تقدم حديث: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على طعمه ولونه وريحه)، وفي هذا الحديث: (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث)، وفي رواية: (لم ينجس)، ومفهوم ذلك: إذا كان الماء دون القلتين فإنه يحمل الخبث ويتنجس ولو لم يتغير، لكن المشكل: كم القلتان؟ وأي القلال؟
القلتان: تثنية قلة، وجاء في بعض الروايات: (كقلال هجر) ، وقلال هجر كانت معروفة عند الناس، والقلة تساوي قربتين، والقربتان تساوي خمسمائة رطل، ويقول الصنعاني في هذا المبحث: الجمهور على أن القليل لو خالطته نجاسة ولم تغيره فليس بطهور، ما عدا مالكاً ، فيقال لهم: ما حد القليل الذي يتنجس بملاقاة النجاسة ولو لم تغيره؟ وما هذا القليل الذي تعتبرونه نجساً ولو لم يتغير لأنه قليل؟
قالوا: إذا كان دون القلتين، وتقدير القليل والكثير بالقلتين هو مذهب الشافعي وأحمد ، ومالك خارج عن هذا التحديد؛ لأنه اكتفى بتغير الأوصاف ولم يعتبر قلة ولا كثرة، وعند الأحناف تعريفان للقليل والكثير:
فعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا كان الماء محصوراً في بركة، أو في إناء، أو في غدير، فإن حركت أحد الجوانب الأربعة ولم يتحرك الجانب الآخر فهو كثير، فمثلاً: إذا جئت من جهة القبلة وغسلت يدك وحركت الماء، فطبيعة الماء أنه إذا حركت سطحه يحصل فيه تموج، والتموج يضطرب حتى يصل إلى الجهة المقابلة، فقال: حد الكثرة أنه إن حركت أحد الجوانب فلا يصل أثر الحركة إلى الجانب الثاني، وهذا مضبوط بحالة وصف لا بمقدار.
وأصحاب أبي حنيفة رحمهم الله يقولون: حد الكثرة عشرة أذرع من كل جهة، كبركة مساحتها عشرة في عشرة بمائة ذراع، والعمق عشرة أذرع، فهي مكعبة، والذراع متر إلا ربع، إذاً: سبعة أمتار ونصف مكعبة، فهذا حد الكثرة من القلة عندهم.
إذاً: لو كان الماء بهذا الحد (سبعة أمتار ونصف مكعبة)، وسقطت فيه قطرات بول ولم تغير فيه شيئاً، قالوا: فهو طاهر، ولو كان الماء خمسة أمتار مكعبة، وسقطت فيه نفس تلك الكمية ولم تغيره، قالوا: فهو نجس، فنهدر الخمسة أمتار مكعبة من أجل قطرات بول نزلت وليس لها أي أثر، ومن هنا يقول الصنعاني وغيره: حصل الاضطراب في تحديد الكثرة والقلة، وحديث القلتين متكلم في سنده، ولكن علماء الحديث والفقه تلقوه بالقبول؛ لشهرته وانتشاره واستفاضة القول به -وإن اختلفت القلال كبراً وصغراً- وأخذ به الشافعي وأحمد رحمهما الله.
وإذا نظرنا لمجموع هذه الأحاديث نجد أن الضابط -كما قال مالك - هو التغير، وهذا لم يتغير، سواء كان قليلاً أو كثيراً، وإن جئنا إلى التقييد بغير قيد التغير -كما هو مذهب الأئمة الثلاثة- وجدنا الخلاف في حد القلة والكثرة، ومن حد الكثرة بحد معين، ووصل الماء إلى هذا المقدار ولاقته نجاسة ولم تغيره، فهو عنده طهور، فمثلاً: عند الشافعي وأحمد إذا كان الماء قلتين -أي: قربتين كبيرتين- ولاقته نجاسة ولم تغيره فهو طهور؛ لأنه أصبح كثيراً لا ينجس أو لا يحمل الخبث، وإن كان دون ذلك تنجس بهذه النجاسة؛ لأنه ماء قليل، وكذلك عند الأحناف بذلك الحد الذي حددوه.
هذه مذاهب الأئمة رحمهم الله، وبقي الترجيح.
الإمام مالك يخالف الأئمة الثلاثة، فـمالك اعتبر الوصف، ولم يعتبر قلة ولا كثرة، والأئمة الثلاثة اعتبروا الأمرين: القلة والكثرة، والتغيير وعدم التغيير؛ إذاً: اشتركوا مع مالك في التغيير، ومالك يقول: إن تغير لونه قليلاً كان أو كثيراً فهو نجس، وإن لم يتغير فهو طاهر، والأئمة الثلاثة قالوا: إن لم لم يتغير وكان كثيراً فهو طهور، وإن تغير وهو قليل فليس بطهور، إذاً: اختلفوا مع مالك في القليل، وحد القليل على ما ذكروه، فالخلاف في هذه المسألة بين الأئمة رحمهم الله هو في الماء القليل الذي لاقته النجاسة ولم تغيره.
فـمالك يقول: هو طهور، ولا تقل: طاهر، والأئمة الثلاثة يقولون: ننظر في القلة والكثرة، فإن كان بحد الكثرة فنحن مع مالك ما لم يتغير، وإن كان دون حد الكثرة فنحن نخالف مالكاً ولو لم يتغير.
وللبخاري : (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه) ، ولـمسلم : (منه) ، ولـأبي داود : (ولا يغتسل فيه من الجنابة) ].
هذه أخبار تنقسم إلى قسمين:
قسم يتعلق بالماء الدائم.
وقسم يتعلق بالاغتسال من الجنابة في الماء الدائم.
والنهي عن الاغتسال في الماء الدائم جاء بالإطلاق، وجاء بقيد الجنابة، والنهي عن الاغتسال في الماء الدائم يصدق على البركة وعلى الغدير، وكل ماء كثير على حد الأئمة الثلاثة الذين اعتبروا القلة والكثرة، ولماذا لا يغتسل فيه؟
قال بعض العلماء: نهي الجنب عن الاغتسال في الماء الدائم لا لذات الجنابة، وقال بعضهم: بل لذات الجنابة؛ لأن الماء إذا رفعت به الجنابة تنجس، وهذا قول عند الأحناف كما في فتح القدير، وهو أن الماء الذي يرتفع به حدث أصغر أو أكبر لا يجوز استعماله، وهو نجس، ويقولون: إن الحدث وقع في الماء بعد أن أزال الحدث ورفعه، فلو توضأت في طست، وتجمع ماء الوضوء في نفس الطست، فهذا الماء عندهم متنجس؛ لأنه نقل الحدث من الأعضاء إلى الماء.
والجمهور يقولون: إن الحدث أمر معنوي لا تلحقه الصفات الحكمية من نجاسة أو غيرها.
وقال بعضهم: لأنه يتنجس بكثرة رفع الحدث ونزوله فيه بالوضوء والاغتسال.
وقال قوم: طبيعة الإنسان -غالباً- أنه إذا نزل إلى الماء ليغتسل وانغمس فيه، فإنه يخرج منه البول ولا يستطيع رده، فبتعدد الاغتسال يكثر البول في هذا الماء فينجسه، فقيل لهم: هذا ماء كثير فكيف ينجسه البول؟ قالوا: بتنجس مع طول الزمن.
وقال آخرون: لأنه يستقذر، فإذا بلت فيه، وجاء الثاني وبال فيه، فبعد هذا كيف تشرب منه؟! وكيف تتوضأ منه؟! فالنفس تشمئز من هذا، إذاً: هذا نهي كراهة وتنزيه، وليس نهي تحريم.
وكذلك قوله: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه).
فالماء الدائم منهي أن تبول فيه أو تغتسل فيه من الجنابة، وقوله: (لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب) نهي عام يشمل كل ذي جنابة أن يغتسل منه، ولكن هنا قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه أو يغتسل فيه)، فهذا نهي موجه للإنسان أن يجمع بين الأمرين: البول والاغتسال، فلو لم يرد أن يغتسل فهل يجوز له أن يبول؟
لا يجوز، فلو أن اثنين أحدهما بال في الماء، فيقال له: لا تغتسل؛ بسبب بولك فيه، والشخص الثاني الذي لم يبل له أن يغتسل ويتوضأ؛ لأنه لم يفعل سبب النهي، ويتعجب بعض العلماء من المغايرة بين الشخصين، ويقولون: إن كان النهي عن البول في الماء لنجاسة أو لاستقذار، فكما يجري هذا على الذي بال فينبغي أن يجري على الذي لم يبل، وقالوا: إن النهي للكراهة لا للتحريم، ليبقى الماء طاهراً مدة أطول، حتى لا يطول الزمان ويكثر البول فيفسد الماء.
وهناك من يقول: النهي عن ذلك من ناحية طبية؛ لأن الماء الذي لا يجري، وهو ما يسمى المستنقعات، تنشأ فيها بعض الأشياء، فتحمل بعض الجراثيم التي تنتقل عند البول فيه أو عن طريق الأظفار في القدمين فتصيبه بالمرض، ويذكرون أن البلهارسيا والكلستوما وغيرهما تكثر في مستنقعات المياه، وكانت توجد في المنطقة الشرقية أكثر من غيرها قبل أن تنظم فيها قنوات الري.
فقال بعض العلماء: هذا ماء كثير نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تخالطه النجاسة ولو لم تغير أوصافه؛ لأنه لا يجري بل هو دائم في مكانه، فإنه لو طال الزمن وكثرت هذه الحالة؛ فقد يفسد عليهم الماء ولو كان كثيراً.
والجمهور على أن النهي للكراهة، وابن حزم ينكر عليهم قولهم أنه للكراهة، ويقول: هذا نهي صريح، ولا يوجد ما يصرفه إلى الكراهة، بل هو للتحريم، ومن بال لا يصح وضوءه من ذلك الماء.
وجاء في رواية: (منه) وفي رواية: (فيه)، والمعنى: أنه لو بال في هذا الماء فلا يتوضأ ولا يغتسل منه، أي: لا يأخذ ماء ويتوضأ أو يغتسل بعيداً من الماء الراكد، وكذلك إذا بال في هذا الماء فلا ينزل وينغمس فيه ويغتسل، ولا يتوضأ فيه.
وقال بعضهم: هذا التوجيه هو للآداب والأخلاق والنزاهة، ونظيره الحديث الذي فيه: (لا يجلدن أحدكم زوجه جلد الأمة ثم هو يضاجعها)، أي: أنه الآن يضربها وكأنها عدوة له، وكأنها ليست لها قيمة عنده، ثم بعد فترة يجد نفسه مضطراً إلى أن يضاجعها، ففي حالة المضاجعة أين ذهب الضرب؟ وفي حالة الضرب أين ذهبت المضاجعة؟ فعليه أن ينظر إلى العاقبة، فإذا أردت أن تضرب فلا تنسى حاجتك إليها في المضاجعة، فليكن الضرب برفق، وكذلك هنا لا يبل ثم هو يغتسل؛ لأن هذا مستنكر، فكيف تبول فيما تحتاج أن تشرب منه وتغتسل فيه؟! كما أنه كيف تضرب من تحتاج إلى مضاجعتها؟! فهذا نظير ذاك، فالنهي للكراهة وليس للتحريم، والله تعالى أعلم.
إلى هنا نكون قد انتهينا من تقسيم العلماء للماء، واعتبار الكثرة والقلة، وذكرنا القسم الطهور المجمع عليه، والمتنجس المجمع عليه، وذكرنا القسم الوسط، وهو محل البحث، وهو القليل الذي خالطته النجاسة ولم يتغير بها.
والخلاصة:
أن الإمام مالكاً ينظر إلى الأوصاف، ولم ينظر إلى قلة ولا كثرة، والأئمة الثلاثة رحمهم الله ينظرون إلى الأوصاف مع الكمية، قلة أو كثرة، فإن كان قليلاً ووقعت فيه نجاسة فهو نجس ولو لم يتغير، وإن كان كثيراً فهو طاهر ما لم يتغيّر، وبالله تعالى التوفيق.
هذا الحديث يتعلق بالماء القليل، وهو عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم، يقول العلماء: هذا الرجل مجهول لم يسم، وجاء في بعض الروايات أن اسمه يحنس أو نحو هذا.
والجمهور يقولون: إن جهالة الصحابي لا تضر في صحة الحديث؛ لأنه صحابي، والصحابة رضوان الله تعالى عليهم كلهم عدول لا يفتش عنهم في رواية الحديث؛ وعلى هذا فهذا رجل مجهول الاسم، لكنه معروف بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يضر الحديث، وقد قيل: إنه صحبه أربع سنوات، قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل الرجل بفضل المرأة أو تغتسل المرأة بفضل الرجل، وليغترفا جميعاً)، النهي يقتضي التحريم والمنع، إلا إذا وجدنا قرينة تصرف النهي عن التحريم إلى الكراهة، والأمر يقتضي الوجوب ما لم نجد قرينة تصرف الأمر من الوجوب إلى الندب. وهنا نهي صريح: (نهى أن تغتسل المرأة بفضل الرجل)، والفضل ما بقي بعد استعمال الماء، ويقول ابن حزم في المحلى: إذا كان الباقي بعد استعمال الماء أقل مما أخذ؛ فهو فضل داخل تحت النهي، أما إذا كان الباقي بعد الاستعمال مساوياً لما أُخذ أو زائداً عنه فليس بفضل، بل هو أكثر مما أخذ، فلو قدر أن الإناء فيه عشرة لترات، فاغتسل الرجل من هذا الماء بخمسة لترات، وأبقى خمسة لترات، فلا تكون الخمسة فضلةً للعشرة، أما إذا أخذ سبعة لترات فالباقي ثلاثة، وهي أقل مما أخذ فتكون الثلاثة فضلةً للعشرة، وهذا عرف معلوم عند الناس، فلو أن إنساناً أتي بكأس وشرب منه وبقي في الكأس شيء؛ فلا يقال: هذه فضلة فلان، إلا إذا كان الموجود في الكأس قليلاً، أما إذا تذوّقه أو أخذ قليلاً منه؛ فلا يقال: هذه فضلة فلان، بل الطعام باقٍ أكثره، وكذلك الشراب في الكأس باق أكثره، فالعرف يؤيد ما ذهب إليه ابن حزم رحمه الله.
يقول بعض العلماء: النهي هنا للتحريم، ويقول الجمهور: النهي للتنزيه، ومذهب ابن حزم وداود الظاهري أن النهي للتحريم، ولكن نجد في الحديث الذي بعده أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يغتسل من جفنة اغتسلت منها ميمونة وهي جنب، فقالت له: هذا الماء باق بعد اغتسالي، فقال لها: (إن الماء لا يجنب)، واغتسل بفضلها، وقد يقال: اغتسل بالباقي، لكن هل كان الباقي أكثر أو أقل؟ ليس هناك دليل، لكنها قرينة على أن النهي هنا للكراهة.
وبعض العلماء يقول: لا بأس للمرأة أن تغتسل بفضل الرجل، ولا يغتسل الرجل بفضل المرأة، ثم ذكروا أن علة النهي ما جاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: هذا النهي خاص بالمرأة التي اغتسلت من حيضتها، وخصص عموم المرأة بالخائض لأنها تخلو به -كما في بعض الروايات- أما إذا كان الرجل مع المرأة فليغترفا جميعاً، لكن إذا خلت به، واغتسلت وهو غائب عنها في مكان آخر، ثم جاء ليغتسل، فلا يغتسل بفضلها، قال ابن عمر: المرأة إذا خلت بالماء، واغتسلت لحيضها، فقد لا تعلم أحكام الحيض والغسل منه، وقد تلوث الماء وتفسده على الرجل، ولكن هذا يرد بأن المرأة الحائض تغتسل من حيضتها إذا انقطع الدم عنها، وذلك إذا رأت القصة البيضاء، كما سيأتي في باب الحيض أن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها كن النساء يبعثن إليها بالقطن فيه أثر الحيض، فتقول: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء. والقصة البيضاء ماء أبيض يعقب دم الحيض، ويدل على نقاء الرحم من الحيض، فحينئذ تغتسل.
إذاً: الحائض ليس فيها ما يخشى منه على الماء، ولكنه تخصيص وارد عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، فبعض العلماء نهى الطرفين، وبعضهم نهى الرجل أن يغتسل بفضل المرأة، وأجاز للمرأة أن تغتسل بفضل الرجل؛ لأن الرجل ليس مظنة لأن يفسد الماء، ولذا قيل: إذا اغتسلت أمامه وهو يراها، ولم تخلُ بالماء، فلا مانع أن يغتسل بفضلها؛ لأنه لو وقع منها أمر بجهالة فإنه سيرشدها، أو يكون عنده علم بحال الماء، والجمهور على أن النهي هنا للتنزيه والكراهة وليس للتحريم.
والمؤلف رحمه الله ساق الحديث هنا في معرض بحث الماء القليل الذي لاقته النجاسة ولم تغيّر أحد أوصافه، فهذا ماء قليل في إناء، والمعروف أن المياه في البيوت لا تكون مستبحرة، ولا تكون قلتين، ولا تكون عشرة أذرع في عشرة -كما قيل- إنما هي في أوانٍ معروفة، فهي في حكم الماء القليل، وقد جاء النهي عن اغتسال أحد الزوجين بفضل الآخر، فهو منع لاستعمال الماء القليل الذي لم يتغير، فهذا من أدلة ترجيح من يقول: الماء القليل إذا لاقته النجاسة ولم تغيره فإنه ينجس، والآخرون يقولون: إن النهي هنا ليس للتحريم، إنما هو للكراهة؛ لما سيأتي بعد هذا الحديث إن شاء الله.
إذاً: نُهي أن يغتسل أحدهما بفضل الآخر، فلو كان عندهما إناء واحد، فهل تتقدم هي أم يتقدم هو؟ قالوا: لا يسبق أحدهما الآخر، ولا ينفرد به؛ بل يغتسلان بعضهما مع بعض، ويغترفان جميعاً، فهي تغترف لنفسها وتغتسل، وهو يغترف لنفسه ويغتسل، ومن هنا يقول النووي رحمه الله: قوله: (وليغترفا جميعاً) فيه أن النهي عن اغتسال الرجل بفضل المرأة أو العكس للتنزيه لا للتحريم؛ لأنهما لو اغتسلا معاً واغترفا جميعاً، فلابد أن أحدهما سيسبق الآخر بغرفة الماء، فإذا سبق الرجل واغترف من الماء، ثم هي بعده اغترفت، فقد اغتسلت بفضل الرجل، أو سبقت هي فاغترفت، ثم هو تبعها واغترف لنفسه، فقد اغتسل بفضل مائها، وهكذا من أول الغسل إلى آخره، فيقع اغتسال كلٌ منهما بفضل الآخر.
ونظير هذا النهي عن الصلاة منفرداً خلف الصف، فهو للكراهة، ولا تبطل به الصلاة -كما يقول الحنابلة- فلو قدرنا أنها أقيمت الصلاة، ووقف الإمام، وخلفه ثلاثة أشخاص مؤتمون به، فلن يتلفظوا بتكبيرة الإحرام في لحظة واحدة، بل سيحصل بينهم تفاوت واختلاف، فهذا يكبر، وهذا يعتدل، وهذا ينظر، قال النووي رحمه الله: سيسبق أحدهم الآخرين بالتكبير؛ فيكون قد كبر وحده، وفي تلك اللحظة إلى أن يكبر شخص آخر معه سيكون منفرداً خلف الصف، ولم تبطل صلاته، فاستنتج من ذلك أن النهي عن الانفراد خلف الصف للكراهة، وكذلك هنا.
وبعض من توسع في هذا الموضوع يقول: إنه حث على أن يغتسلا جميعاً؛ لأن المرأة في حاجة إلى تعلم أحكام المياه، وأحكام الغسل من الجنابة، فتتعلم ذلك إذا اغتسلت مع الزوج، والأصل أن الزوج يكون متعلماً لمخالطته ولسماعه، فذلك أدعى لتعليمها، وقد جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (اغتسلت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، حتى كانت أقول: دع لي دع لي)، فاغتسلا في وقت واحد معاً، وعلى هذا يكون النهي للكراهة والتنزيه، وقد اغتسل عليه الصلاة والسلام من فضل ميمونة ، واغتسل مع عائشة واغترفا جميعاً.
وإذا اغتسلت المرأة من الدش، فهل الماء الباقي في الخزان يصدق عليه أنه فضل المرأة؟
لا؛ لأنه يوجد مواسير عازلة، وقد تقدم ما قاله ابن حزم عن حقيقة الفضلة، وهو أنه إذا كان الإناء موجوداً بينهما، وكان ما أبقته المرأة أو أبقاه الرجل أكثر مما أخذ فقد خرج عن النهي، فمن باب أولى أن الخزان فوق السطوح أو السخانة في الحمام لا يدخل الماء الباقي فيهما في هذا الحديث، والله تعالى أعلم.
هذا الحديث من أوسع الأحاديث مسائلاً، وأكثرها اختلافاً، ونستعين بالله سبحانه وتعالى على أن نشرحه كلمة كلمة، لعل الله سبحانه أن ييسر إيضاح أمره، وبيان الراجح من الخلاف فيه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (طُهور إناء أحدكم) هذه الكلمة (طهور) لم يروها البخاري ، بل روى الحديث بلفظ: (إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات)، وفرق بين (شرب، وولغ) فبعض العلماء يقول: الشرب لغير الكلاب والسباع، وهو أن يعب الماء عباً، والولوغ: هو أن يتناول الماء بطرف لسانه، فإذا كان في الإناء شيء يابس كدقيق أو خبز فيقال: لعق، وإذا كان الإناء فارغاً فيقال: لحس.
فالولوغ: هو تناول الكلب بطرف لسانه للسائل الذي في الإناء، وهذه طبيعته، والشرب أعم، فإن الشرب ولوغ وزيادة، إذاً: ولغ وشرب ليس بينهما تعارض.
وقوله: (طهور إناء)، أخذ الجمهور من كلمة: (طهور) نجاسة سؤر الكلب؛ لأن التطهير في الشريعة لا يكون إلا من حدث ناقض للوضوء أو موجب للغسل، أو لإزالة النجاسة، والإناء لا يطهر من الحدث؛ لأنه غير مكلف، بل هو جماد، إذاً: المراد طهوره من النجاسة، وهذا ما يسميه علماء الأصول بالسبر والتقسيم، فقالوا: مدلول الطهور يدور حول معنيين: الحدث والنجس، وبالسبر وجدنا أن الحدث ملغي؛ لأنه لا يرد على الإناء، فبقي من القسمين الطهور من النجس، فقال الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة والشافعي وأحمد : إن سؤر الكلب نجس، والغسل منه للنجاسة، وجعلها سبع مرات مع التتريب تأكيداً للطهارة، وعلى كل جزئية من هذه الجزئيات إيراد واعتراض، فـمالك رحمه الله ناقشهم في عملية التقسيم أولاً، فالجمهور جعلوا القسمة على كلمة: (طهور) قسمين، ومالك قال: هناك قسم ثالث أغفلتموه، ويجب أن تأتوا به، ثم تسبروا المعنى على الأقسام الثلاثة، قالوا: وما هو القسم الثالث؟
قال: الطهور من القذر، وهو موجود شرعاً؛ لأنه جاء في الحديث: (السواك مطهرة للفم) ، وليست فيه نجاسة، وليس فيه حدث، وكذلك جاء في التيمم أنه طهور، ففي الحديث: (فعنده مسجده وطهوره) على القول بأن التيمم لا يرفع الحدث، وكذلك إذا وجد قذر في الثوب فإنك تطهره، قال الله: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4]، فهل كان على ثيابه صلى الله عليه وسلم نجاسة؟ قالوا: لا، ولكن هذا كناية عن الأعمال، فطهرها من الشرك والصغائر، وبعضهم قال: المعنى أن يكون الثوب نظيفاً نقياً.
فـمالك رحمه الله يقول: الأقسام ثلاثة، وبسبرها نسقط الحدث كما أسقطتموه، ونسقط أيضاً النجاسة؛ لأنه لو كان للنجاسة لاكتفي بتطهير الإناء بما تطهر به عامة النجاسات، ووافقه في ذلك أبو حنيفة رحمه الله في مسألة عدد الغسلات والتتريب.
إذاً: كلمة: (طهور) أخذ منها الجمهور أن سؤر الكلب نجس، وإذا ولغ في الإناء نجّسه، ويجب تطهيره، بأن يغسل سبع مرات إحداهن بالتراب.
ومالك يقول: الأمر بالغسل هنا تعبدي، وليس للنجاسة؛ لأننا وجدنا كلمة (طهور) تستعمل في غير النجاسة، كما أنها تستعمل في غير الحدث، وعلى هذا فـمالك يقول: سؤر الكلب طاهر، والغسل فيه تعبدي، ولكن ما هي العلة إذن؟ سيأتي كلام المالكية عنها.
إذاً: الجمهور يقولون: سؤر الكلب نجس، وينجس الإناء الذي ولغ فيه، وما الحكم عندهم إذا أكل من يابس؟ قالوا: يؤخذ ما أكل منه، والباقي طاهر، كما روي في حديث الفأرة: (إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد وماتت فخذوها وما حولها، وكلوا سمنكم؛ وإذا سقطت في السمن المائع وماتت فلا تقربوه)؛ لأنه قد تنجس السمن كله، قالوا: وكذلك إذا لعق الكلب من دقيق أو طعام ليس سائلاً، بخلاف ما إذا ولغ من سائل: ماء، أو حليب، أو سمن، وهذا يسمى ولوغاً، ويجري عليه نفس حكم الفأرة.
فالجمهور على نجاسة سؤر الكلب، وهل بقية بدنه نجس؟ كما لو أدخل الكلب يده في الإناء وأخرجها، فهل يكون الحكم كالسؤر فيغسل الإناء سبع مرات ويترّب؟
قال البعض: إن الحكم هنا متعلق بالسؤر فقط، والشافعية ومن وافقهم قالوا: إذا كان السؤر نجساً ويغسل سبع مرات مع أنه في الفم؛ فبقية البدن من باب أولى، وقالوا أيضاً: نجاسة سؤر الكلب إنما هو لتحلل لعاب اللسان في السائل، فإذا عرق الكلب فالعرق متحلل من داخل بدنه، فيأخذ نفس الحكم، لكن علماء الحيوان يقولون: الكلب لا يعرق، ولهذا قال الله: إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176]، فالكلب يبرد جسمه بأن يخرج لسانه ويلهث، والكلب لا يعرق جلده أبداً، ولهذا فإنه يحتر، فإذا احتر ولم يجد ما يبرد جسمه، فإنه قد ينزل في الماء من أجل التبريد، فإذا لم يجد الماء أخرج لسانه ليبرد من شدة الحرارة، فلو أن الكلب نزل في الماء، وخرج وأصبح مبللاً، أو صببت عليه ماء؛ فلمس إنسان شعر الكلب المبلل، فهل يكون حكمه حكم السؤر أم لا؟
قال الشافعية وغيرهم: كل ما مسه جسم الكلب فإنه يغسل سبع مرات إحداهن بالتراب.
وقال البعض: الأمر جاء في السؤر فقط، وما سواه فلا يدخل في ذلك. وأنا أريد إيراد بعض التفريعات في هذا الحديث، وأكثر من مسائله؛ لأنه يصلح لتدريب طالب العلم ودارس الحديث على مناقشة الأحاديث التي ورد فيها خلاف، وأوسع من وجدت تكلم عليه هو ابن دقيق العيد في مخطوطة كتاب الإمام، ففيه أكثر من خمس عشرة صفحة بخط صغير جداً في هذا الموضوع.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر