الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
يقول المؤلف رحمه الله: [عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة) متفق عليه ].
لما قدم المؤلف رحمه الله تعالى ما قدمه من أخبار وآثار فيما يتعلق بالمياه تحت عنوان كتاب الطهارة، جاء وعقد هذا الباب (باب الآنية)، والمياه باب من أبواب الطهارة، والآنية باب من أبواب الطهارة، وعلاقة باب الآنية بباب المياه أن الماء لابد له من إناء يوضع فيه، ثم يستعمل هذا الماء من هذا الإناء، والترتيب الطبيعي أن يأتي بأحكام الأواني هنا.
والآنية: جمع إناء، وقد يجمع على (أوانٍ) فالآنية: جمعٌ للإناء، والإناء هو ما يوضع فيه الشيء السائل، وما يوضع فيه الشيء الجاف يقال له: ظرف أو كيس أو نحو ذلك.
جعل المؤلف رحمه الله تعالى باب الآنية عقب باب المياه، وقبل إزالة النجاسة، وقبل الوضوء والغسل وما والاهما، وبدأ هذا الباب بالحديث الأول:
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة) متفق عليه.
(فإنها لهم) الضمير في (لهم) وإن لم يأتِ له مرجع فهو معروف بالمقابلة: (لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة)،
والناس في الدنيا قسمان: مؤمن وكافر، إذاً: (لهم) قسيم (لكم)، فيكون (لهم) هنا المراد بها الكفار، وموضوع آنية الذهب والفضة قسيم لموضوع الحرير، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: أنه أخذ الحرير والذهب وقال: (الحرير والذهب حرام على ذكور أمتي، وحلال لإناثهم)، فهذا العموم يحل ويبيح الحرير للنساء، وبالإجماع يجوز أن تستعمله المرأة لباسًا أو فراشًا وعلى أية حال من أحوال استعمال الثياب، ولا يجوز للرجل من الحرير إلا ما استثني، كما تقدم في جيوب القميص، أو عند الضرورة للحكة، أو في ميادين القتال، وهذه أمور اضطرارية أو تدعو إليها الحاجة، فيباح الحرير للرجال بقدرٍ معين للضرورة أو الحاجة.
وعموم (الذهب حلال لإناث أمتي) هذا الحديث يخصصه؛ لأن للمرأة أن تستعمل الذهب حلياً كما تتحلى النساء، أما أن تستعمله آنية فهذا لا يجوز، فالنهي عن استعمال آنية الذهب والفضة عامٌ للرجال والنساء، وهو مخصصٌ لعموم إباحة الذهب للنساء.
والمؤلف رحمه الله تعالى سيتكلم على أواني الذهب والفضة، والأواني من الجلود، وعموم أواني أهل الكتاب.
فالحديث الأول: فيه النهي عن استعمال آنية الفضة لشراب وأكل، والعلماء رحمهم الله أخذوا نص الأكل والشرب، وألحقوا به بقية الاستعمالات، فلا يجوز للمرأة أن تتخذ لها أواني ذهب وفضة زينة كالمكحلة، أو فنجان، أو صحن، أو مرآة تغلفها بالذهب، وأي استعمال سوى حلي الزينة فهي ممنوعة منها.
وهنا يرد سؤال: ما هي علة تحريم استعمال الذهب والفضة؟
سيأتي الحديث بعد ذلك يبين الأمر المترتب على استعماله، ومن العلماء من ناقش في تحريم بقية الاستعمالات سوى الأكل والشرب كالشارح رحمه الله، وكذا الشوكاني وغيرهما، ولكن الجمهور على عموم تحريم استعمال أواني وآلات الذهب والفضة على الرجل والمرأة، فيحرم على الرجل أن يتخذ قلماً من ذهب أو فضة، أو حقيبة من ذهب أو فضة، أو أي شيء مما قد يتخذه الناس من الذهب والفضة.
وابن دقيق العيد يقول: إن بعض العلماء قاسوا بقية الاستعمالات في بقية النواحي الأخرى على الأكل والشرب، ولكن المتأمل يقول: ليست المسألة قياسية، ولكنها نصٌ تقريباً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (فإنها -أي: آنية الفضة وآنية الذهب- لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة)، فإذا كان استعمال الفضة لهم في الدنيا فإنه سيكون ممنوعاً على غيرهم في الدنيا -أي من المسلمين-؛ لأنها للمسلمين في الآخرة وليست للكفار.
قوله: (لا تشربوا) هذا نص في الشرب في آنية الذهب والفضة، ثم جاء نص في الأكل فقال: (ولا تأكلوا في صحافهما).
وما الفرق بين الآنية والقدح والكأس والصحفة؟
الصحفة منبسطة مثل الصحن، ويقال: إن الصحفة يوضع فيها طعام يكفي لخمسة أشخاص، والجفنة: ما يوضع فيها طعام يكفي لعشرة أشخاص، وقد يكون هناك أوان أخرى تستعمل للماء الكثير أو للعجين.
الذي يهمنا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب في آنية الذهب والفضة بأية حالة كانت: ملعقة، كأس، (زِبْدية)، قدر .. أي نوع من الأنواع لا ينبغي أن يشرب فيه إذا كان ذهباً أو فضة.
(ولا تأكلوا) أياً كان نوع الطعام: إدامًا، أو مكسرات، أو نواشف، أو فاكهة، فلا ينبغي أن يكون في آنية الذهب والفضة.
نص الحديث على الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، وقال الآخرون: يلحق بالأكل والشرب عموم الاستعمالات، وهذا ليس قياساً، ولكنه تنبيه بالأعم على الأخص؛ لأن أكثر استعمالات الناس للأواني لأجل الأكل والشرب، فإذا نهى عن استعمالها في الأكل والشرب وهو العام؛ فيكون ما سوى ذلك أقل منه، وهو من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى، يعني: (الأعلى) كثرة الاستعمال و(الأدنى) الذي هو قلة الاستعمال.
(فإنها لهم في الدنيا) يقول بعض العلماء: ليس إلحاق بقية الاستعمالات قياساً على الأكل والشرب، ولكن بدلالة (فإنها) أي: الذهب والفضة، ما قال: (فإنهما)، أو قال: فإنه، فلو جاء الضمير مذكراً لعاد على الذهب، ولو جاء مثنى لعاد على الذهب والفضة، ولكنه قال: (فإنها)، فهل هذا الضمير المؤنث خاص بالفضة أو أنه عائد على الآنية من حيث هي؟
نجد في القرآن الكريم: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ثم قال: وَلا يُنفِقُونَهَا [التوبة:34] فالضمير رجع على أحد المذكورين وهو الفضة، ورجع على أدنى الصنفين بضمير المفرد المؤنث، وهو عائد على الفضة قطعاً، فيقول العلماء: لما كان النهي عن عدم إنفاق الجنسين، وكانت الفضة أقل الجنسين، جاء الضمير على الأدنى: (ولا ينفقونها) ثم قوله: (فبشرهم) يترتب على عدم إنفاق الفضة وهي الأدنى، فيكون عدم إنفاق الأعلى -وهو الذهب- داخلاً من باب أولى، وكذلك هنا (فإنها) أي: الفضة، (لهم)، وبالتالي الذهب من باب أولى.
من قال: النهي لعين الذهب والفضة قال: لناحية بعيدة جداً ولها أثر، وهي: لو أن العالم الآن يتعامل بالذهب والفضة نقداً كما كان في السابق، وصار كل من يسر الله عليه أخذ الذهب وسبك منه أواني، وتحوّل الذهب الذي هو النقد السيّال -قيمة المبيعات- إلى أوانيَ في البيوت، فهل يبقى في أيدي الناس من المال والسيولة ما يدير الاتصال بين الناس؟ لا، تتعطل أداة الثمن والتثمين، والبيع والشراء، وتحجز أواني في بيوت الناس!
فبعض العلماء يقول: العلة في النهي ذاتية لئلا يحتكر الناس الذهب والفضة، ويحتجزوا عين الأثمان؛ فتتعطل المثمنات لعدم وجود النقد من الذهب الذي تحول إلى أواني في البيوت.
وبعضهم يقول: لا، العلة عرضية.
ونجد في بعض البلدان حلي النساء بالأطنان مكدساً، وقيل: إن غاندي عندما كان يفاوض بريطانيا في الاستقلال، ذهب إليهم بِعَنْزِه، يحلبها ويشرب لبنها وسط البرلمان، ويأتون له بطعام ويقول: لا؛ أنا طعامي معي، فلما قالوا له: نمنع عنك الإعانة والميزانية قال: إن بالهند من حلي النساء ما يكفي ميزانية الهند خمسين عاماً، وكانت الهند أكثر دول العالم اهتماماً بمصاغ النساء، ويخبرني بعض الإخوان أنه ربما كان عند المرأة الهندية ما يزيد عن العشرين كيلو ذهباً مصاغاً لها، وربما غطاها من شعرها إلى ظفرها.
أليست هذه الأشياء كثيرة محتجزة؟!
ونجد في كتاب الأموال لـأبي عبيد : أن بعض السلف نهى أن تزيد المرأة عن أربعة دراهم من الحلي، وعن كذا أو كذا، والراجح أن هذا لا تحديد فيه؛ لقوله تعالى: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ [الزخرف:18] على الإطلاق دون ما تحديد لكثير ولا لقليل، ولكن لا ينبغي أن يصل إلى حد الإسراف والتبذير.
والآخرون يقولون: لا إسراف ولا تبذير؛ هذا مال محفوظ، وليس بضائع.
والذين يقولون: العلة عرضية، قالوا: الذهب والفضة هما المعدنان النفيسان اللذان يعرفهما الغني والفقير والصغير والكبير، فإذا رأى الفقير الغني يأكل ويشرب في صحاف الذهب والفضة، وهو لا يجد آنية الفخار يشرب فيها؛ ماذا تكون نفسيته؟ سيكون في ذلك كسر لقلوب الفقراء بمظاهر استعمال الأغنياء.
وهناك علة أخرى: يقال: لو رجعنا إلى أصل التحليل والتحريم: فالحرير والذهب حرام على الرجال حل للنساء، فإن كان كذلك فلماذا حرم الحرير على الرجال مع أنه ناعم ولطيف ومريح للبدن و..؟
يقول العلماء: إن الليونة الزائدة في اللباس تضعف خشونة الرجولة، ويميل الرجل إلى الدعة؛ لأنه مترف منعم، فهذا يوسف بن تاشفين ذهب إلى الأندلس ناصراً لأحد ملوكها هناك، ولما انقضت المعركة وانتصروا طلب منه الملك أن ينتظر ويستريح بجنوده عدة أيام، فقال: لا، لا أستطيع أن أبقي الجند الذي عاش في الصحراء على شظف العيش والخشونة أن يعيش هنا، فإنه يترهل ويتنعم وتلين قناته، ولا يكون في القوة كما لو كان في مكانه هناك.
إذاً: حرم الحرير على الرجال إبقاءً للرجولة، وإبقاءً للصلابة والقوة، وهو مناسب للنساء؛ لأن النساء كما قيل:
كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جرُّ الذيول
ما عليهن من المشقة شيء، فيمكن أن يقول قائل: استعمال آنية الذهب يجعل في قلب الإنسان نوعاً من التعالي أو البطر أو الطغيان أو الكبرياء أو.. أو.. أو.. إلخ، فإنها تجعل في النفس شيئاً من الأبهة أو الظهور أو الركون إلى الدنيا ومتعتها، قال تعالى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف:33-35].
وهنا يصرح صلى الله عليه وآله وسلم بحقيقة العلة بقوله: (فإنها لهم)؛ لأنهم اشتروا الدنيا بالآخرة، واستمتعوا بها، فاستحقوا ألا يكون لهم خلاق ولا نصيب في الآخرة، والمسلم يترفع عن ذلك، ويزهد فيه؛ لما يكون له في الآخرة من حظٍ وافر.
ويوجد أواني مرصعة بالأحجار الكريمة، كأن يكون إناء من الزجاج أو من الخزف (الصيني) أو من الفخار أو من الخشب ويرصع بأحجار كريمة، وقد يزيد ثمن الفص الواحد منها في الثمن عن كيلو من الذهب، مثل الزمرد أو الماس، فالجرام منه يساوي عشرات الجرامات من الذهب، فلو جاء إنسان ورصع القدح الذي يشرب فيه بشيءٍ من تلك الأحجار؛ فهل يدخل في النهي -من باب أولى- لارتفاع قيمته أو لا يدخل في ذلك؟
الجمهور على أنه لا يدخل في النهي، إنما يمنع من باب الترف والتبذير وإهدار الأموال؛ لأنه جعله في قدح، وكان من الممكن أن يجعله في بناء عمارة أو في مصالح عامة.. إلخ.
وقالوا: 90% من الفقراء لا يفرقون بين الماس وزجاج الكرستال، ولا بين الأحجار الكريمة وغيرها، ولا بين المصنوع وبين المطبوع، ولا بين الشيء الطبيعي والصناعي، أكثر الناس لا يفرق بين هذه الأشياء، فلا يؤدي وجود هذه الأحجار الكريمة إلى كسر قلوب الفقراء؛ لأنها ليست عندهم كالذهب والفضة، فالذهب والفضة يعرفه الجميع، ويعرفون قيمته وتأثيره، لكن تلك الأحجار لا يعرفون عنها شيئاً، فلا تدخل الانكسار على قلوبهم، وليست من أثمان المبيعات حتى يقال: إنها معطلة.
يوجد الآن -ولا حول ولا قوة إلا بالله- تمثال لـبوذا وزنه أكثر من عشرة إلى خمسة عشر كيلو من فصوص الفيروز، وجميعها قطعة واحدة لا نظير لها في العالم، لكنهم بوذيون لا دين لهم، ولا نقول: إنه معطل؛ لأنه يجلب لهم من السواح أكثر من قيمته.
إذاً: يحرم استعمال آنية الذهب والفضة، والنص على تحريم الأكل والشرب، والقرينة والإيماء والتنبيه تدل على عموم تحريم الاستعمال لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة).
بعد مجيء النهي: (لا تشربوا)، (لا تأكلوا) وهذا النهي يقتضي التحريم، ولكن لما كان النهي أحياناً يحمل على الكراهة، أي: من باب الزهد في الدنيا، كما نجد بعض الناس ربما كره أن يشرب الماء في الزجاج النقي، ويقول: هذه رفاهية، وهذا تنعم أكثر من اللازم.
في ذات يوم كنت في الدار البيضاء -في رحلة من الرحلات- وكان معنا بعض المشايخ جزاهم الله خيراً، فصنع شخص لنا الشاي، وقدمه في كأس طوله حوالى (9سم)، وحافته -سمكه- حوالى (5سم)، وسمك القاعدة حوالى (3سم)، ترفعه كأنك ترفع الرصاص، فقلت: يا فلان! ما هذه (القزايز)؟ فضحك، وقال: هل تدري كم قيمة هذا الكأس؟ قلت: لا، قال: قيمته ستمائة دولار أمريكياً! ولا يوجد هذا إلا في ألمانيا، وليس عندي منه إلا أربع حبات! قلت: يا أخي! حرام عليك، كأس بريال يغني عن هذا، قال: هذه عادات وتقاليد؛ فهذه النواحي من باب الترف والزيادة في المتعة، ومن باب الحفاوة بأشياء معينة، لكن لا تدخل في التحريم، فبعض الناس يكره الغلو في تلك الأواني المباحة.
ولما كان النهي محتملاً للتحريم أو الكراهة؛ جاء المؤلف بالنهي المقتضي للتحريم، ليقضي على احتمال الكراهة، فجاء بالحديث الثاني الذي يدل على أمرين:
على أن النهي للتحريم.
وعلى جزاء وعقوبة من يرتكب هذا النهي.
فأتى بحديث: (الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم)، هذا في الفضة والذهب من باب أولى.
قوله: (إنما يجرجر): يقولون: إن اللغة العربية فيها دلالات ذاتية في النطق، فمن تأملها يجد بعض الكلمات تدل على معناها بطريقة نطقها، فأنت إذا سمعت تسمية بعض المصادر، مثل: صلصلة الجرس، (صل، صل، صل)، كأنك تحكي صوت الجرس، حينما تقول: زقزقة العصافير، لو قلتها مرتين كأن عصفوراً يزقزق هناك، خرير المياه، الغليان، الجريان، غليان: تدل على حركة الماء، جريان: تدل على حركة الذي يجري، فهذه يسمونها دلالة ذاتية.
و(يجرجر): تدل على أداء متتابع، وحركة متوالية، والجرجرة: هي صوت الماء في حلق الإنسان، وأصلها للبعير حينما يشرب، يسمع له صوت عند الشرب.
وقوله في هذا الحديث: (الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نارَُ)، جاء الحديث بروايتين: رواية بنصب (نارَ)، ورواية برفع (نارُ)، وعلى كلتا الحركتين يختلف المعنى، فيجرجر في بطنه نارَ، جعل الماء الذي يشربه ناراً، وفاعل الجرجرة الشارب، فكأنه عمد إلى نار مذابة وصبها في آنية الفضة وشربها، وعلى رواية الرفع: يكون فاعل الجرجرَة هو الشراب الذي يشربه، فبدلاً أن يكون سائغاًً كالماء البارد العذب أو غير ذلك؛ انقلب إلى نار.
لكن: هو يشرب ماءً بارداً مثلجاً فأين النار؟
قالوا: يحتمل أنه من باب إطلاق السبب وإرادة المسبب، أو باعتبار ما سيكون، كما في الآية: إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يوسف:36]، هو رأى أنه يعصر عنباً، ولكن سيئول إلى أن يكون خمراً، فهذا يجرجر في بطنه هذا الماء الذي سيكون ناراً، أو هو سبب لأن تجرجر النار في بطنه بعد ذلك، وعلى كلا الروايتين فإن في الحديث وعيداً شديداً لمن يشرب في آنية الذهب أو الفضة.
يبين النووي رحمه الله أن الأواني التي ليست ذهباً ولا فضة، ولكن فيها أثر الذهب تنقسم إلى قسمين:
قسم يقال عنه: مموه.
وقسم يقال عنه: مطليٌ.
فإناء مطليٌ بذهب، وإناء مموه بذهب، ومموه: مفعل من الماء -يعني: جاء عليه ماء الذهب-، والمطلي: مثل الجدار عندما تبنيه ثم تطليه بجير أو غيره، ففرق بين المموه وبين المطلي، والفرق بينهما يظهر إذا أخذته وعرضته على النار؛ لأننا نعلم أن الذهب معدن يسيل، والنار تذيبه، وكذلك الفضة، فإذا عرضت الإناء الذي من زجاج، أو خزف (صيني)، أو حديد، أو نحاس للنار؛ فإن أحدثت النار من هذا الذهب سائلاً، وأمكن أن تراه أو تأخذه بالعود فهذا مطليٌ؛ لأننا وجدنا جرم الذهب على جداره تذيبه النار، أو إذا أخذت سكيناً وحككت هذا الإناء، وخرج على حد السكين شيء من مادة الذهب أو الفضة فهذا مطلي، أما إذا عرضته للنار أو حككته بسكين ولم يخرج منه شيء فهذا مموه، وقال: إن المطلي بالذهب حكمه حكم إناء الذهب سواء؛ لأنك استعملت الذهب الذي طلي به هذا الإناء، أما المموه فليس فيه شيء، بل مجرد اللون.
وجاء في أخبار المسجد النبوي الشريف أن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه لما ولي الإمارة لبني أمية في المدينة؛ وجد في جدار المسجد كتابة بالذهب، وكان الخلفاء من بني أمية من ولي الخلافة يأتي بخطاب يسمى: خطاب الملك، أو العرش، أو سياسة الخليفة، فيكتبه على جدار المسجد النبوي؛ فوجد تلك الخطوط مكتوبة بالذهب، فأراد أن يمحوها فجمع العلماء فقالوا له: انظر أهو مطلي بذهبٍ أو مموه؟ إن كنت ستحصل على مقدار من الذهب من هذا الذي تمحوه فامحهُ، وإن كنت لن تحصل على شيء، ولا يوجد فيه معدن الذهب فاتركه؛ لأنك ستفسده بدون فائدة، وليس فيه معدن الذهب، فجرب فلم يجد شيئاً فتركه.
ومن هنا قالوا: كل ما كان مطلياً بذهب فحكمه حكم الذهب، وما كان مموهاًً فلا، والآن كثيراً جداً من الأواني (الصيني) والفناجين والكاسات نجد على حافة فنجان الشاي منها خطاً أصفر يقال له ماء الذهب، فما كان منه مموهاً فليس داخلاً في هذا الباب، وما كان زيادة على ذلك كأن يكون مطلياً، ويوجد جرم من الذهب فيه، فهو داخل في هذا النهي والتحريم.
وبقي عندنا مسألة المضبب، وستأتي قريباً عند حديث تضبيب قدح النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن العلماء من يقول في الفضة: إنه يجوز الشيء اليسير كالأزرار في الثوب ونحوه، ويروون في ذلك أثراً وهو: (ولكن الفضة فالعبوا بها لعباً)، ولكن هذا أثر لا يصح عند علماء الحديث، ويعارضه هذا النهي الصحيح المتفق عليه أنه نهى صلى الله عليه وآله وسلم عن آنية الذهب والفضة. وكما قال ابن دقيق العيد : ألحقوا بالأكل والشرب بقية الاستعمالات.
أما ما يتعلق بالأواني وتضبيبها فإنه لا يوجد الآن أحد يرقع الأواني، ولا أحد يضببها، بينما كان في زمن مضى أشخاص معينون يرقعون الأواني إذا انكسرت، أو الفنجان، أو الكأس، ويعملون لها ضبة، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله عند ذكر حديث انكسار قدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
انتهى المؤلف من إيراد ما يتعلق بآنية الذهب والفضة، وانتهينا من الشرح على سبيل الإجمال، وانتقل إلى أواني الجلد، وأواني الجلد المشهور أنها كانت في السابق تستعمل للماء -القربة والمزادة-، ولكن الآن أصبحت تستعمل فيما هو أعم من ذلك، وقد تختفي القربة، ولكن لا تختفي الأنواع الأخرى، فهناك من الأدوات الآن: الحقائب، وبعض الألبسة، والأحذية والكمرات.. وأشياء عديدة، كما يمكن أن تستعمل الجلود في الفراش..
والجلود على قسمين:
جلود مذكاة.
وجلود ميتة.
فالجلود المذكاة طاهرة بذكاة أصلها، تدبغ وتستعمل بأية حالة من الحالات، وليس فيها بحث عند الفقهاء، وإنما البحث فيما هو ميتة، ومعنى الميتة: ما لم يذكَ كشاة تموت دون أن تذبح، أو البقرة أو الناقة أو أي حيوان، وهذا البحث يتناول جلد مأكول اللحم.
ويلحق به جلد ما لا يؤكل لحمه، وفي هذا الباب يبحث العلماء حكم استعمال جلود الميتة بعد الدبغ، وهل هو جائز أم لا؟ وهل ينفع الدبغ أم لا؟!
إذاً: بصفة عامة البحث في الجلود منحصر في الميتة.
والشاة المذكاة وغيرها من الأنعام -أياً كانت- ليس في جلودها بحث؛ لأن جلدها تابع للحمها، وإن أردت أن تأكل الجلد فلك أن تأكله، وإن لم تأكله فلك أن تستعمله.
فبقيت الميتة، وما لا يؤكل لحمه، كما لو جئت إلى أسد وذبحته، وأخذت جلده ودبغته، فهل يدخل معنا أم لا؟
الذي يهمنا ابتداءً أن نُخرج جلود المذكاة -مأكولة اللحم- عن البحث، ونبقى في دائرة جلود الميتة وما يلحقها من غير مأكول اللحم، وأريد بهذا التقسيم ألَّا نتشعب في الموضوع، وقد ذكر الشارح هنا وغيره سبعة مذاهب في هذه المسألة، ولكن لا يهمنا كثرة المذاهب، إنما الذي يهمنا دلالة النصوص التي جاء بها المؤلف، وموقف الأئمة الأربعة منها، والنهاية التي نتوصل إليها.
نأخذ الحديث الأول وهو: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) أخرجه مسلم، وعند الأربعة (أيما إهاب دبغ).
لاحظوا ترتيب المؤلف الحكيم!
(إذا دبغ الإهاب) (أل) هنا للاستغراق، ولم يستثن أي نوع من الإهاب، فدل على عموم الإهاب، وكلمة: (إهاب) كما يقول علماء اللغة: تطلق على الجلد قبل دبغه، فإذا دبغ لا يقال له: إهاب.
إذاً: (إذا دبغ الإهاب) أي: الذي قبل الدبغ يسمى إهاباً، فإذا دبغ فقد طهر، إذاً: هو قبل الدبغ يكون نجساً، فالكلام -إذاً- في الميتة؛ لأن المذكاة طاهرة بجلدها ولحمها، وقد أخرجناها من قبل.
(إذا دبغ الإهاب فقد طهر) و(أل) هنا -وإن كانت للعموم والاستغراق- خاصة بالميتة بقرينة: (طَهُرَ)؛ لأنه كان نجساً قبل أن يدبغ.
الرواية الثانية: (أيما إهاب) وهذه صيغة عموم لا تترك شيئاً، فشملت أيضاً: إهاب المذكاة، والميتة، والمأكول وغير المأكول، لكن بالقرينة إذا لم يدبغ فهو نجس.
لصيغة العموم قال الظاهرية وأبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله: أيما -بدون استثناء- إهاب كان نجساً فدبغ فإنه قد طهر، و(أيما) هنا: تشمل الشاة الميتة، والبقرة الميتة، والبعير الميت، والكلب الميت، والخنزير الميت، ولكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله أخرج من هذا العموم الخنزير، وقال: أيما إهاب مأكول اللحم أو غير مأكول لعموم (أيما)، ولماذا أخرج أبو حنيفة الخنزير؟! ولماذا أبو يوسف أدخله مع عموم (أيما)؟
أبو حنيفة رحمه الله قال: هناك نص أقوى من هذا، وهو قوله: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْس.. [الأنعام:145] والرجس: النجس، فيقول: إذا كان الخنزير في حياته رجساًً فكيف إذا مات، أو إذا ذبحناه وأخذنا جلده؟!
وكيف الدباغ يطهر الجلد وهو في حال حياته نجس؟! والحياة سبب الطهارة كما يقول مالك: الحياة سبب الطهارة، والموت سبب النجاسة.
فـأبو حنيفة يقول: الخنزير -وهو حيٌ على قوائمه- رجس، فكيف يقال: إن الدباغ يطهر جلده؟
جاء أبو يوسف ومن قال بالعموم فقالوا: الخنزير لا جلد له، ولكن التحقيق أنه ما من حيوان إلا وله جلد، لكن الكفار -عافانا الله وإياكم- إذا ذبحوه، أزالوا الشعر وأخذوا الجلد مع اللحم.
والكلام في الجلد، وأنتم تعرفون لحم الرأس فيه شعر، ومن الناس من ينظف الشعر، ويأكل الجلد مع الرأس، إذاً: هل للخنزير جلدٌ أم لا؟ التحقيق أن له جلداً.
إذاً: قوله في هذا النص: (أيما)، أخذ بهذا العموم الظاهرية، ومعهم أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله، والإمام بنفسه أخرج الخنزير بنص آخر لا بهذا النص، ويقول: هذا النص يشمله، ولكن القرآن يخرجه؛ لأنه وصفه حال الحياة بأنه رجس.
قال رحمه الله: [وعن سلمة بن المحبق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (دباغ جلود الميتة طهورها) صححه ابن حبان ].
قوله: (أيما إهاب دبغ)، وقوله: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) فيبقى الإهاب على عمومه، ويحمل ويقيد الحديث بقيد الميتة، وهذا الذي عنيناه في أول البحث، والله تعالى أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر