أما بعد:
فإننا قد وقفنا في تفسير جزء عم على سورة التكوير, وها نحن نبدأ بها إن شاء الله في هذا اللقاء الموافق (يوم الخميس) الأول من شهر ذي القعدة عام (1413هـ).
فنقول: قال الله عز وجل: بسم الله الرحمن الرحيم إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ [التكوير:1-3] إلى أن قال: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ[التكوير:14].
و(الشمس) كتلة عظيمة كبيرة واسعة، يكوِّرها الله عز وجل يوم القيامة، فيلفها جميعاً ويطوي بعضها على بعض، فيذهب نورُها، ويلقيها عز وجل في النار إغاظةً للذين يعبدونها من دون الله، قال الله تبارك وتعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء:98] أي: تحصبون في جهنم، أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء:98] ويستثنى من ذلك من عُبِد من دون الله تعالى من أولياء الله، فإنه لا يلقى في النار، كما قال الله تعالى بعد هذه الآية بآيتين: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ [الأنبياء:101-102].
وقال تعالى: وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ [ص:58] أي: أصناف، وقال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ [الصافات:22] أي: أصنافهم وأشكالهم.
فيوم القيامة يُضَمُّ كلُّ شكل إلى مثله، أهلِ الخير إلى أهل الخير، وأهلِ الشر إلى أهل الشر، وهذه الأمة يُضَمُّ بعضها إلى بعض وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً [الجاثية:28] لوحدها: (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:28].
إذاً .. معنى وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [التكوير:7] أي: شُكِّلت وضُمَّ بعضُها إلى بعض، كلُّ صنف إلى صنفه، وكلُّ أُمَّة إلى أُمَّتها.
فإذا قال إنسان: كيف تُسْأل وهي المظلومة، وهي المدفونة، ثم إنها قد تُدْفَن وهي لا تُمَيِّز ولم يَجْر عليها قلم التكليف فكيف تسأل؟!
قيل: إنها تُسأل توبيخاً للذي وَأَدَها؛ لأنها تُسأل أمامه، فيقال: بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:9]؟!
نظير ذلك: لو أن شخصاً اعتدى على آخر في الدنيا، فأتوا إلى السلطان أو الأمير، فقال للمظلوم: بأي ذَنْبٍ ضَرَبَك هذا الرجل؟! وهو يعرف أنه معتدٍ عليه وليس له ذنب؛ لكن من أجل التوبيخ للظالم.
فالموءودة تسأل: بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:9] توبيخاً لظالمها وقاتلها ودافنها، نسأل الله العافية.
واعلم أيها الإنسان أن كل عمل تعمله من قول أو فعل، فإنه يُكْتَب ويُسَجَّل في صحائف على أيدي أمناء كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:11-12]، فيسجلون كل شيء تعمله، فإذا كان يوم القيامة فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء:13] أي: عَمَلَه في عنقه وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً [الإسراء:13]، أي: مفتوحاً، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:14].
كلامنا الآن ونحن نتكلم يُكْتَب، كلام بعضِكم مع بعض يُكْتَب، كلُّ كلامٍ يُكْتَب، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].
ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه).
وقال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل: خيراً أو ليصمت)؛ لأن كل شيء سيُكْتَب عليه، ومَن كَثُر كَلِمُه كَثُر سَقَطُه، أي: أن الذي يُكْثِرُ الكلامَ يَكْثُرُ سَقَطُه وزلاتُه.
فاحفظ لسانك، فإن الصحف سوف يُكْتَب فيها كل ما تقول، وسوف تُنْشَر لك يوم القيامة.
ففي يوم القيامة تُكْشَط، أي: تُزال عن مكانها كما يُكْشَط الجلد عند سلخ البعير عن اللحم، فيكشِطها الله عز وجل، ثم يطويها جل وعلا بيمينه، كما قال تعالى: وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67].
وقال تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء:104] أي: كما يطوي السجلُّ الكتبَ، بمعنى: أن الكاتب إذا فرغ من كتابته طَوَى الورقة حفظاً لها عن التمزق وعن المحو.
فالسماوات تُكْشَط يوم القيامة، ويبقى الأمر فضاءً، إلا أن الله تعالى يقول: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17]، فتكون السماء التي فوقنا يكون بدلاً عنها العرش؛ لأن السماء تُطْوَى بيمين الله عز وجل، يطويها بيمينه ويهزها، وكذلك الأرض باليد الأخرى، ويقول: أنا الملك أين ملوك الدنيا؟!
تُسَعَّر أي: تُوْقَد، وما وَقُودُها الذي توقَد به؟
الجواب: وَقُودُها الذي توقَد به قال الله تعالى عنه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6] بدلاً من أن يؤتَى بالحطب والورق، يكون الوقودَ الناسُ -أي: الكفار-، والحجارة: حجارةٌ من نار عظيمة شديدة الاشتعال والحرارة، هذا تسعير جهنم.
أُزْلِفَتْ أي: قُرِّبت وزُيِّنَت للمؤمنين.
وانظر الفرق بين هذا وهذا!
دار الكفار ماذا يُفْعَل بها؟!
تُسَعَّر وتوقد!
ودار المؤمنين؟!
تُزَيَّن وتُقَرَّب، وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ .
كل هذا يكون يوم القيامة.
فإذا قرأنا هذه الآيات: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ [التكوير:1-13] نجد أنها اثنتا عشرة جملة؛ ولكن إلى الآن لم يأت الجواب؛ لأنها كلها في ضمن الشرط، إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ... إلخ، فالجواب لم يأت بعد، ماذا يكون إذا كانت هذه الأشياء؟
إننا نسينا الشيء الكثير، فلا نتذكر من الطاعات ولا من المعاصي شيئاً؛ لكن هل تظنون أن هذا ذهب سُدَىً كما نسيناه؟ لا. هو باقٍ، فإذا كان يوم القيامة أحْضَرْتَه أنتَ بإقرارك على نفسك بأنك عملته، ولهذا قال تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [التكوير:14].
فينبغي بل يجب على الإنسان أن يتأمل في هذه الآيات العظيمة، وأن يتعظ بما فيها من المواعظ، وأن يؤمن بها كأنه يراها رأي عين؛ لأن ما أخبر الله به وعَلِمْنا مدلوله، فإنه أشد يقيناً عندنا مما شاهدناه بأعيننا، أو سمعناه بآذاننا؛ لأن خبر الله تعالى صدق لا يخلف؛ لكن ما نراه أو نسمعه كثيراً ما يقع فيه الوهم، فقد ترى الشيء البعيد شبحاً تعيِّنُه في تصورك وهو خلاف الواقع، وقد تسمع الصوت فتظنه شيئاً معيناً في ذهنك وهو خلاف الواقع، فالوهم يَرِد على الحواس؛ لكن خبر الله عز وجل إذا عُلِم مدلولُه لا يمكن أن يَرِد عليه شيء من الوهم؛ لأنه خبرُ صدق.
فهذه الأمور التي ذكرها الله تعالى في هذه الآيات أمورٌ حقيقية، يجب أن تؤمن بها كأنك تراها رأي عين، ثم بعد الإيمان بها يجب أن تعمل بمقتضى ما تدل عليه من الاتعاظ والانزجار، والقيام بالواجبات وترك المنهيات، حتى تكون من أهل القرآن الذين يتلونه حق تلاوته، جعلنا الله وإياكم منهم بِمَنِّه وكرمه، إنه على كل شيء قدير.
الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
لا شك أن الحكومة وفقها الله تُشْكر على ما تنشئه من هذه المراكز الصيفية؛ لأنها تكف بهذه المراكز شراً عظيماً، وفتنة كبيرة، فلو أن هؤلاء الشباب، وهذه الجحافل الكثيرة العدد صارت تجوب الأسواق طولاً وعرضاً، أو تخرج إلى المنتزهات، أو إلى البراري، أو الشعاب، أو الجبال، فما ظنكم بالذي يحصل منها من الشر؟!
أعتقد أن كل إنسان عاقل يعرف الواقع سيظن أن كارثة ما ستحصل للشباب من الانحراف، وفساد الأخلاق، والأفكار الرديئة، وغير ذلك؛ لكن هذه المراكز -ولله الحمد- صارت تحفظ كثيراً من الشباب، ولا نقول: تحفظ أكثر الشباب، ولا كل الشباب، كما هو الواقع، ويحصل فيها خيرٌ كثير من استدعاء أهل العلم لإلقاء المحاضرات التي يكون بها العلم الكثير، والموعظة النافعة، والألفة بين الشباب والشيوخ، وهذا لا شك أن فيه مصالح عظيمة.
أما ما يحصل فيها من إمتاع النفس بلعبة الكرة، والمسرحيات، وما أشبه ذلك، فهذا من الحكمة؛ لأن النفوس لو أعطيت الجد في كل حال، وفي كل وقت، لَمَلَّتْ وكَلَّتْ وسئمت، فالصحابة رضي الله عنه قالوا: (يا رسول الله! إذا كنا عندك وذكرتَ لنا الجنة والنار، فكأننا نراها رأي عين؛ لكن إذا ذهبنا إلى بيوتنا، وعافَسْنا الأهل والأولاد نسينا، فقـال الرسـول عليه الصلاة والسلام: ساعة وساعة) بمعنى: أن الإنسان يكون هكذا مرة وهكذا مرة.
وقال عليه الصلاة والسلام لـعبد الله بن عمرو بن العاص لما قال رضي الله عنه: (لَأَقُومَنَّ الليلَ ما عِشْتُ، ولَأَصُومَنَّ النهار ما عِشْتُ، قال له: أقُلْتَ هذا؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزَوْرِك -أي: ضيفك- عليك حقاً، فأعطِ كلَّ ذي حق حقه).
وسمع الرسول بقوم قالوا -حين سألوا عن عمله عليه الصلاة والسلام في السر في بيته، وأُخْبِروا به، وكأنهم تَقالُّوا هذا العمل قالوا: الرسول عليه الصلاة والسلام غَفَر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ونحن لسنا كذلك، فقال بعضهم: أنا لا أنام الليل -أي: يقوم الليل ولا ينام-، وقال الثاني: أنا أصوم ولا أفطر، وقال الثالث: أنا لا آكل اللحم، وقال الرابع: أنا لا أتزوج النساء، فلما سمع النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، قال: (ما بال أقوام يقولون هذا؟! إني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
فإعطاء النفس حظها من المتعة المباحة لا شك أنه غاية الحكمة، ثم إن لعبة الكرة مع ما فيها من التسلي وإذهاب التعب النفسي، ففيها منفعة للبدن؛ لأنها تنشطه وتقويه؛ لكن يجب فيها الآتي:
أولاً: أن يتجنب اللاعبون ما يفعله بعض السفهاء من لبس السراويل القصيرة، فإن هذا لا يجوز، لا يجوز للشباب الإسلامي أن يلبس سراويل قصيرة؛ لأننا إن قلنا: إن الفخذ عورة فالأمر واضح؛ فالعورة لا يجوز كشفها، والنظر إليها، وإن لم نقل: إنه عورة فإن كشف أفخاذ الشباب فتنة يفتتن بعضهم ببعض، وهذه مفسدة يجب درؤها.
ثانياً: ألا يؤدي ذلك إلى الكلام البذيء مِن سب أو شتم أو ما أشبه ذلك، فإن ما يوصِل إلى الكلام البذيء الخارج عن المروءة لا يجوز.
ثالثاً: ألا يحصل فعلٌ ينافي المروءة، كما يفعل بعض اللاعبين، إذا غلب أحدٌ منهم الآخر جاءوا يركضون إليه يضمونه، ويَخُمُّونه، ويحملونه على أكتفاهم، وما أشبه ذلك من الأفعال المنافية للمروءة؛ لأن هذه الأفعال وإن كانت جاءتنا من دول ليس عندهم مروءة ولا دين، لكننا أول من ننكرها، حتى الأطفال الصغار الذين دون البلوغ والذين هم في سن العاشرة ونحوها لو فعلوا هذا، لكان ينبغي توجيههم بترك هذا الفعل.
أما قول القائل: إن مكان المواعظ المساجد، فَصَدَق، لكن هل الرسول عليه الصلاة والسلام لم يعظ الناس إلا في المسجد؟
لا. بل كان يعظهم في المسجد، ويعظهم في السوق، ويعظهم في السفر، ووعد النساء يوماً يعظهنَّ فيه، فأتى إليهن في بيت إحداهن.
فمكان الوعظ صحيحٌ أنه المساجد، وهذا هو الأصل؛ لكن كلما دعت الحاجة إلى الوعظ في غيره فإنه يُوعَظ فيه.
وهؤلاء الشباب لو قلنا: ائتوا لهم بمراكز في المساجد، واطبخوا لهم الغداء فيها، واصنعوا القهوة فيها، لكان هذا منكراً أيضاً، أنكر من كونهم يجلسون في مكان معين.
وإني أقول لهذا الأخ الذي اعترض بهذا الاعتراض: يجب أن يكون عند الإنسان إدراك ووعي، وأن يُنَزِّل الأمور منازلها، وألا يكون سطحياً يرى من فوق السقوف، بل يكون إنساناً واعياً يَسْبُر أغوار الأمور، وينظر ما الذي يترتب من المصالح والمفاسد على الأفعال، والقاعدة العريضة الواسعة الشاملة للشريعة الإسلامية إنما هي: جلبُ المصالح ودفعُ المفاسد، فقد أتت المراكز بالمصالح ودَفْع المفاسد، ولا أحد يشك في أننا لو قلنا لروَّاد المراكز الصيفية: ائتوا إلى المساجد لما تحمل الناس هذا، حتى العامة لا يتحملون هذا الشيء.
فإذاً نقول: هذه الأماكن؛ أماكن المدارس التي هي محل العلم من أزمنة طويلة، والمسلمون لا ينكرونها، بل درسوا فيها وبنوها، وبنوا لها الأربطة، وطبعوا لها الكتب، كل ذلك لم يكن معروفاً في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، غاية ما هنالك أنه يمكن أن يُسْتَدلَّ للأربطة بأصحاب الصُّفَّة؛ لكن هل منع الرسول عليه الصلاة والسلام من ذلك؟
أبداً. ما منع من هذا، فالمدارس الآن مكان للعلم، يُدْرَس فيها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال العلماء، والوسائل المساندة للعلم من نحوٍ وغيره.
فنقول للأخ الذي اعترض هذا الاعتراض: فكِّر في الأمر، واعلم أن الدين أوسع من فكرك، وأوسع من عقلك، وأنه يأتي بالمصالح أينما كانت، ما لم تشتمل على مضار مساوية أو غالبة فتُمْنَع.
أما قوله: إن وسائل الدعوة توقيفية: فكلمة وسائل تدل على أنها ليست توقيفية, فما دامت وسيلة فإننا نسلكها إلا أن تكون محرمة، نسلكها وإن لم يرد نوعها في الشريعة؛ ما لم تكن محرمة؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد، ألسنا الآن نبلغ الناس بواسطة مكبر الصوت؟! هذه وسيلة، فهل كانت هذه الوسيلة موجودة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام؟!
الجواب: غير موجودة!
ألسنا نقرأ الكتب بلبس النظَّارة من أجل تكبير الحرف أو بيانه؟! هذه وسيلة لقراءة الكتب وتحصيل العلم، فهل كان هذا موجوداً في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام؟!
الجواب: غير موجود!
ألسنا نضع في أذن الأصم أو خفيف السمع سماعة ليسمع ما يُلقَى من الخير؟!
الجواب: بلى!
وهل كان هذا موجوداً في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؟!
ما دمنا أقررنا بأنها وسيلة، فإننا ننظر إلى الغاية، فإذا كانت الوسيلة محرمةً حَرُمَت في ذاتها.
فلو جاء أناس وقيل لكم عنهم: هؤلاء الجماعة لا يقربون منكم حتى تضربوا لهم بالمعازف، ويرقصوا عليها!
قلنا: هذه لا نستعملها؛ لأنها وسيلة محرمة.
أو قيل: لا يقبل هؤلاء الدعوة إلى الله إلا أن تكون الداعية امرأة شابة جميلة!
فهل نأتي بامرأة شابة جميلة؟
لا.
إذاً.. فالوسائل جائزة، وعلى حسب ما هي وسيلة إليه، ما لم تكن ممنوعة شرعاً بعينها فإنها تُمْنَع.
وأنا أحبذ المراكز الصيفية، وأرى أنها من حسنات الحكومة، وأحثُّ أولياء الأمور على إدخال أولادهم فيها؛ لكن يجب الحذر من مسائل، وهي:
الأولى: أن يُخْلَط الشباب الصغار مع المراهقين والكبار؛ لما في ذلك من الفتنة التي يُخْشَى منها.
الثانية: أن يكون القائمون على هذه المراكز من ذوي العلم، والأمانة، والصلاح، والمروءة، بحسب الإمكان ولا نقول: لابد أن يكون كذلك؛ لأنه أمر قد يكون مستحيلاً، فالكمال لله وحده؛ لكن بحسب الإمكان، ولهذا لما تكلم العلماء عن القضاة، وأنه يجب أن يكون القاضي عدلاً، قالوا: إذا لم يوجد قاضٍ عدلٌ، فإنه يُوَلَّى أحسن الفاسقَين، وأقربهما للأمانة؛ لأن الله يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].
الثالثة: أن على ولاة الأمور إذا أدخلوا أولادهم في هذه المراكز أن يتحسسوا أخبار هذه المراكز، وينظروا كيف تكون مثلاً طلعات التلاميذ إلى البَرِّ، ومن الذي يخرج بهم وهكذا، حتى يحافظوا على أولادهم.
فنسأل الله التوفيق للجميع.
وأكرر -ولا سيما مع طلبة العلم- لابد أن يكون طالب العلم ذهنُه واسعاً وتفكيرُه عميقاً، وألا يأخذ الأمور بظاهرها وسطحيتها، وأن ينظر مقاصد الشريعة وما ترمي إليه من إصلاح الخلق، وألا يمنع ما يكون صلاحاً أو ما يكون درءاً لمفسدة أكبر، إلا إذا ورد الشرع بمنعه.
الجواب: الصحيح أن الرمي في الليل جائز، إلا ليلة العيد فإنه لا يجوز إلا في آخر الليل، وكذلك في اليوم الثاني عشر لا يؤخره إلى الليل؛ لأنه لو أخره إلى الليل لزم أن يبقى إلى اليوم الثالث عشر، كذلك رمي الثالث عشر لا يؤخر إلى الليل؛ لأن أيام التشريق تنتهي بغروب ليلة الثالث عشر.
فيجوز حتى لغير المرأة أن يرمي ليلاً، ونرى أن الرمي ليلاً مع الطمأنينة والإتيان بالرمي على وجه الخشوع، أفضل من كونه يذهب ليرمي في النهار وهو لا يدري أيرجع إلى خيمته أو يموت، ولا يؤدي العبادة -حين يؤديها- عبادةً، بل يؤديها وكأنه مشغول البال بالخوف على نفسه، وقد قررنا قاعدة دلت عليها الشريعة: أن المحافظة على ذات العبادة أولى من المحافظة على زمانها أو مكانها ما دام الوقت متسعاً، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان)، فمن كان يدافع الأخبثين نقول له: أخِّر الصلاة إلى آخر الوقت حتى تقضي حاجتك، وإن كانت الصلاة في أول الوقت أفضل؛ لكن إذا صليت وأنت تدافع الأخبثين فإنك لا تحصل على الخشوع الذي يتعلق بذات العبادة.
لهذا نرى في الوقت الحاضر أن الرمي في الليل أفضل من الرمي في النهار، إذا كان الرمي في النهار لا يحصل به الخشوع وأداء العبادة على الوجه المطلوب، فيجوز للرجل أن يؤخِّر الرمي إلى الليل من أجل أن يذهب هو وأهله ليرموا الجمرة.
والأمر الآخر: ما الحكم إذا اشترى ذهباً جديداً وأضافه إلى الذهب القديم الذي وجبت عليه الزكاة؟
الجواب: تأخير الزكاة سواءً كانت زكاة الذهب أو غيره لا يجوز، إلا إذا لم يجد الإنسان أهلاً للزكاة وأخَّرها ليتحرى مَن يرى أنه أهل فهذا لا بأس به؛ لكن يجب أن يقيد الحول؛ لكيلا يقول في السنة الثانية مثلاً: أنا ما زكيتُ إلا من مدة ستة أشهر، فأضيف ستة أشهر أخرى مثلاً: إذا كانت تحل في رمضان، ولم يجد أحداً يعطيه، وأخَّرها إلى ذي القعدة، فإذا جاء رمضان الثاني يؤدي الزكاة، فلا يقل: أنا لم أؤدِّ إلا في ذي القعدة، فلا أخرجها إلا في ذي القعدة؛ لأن الأول تأخير، فإذا كان لمصلحة فلا بأس.
أما إذا اشترى ذهباً في أثناء الحول، فإنه لا يُضَمُّ إلى الذهب الأول في الزكاة، بل يجعل له حولاً وحده، وإن شاء أن يضمه إلى الأول ويُخْرِج زكاتهما في آن واحد فلا بأس، ويكون هذا من باب تقديم الزكاة.
السائل: وإذا كان الجديد أقل من النصاب؟
الشيخ: إذا كان الذي اشتراه أقل من النصاب فيضاف إلى الأول في النصاب؛ لكن في الحول له حول وحده، ما لم يختر أن يجعل زكاتهما في شهر واحد.
الجواب: أولاً: السنة أن يبقى في مزدلفة حتى يصلي الفجر ويُسْفِر جداً، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكن من خاف من زحام الناس في رمي العقبة فليخرج في آخر الليل وليرمِ الجمرة، وكونه يخرج من آخر الليل ولا يرمي الجمرة لا شك أنه مخالف للسنة من وجهين:
الوجه الأول: خروجه قبل أن يصلي الفجر.
الوجه الثاني: أنه أخر الرمي إلى أن ارتفعت الشمس، والإنسان الذي يتقدم من أجل الرمي مأمور بأن يتقدم في الرمي.
السائل: هل يلزمه شيء في هذا؟
الشيخ: لا يلزمه شيء.
الجواب: الذي يظهر لي أن القران أفضل؛ لأنه يحصل به نُسُكان: عمرةٌ وحج، فيقول: لبيك عمرة وحجاً ويُهدي.
الجواب: الحكم أن هذا حرام عليه إلا إذا كان مسافراً، فإن المسافر يجوز أن يفطر بالأكل والشرب والجماع وغيره؛ لكن إذا كان غير مسافر فإنه يحرم عليه؛ لأنه صومَه يَفْسُد بهذا العمل، وعليه أولاً: التوبة إلى الله تعالى -وهي أهم شيء- وأن يشعر بالخجل من الله والذل بين يديه.
ثانياً: يقضي هذا اليوم الذي أفطره، وزوجتُه لا شيء عليها إلا إذا أنزلت، وقد مَكَّنَتْه من هذا الفعل باختيارها، فعليها أن تقضي، ويحرم عليها هذا التمكين، فيكون عليها التوبة والقضاء.
الجواب: أقول -بارك الله فيك- أولاً: لابد أن نعلم أن هذا صليب؛ لأن بعض الأشياء يظنها بعض الناس صلباناً وليست كذلك.
ثانياً: أن نعلم أنه وُضِع لأنه صليب، لا لكونه نقشاً في الثوب مثلاً؛ لأن النصارى يعظمون الصليب، فلا يمكن أن يجعلوا وَشْياً في ثوب، إنما يضعونه موضع الاحترام.
فلابد من هذين الأمرين، فإذا تحققنا أنه صليب فإن الواجب تمزيقه، أو على الأقل السنة تمزيقه، ولنقاطع هذه الثياب؛ فإذا قاطعناها ولم يستفد التجار منها قاطعوها أيضاً.
وكذلك يقال في النجمة السداسية التي يقال: إنها شعار اليهود، فحكمها حكم الصليب، وإن كان اليهود لا يتخذونها على سبيل العبادة؛ لكنها مختصة بهم.
السائل: ولكن الصلبان -يا شيخ- على أنواع مختلفة، أعني: هل كل صليب لابد أن أتأكد أنه صليب؟
الشيخ: نحن سألنا عنها النصارى الذين أسلموا فقالوا: إن الصليب عندنا هو الصليب المعروف؛ أن يكون خطان، أحدهما يقع عرضاً والثاني طولاً، ويكون الطوليُّ مِن جانبٍ أطولَ من الثاني.
حتى أننا سألناهم عن ساعة الصليب هذه التي يسمونها ساعة الصليب فقالوا: هذه لا يراد بها الصليب، هذه علامة الشركة فقط؛ لأن الصليب عند النصارى يقولون عنه: إنه خط مرتفع طويل، ثم خط عرْضي، وأحد الجانبين في الخط الطولي أطول من الآخر؛ لأن هذا هو الواقع، فالإنسان المصلوب توضع له خشبةٌ عرضاً من أجل أن تربط بها يداه، فهل يمكن أن تكون الخشبةُ الموضوعةُ لليدين موضوعةً في النصف؟! لا. بل تكون في الأعلى، لهذا نحن في شك من هذه التي نُشِرَت قبل سنتين بأشكال مختلفة، وقالوا: هذه صلبان!
ثم إن علامة (+) هل هي صليب؟
ليست صليباً.
السائل: ولكنهم يشكلون أشكالاً وصوراً على أشكال الصليب!
الشيخ: لا. هم يقولون: هذا ليس صليباً، فقد حدَّثني إنسان مسلم وكان نصرانياً، فقال: هذا هو الذي عندنا.
كذلك يوجد فيما سبق الدلاء التي يُرفع بها الماء من البئر، في أعلاها شيء يُسمى: (العَرْقات)، عبارة عن خشبتين، إحداهما عَرْضِية والأخرى طولية، فمِن هذه الأشياء ليست صليباً.
فالشيء الصليب هو الذي وُضع على أنه صليب.
الجواب: أولاً: أعجبني قولك: المدينة النبوية ؛ لأن المشهور عند الناس المدينة المنورة ، والصواب: المدينة النبوية ؛ لأن النور كان في مكة أيضاً قبل أن يكون في المدينة .
ثانياً: الواجب على المدرس أن يحكم بالعدل، قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا [المائدة:8] أي: لا يحملكم بُغْض قوم على ألا تعدلوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8] حتى إن العلماء قالوا: يجب على القاضي إذا تحاكم إليه خصمان أحدهما مسلم والثاني كافر أن يجلسهما منه مجلساً واحداً، فلا يقول للمسلم: تعال هنا وللكافر: اذهب هناك، لا. بل يجعلهما جميعاً أمامه، وأن يعدل بينهما في الكلام، فلا يغلظ الكلام للكافر ويرققه للمسلم، فلا يقول للمسلم: صبحك الله بالخير ولا يقوله للكافر، بل يجعلهما سواء في باب المحاكمة؛ لأن هذا هو العدل.
فهؤلاء التلاميذ إذا قدموا أجوبتهم فليَغُضَّ النظر عن كونه فلاناً أو فلاناً، ليصحح على ما كان أمامه من قول، إن صواباً فهو صواب، وإن خطأً فهو خطأ، كما أنه لا يجوز أن ينظر -إذا كان يعرف صاحب الجواب- إلى حال الطالب من قبل، هل هو فاهم أو غير فاهم؛ لأن بعض الناس أو بعض المدرسين يقَدِّر درجات التلاميذ على حسب ما كان يعرفه منهم، وهذا غلط، بل يجب أن يقدر الدرجات أو الترتيب على حسب ما رُفِع إليه في الجواب النهائي؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما أقضي بنحوِ ما أسمع).
وكثيراً ما يكون الطالب جيداً، فيتوهم في الجواب أو في السؤال، فيفهم السؤال على أن السائل أراد به كذا، ويجيب بحسب هذا الفهم.
أو يتوهم في الجواب فيظن أن جواب هذا السؤال هو كذا وكذا، وهو غلط، مثل أن يكون في السؤال: كم أقسام الحديث؟ فيظن الطالب أن المراد: كم أقسامه من حيث العدد، فيقول:
متواتر ومشهور وعزيز، وغريب وغيره.
ويتوهم آخر أن المراد: مراتب الحديث من حيث الصحة فيقول:
صحيح، وحسن، وضعيف.
والصحيح إما لذاته أو لغيره، والحسن إما لذاته أو لغيره.
فالمهم: أن الواجب على المدرس إذا قدمت إليه أوراق الإجابة، أن يصحح حسب الجواب بقطع النظر عن المجيب.
وكذلك في أثناء التدريس يجب أن يعدل بين التلاميذ مهما كان الأمر، وهو بهذه الطريقة يفتح آفاقاً بعيدة قد لا يدركها؛ لأن الخصم يفهم أنه لم يتحدَّاه، فيرغب فيه ويقول: هذا مُنْصِف، وعادل، ويجره ذلك إلى أن يألَفَه ويقبل منه ما يقول.
ولهذا فنحن ننصح إخواننا المدرسين في البلاد التي ذكرتَ، والتي يختلط فيها أهل السنة وأهل البدعة أن يحاولوا بقدر المستطاع تأليف أهل البدعة وجذبهم إليهم؛ لأن الشباب لَيِّن العريكة، ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (اقتلوا شيوخ المشركين، واستبقوا شَرْخَهم) أي: شبابهم؛ لكي يجتذبهم لكن لو أن الأستاذ يعامل طلابه من أهل البدعة بالقسوة والآخرين باللين، أو يعاملهم بالتشديد في التصحيح والآخرين بالتخفيف، أو يعاملهم بإسقاطهم وهم مجيبون صواباً، فلا شك أن هذا يولِّد في قلوبهم البغضاء والكراهية، حتى للحق الذي كان عند هذا الأستاذ.
الشيخ: وصل إلى بلده أم وصل إلى بلد آخر؟
السائل: لا. هو مسافر من محل إقامته إلى محل آخر.
الشيخ: أي: وصل إلى المحل الآخر؟
السائل: نعم.
الجواب: هو الآن يصلي المغرب، ثم يصلي مع الجماعة العشاء، فإن أقيمت الصلاة قبل أن يصلي المغرب، دخل معهم بنية المغرب، فإن أدرك العشاء من أول ركعة وقام الإمام إلى الرابعة جلس هو وتشهد وسلم، ثم قام مع الإمام فيما بقي من صلاة العشاء، وإن دخل مع الإمام في صلاة العشاء في الركعة الثانية فما بعدها فالأمر واضح، إن دخل في الركعة الثانية سلم مع الإمام، وإن دخل في الركعة الثالثة أتى بركعة بعدها، وإن دخل في الرابعة أتى بركعتين بعدها.
الجواب: هل هي تقضي بإذنه أم بغير إذنه؟
السائل: بإذنه.
الشيخ: نعم. هو آثم؛ لأنه أفسد عليها صومها؛ لكن ليس فيه كفارة عليها ولا عليه؛ لأنه مفطر.
السائل: لكن فعله هل هو من الكبائر أم لا يدخل في ذلك؟
الشيخ: لا أعلم فيه وعيداً خاصاً، والذنب إذا لم يكن عليه وعيد خاص فلا يكون من الكبائر.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر