يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
معاشر الأحبة رجالاً ونساءً! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
طبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته إخواناً على سرر متقابلين، أسأله سبحانه أن يفرج هم المهمومين، ويكشف كرب المكروبين، ويقضي الدين عن المدينين، وأن يدل الحيارى ويهدي الضالين، وأن يغفر للأحياء وللميتين.
أحبتي.!
أيام معدودة ونستقبل شهر رمضان، وعنوان لقاء هذه الليلة الطيبة المباركة: غربة صائم.
وسيتكون موضوع هذه الليلة من العناصر الآتية:
وقفة قبل البداية.
شهر رمضان.
كتب عليكم الصيام.
المطلوب منك ومنك ومني.
بدأ غريباً وسيعود غريباً.
الغرباء مع الصيام.
ولك من أخبار النساء.
أنواع الصائمين.
هذا حالهم فما هو حالنا؟
نداء أخير.
قال ابن كثير رحمه الله: تمر بنا الأيام تترا، وإنما نساق إلى الآجال والعين تنظر. إن الدقائق والثواني التي ذهبت من أعمارنا لن تعود، ولو أنفقنا جبال الأرض ذهباً وفضة.
واعلم أن الأنفاس معدودة والآجال محدودة، واعلم أن من أعظم نعم الله عليك أن مد في عمرك وجعلك تدرك هذا الشهر العظيم، فكم غيب الموت من صاحب، ووارى الثرى من حبيب، فتذكر من صام معنا العام الماضي وصلى العيد، ثم أين هو الآن بعد أن غيبه الموت؟!.
اجعل واجعلي لك من هذا الحديث نصيباً، قال صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: اغتنم حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك)، رواه الحاكم .
احرص رعاك الله! أن تكون من خيار الناس كما قال صلى الله عليه وسلم وأخبر حين سئل: أي الناس خير؟ أي الناس خير؟ قال: (من طال عمره وحسن عمله).
إلهي ثكلت خواطر أنست بغيرك
عدمت قلباً يحب سواك
قال ابن رجب : هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بشهر رمضان، فكيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان؟! كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران؟! كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشيطان؟! من أين يشبه هذا الزمان زمان؟!
قال معلى بن الفضل : كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم رمضان.
قال يحيى بن كثير : كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان، وسلم لي رمضان، وتسلم مني رمضان متقبلاً.. فمرحباً بشهر طيب مبارك كريم.
في رمضان أنزل القرآن والكتب السماوية، في رمضان الشفاعة بالصيام والقرآن، في رمضان التراويح والتهجد، في رمضان التوبة وتكفير الذنوب، في رمضان تصفد الشياطين، في رمضان تغلق أبواب الجحيم وتفتح أبواب الجنان، في رمضان الجود والإحسان والعتق من النيران، في رمضان الصبر والشكر والدعاء، في رمضان مضاعفة الحسنات وليلة القدر، في رمضان الجهاد والانتصار.. فكيف لا يفرح المؤمن بشهر هذا بعض ما فيه؟!
بين الجوانح في الأعماق سكناه
فكيف أنت ومن في الناس ينساه
وكيف أنت حبيباً كنت في صغري
أسير حسن له جلت مزاياه
ولم أزل في هواه ما نقضت له عهداً
ولا محت الأيام ذكراه
قد شاخ جسمي ولكن في محبته
وما زال قلبي فتى في عشق معناه
وفي كل عام لنا لقيا محببة
يهتز كل كياني حين ألقاه
بالعين والقلب والآذان أرقبه
وكيف لا وأنا بالروح أحياه
والليل تحلو به اللقيا وإن قصرت
ساعاتها أحيالها وأحلاه
فنوره يجعل الليل البهيم ضحى
فما أجل وما أجلى محياه
ألقاه شهراً ولكن في نهايته
يمضي كطيف خيال قد لمحناه
في موكب الطهر في رمضان الخير
تجمعنا محبة الله لا مال ولا جاه
من كل ذي خشية لله ذي ولع
بالخير تعرفه دوماً بسيماه
قد قدروا مواسم الخيرات فاستبقوا
والاستباق هنا المحمود عقباه
صاموه قاموه إيماناً ومحتسباً
أحيوه طوعاً وما في الخير إكراه
وكلهم بآيات القرآن مندمجاً
كأنه الدم يسري في خلاياه
فالأذن سامعة والعين دامعة
والروح خاشعة والقلب أواه
قال ابن عثيمين رحمه الله: الحكمة من الصيام: ليس أن يمنع الإنسان نفسه عن الطعام والشراب والنكاح، ولكن كما قال الله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، وما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: ( من لم يدع قول الزور ): هو كل قول محرم، أو العمل به أي بالزور، أي: كل فعل محرم، وقوله: ( والجهل ): أي العدوان على الناس وعدم الحلم.
فهل ترانا حققنا هذا بصيامنا؟! أم نحن ممن بالنهار يتقيه وبالليل يعصيه؟!
كتب عمر بن عبد العزيز إلى رجل: أوصيك بتقوى الله عز وجل التي لا يقبل غيرها ولا يرحم إلا أهلها ولا يثيب إلا عليها، فإن الواعظين بها كثير والمتكلمين بها كثير والعاملين بها قليل.. جعلني الله وإياكم من المتقين.
تقوى الله أكرم ما أسررت، وأزين ما أظهرت، وأفضل ما ادخرت، وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:35].
وإليك موجزاً وبعضاً من أخبار المتقين:
قال البخاري : ما اغتبت مسلماً منذ احتلمت.
وقال الشافعي : ما حلفت بالله صادقاً ولا كاذباً، ولو أعلم أن الماء يفسد علي مروءتي ما شربته.
قيل لـمحمد بن الواسع : لم لا تتكئ؟! قال: إنما يتكئ الآمن وأنا لا زلت خائفاً.
وقرئ على عبد الله بن وهب : وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ [غافر:47]، فسقط مغشياً عليه.
وحج مسروق فما نام إلا ساجداً.
وقال أحدهم: ما كذبت منذ علمت أن الكذب يضر أهله.
وقال أبو سليمان الداراني : كل يوم وأنا أنظر في المرآة هل اسود وجهي من الذنوب؟
هذا حالهم فكيف هو حالي وحالك؟! لبسنا الجديد، وأكلنا الثريد، ونسينا الوعيد، وأملنا الأمل البعيد!
رحماك يا رب! لماذا تريد الحياة؟! لماذا تعشق العيش إذا لم تدمع عيناك من خشية الله جل في علاه؟! إذا لم تمدحه في السحر! إذا لم تزاحم بالركب في حلق الذكر! إذا لم تصم الهواجر، وتخفي الصدقات! هل العيش إلا هذا؟! هل العيش والسعادة إلا هذا؟!
قالوا: إذا لم تستطع قيام الليل وصيام النهار، فاعلم أنك محروم، قال سبحانه: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:54-55].
فهذه أخبارهم لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ [المدثر:37].
فتعالوا أحبتي! ننظر في بعض صور الغرباء في رمضان.
أما أمير البررة وقتيل الفجرة عثمان ، قال أبو نعيم عنه: حظه من النهار الجوع والصيام، ومن الليل السجود والقيام، مبتل بالبلوى منعم بالنجوى.
وعن الزبير بن عبد الله عن جدته قالت: كان عثمان يصوم الدهر ويقوم الليل إلا هجعة من أوله رضي الله عنه.
قتلوه وقد كان صائماً والمصحف بين يديه والدموع على لحيته وخديه، حبيب محمد ووزير صدق ورابع خير من وطئ التراب.
أما أبو طلحة الأنصاري الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لصوت
أما حكيم الأمة وسيد القراء أبا الدرداء فقد قال: لقد كنت تاجراً قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فلما بعث زاولت العبادة والتجارة فلم يجتمعا، فأخذت بالعبادة وتركت التجارة.
تقول عنه زوجه: لم تكن له حاجة في الدنيا، يقوم الليل ويصوم النهار ما يفتر.
لله درهم!.
كرر علي حديثهم يا حادي فحديثهم يجلو الفؤاد الصابي
أما من خبر الإمام القدوة المتعبد المتهجد عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين، فيكفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (نعم العبد
وعن سعيد بن جابر قال: لما احتضر ابن عمر قال: ما آسى على شيء - يعني ما أحزن على شيء - من الدنيا إلا على ثلاث: ظمأ الهواجر، ومكابدة الليل، وأني لم أقاتل الفئة الباغية التي نزلت هنا، يعني الحجاج .
وإليك المزيد:
عن رجاء بن حيوة عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (أنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً فأتيته فقلت: يا رسول الله! ادع الله لي بالشهادة، فقال: اللهم سلمهم وغنمهم، فغزونا فسلمنا وغنمنا، حتى ذكر ذلك ثلاث مرات، قال ثم أتيته فقلت: يا رسول الله! إني أتيتك تترا - ثلاث مرات - أسألك أن تدعو لي بالشهادة فقلت: اللهم سلمهم وغنمهم، فسلمنا وغنمنا يا رسول الله! فمرني بعمل أدخل به الجنة، فقال: عليك بالصوم فإنه لا مثل له، قال فكان
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار حتى إنه ليضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم و
أما مسروق بن عبد الرحمن الذي كان في العلم معروق، وبالثناء موصوفٌ، ولعبادة الله معشوق، قال عنه الشعبي : غشيته يوماً - يعني زرته يوماً - غشيت مسروقاً في يوم صائم، وكانت عائشة قد تبنته فسمى ابنته عائشة، وكان لا يعصى ابنته شيئاً ( لا يخالف ابنته من محبته إياها ) قال: فنزلت إليه فقالت: يا أبتاه! أفطر واشرب، قال: ما أردتي يا بنية! قالت: الرفق، قال: يا بنية! إني طلبت الرفق لنفسي في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
قال الله عنهم: فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إن هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً [الإنسان:11-22].
سعيكم مشكوراً إذ صبرتم على طاعتي، سعيكم مشكوراً إذ صبرتم على الأذى في سبيلي.
وهذا خبر أخير عن المبشر المحزون، والمستتر المخزون، تجرد من التلاد وشمر للجهاد وقدم العتاد للمعاد: العلاء بن زياد كان ربانياً تقياً قانتاً لله بكاءً من خشية الله، عن هشام بن حسان أنه قال: كان قوت العلاء بن زياد رغيفاً كل يوم، وكان يصوم حتى يخضر، ويصلي حتى يسقط، فدخل عليه أنس بن مالك والحسن فقالا له: إن الله تعالى لم يأمرك بهذا كله، فقال: إنما أنا عبد مملوك لا أدع من الاستكانة شيئاً إلا جئته.
قال له رجل: رأيت كأنك في الجنة، فقال له: ويحك أما وجد الشيطان أحداً يسخر به غيري وغيرك.
قال سلمة بن سعيد : رؤي العلاء بن زياد أنه من أهل الجنة، فمكث ثلاثاً لا ترقأ له دمعة ولا يكتحل بنوم ولا يذوق طعاماً، فأتاه الحسن فقال: أي أخي! أتقتل نفسك أن بشرت بالجنة؟ فازداد بكاءً، فلم يفارقه حتى أمسى وكان صائماً فطعم شيئاً من الطعام، قال الله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ * وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:101-107].
دعوه لا تلوموه دعوه فقد علم الذي لم تعلموه
رأى علم الهدى فمشى إليه وطلب مطلباً لم تطلبوه
أجاب دعاءه لما دعاه وقام بأمره وأضعتموه
لنفسي ذاك من فطن لبيب تذوق مطعماً لم تطعموه
قال سبحانه: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً * وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:63-65].
لله درهم! فكم علت بهم الهمم، وأي كلام يترجم فعلهم.
ولك من أخبار النساء الغرباء.
عن عبد الرحمن بن قاسم أن عائشة كانت تصوم الدهر، وعن عروة أن عائشة كانت تسرد الصيام، وقال القاسم : كانت تصوم الدهر فلا تفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر.
وقد بعث لها معاوية مرة بمائة ألف درهم، فقسمتها ولم تترك منها شيئاً، فقالت بريرة : أنت صائمة فهلا ابتعت لنا منها بدرهم لحماً؟ فقالت: لا تعنفيني، لو كنت أذكرتني لفعلت.
إنها الصديقة بنت الصديق ، العتيقة بنت العتيق، حبيبة الحبيب، وأليفة القريب، المبرأة من العيوب رضي الله عنها وأرضاها.
أما القوامة الصوامة حفصة بنت عمر رضي الله عنها وعن أبيها وعن إخوتها وآل عمر وارثة الصحيفة، والجامعة للكتاب، فعن قيس بن زيد : (أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق
فأي شهادة أعظم من شهادة الله وجبريل لـحفصة رضي الله عنها وأرضاها، وأنعم بها من عبادة كانت سبباً لرجوع أم المؤمنين حفصة إلى رسولنا صلى الله عليه وسلم لتبقى له زوجة في الجنة.
قال نافع : ماتت حفصة حتى ما تفطر.
وإليك المزيد.
عن سعيد بن عبد العزيز قال: ما بالشام ولا بالعراق أفضل من رحمة العابدة مولاة معاوية ، دخل عليها نفر من القراء فكلموها لترفق بنفسها، فقالت: ما لي وللرفق بها، فإنما هي أيام مبادرة وأيام معدودة، فمن فاته اليوم شيء لم يدركه غداً، والله يا إخوتاه! لأصلين لله ما أقلتني جوارحي، ولأصومن له أيام حياتي، ولأبكين له ما حملت الماء عيناي، ثم قالت: أيكم يأمر عبده فيحب أن يقصر في حقه؟! ولقد قامت رحمها الله حتى أخضرت، وصامت حتى اسودت، وبكت حتى فقدت بصرها.
وكانت تقول: علمي بنفسي قرح فؤادي وقطع قلبي، والله لوددت أن الله لم يخلقني ولم أك شيئاً مذكوراً.
كانت رحمها الله تخرج إلى الساحل فتغسل ثياب المرابطين في سبيل الله، قال الله عنهم: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]، وقال عنهم: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ * فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ [الطور:25-29].
فلو كان النساء كما ذكرن
لفضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب
وما التذكير فخر للهلال
من صام عن الطعام والشراب فصومه عادة، ومن صام عن الربا والحرام وأفطر على الحلال من الطعام فصومه عادة وعبادة، ومن صام عن الذنوب والعصيان وأفطر على طاعة الرحمن فإنه صائم رضا، ومن صام عن القبائح وأفطر على التوبة لعلام الغيوب فهو صائم تقى، ومن صام عن الغيبة والبهتان وأفطر على تلاوة القرآن فهو صائم رشيد، ومن صام عن المنكر وأفطر على الفكرة والاعتبار فهو صائم سعيد، ومن صام عن الرياء والانتقاص وأفطر على التواضع والإخلاص فهو صائم سالم، ومن صام عن خلاف النفس والهوى وأفطر على الشكر والرضا فهو صائم غانم، ومن صام عن قبيح أفعاله وأفطر على تقصير آماله فهو صائم مجاهد، ومن صام عن طول أمله وأفطر على تقريب أجله فهو صائم زاهد.
قال ابن القيم : الصوم لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار المقربين لرب العالمين، يكفيك قوله: (الصوم لي وأنا أجزي به).
يا قادماً للتقى في عينك الحب
طال اشتياقي فكم يهفو لكم قلب
صبرت عاماً أمني قرب عودتكم
نفسي فهل يدنو لكم سرب
قل هل طيفكم فاخضر عامرنا
والله أكرمنا إذ جاءنا الخصب
ففيكم يرتقي الأبرار منزلةً
والخاملون كسالى زرعهم جدب
قالوا في الصيام:
الصوم: لذة الحرمان.
وقالوا: الصوم رجولة مستعلنة، وإرادة مستعلية.
وقالوا: رمضان شهر الحرية عما سوى الله، وفي الحرية تمام العبودية، وفي تحقيق العبودية تمام الحرية.
قالوا: رمضان شهر القوة، (فليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).
قالوا: الصوم صبر وطاعة ونظام، أترون أمة من الأمم تتحلى بهذه الصفات ثم تجد سبيلها إلى الانهيار؟! صبر وطاعة ونظام، أترون جيشاً يتحلى بهذه الأخلاق القوية ثم يجد نفسه على عتبة الهزيمة؟!
فلا تنسى وأنت تصوم رمضان أن الله يريد أن يجعلنا بالصيام مثال القوي الأمين.
فحذار حذار! أن ينسلخ عنك رمضان وأنت الضعيف الخائن.
أحبتي!
لن يتسع المقام حتى نذكر حال الغرباء مع القيام ومع تلاوة القرآن، لن يتسع المقام لذكر أخبار الغرباء مع التضرع والدعاء والبذل والعطاء، ولن يتسع المقام لذكر بطولات الغرباء وصولاتهم وجولاتهم في ساحات الجهاد في رمضان، ولكن حسبنا ما سمعنا وذكرنا من أخبارهم، واللبيب بالإشارة يفهم.
اسمع شيئاً من أخبارنا في بحث واستفسار وأسئلة طرحت على مئات من المجتمع رجالاً ونساءً موظفين وطلاباً عن حالهم وعن أوقاتهم في رمضان، فجاءت الاعترافات التي تؤكد لنا قوله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الدين غريباً وسيعود غريباً فطوبى الغرباء).
فقائل يقول: أقضي الليل أمام شاشات التلفاز، أتابع القنوات الفضائية حتى طلوع الفجر مع بعض زملائي، وقائل: تحت أضواء الملاعب ضمن سلسلة المباريات المقامة في ليالي رمضان.
وقائل: على موائد البلوت والورقة في المجالس وعلى الأرصفة.
وقائل: أقضي الأوقات في التنزه في الحدائق تارة وفي الأسواق تارة.
أما أهل الوظائف فسهر بالليل ثم كسل وخمول طوال النهار، والنتيجة لوم وتوبيخ وخطابات إنذار، وآخر يقول: أنا أحسن من غيري حيث يتسنى لي النوم في المكتب، وآخر يقول: في رمضان يكثر غيابي وتكثر الخصميات.
وفي لقاءات مع بعض أئمة المساجد تحدث بعضهم مستبشرين بزيادة المصلين في رمضان، وإقبال الناس على الطاعة، وعبر آخرون عن حزنهم لحال المتخاذلين حتى في رمضان، وقال آخر: إنهم يزدادون في صلاة الفجر حتى يمتلئ المسجد، ولكنا لا نكاد نراهم في صلاة الظهر والعصر، فقد قلبوا ليلهم نهاراً، ونهارهم ليلاً.
وفي الأسواق اسمع الأخبار من رجال الهيئات.
أما في المقاهي فسئل أحد العاملين في أحد المقاهي عن الفرق بالنسبة لهم عن العمل في رمضان وفي غيره من سائر الشهور، فأجاب: إن العمل في رمضان يكون أكثر تعباً وإرهاقاً، حيث يكثر الزبائن ويزدحمون بمعدل الضعف عن غيره من الشهور، ويمضون ليلهم كله في المقاهي.
أما الأبناء فعلى الأرصفة والطرقات، صخب ولهو.. فتسأل نفسك أين الراعي عن الرعية؟!
أما النساء فسهرات نسائية وانشغال في إعداد أصناف الحلويات والمشروبات والمأكولات، وأمهات يسهرن حتى الفجر في انتظار الأولاد الذين لا يعودون إلا في هذه الأوقات المتأخرة.
أما الأسواق والمجمعات فحدث ولا حرج فأين العبادة؟! أين الجد والاجتهاد؟
يقول أحدهم: أنام بعد الفجر ولا أستيقظ إلا بعد صلاة العصر، فالنوم عبادة!
وآخر يقول: يوقظني والدي عند الإفطار وفي بعض الأحيان لا أفطر إلا قبيل صلاة العشاء.
ومع أحد الزبائن في إحدى المقاهي كانت هذه الأسئلة السريعة: منذ متى وأنت هنا؟ قال: من الساعة الثانية عشرة، إلى متى تجلس؟ قال: إلى وقت السحور، هل أنت موظف؟ قال: نعم أنا موظف حكومي، ألا تتأخر عن دوامك؟ قال: أتأخر قليلاً ثم أكمل النوم في المكتب.
هذا هو رمضان اليوم عند كثير من الفئات.
فيا خيبة الصائمين! ويا حسرة المفرطين!
قدمت في هذه الأيام موائد الإنعام للصوام، فما منكم إلا من دعي، ورمضان يناديكم ويقول: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [الأحقاف:31-32]، فطوبي لمن أجاب فأصاب، وويل لمن طرد عن الباب.
ألا يكفيك قوله: (الصوم لي وأنا أجزي به)؟!.
رباه عفوك إني للنور مدت يدايا وأبكي ويبكي دمعي ويبكي بكايا
وحفنة من وعاء غرسه من دمايا ولا لغيرك دوى يا رب يوماً ندايا
إليك أنت صباحي مصفداً في مسايا فاذكر إلهي ضياءك إني ظمآن ضل صدايا
لم أدر من أي نبع أسقي حنين الركايا والشط لا ماء فيه يطفي اللظى في حشايا
رحماك يا رب هذا إثمي وصادي تقايا وذاك دربي وهذا على الطريق عصايا
رحماك يا رب إني وزورقي والخطايا في لجة ليس فيها من الضياء بقايا
جفت وغاضت ولكن ما زلت أزجي رجايا غفرت أم لم فإني ما زلت أدعوك يا رب!
فعجباً لمن عرفك ثم أحب غيرك! وعجباً لمن سمع مناديك ثم تأخر عنك!
اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بأسوأ ما عندنا، اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان، وارزقنا صيامه وقيامه إيماناً واحتساباً يا ذا الجلال والإكرام! اللهم وفقنا فيه لفعل الطاعات، ووفقنا فيه لترك المعاصي والمنكرات، واجمع فيه شملنا ووحد فيه صفنا وأصلح فيه ولاة أمورنا وانصر فيه المجاهدين وسدد فيه الدعاة والعلماء الربانيين، ووفق فيه الشباب والشيب والنساء والإماء لتوبة نصوح واستقامة وثبات حتى الممات يا رب العالمين!
ربنا ظلمنا أنفسنا وإلا تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
أستغفر الله العظيم.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر