الأمر، وكان عندي وصلة إسمنت مثل البلاطة بسمك ثلاثة سنتيمترات أو أقل، فأخذتها ووضعتها في تلك المنطقة وأصبحت مثل الدرجة، فنقص قدر ارتفاع العتبة إلى سنتيمترين، تأتي الدجاجة وتنزل وتقفز على هذه البلاطة الصغيرة وتقف قليلاً، ثم منها إلى الغرفة، فيأتي فرخها بسلامته، ويصعد بقفزتين في درجتين ويدخل، ثم تذهب به مع بقية الفراخ.
فأخبروني -بالله- بأي عقلية أو بأي منهج أو بأي صفة تعلمت هذه الأم أن تعلم أولادها كيف يخرجون؟! أليست هذه طريقة عملية مشاهدة تغني عن أي تعليم؟ فالهرة تمسك ولدها وتأخذه وتنقله، لكن الدجاجة لا تفعل ذلك.
فهذا مما زادني ثقة بضرورة اللجوء إلى طريقة التعليم العملي، وهكذا نشاهد أبناءنا الصغار حينما يقلدون الكبار في الصلاة، فيحاكي الطفل ولا يدري ما هي الصلاة، فلا يستقبل قبلة، ولا يعرف وضوءاً، ولا يعرف أي شيء.
فهذا المنهج العملي يجمع عليه جميع علماء التربية بأنه أنجح طريق إلى التعليم.
الكف: هو ما كان من أطراف الأصابع إلى الرسغ، يقولون: سميت الكف كفاً لأنها تكف الأصابع داخلها؛ لأن الأصابع تأتي منفرجة، وكف الشيء: ثناه، ويكف بها عن نفسه، أي: يدفع الغير عن نفسه، قالوا: وتكفيه في حمل الأشياء الأخرى، ومنه: كفة الميزان تحفظ الشيء وتتعادل معه.
وفي الحديث المشهور: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده)، فهنا عثمان غسل كفيه ثلاثاً، فهل غسل الكفين للحديث: (إذا استيقظ أحدكم من نومه)، أم غسل كفيه لأنهما جزءً من أجزاء الوضوء وذاك غسل مستقل لا دخل له بالوضوء؟
والصحيح الأخير، وهو أن غسل المستيقظ من النوم كفيه قبل أن يدخلهما في الإناء عمل مستقل لا يحسب من أعمال الوضوء، وهنا عثمان ليس مستيقظاً من نوم، فـعثمان جاء إلى قوم وقال: ألا أتوضأ لكم وضوء رسول الله؟ فلم يكن مستيقظاً من نوم حتى يحتاج إلى غسل الكفين لاستيقاظه، فهنا غسل كفيه ثلاث مرات.
(ثم) للعطف وللترتيب، فالأول كان غسل الكفين قبل المضمضة، فلو قال: غسل كفيه ومضمض، فـ(الواو) لمقتضى الجمع والتشريك، لكن (ثم) تدل على الترتيب والتراخي، وهذا التراخي أمر اعتباري.
وقال هنا: (غسل كفيه ثلاثاً ثم تمضمض)، ولم يقل: (ثلاثاً) ولكن سيأتينا في حديث علي رضي الله عنه أنه مضمض ثلاثاً، وهل يمضمض ثلاثاً بثلاث غرفات، ويستنشق ثلاثاً بثلاث غرفات، أم يتمضمض ويستنشق ثلاثاً بثلاث غرفات، أم يمضمض ثلاث مرات بغرفة واحدة ويستنشق ثلاث مرات بغرفة واحدة؟
التفصيل في الكيفية موجود في أخبار أخرى.
فحديث عثمان هو الأصل الكلي للوضوء، والتفاصيل في غيره من الأحاديث.
والمضمضة يقال: إنها تحريك الماء في الفم ثم مجه، لا أن يبلع الماء، والاستنشاق يكون بجذب الماء بالأنف، ثم نثره إلى الخارج، وفيه حديث لقيط بن صبرة : (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) احتياطاً للصوم، حتى لا يسبق الماء إليه.
وهنا غسل الكفين عمل مستقل، ثم المضمضة والاستنشاق، ثم يلي ذلك غسل الوجه ثلاث مرات، وهل المضمضة والاستنشاق كل منهما عمل مستقل بذاته، أو أن المضمضة والاستنشاق جزء من غسل الوجه؟
فمنهم من قال: أن الفم والأنف عضوان داخلان، وهما جزء من الوجه، فالمضمضة والاستنشاق مقدمة تتمة لغسل الوجه، فيكون غسل الوجه شاملاً لهما، وهما داخلان في قوله تعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]، ويكون من ضمن الوجه الفم والأنف، فتكون المضمضة والاستنشاق واجبان؛ لأنهما جزء من الوجه.
ومنهم من قال: الفم والأنف عضوان مستقلان، وليسا بداخلين في الوجه، ويكون الوجه على الفرضية بنص الآية، وتكون المضمضة والاستنشاق على الندب؛ لأنهما خرجا عن محيط الوجه، ولكن القول بأنهما عضو داخلي أو عضو خارجي يقال في الصوم؛ لأن الماء إذا وصل إلى داخل الجوف أبطل الصيام، والصائم يتمضمض ويستنشق، فهما عضوان خارجان بالنسبة إلى الصوم.
والآية اقتصرت على غسل الوجه، والسنة النبوية جاءت بالمضمضة والاستنشاق، فبعضهم يقول: غسلهما واجب يبطل الوضوء بتعمد تركه، وبعضهم يقول: ليس بواجب؛ لأن الواجب جاء في القرآن بغسل الوجه، وبعضهم يخالف في الوضوء وفي الغسل، ويقول: هما واجبان في الغسل مندوبان في الوضوء.
ولكن ما دامت السنة لم تنقل لنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ مرة واحدة وترك المضمضة والاستنشاق فلا ينبغي لإنسان أن يتعمد تركها.
ولذا يقول بعض العلماء: إذا كان الأنف والفم من الوجه، فلماذا لا يقدم غسل الوجه ثم يتمضمض ويستنشق؟
قالوا: لا تقديم غسل الكفين -وإن كانا مستقلين- لغرض، وتقديم المضمضة بالفم والاستنشاق بالأنف لغرض، أما الغرض في غسل الكفين فليعرف درجة حرارة الماء، أما إذا لم يعرفه وأخذه فجأة فإنه يلسعه بحرارته الزائدة، لكن الكفان يتحملان؛ لذا أول شيء لا بد أن يعرف حرارة الماء بغسل الكفين.
وأما المضمضة فلقولهم: حكم الماء الطهور أن يسلم من الأوصاف الثلاثة التي تغيره وهي الطعم واللون والرائحة، أما اللون فيعرف برؤية العين، وأما الطعم فيعرف بالمضمضة، وأما الرائحة فتعرف بالاستنشاق، فكأنه بتقديم الكفين عرف حرارة الماء، وهذا أمر مهم لصحة الإنسان، وبتقديم المضمضة والاستنشاق عرف صفات الماء أنه طهور صالح، وليس يداخله ما يسلبه الطهورية، وقد عرف اللون بالرؤية. والله تعالى أعلم.
قوله: (استنشق) أي: سحب الماء بأنفه بالنفس إلى الداخل، و(استنثر) أي: نثر الماء الموجود في الأنف بنفسه من أنفه.
وبعض الناس يحاول أن يعرِّف الوجه، وكما يقولون: تعريف المعروف صعب، فيقول: ما هو الماء؟ وما هو العمود؟ ومن الذي يعرف العمود تعريفاً منطقياً جامعاً مانعاً؟ فهذا صعب جداً، لكن الشيء المجهول يمكن تعريفه من خلال صفاته.
قالوا: الوجه من المواجهة، ويقابله القفا من: (يقفو إثره) فحد الوجه: ما يرى من الغير عند مواجهته، فعندما تواجه إنساناً هل ترى قفاه؟ فالقفا ليس من الوجه، وبعض الشافعية وغيرهم قالوا: حده معلم ومعروف، فحده طولاً من منبت الشعر -يعني: ما بين نهاية الجبهة وأول الرأس ولو كان أصلع- إلى أسفل الذقن، فهذا هو حد الوجه في الطول، وفي العرض قالوا: ما بين شحمتي الأذنين، فالأذن ليس بداخلة، ولكن إلى حد أوائل الأذن هو حد الوجه عرضاً.
وبعضهم قال: حده إلى الصدغين، وهما العظمان الناتئان بين نهاية الوجه وأوائل الرأس. وهذا قريب.
ويريد الفقهاء بهذا عدم الزيادة، فإذا كان في غسل الوجه لا يذهب يغسل رقبته من فوق ومن الخلف، والرأس، بل يغسل على حد العضو المسمى شرعاً وعرفاً.
بعدما غسل الوجه ثلاث مرات بثلاث غرفات غسل يده اليمنى إلى المرفق، والقيد في المرفق ليحدد الجزء المفصول من اليد، وفي أول الوضوء غسل كفيه، والكفان من اليد، وبعض الناس يطلق اليد على الكفين فيقول: مد يدك وخذ، واليد عرفاً تطلق على العضو المعروف يميناً ويساراً من الأظافر إلى المنكب، فهذه كلها يد، ولكن أجزائها تسمى: الكف، والرسغ، والساعد، والعضد إلى المنكب.
ووجدنا الشرع في ذكر اليد تارة يطلقها عن أي قيد، فتأتي السنة وتقيد، وتارة يقيدها بقيد معين، فجاء في الوضوء قوله تعالى: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، فالرسغ هو وصلة الكف بالزند، فهذا الذي يسمى الرسغ، والمرفق: هو المفصل الذي بين الزند والعضد، أو الذراع والعضد، وسمي مرفقاً لأنك تتكئ وترتفق عليه إذا طالت بك الجلسة، وفيه الرفق بالإنسان، فيساعد الإنسان على الاستراحة والاتكاء على أحد الجانبين للراحة والارتفاق في الجلوس.
وهنا قال: (إلى المرفق) فيقولون: جاءت اليد مطلقة في التيمم في قوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6]، ولم تأت بلفظ (المرافق)، فهل نحمل اليد المطلقة في التيمم على اليد المقيدة في الوضوء ونتيمم إلى المرفق، أم أن هذا عمل مستقل، وهذا عمل مستقل، ولا يقاس أحدهما على الآخر؟ أي: لا يحمل مطلق هذا على مقيد ذاك؟
فـالشافعي رحمه الله حمل اليد المطلقة في التيمم على اليد المقيدة في الوضوء، وجعل التيمم إلى المرفق كما هو في الوضوء إلى المرفق، والجمهور اقتصروا في اليد على ما جاءت به السنة، فضرب بكفيه الأرض فمسح بهما كفيه ووجهه، فعرفنا أن اليد المطلقة في التيمم حدها الكفين، فهنا جاءت اليد مقيدة.
وكذلك جاءت اليد في حد السرقة وقوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38] مطلقة وليس هناك نص في تقييدها من القرآن، فجاءت السنة وعينت، ومن هنا قالوا: السنة تقيد المطلق في الكتاب، وتخصص العام في الكتاب، وقال تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ [المائدة:3] فأطلق فجاء قوله صلى الله عليه وسلم: (أحلت لنا ميتتان)، فخصص عموم الميتة وعموم الدم بالطحال والكبد، وبالجراد والحوت.
فكذلك هنا قيدت اليد في التيمم وقطع السارق بأنها إلى الكفين.
وعلى هذا النص: (إلى المرافق) هل في غسل اليدين نغسل المرفق -وهو محل التحرك-، أو إلى حده ولا نتجاوزه؟
يقولون: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولذا قالوا في غسل الوجه: أنتم قلتم حده إلى منابت الشعر، وليس هناك حد مضبوط، ومنابت الشعر تختلف، فلكي يتأكد المتوضئ أنه استغرق كامل الوجه لا بد أن يزيد ولو بقدر يسير ليتأكد أنه استغرق حد الوجه، كما قال تعالى في الصيام: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]، فهل -يا ترى- يأكل إلى ملتقى الخيطين، أم يترك من الليل جزءاً يتأكد به أنه لم يتعد إلى النهار؟ وكذلك عند غروب الشمس، فهل عند غروبها يأكل، أم يتأخر -ولو قليلاً- حتى يتأكد أنه استغرق النهار بكامله؟
فيقولون: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فاستغراق الصوم في النهار واجب، ولا يتأكد عندنا هذا الواجب إلا بترك جزء من أوله ولو دقيقة واحدة، وأيضاً إضافة جزء من آخره ولو دقيقة واحدة؛ لنتأكد يقيناً أننا قد صمنا النهار كاملاً، وكذلك الوجه، فلكي نتأكد يجب أن نزيد -ولو شيئاً يسيراً- عن الحد المعروف، فكذلك غسل اليد إلى المرفق.
لكن الوجه له حكم بذاته، قال تعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]، واليد هنا جزء من عضو، فلها بداية وغييت بغاية هي النهاية، فهل الغاية في الحد داخلة في المحدود أم خارجة عنه؟
هنا قال تعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، فهل المرافق داخلة في المغسول، أم هي حد الغسل ولا تغسل؟ فهذا معنى: هل الغاية تدخل في المغيا أم تخرج عنه؟
فإذا جئنا إلى حكم اللغة وجدنا أن هناك قاعدة، وإذا جئنا إلى الناحية الشرعية لجأنا إلى فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ليبين لنا، وقد جاء النص: (أدار الماء على مرفقيه)، فهل أدخلهما في المغسول أم لا؟ والجواب: أدخلهما.
ونأتي إلى عرف اللغة: فعندما يكون عندك بستان فيه صف نخيل، ويليه صف رمان، فإن قلت لإنسان: بعتك من صف النخيل إلى النخلة العاشرة -والصف فيه عشرون نخلة-، فهل الغاية في هذا المبيع -أي: النخلة العاشرة- من جنس المبيع، أم خارجة عنه؟ فهل اشترى منك تسعاً والعاشرة خارجة عنه، اشترى العاشرة كذلك؟
والجواب أنها داخلة.
فإذا كان عندك صف نخيل فيه عشر نخلات، وبعده صف ليمون فيه عشر شجرات، فقلت لإنسان: أبيعك هذا النخل إلى الليمونة الأولى فهل الليمونة الأولى داخلة في المبيع بكلمة (إلى) أم خارجة؟
والجواب: خارجة فالذي أخرجها هو مغايرة الجنس، فهم يقولون: إذا كانت الغاية من جنس المغيا فهي داخلة، وإذا كانت الغاية خارجة عن جنس المغيا فهي خارجة عنه، والمرفق جزء من اليد، لكن ما دام أنه وضعت حدود نجد هناك الخلاف، وجاءت السنة ورفعت هذا الخلاف.
فقوله: (ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق) الغاية هنا داخلة، فإنه يغسل المرفق، مع أن النص: (وأدار الماء على مرفقيه).
أي: ثلاث مرات إلى المرفق.
لفظة (مسح) تتعدى بنفسها، فتقول مسحت الزجاج، فتتعدى كلمة (مسح) بدون زيادة حرف، فهنا الباء جاءت ودخلت على الكلمة، فيقولون: ما دام أن مادة (مسح) تتعدى بذاتها فلا حاجة إلى مجيء الحرف، فنقول: وامسحوا رءوسكم فيحصل المسح، لكن مجيء الباء يدل على وجود مادة وقع المسح بها، كأنه قال: وامسحوا بالماء رءوسكم.
بقي عندنا كيفية المسح والمقدار المجزئ في ذلك، فنجد من يقول: الباء للإلصاق، أي: لشمول وتعميم الرأس كل، وبعضهم يقول: الباء للتبعيض، نحو: اكتفيت بتمرة من كامل التمر الموجود فهل الباء هنا في الآية الكريمة: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6] للتبعيض، أم للإلصاق، أم هي لضرورة وجود ممسوح به يعلم بالرأس؟
تقول: مسحت الدهن بالرأس فنجد من يقول: الباء للتبعيض ويقول: أي جزء من الرأس مسحت أجزأك.
ونفس القضية في حلق الرأس، ونجد الآخرين يقولون: تحلق مقدار الربع، ونجد بعضهم الآخر يقول: تحلق الأغلب، فـمالك وأحمد رحمهما الله يقولان بالأغلبية، وأبو حنفية يقول بكامل الرأس، وأبو حنفية رحمه يقول بالأكثرية، والشافعي رحمه الله يقول ببعضه.
ومن غريب نوادر الفقه ما ذكره النووي رحمه الله في المجموع، حيث يقول: وقد أغرب بعض أصحابنا فقال: لو مسح ثلاث شعرات أجزأه؛ لأنه أقل العدد وأغرب منه من قال: ولو مسح بعض شعرة أجزأه ثم يقول: وكيف يكون بعض شعرة؟ قال: إذا طلى الرأس بالحناء، وبرزت شعرة من تحت الحناء، ومسح الجزء الذي برز منها أجزأه، ثم يقول: هذا من أغرب الأقوال.
وسيأتي في باب الوضوء كيفيات مسح الرأس عنده صلى الله عليه وسلم، ففي رواية: (فأقبل بهما وأدبر) أي: بدأ بمقدم رأسه وذهب بكفيه إلى قفاه، ثم رجع إلى المكان الذي بدأ منه.
وسنجد أنه مسح بناصيته وكان عليه العمامة، فأتم على العمامة، والناصية هي مقدم الرأس، وكانت عليه صلى الله عليه وسلم العمامة، فأدخل يده تحت العمامة ومسح بالناصية، ثم أكمل المسح على العمامة.
وهناك صورة ثالثة أنه مسح على العمامة بدون الناصية، فلهذا قال الشافعية: مسح بعض الرأس يجزئ وكذلك الأحناف قالوا: مسح الأكثر يجزئ ولكن الجمهور يجيبون عن ذلك بأنه لم يقتصر على الناصية، ولكنه أكمل على العمامة.
وهنا عثمان رضي الله عنه قال حمران عنه: (ثم مسح برأسه). وذلك بعدما مضمض واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وغسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً، وفي مسح الرأس لم يذكر (ثلاثاً)، وهنا يأتي السؤال: هل المسح على الرأس يكون ثلاثاً كبقية أعضاء الوضوء، أم مرة واحدة؟
وهنا أطلق، لكن إذا وجد عندنا ما يقتضي أن المسح ثلاثاً انتقلنا إليه، وهنا لم يذكر عدداً، ولم ينس ولم يخطئ، فما دام أنه ذكر العدد في كل أعضاء الوضوء فإنا نأتي بالعدد في موضع ما جاء به، وحيث ترك العدد في موضع منه تركناه، إلا إذا جاءنا نص في حديث آخر يقول: (ثلاثاً) فننظر هذه الزيادة، وننظر فيمن زادها، فإن كان ثقة فزيادة الثقة مقبولة.
وبعض الشافعية يرى أن تثليث المسح كتثليث الأعضاء في الغسل، والجمهور على أن المسح لم يرد فيه نص صحيح صريح بأن يكون ثلاثاً، وقالوا: لا ينبغي أن يكون المسح إلا مرة واحدة.
فنحن نعلم بأن الشعر لا يغسل بالماء، فإذا كانت اليد مبلولة ومسحت الرأس ترى أثر الماء على الشعر، ولو مسحت على الثوب لا تراه، ولو جئت بالمسح مرة ثانية أو مرة ثالثة انقلب المسح إلى ما يشبه الغسل، ولهذا قالوا: المسح لا يكرر؛ لأنك لو كررت المسح أصبح في صورة الغسل، والله سبحانه وتعالى أمر في حق الرأس بالمسح وليس بالغسل.
عندما غسل يده تيامن، وغسل القدمين أيضاً فيه تيامن، وفي الحديث: (كان صلى الله عليه وسلم يعجبه التيامن في كل شيء)، وقد جاء الفعل في غسل اليدين والرجلين مجملاً في الكتاب، فقال تعالى: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، وليس فيه يمين ولا يسار، فبمقتضى عموم النص في الآية يمكن أن تبدأ باليمين أو اليسار كما تريد، لكن بمقتضى تطبيق السنة تقدم اليمنى.
وقوله: (إلى الكعبين) الكعب والتكعيب والمكعب والكعبة والكواعب مأخوذة من مادة واحدة، فالشكل المكعب ما استوى طوله وعرضه وعمقه، فالمكعب: الجرم المتكعب الناتئ الذي يستوي طوله وعرضه وعمقه، ومنه سميت الكعبة؛ لأنها توجد على هذا التكعيب وسط الخلاء، ومنه أن الفتاة إذا ند ثديها وبرز على صدرها سمي مكعباً، فهو تكعب على جرم مصفح، فكواعب على وزن فواعل (جمع فاعل)، وهي التي ند ثديها -أو برز ثديها- وظهر للعيان.
فما هما العظمان الناتئان اللذان يصدق عليهما اسم الكعب؟
قال بعض العلماء: لو نظرت في ظهر القدم تجد أن فيه عظماً ناتئاً عند عقد شراك النعل، فكل رجل فيها كعب واحد، فتغسل إليه، ويكون غسل القدمين إلى الكعبين، ففي كل قدم كعب واحد، وهذا يذكرونه عن الأحناف.
لكن الجمهور يقولون: كل قدم فيها كعبان، وكل رجل تغسلها إلى كعبيها.
والكعبان عندهم العظمان الناتئان على جانبي القدم في المؤخرة عند التقاء الساق بالقدم، وهذا ما تشهد له السنة.
فقد جاء في الإحرام أنه إذا لم يجد المحرم نعلين يلبس الخفين، ويفعل كما قال صلى الله عليه وسلم: (وليقطعهما أسفل من الكعبين)، وفي تسوية الصوف ومساواتها قال الراوي: يلصق أحدنا كعبه بكعب جاره فهل سيلصق الكعب الذي فوق القدم بكعب صاحبه، أم العظم الناتئ عن اليمين وعن اليسار؟
فالكعبان هل هما العظم الناتئ على ظهر القدم كما يقوله الأحناف، أم العظمان الناتئان على جانبي الساق؟
والجواب: العظمان اللذان على جانبي الساق.
والكعبان غاية داخلة في المغسول.
هنا مسألتان: الأولى تتمة لهذا الحديث عند غير البخاري، أو غير المتفق عليه، وبنظرة إلى سرد أعمال الوضوء في هذا الحديث يقال: هل يتعين على الإنسان أن يأتي بوضوئه كما فعل عثمان، فلا يقدم ولا يؤخر، أم له أن يقدم ويؤخر، ويغسل يديه، ثم وجهه، أو يغسل وجهه ثم يتمضمض، أو يغسل قدميه ثم يمسح رأسه، فهل الترتيب واجب في الوضوء أم غير واجب؟
إن الآية جاءت فيها الواو، والواو لا تقتضي الترتيب، والحديث جاء فيه (ثم)، وهي على الأفضلية، وحديث (ابدءوا بما بدأ الله به) على الندب والاستحباب، وذلك لما قالوا: من أين نبدأ بالسعي؟ قال: (ابدأوا بما بدأ الله به).
وانظر إلى فقه الأئمة وما فتح الله به عليهم، فـالشافعي رحمه الله قال: ترتيب أعضاء الوضوء واجب في كتاب الله بدلالة الإيماء والتنبيه، وليس بدلالة النص الصريح.
قال: أول ما يفعل من الوضوء غسل الوجه، فلتكريمه ولمواجهته ولشرفه كان موضع البداية، وفيه سلاطين الحواس السمع والبصر والفم وغيره فقدم، ثم بعد الوجه غسل اليدين، ثم بعد اليدين مسح الرأس، فهل الأقرب والمشابه والمجانس لليدين الرجلان أم الرأس؟
والجواب: الرجلان، فاليدان يبطش بهما، والرجلان يسعى بهما.
فيقول: لو أن الترتيب غير واجب لأتبع المجانس بمجانسه، فيكون غسل اليدين أولاً، ثم الرجلين، ثم مسح الرأس، فلما جاء بممسوح بين مغسولين -وهذا حكم مغاير-، وأدخل أجنبياً بين متجانسين عرفنا أن موضع الرأس هنا لا يجوز تقديمه ولا تأخيره، وكذلك بقية أعضاء الوضوء، فانظر كيف أتى بها!! فهل نستقل بعقولنا أم نرجع إلى عقول العلماء؟!
وجاء في رواية تتمة للحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه بشيء غفر له ما تقدم من ذنبه)، فترتب على هذا الوضوء الكامل الإسباغ الوافي أنه إذا صلى ركعتين ليستا من الفرائض ولا من النوافل الراتبة، وكان فيهما حاضر القلب وليس مشغولاً بشيء غفر له ما تقدم من ذنبه.
ويقول ابن دقيق العيد أو غيره: ولو خطر على قلبه خاطر فدفعه فهو داخل في هذا المعنى، فالمهم أنه لا يسترسل مع تلك الخواطر.
وبالله تعالى التوفيق.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر