إسلام ويب

كتاب الطهارة - باب الآنية [1]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد نهانا الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة لا لعلة النجاسة، ولكن لما تبعث في النفس من العلو والفخر، وتغير من خلق التواضع إلى الكبر والاحتقار، ولأنها من عادات الكفار وأخلاقهم، ومن تنعم بها في الدنيا حرمها في الآخرة.
    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:

    يقول المؤلف رحمه الله: [عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة) متفق عليه ].

    لما قدم المؤلف رحمه الله تعالى ما قدمه من أخبار وآثار فيما يتعلق بالمياه تحت عنوان كتاب الطهارة، جاء وعقد هذا الباب (باب الآنية)، والمياه باب من أبواب الطهارة، والآنية باب من أبواب الطهارة، وعلاقة باب الآنية بباب المياه أن الماء لابد له من إناء يوضع فيه، ثم يستعمل هذا الماء من هذا الإناء، والترتيب الطبيعي أن يأتي بأحكام الأواني هنا.

    والآنية: جمع إناء، وقد يجمع على (أوانٍ) فالآنية: جمعٌ للإناء، والإناء هو ما يوضع فيه الشيء السائل، وما يوضع فيه الشيء الجاف يقال له: ظرف أو كيس أو نحو ذلك.

    جعل المؤلف رحمه الله تعالى باب الآنية عقب باب المياه، وقبل إزالة النجاسة، وقبل الوضوء والغسل وما والاهما، وبدأ هذا الباب بالحديث الأول:

    عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة) متفق عليه.

    (فإنها لهم) الضمير في (لهم) وإن لم يأتِ له مرجع فهو معروف بالمقابلة: (لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة)،

    والناس في الدنيا قسمان: مؤمن وكافر، إذاً: (لهم) قسيم (لكم)، فيكون (لهم) هنا المراد بها الكفار، وموضوع آنية الذهب والفضة قسيم لموضوع الحرير، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: أنه أخذ الحرير والذهب وقال: (الحرير والذهب حرام على ذكور أمتي، وحلال لإناثهم)، فهذا العموم يحل ويبيح الحرير للنساء، وبالإجماع يجوز أن تستعمله المرأة لباسًا أو فراشًا وعلى أية حال من أحوال استعمال الثياب، ولا يجوز للرجل من الحرير إلا ما استثني، كما تقدم في جيوب القميص، أو عند الضرورة للحكة، أو في ميادين القتال، وهذه أمور اضطرارية أو تدعو إليها الحاجة، فيباح الحرير للرجال بقدرٍ معين للضرورة أو الحاجة.

    وعموم (الذهب حلال لإناث أمتي) هذا الحديث يخصصه؛ لأن للمرأة أن تستعمل الذهب حلياً كما تتحلى النساء، أما أن تستعمله آنية فهذا لا يجوز، فالنهي عن استعمال آنية الذهب والفضة عامٌ للرجال والنساء، وهو مخصصٌ لعموم إباحة الذهب للنساء.

    والمؤلف رحمه الله تعالى سيتكلم على أواني الذهب والفضة، والأواني من الجلود، وعموم أواني أهل الكتاب.

    فالحديث الأول: فيه النهي عن استعمال آنية الفضة لشراب وأكل، والعلماء رحمهم الله أخذوا نص الأكل والشرب، وألحقوا به بقية الاستعمالات، فلا يجوز للمرأة أن تتخذ لها أواني ذهب وفضة زينة كالمكحلة، أو فنجان، أو صحن، أو مرآة تغلفها بالذهب، وأي استعمال سوى حلي الزينة فهي ممنوعة منها.

    وهنا يرد سؤال: ما هي علة تحريم استعمال الذهب والفضة؟

    سيأتي الحديث بعد ذلك يبين الأمر المترتب على استعماله، ومن العلماء من ناقش في تحريم بقية الاستعمالات سوى الأكل والشرب كالشارح رحمه الله، وكذا الشوكاني وغيرهما، ولكن الجمهور على عموم تحريم استعمال أواني وآلات الذهب والفضة على الرجل والمرأة، فيحرم على الرجل أن يتخذ قلماً من ذهب أو فضة، أو حقيبة من ذهب أو فضة، أو أي شيء مما قد يتخذه الناس من الذهب والفضة.

    وابن دقيق العيد يقول: إن بعض العلماء قاسوا بقية الاستعمالات في بقية النواحي الأخرى على الأكل والشرب، ولكن المتأمل يقول: ليست المسألة قياسية، ولكنها نصٌ تقريباً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (فإنها -أي: آنية الفضة وآنية الذهب- لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة)، فإذا كان استعمال الفضة لهم في الدنيا فإنه سيكون ممنوعاً على غيرهم في الدنيا -أي من المسلمين-؛ لأنها للمسلمين في الآخرة وليست للكفار.

    قوله: (لا تشربوا) هذا نص في الشرب في آنية الذهب والفضة، ثم جاء نص في الأكل فقال: (ولا تأكلوا في صحافهما).

    وما الفرق بين الآنية والقدح والكأس والصحفة؟

    الصحفة منبسطة مثل الصحن، ويقال: إن الصحفة يوضع فيها طعام يكفي لخمسة أشخاص، والجفنة: ما يوضع فيها طعام يكفي لعشرة أشخاص، وقد يكون هناك أوان أخرى تستعمل للماء الكثير أو للعجين.

    الذي يهمنا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب في آنية الذهب والفضة بأية حالة كانت: ملعقة، كأس، (زِبْدية)، قدر .. أي نوع من الأنواع لا ينبغي أن يشرب فيه إذا كان ذهباً أو فضة.

    (ولا تأكلوا) أياً كان نوع الطعام: إدامًا، أو مكسرات، أو نواشف، أو فاكهة، فلا ينبغي أن يكون في آنية الذهب والفضة.

    نص الحديث على الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، وقال الآخرون: يلحق بالأكل والشرب عموم الاستعمالات، وهذا ليس قياساً، ولكنه تنبيه بالأعم على الأخص؛ لأن أكثر استعمالات الناس للأواني لأجل الأكل والشرب، فإذا نهى عن استعمالها في الأكل والشرب وهو العام؛ فيكون ما سوى ذلك أقل منه، وهو من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى، يعني: (الأعلى) كثرة الاستعمال و(الأدنى) الذي هو قلة الاستعمال.

    (فإنها لهم في الدنيا) يقول بعض العلماء: ليس إلحاق بقية الاستعمالات قياساً على الأكل والشرب، ولكن بدلالة (فإنها) أي: الذهب والفضة، ما قال: (فإنهما)، أو قال: فإنه، فلو جاء الضمير مذكراً لعاد على الذهب، ولو جاء مثنى لعاد على الذهب والفضة، ولكنه قال: (فإنها)، فهل هذا الضمير المؤنث خاص بالفضة أو أنه عائد على الآنية من حيث هي؟

    نجد في القرآن الكريم: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ثم قال: وَلا يُنفِقُونَهَا [التوبة:34] فالضمير رجع على أحد المذكورين وهو الفضة، ورجع على أدنى الصنفين بضمير المفرد المؤنث، وهو عائد على الفضة قطعاً، فيقول العلماء: لما كان النهي عن عدم إنفاق الجنسين، وكانت الفضة أقل الجنسين، جاء الضمير على الأدنى: (ولا ينفقونها) ثم قوله: (فبشرهم) يترتب على عدم إنفاق الفضة وهي الأدنى، فيكون عدم إنفاق الأعلى -وهو الذهب- داخلاً من باب أولى، وكذلك هنا (فإنها) أي: الفضة، (لهم)، وبالتالي الذهب من باب أولى.

    علة تحريم استعمال الذهب والفضة

    هل النهي عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة لعين الذهب والفضة؟ وكما يقول الأصوليون: هل العلة ذاتية أو عرضية؟ بمعنى: هل العلة في النهي لعين الذهب والفضة أو لوصف زائد عن الذهب والفضة؟

    من قال: النهي لعين الذهب والفضة قال: لناحية بعيدة جداً ولها أثر، وهي: لو أن العالم الآن يتعامل بالذهب والفضة نقداً كما كان في السابق، وصار كل من يسر الله عليه أخذ الذهب وسبك منه أواني، وتحوّل الذهب الذي هو النقد السيّال -قيمة المبيعات- إلى أوانيَ في البيوت، فهل يبقى في أيدي الناس من المال والسيولة ما يدير الاتصال بين الناس؟ لا، تتعطل أداة الثمن والتثمين، والبيع والشراء، وتحجز أواني في بيوت الناس!

    فبعض العلماء يقول: العلة في النهي ذاتية لئلا يحتكر الناس الذهب والفضة، ويحتجزوا عين الأثمان؛ فتتعطل المثمنات لعدم وجود النقد من الذهب الذي تحول إلى أواني في البيوت.

    وبعضهم يقول: لا، العلة عرضية.

    ونجد في بعض البلدان حلي النساء بالأطنان مكدساً، وقيل: إن غاندي عندما كان يفاوض بريطانيا في الاستقلال، ذهب إليهم بِعَنْزِه، يحلبها ويشرب لبنها وسط البرلمان، ويأتون له بطعام ويقول: لا؛ أنا طعامي معي، فلما قالوا له: نمنع عنك الإعانة والميزانية قال: إن بالهند من حلي النساء ما يكفي ميزانية الهند خمسين عاماً، وكانت الهند أكثر دول العالم اهتماماً بمصاغ النساء، ويخبرني بعض الإخوان أنه ربما كان عند المرأة الهندية ما يزيد عن العشرين كيلو ذهباً مصاغاً لها، وربما غطاها من شعرها إلى ظفرها.

    أليست هذه الأشياء كثيرة محتجزة؟!

    ونجد في كتاب الأموال لـأبي عبيد : أن بعض السلف نهى أن تزيد المرأة عن أربعة دراهم من الحلي، وعن كذا أو كذا، والراجح أن هذا لا تحديد فيه؛ لقوله تعالى: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ [الزخرف:18] على الإطلاق دون ما تحديد لكثير ولا لقليل، ولكن لا ينبغي أن يصل إلى حد الإسراف والتبذير.

    والآخرون يقولون: لا إسراف ولا تبذير؛ هذا مال محفوظ، وليس بضائع.

    والذين يقولون: العلة عرضية، قالوا: الذهب والفضة هما المعدنان النفيسان اللذان يعرفهما الغني والفقير والصغير والكبير، فإذا رأى الفقير الغني يأكل ويشرب في صحاف الذهب والفضة، وهو لا يجد آنية الفخار يشرب فيها؛ ماذا تكون نفسيته؟ سيكون في ذلك كسر لقلوب الفقراء بمظاهر استعمال الأغنياء.

    وهناك علة أخرى: يقال: لو رجعنا إلى أصل التحليل والتحريم: فالحرير والذهب حرام على الرجال حل للنساء، فإن كان كذلك فلماذا حرم الحرير على الرجال مع أنه ناعم ولطيف ومريح للبدن و..؟

    يقول العلماء: إن الليونة الزائدة في اللباس تضعف خشونة الرجولة، ويميل الرجل إلى الدعة؛ لأنه مترف منعم، فهذا يوسف بن تاشفين ذهب إلى الأندلس ناصراً لأحد ملوكها هناك، ولما انقضت المعركة وانتصروا طلب منه الملك أن ينتظر ويستريح بجنوده عدة أيام، فقال: لا، لا أستطيع أن أبقي الجند الذي عاش في الصحراء على شظف العيش والخشونة أن يعيش هنا، فإنه يترهل ويتنعم وتلين قناته، ولا يكون في القوة كما لو كان في مكانه هناك.

    إذاً: حرم الحرير على الرجال إبقاءً للرجولة، وإبقاءً للصلابة والقوة، وهو مناسب للنساء؛ لأن النساء كما قيل:

    كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جرُّ الذيول

    ما عليهن من المشقة شيء، فيمكن أن يقول قائل: استعمال آنية الذهب يجعل في قلب الإنسان نوعاً من التعالي أو البطر أو الطغيان أو الكبرياء أو.. أو.. أو.. إلخ، فإنها تجعل في النفس شيئاً من الأبهة أو الظهور أو الركون إلى الدنيا ومتعتها، قال تعالى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف:33-35].

    وهنا يصرح صلى الله عليه وآله وسلم بحقيقة العلة بقوله: (فإنها لهم)؛ لأنهم اشتروا الدنيا بالآخرة، واستمتعوا بها، فاستحقوا ألا يكون لهم خلاق ولا نصيب في الآخرة، والمسلم يترفع عن ذلك، ويزهد فيه؛ لما يكون له في الآخرة من حظٍ وافر.

    ويوجد أواني مرصعة بالأحجار الكريمة، كأن يكون إناء من الزجاج أو من الخزف (الصيني) أو من الفخار أو من الخشب ويرصع بأحجار كريمة، وقد يزيد ثمن الفص الواحد منها في الثمن عن كيلو من الذهب، مثل الزمرد أو الماس، فالجرام منه يساوي عشرات الجرامات من الذهب، فلو جاء إنسان ورصع القدح الذي يشرب فيه بشيءٍ من تلك الأحجار؛ فهل يدخل في النهي -من باب أولى- لارتفاع قيمته أو لا يدخل في ذلك؟

    الجمهور على أنه لا يدخل في النهي، إنما يمنع من باب الترف والتبذير وإهدار الأموال؛ لأنه جعله في قدح، وكان من الممكن أن يجعله في بناء عمارة أو في مصالح عامة.. إلخ.

    وقالوا: 90% من الفقراء لا يفرقون بين الماس وزجاج الكرستال، ولا بين الأحجار الكريمة وغيرها، ولا بين المصنوع وبين المطبوع، ولا بين الشيء الطبيعي والصناعي، أكثر الناس لا يفرق بين هذه الأشياء، فلا يؤدي وجود هذه الأحجار الكريمة إلى كسر قلوب الفقراء؛ لأنها ليست عندهم كالذهب والفضة، فالذهب والفضة يعرفه الجميع، ويعرفون قيمته وتأثيره، لكن تلك الأحجار لا يعرفون عنها شيئاً، فلا تدخل الانكسار على قلوبهم، وليست من أثمان المبيعات حتى يقال: إنها معطلة.

    يوجد الآن -ولا حول ولا قوة إلا بالله- تمثال لـبوذا وزنه أكثر من عشرة إلى خمسة عشر كيلو من فصوص الفيروز، وجميعها قطعة واحدة لا نظير لها في العالم، لكنهم بوذيون لا دين لهم، ولا نقول: إنه معطل؛ لأنه يجلب لهم من السواح أكثر من قيمته.

    إذاً: يحرم استعمال آنية الذهب والفضة، والنص على تحريم الأكل والشرب، والقرينة والإيماء والتنبيه تدل على عموم تحريم الاستعمال لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة).

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3087800082

    عدد مرات الحفظ

    774069248