فإن موضوعنا طويلٌ ومهم، فأرجو أن تحضروا أسماعكم وأذهانكم لتستوعبوا ما تستطيعون أن تستوعبوه، فهذا الدرس بمثابة انطلاقة وبدايةٍ لدراسةٍ أوسع وأشمل يقوم بها كل منا بالإضافة إلى بعض الجهات التي قد نقترح أن تقوم بواجبها في هذا الشأن.
أيها الإخوة: إن الشركات -ولا سيما الشركات المساهمة، وهي أهم الشركات التي ستكون دراستنا لها أكثر- قد انتشرت وتنوعت وتشعبت في مجتمعنا بسبب ما أنعم الله به علينا وفتح لنا من كنوز الأرض، حتى قل أن تجد إنساناً غير مساهمٍ في شركة أو سائل عن مساهمةٍ في شركة، ولا أستطيع أن أحصي الأسئلة التي تأتيني يومياً شفهياً أو خطياً أو هاتفياً عن هذا الموضوع، فكيف بمشايخنا وعلمائنا!
لا شك أن هذا يدل على أن قسماً كبيراً جداً من الناس يريد أن يعرف حكم الله في هذه الشركات، وأحكامها وأنواعها، ولا سيما المساهمة منها كما ذكرت.
وهذا الذي دفعني إلى أن أبين وأوضح ما أراه وأعتقده في هذا الشأن، وهناك سبب آخر ربما كان أهم من الأول، وهو أن من يفتي أو يتحدث إلى الناس، أو يعظ أو يخطب متحدثاً عن أحكام الشركات، ومحذراً مما فيها من حرام، إنما هو في الحقيقة متكلمٌ عن حالات واقعة، وجزئيات معينة يسأل عنها السائلون فيفتيهم من خلال ما يعلم؛ ولذلك نجد أن هذا لا يعطي الحل الشامل الجذري.
ولقلة ما رأيت وما سمعت من معالجةٍ جذريةٍ لأصل موضوع الشركات، رأيت أنه لا بد أن أتحدث ببعض ما يوفقني الله تبارك وتعالى له، ثم أترك البقية لإخواننا المتخصصين في هذا المجال ممن جمع بين العلم الشرعي وبين الدراسة الاقتصادية، وفوق ذلك لعلمائنا الأفاضل الذين لا بد أن يدلوا بدلوهم، وأن يقولوا كلمتهم الفصل في هذه القضايا.
فالقضية ليست قضية جزئيات ومسائل متكررة يومية يسأل عنها الناس، ما حكم كذا؟
وما الحكم إن ساهمت في شركة كذا؟
وما حكم شركة كذا؟
ولو استمررنا على هذه الحالة سنظل إلى الأبد لا تتغير أمورنا وأحوالنا إلا تغيرات جزئية معينة بقدر ما يقتنع به بعض الناس؛ وكثيرٌ منهم لا يسأل، وكثيرٌ منهم قد يسأل ولكنه لا يمتثل لجواب المفتي.
إذاً لا بد من حل جذري لمسألة الشركات؛ وبيان حكم الله تبارك وتعالى فيها من واقع نظام الشركات السعودية وهو النظام أو القانون المطبق في هذه البلاد على الشركات.
فمن الطبيعي أن يوجد نوعٌ من الشركات المساهمة بأن يجتمع طائفة كبيرة من الناس ويكونوا شركة، ولا نستبعد أن يكون ذلك قد وقع؛ لأن هذا من الوقائع العادية التي لا تؤرخ؛ لكن هذا يختلف اختلافاً كثيراً عن الشركات في الواقع الغربي، وفي القانون الغربي الذي يحكم حياة الناس، والذي استوردناه وهو المطبق الآن في العالم الإسلامي مع الأسف الشديد.
ثم ظهرت الشركات التي نشأت في مصر؛ لاستعمار مصر والقبض على تجارة القطن فيها؛ ثم شركات الرقيق التي كانت في إفريقيا والتي تبيع الرقيق لـأمريكا وغيرها، ثم ظهرت شركات البترول وسيطرت -أيضاً- على بترول المنطقة، وتحكمت في إخراجه وتوزيعه وتسويقه بنسب معينة مع الحكومات.
وليس الوقت مقام تفصيل في الاشتراكية، لكن نقول: كيف أثر نشوء الاشتراكية على المجتمع الرأسمالي والشركات المساهمة الكبرى؟!
ولذلك فإن الذي يظهر وهو واضح جليٌ في إدارة الشركات المساهمة وفي أعمالها؛ أن الذي يقبض على زمام الأمور إنما هو مجلس الإدارة؛ فمليون من الناس أو أكثر يشعرون أنهم مساهمون في الشركة، وأن لهم حق التصويت كما يريدون، فهذا يعطيهم رضاً وقناعة بها، ومن المستحيل أن يثور أحد عليها؛ لأنه يساهم فيها ولو بسهم واحد، فيشعر أنها له، ولا يريد أن تخسر؛ لكن أعضاء مجلس الإدارة -وهم دائماً فئة معينة محدودة من الناس- تحتكر كل شيء وتعمل بكل شيء.
ولهذا يقول بعض الاقتصاديين: إن هناك أكذوبتين في القرن العشرين، أكذوبة الديمقراطية: وهي أن الشعب يحكم نفسه بنفسه والذي يحكمه هو في الحقيقة فئة متسلطة معينة باسم الديمقراطية.
والثانية: أكذوبة مجلس الإدارة في الشركة المساهمة أو في المؤسسات العامة، لأنه يتصرف في كل شيء، والمساهم لا يدري عن شيء.
فبهذا المنهج العملي كانت ظروف نشأة الشركات، وخاصة (الشركة المساهمة) في أوروبا.
أول ما عرف عن قانون مفصل مكتوب في أوروبا هو قانون (نابليون) الذي أظهره في مطلع القرن التاسع عشر من عام (1804م) إلى عام (1807م) تقريباً.
هذا القانون هو الذي استوردته البلاد العربية، ودخل مع الاستعمار عندما قدم البلاد العربية فعم أكثر أنحاء العالم الإسلامي، وكانت الدولة التي تحكم العالم الإسلامي دولة الخلافة وهي الدولة العثمانية، فالدولة العثمانية استوردت من القانون الفرنسي ومن غيره من القوانين أحكاماً كثيرة؛ منها (القوانين التجارية) وكان القناصل الغربيون يحكمون بأحكام القوانين الغربية في بلاد الإسلام، وفي ولايات دولة الخلافة كـالشام ومصر، والعراق وغيرها، ونتيجة لذلك جاءت هذه القوانين إلى بلاد العالم الإسلامي.
زيادةً على ذلك؛ أن مصر وهي أهم وأكبر الدول الإسلامية في هذا الشأن أصدرت دستوراً وضعياً سنة (1923م)، وقبله أصدرت عدة مراسيم أو أنظمة للحكم لكن أهمها هو هذا الدستور، ثم بعد ذلك وضعت القوانين ومنها وضع القانون المدني المصري الذي هو أكبر وأهم القوانين في العالم العربي، وهو باعتراف واضعه الأكبر (السنهوري) ربيبٌ للقانون الفرنسي ومشتقٌ منه ومأخوذ عنه، وله اعترافات قالها -لا يتسع المقام لذكرها- في ضرورة أن تعود الأمة للشريعة الإسلامية، وأن تستمد من تراثها ومن عاداتها وعرفها أحكامها وقوانينها.
أصل نظام الشركات في المملكة في الحقيقة يرجع إلى نظام المحكمة التجارية الذي صدر عام (1350هـ) واسمه (نظام المحكمة التجارية)، وصدر في تلك الفترة وكان موافقاً في أكثر أوكل مواده لقانون التجارة العثماني، الذي هو منقول عن قانون التجارة الفرنسي.
يقول في المقدمة: '' بالرغم من أن الشركات التي أسست في تلك الفترة القصيرة -أي أيام الملك عبد العزيز وما بعده- من الزمن قد شملت في أعراضها كافة أوجه النشاط المالي والتجاري والصناعي، وبلغت رءوس الأموال المملوكة لها عدة مئات من ملايين الريالات، وزاد إقبال الدوائر الحكومية والأفراد على التعامل معها، فإن نصوص الأنظمة التي تحكمها لا تزيد حتى الآن على بضع مواد وردت في نظام المحكمة التجارية، لم تكن كافيةً لمواجهة كافة المسائل المتعلقة بالشركات، سواء عند إنشائها، أم خلال مزاولة نشاطها، أم عند انقضائها وتصفيتها، وإزاء هذا القصور، لجأ الأفراد لتأسيس شركاتهم ومعالجة أمورها إلى اقتباس القواعد المعمول بها في الدول الأخرى، فاختلفت السبل، واختلطت الأمور في كثير من الأحوال، اختلاطاً جعل مهمة الوزارة -أي وزارة التجارة- في مراقبتها والإشراف عليها عسيرة، ومن هنا بدت الحاجة ملحةً إلى وضع نظامٍ شاملٍ للشركات ينص على الأحكام الواجبة الاتباع في تأسيسها ومزاولتها نشاطها.. إلى آخره ''
فالمشكلة التي شخصها النظام بنفسه هي أنه لا يجد عندنا تشريعاً يضبط الشركات مع تشعبها وكثرتها إلا بضعة مواد في نظام المحكمة التجارية؛ فلهذا احتجنا إلى وضع نظام شامل.
إذاً: فأول سؤال يتبادر إلينا جميعاً هو: أين الشريعة الإسلامية؟
وهل أحوجنا الله إلى هذه المواد القانونية؟
فالقضية الأساسية ومدخل الخطر: أننا نظرنا إلى الوضع والحال المعمول به في البلاد الأخرى؛ فاستوردنا قوانينها واستوردنا مؤسساتها وشركاتها، وتركنا الرجوع إلى الشرع، وقد فصلت أحكام ذلك تفصيلاً؛ وأكثر من ذلك ألماً وأسفاً أن يقال كما في كتاب مبادئ القانون الذي يُدرَّس في كلية الاقتصاد والإدارة بالجامعة هنا في جدة وفي غيرها '' إن الشريعة الإسلامية لم تنظم المعاملات، بل تركتها للناس ''
وإن أيَّ طالب علم يقرأ في المغني، أو في فتح الباري، أو في شرح النووي، أو أي كتاب من كتب الفقه أو شروح السنة أو التفسير، يجد أن آيات الأحكام وأحاديث الأحكام في المعاملات، تستغرق قسماً أكبر من القسم الذي يسمونه العبادات -أي الصيام والصلاة والطهارة والحج والزكاة والصوم- وفي الطبعة المحققة -الآن- من المغني وفي الجزء السابع فيه كتاب (الشركات) من (صـ109) إلى (صـ195)، هذا غير ما تتعرض له كتب الفقه من أحكام الشركة في أبواب الصلح، وفي أبواب البيع، وفي أبواب الميراث، وفي أبواب الشفعة، وفي أبواب كثيرة من أبواب الفقه التي لها علاقة بالشركة.
ومن هنا انبرى سماحة الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم -رحمه الله تعالى- وتصدى لهؤلاء، وأصدر الفتوى الشهيرة التي هي بعنوان: تحكيم القوانين، ولعلكم قرأتموها جميعاً، وله مع سماحة الشيخ عبد العزيز ومجموعة من العلماء فتوى قريبة من هذه في ألفاظها وفي معناها، كلاهما موجود في الجزء الثاني عشر من فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم في كتاب القضاء منه.
المأخذ الثاني: أن واضع نظام الشركات ليس العلماء، وليس لجنة شرعية، وإنما هي لجنة من القانونيين، إذاً استمداده ليس من الشريعة، وواضعه ليس من المتخصصين في علوم الشريعة.
المأخذ الثالث -وهو خطير ومهم جداً-: أن التحاكم إلى أحكام الشركات، والرد عند التنازع في أمور الشركات ليس إلى المحاكم الشرعية، وإنما إلى هيئةٍ قانونيةٍ خاصة كانت تسمى المحكمة التجارية، ثم غيرت عدة مرات وبعدة أسماء: هيئة حسم المنازعات التجارية، أو هيئة فض المنازعات التجارية، ثم خصصت لها هيئة باسم هيئة حسم المنازعات في الشركات، وتغيرت مراراً عديدة في تشكيلها وفي أعمالها.
ونقتصر على نص واحد من سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعرض فيه لنقد نظام الغرفة التجارية والمحكمة التجارية وهو موجود في (صـ251) من الجزء الثاني عشر من الفتاوى كما أشرنا.
يقول الشيخ رحمه الله: ''وقد انتهى إلينا نسخة عنوانها: نظام المحكمة التجارية بـالمملكة العربية السعودية المطبوع بمطبعة الحكومة بـمكة عام (1369هـ) للمرة الثانية، ودرسنا قريباً من نصفها - (من) هذه من كلامي ليستقيم اللفظ- فوجدنا ما فيها نظماً وضعية قانونية لا شرعية، فتحققنا بذلك أنه: حيث كانت تلك الغرفة هي المرجع عند النـزاع فإنه سيكون فيها محكمة، وسيكون الحكام فيها غير شرعيين بل نظاميون قانونيون، ولا ريب أن هذه مصادمة لما بعث الله به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من الشرع الذي هو وحده المتعين للحكم به بين الناس، والمستضاء منه عقائدهم وعبادتهم ومعرفة حلالهم من حرامهم، وفصل النـزاع عندما يحصل التنازع، واعتبار شيء من القوانين بالحكم بها ولو في أقل القليل - لاحظوا عبارة الشيخ - لا شك أنه عدم رضاً بحكم الله ورسوله، ونسبة حكم الله ورسوله إلى النقص وعدم القيام بالكفاية في حل النـزاع، وإيصال الحقوق إلى أربابها''
وانظروا كيف نُسب ذلك النظام حكم الله إلى عدم الكفاية!
يقول نظام الشركات في المقدمة: ''والواقع أن كافة أنواع الشركات التي تضمنها المشروع على تباين أشكالها وأحكامها لا تختلف عن الشركات التي كانت معروفةً في الماضي وقال: أما علة الاختلاف فترجع بأساسها إلى اتساع دائرة المعاملات عما كانت عليه في الماضي مع تنوع صورها وأشكالها على نحو لم يكن معروفاً أو متوقعاً''.
وهذا لا يجوز أن يقال عن الشريعة؛ لأنه لا يمكن أن يقع أي شيء إلا وله حكمه في دين الله، والواقع شاهد على ذلك.
أرجعوا الأمور إلى المحاكم الشرعية؛ تجدوا أنها تحكم -بإذن الله- في كل شيء.. أرجعوا وضع هذه الأنظمة إلى هيئات شرعية من العلماء؛ تجدوا أنهم يضعون لكم كل شيء مما يصلح حال هذه المشاكل وغيرها.
يقول الشيخ: ''وهذا فيه نسبة حكم الله ورسوله إلى النقص وعدم الكفاية في حل النزاع وإيصال الحقوق إلى أربابها، وحكم القوانين إلى الكمال وكفاية الناس في حل مشاكلهم -وكأن القوانين أكمل في حل المشاكل- واعتقاد هذا'' أي ومن يعتقد أن القوانين تحل المشاكل، والشريعة لا تحلها، وليس فيها الكفاية في ذلك، قال الشيخ: ''واعتقاد هذا كفرٌ ناقلٌ عن الملة -فانظروا خطر ما يقع فيه بعض الناس أو يقوله، شعر به أو لم يشعر ثم يقول: والأمرٌ كبير مهم وليس من الأمور الاجتهادية -أي أن بعض الناس يقول هذه أمور ومشاكل تجارية اجتهادية ولا مانع من ذلك.
فيقول الشيخ:- والأمرٌ كبير مهم وليس من الأمور الاجتهادية؛ وتحكيم الشرع وحده دون كل ما سواه؛ شقيق عبادة الله وحده دون ما سواه'' أي أنهما شقيقان أن يعبد الله وحده وأن يحكم شرع الله وحده.
قال: ''إذ مضمون الشهادتين أن يكون الله هو المعبود وحده لا شريك له، وأن يكون رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو المتبع، المحكم ما جاء به فقط، وما جردت سيوف الجهاد إلا من أجل ذلك، والقيام به فعلاً وتركاً وتحكيماً عند النـزاع، قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59]'' إلى آخر كلامه -رحمه الله- ورضي عنه وأرضاه.
وهذه هي المآخذ المهمة أصله واستمداده ثم واضعه ثم جهة التحاكم فيه وكلها كما قد رأيتم مرجعها ومآلها إلى غير شرع الله هذا من حيث الجملة.
'' الفصل الرابع من نظام الشركات يبتدئ بالمادة 98يقول: الصكوك التي تصدرها شركة المساهمة:
النوع الأول: الأسهم من المادة 98 إلى المادة 111.
النوع الثاني: حصص التأسيس من المادة 112 إلى المادة 115.
النوع الثالث: السندات من المادة 116 إلى المادة 122. ''
وهذه الثلاثة الفروع لصكوك الشركة وأموالها، فهي إما أسهم، وإما حصص تأسيس، وإما سندات. إذا كنتم عرفتم ذلك، فلنأخذها واحداً واحداً، ونبدأ بالأخير:
-السندات: والسندات رباً وحرام قطعاً، ولا يشك في ذلك أي إنسان يعرف كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصرح بهذا حتى من القانونيين أنفسهم فيقول أحدهم: هذا مخالف للشريعة؛ لأنه سند بقرض وفائدته فيه معروفة ومعلومة، والسند هو عبارة عن قرض أو سندات بقرض يسمونها، وهذا حرام قطعاً ولا شك فيه إذن، هذا الفرع باطل كله ولا يحتاج أن نفصل فيه، لأننا لا نحتاج أن نبين أن الربا حرام.
- حصص التأسيس: وهي حرام أيضاً، لماذا؟!
وما معنى حصة التأسيس؟.
نقرأ تعريفها من نفس النظام الذي يقول: '' هي براءة اختراع أو التزامٌ حصل عليه من شخص اعتباريّ عام، يكون مشاركاً بحصة تأسيس ''.
فمثلاً: هذا رجل ليس عنده مال يقدمه، لكن عنده اختراع ينفع الشركة، أو خدمة معنوية للشركة يرى مجلس الإدارة أنها تصلح خدمة للشركة، فيعتبر صاحبها مؤسساً أو مشاركاً فيها.. وهذه تسمى حصة التأسيس، ويعطى بذلك صكاً من الشركة أنه يملك حصة تأسيس، وهذا لا يجوز شرعاً، لماذا؟
لأن فيه جهالة، وفيه غرر، ويترتب عليه مفاسد كثيرة، وكل من بحث المسألة يرى أن هذا حرام.. والأسوأ أن هذه الخدمة المعينة يفسرها مجلس الإدارة، ولذلك يمكن أن تكون رشوة.
فكيف تكون رشوة؟
تقدم -مثلاً- الشركة (شركة استيراد) ولدينا موظف في الجمارك في وزارة التجارة، فنعطيه حكم التأسيس في الشركة مقابل خدمة تسهيل استيراد أشياء بدون أن تتأخر، أو بدون أن تجمرك، أو كذا، وهذا يفتح مجالاً كبيراً للتزوير والخداع بطريقة نظامية للشركة؛ وإذا قيل: ما حصة فلان؟ قالوا: هذا عنده حصة تأسيس.
ويمكن أن يدخل فيها أنواع كثيرة من الخداع، والعالم الغربي اليوم يعيش هذا ويعلمه؛ فأكثر الشركات قائمة على الخداع، وعلى الغش، وعلى الرشاوى، وعلى التزوير، ويدخل ذلك من باب حصص التأسيس النظامي، والواقع في كل بلاد العالم شاهد بذلك.
إذاً وهذا النوع الثاني نوعٌ باطل، فلا يجوز أن يشترك إنسان بشيء معنوي مجهول في شركة مالية، لأنه -أصلاً- باطل؛ فكيف إذا دخله حرام.
- بقي النوع الأول وهو " الأسهم " ولا بد أن نفصل قليلاً- في موضوع الأسهم من حيث الموقف الشرعي من الشركات المساهمة.
فالأسهم نوعان -كما في النظام في المادة (99)- إما أن يكون السهم اسمياً، وإما أن يكون لحامله؛ فاسمياً يعني سهم فلان بن فلان، وأما لحامله فيعني كل من يملك الورقة فهو مالك للسهم، فالنظام في المادة (102) يقول: " تتداول الأسهم لحاملها بمجرد المناولة " أي حتى لو ضاعت على أحدهم ووجدها شخص آخر وأخذ السهم؛ فالأمر طبيعي جداً ولا يسأل عن ذلك.
فهذا النوع من الأسهم -وهو الأسهم لحامله- حرام، ولا يجوز إصداره شرعاً، لما فيه من إضاعة الحقوق، ولأن الجهالة هي جهالة الشريك ولا ندري من هو الشريك، وهذا يوقع في مفاسد ومحظورات شرعية؛ فإذاً هذا النوع باطل..
بقي أمر آخر في موضوع الأسهم، وهي الأسهم التي تضعها الشركات المساهمة -كما في نفس النظام- وهي إما أسهم عادية، وإما أسهم ممتازة.
ما معنى أسهم ممتازة؟
أي أن الأسهم أصحابها لهم ميزة، فنحن نعرف جميعاً أن الأسهم كلها متساوية، فالسهم قيمته -مثلاً- مائة ريال لجميع المساهمين؛ لكن الأسهم الممتازة حتى لو أفلست الشركة أو صفيت، فإنك تأخذ حقوقك كاملة، ولا تشترك في الخسارة، ويمكن أن تسحب مالك من أي وقت ولا تُطالَب بأي شيء، وأمامك فرص كثيرة جداً لأنك شخص ممتاز، مع أنك ما دفعت إلا المائة، أو ما تملك إلا سهماً واحداً؛ وهذه توضع لأناس معينين.
فهذه الأسهم الممتازة حرام بهذه الصفة؛ لأنها تعطي ميزات وتفاضلاً بغير حقٍ وبغير وجه شرعي، والأصل أن المساهمين جميعاً سواءٌ في الربح أو في الخسارة.
ومنها أنواع يسمونها (أسهم التمتع) وتنص على أن بعض الناس بعد مضي فترة من الزمن يسترد رأس ماله، ومع ذلك يظل في الشركة ويأخذ أرباحاً عادية؛ لأن لديه أسهم رأس المال أو أسهم تمتع!! أي أنه يأخذ رأس ماله ومع ذلك لا يزال يُعطى مثل ما يُعطى بقية الشركاء!! وهذا لا شك أنه حرام، فبأي حق يأخذ هذا المال، وقد استرد رأس ماله فهذا أيضاً نوع من أنواع الأسهم، وهو حرام قطعاً.
وأما ما عدا ذلك فهي الأسهم العادية وهذه لا تخلو من محظورات شرعية، بعضهم أوصلها إلى حد أنها تبطل الشركة، أي أن الشركات المساهمة من أصلها باطلة، وسبب ذلك هو أن الشريك يساهم ويشتري ويخرج دون علم الآخرين، فليس هناك شركة في الحقيقة.
وأكثر من هذا أن البورصات العالمية وبائعي الأسهم والدلالين والسماسرة يتلاعبون بعقول الناس بسبب هذه الأسهم، ويتلاعبون -حتى- بالسياسة الدولية، فيتدخلون في أمورٍ ويتحكمون بأكثر من قطاع وأكثر من مجال من مجالات الحياة والناس لا يعلمون.
مثلاً: حدثت حادثة: رئيس الوزراء في بريطانيا قدم استقالته قالوا: ارتفعت الأسهم، وإذا ذهب وزير خارجية أو اختطفت طائرة أو ارتفع البترول قليلاً... انخفضت أو ارتفعت الأسهم.. في الدقيقة أو في الثانية لا بد من ملاحقة شديدة لها.
ويدخل في هذا النجش المحرم شرعاً كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ولا تناجشوا) وهو الزيادة ممن لا يريد الشراء، وكم أفلست من دول ومن شركات ومن مؤسسات، بسبب هذه الأسهم، وفوق كل ذلك إفلاس هائل جداً للناس الذين انهالوا على شراء الأسهم، فاشتروا وارتفع سعرها، ثم اشتروا وباعوا وفي النهاية فوجئوا بالإفلاس؛ وسنوات طويلة والدولة ما تزال تحاول أن تحل هذه المشكلة.
إذاً: عن هذه الأسهم نقول: على فرض أن الشركة المساهمة حلال، فإن من مشاكلها هذا البيع، وما يدخلها من غش وغرر ونجش ومعاملات محرمة، ولا يحصر أثرها في محاضرة ولا أكثر لأن أثرها وضررها عظيم، هذا بالنسبة لموضوع الأسهم.
فيجوز أن تدفع مالاً أكثر، وتكون خسارتك أقل، وهذا أيضاً من الظلم ومن الإجحاف، ويولد الشحناء والبغضاء بين المساهمين.
ومع ما سبق من تحريم السندات؛ أجاز نظام الشركات السعودي تحويل سندات القرض إلى أسهم، أي أنه كان مقرضاً بفائدة، فقالوا: يمكن أن تحول إلى أسهم وتصبح مساهماً!! فهذا يزيد الطين بلة مصيبة على مصيبة وكل ما ترتب على باطل فهو باطل، وما بني على الحرام فهو حرام.
وأذكر قصة حقيقية وقعت قبل أيام، وتضمنتها فتوى لسماحة الشيخ عبد العزيز -ولديّ صورة منها- جاء إلى منطقة الباحة رجل وزعم أنه يمثل شركة من الشركات وقال: كل شخص يحضر رقم الحفيظة أو رقم البطاقة، ونأخذ صورة منها، ونعطيه مائتي ريال -في منطقة من مناطق الباحة- وتعرفون الفقر الشديد هناك، وخاصة جهة البادية وجهة تهامة؛ فهناك فقر مدقع جداً.
أحد المساكين يقول: وماذا في ذلك؟! أعطيه رقم الحفيظة وآخذ مائتي ريال!! وتجمع الناس بالمئات أو بالألوف، ووزع عدة ملايين، وذهب.. فتذكرت لما كتبوا لسماحة الشيخ عن هذا ووقتها كنت في المعهد لا أدري في أي مرحلة بالضبط - بأنه جاءنا أناس من هذا النوع يمرون ويأخذون توابع الناس، ويعطونهم مالاً!! وإذا سئلوا: ماذا تريدون؟
قالوا: مساهمة، والناس لا يدرون أن رقم الحفيظة يسجل باعتبار أنك مساهم؛ لأن البنوك لها شروط، فنظام الشركات يفرض شروط المساهمة، فلو أتى إنسان وأخذ منك رقم الحفيظة فأنت بهذا تعتبر تابعاً، وبهذا يؤسس شركة مساهمة، ويرتب عمله بأسمائنا، ويكون مجلس إدارة بتصويت وهي انتخابات وهمية، ونحن لا ندري لماذا أخذ المبلغ ولا ماذا يريد!!
هذه حقائق واقعة الآن؛ لأنه -كما قلنا- في مجلس الإدارة هناك من يقول: إنه وكيل، وهناك من يقول: إنه ينوب، واختلفوا كيف يكيفونه فقهياً، وهذا لا يحتاج تكييفاً.
اجعل القضية كلها على الشرع، ولن تحتار في تكييف أي شيء!! أكثر المساهمين -ويمكن أن تسألوا إن لم تكونوا مساهمين- لا يعلم شيئاً، ولا يعلم متى ينعقد مجلس الإدارة، ولا يعلم بعد ذلك ماذا يصير وماذا يدور!! إذاً: هذا يفتح باباً للتحايل، فكأنها تمثل الأمة كلها وهي في الحقيقة لا تمثل إلا أفراداً معينين.
فأي واحد منا وفقه الله وفتح منشأة تجارية، وكبرت حتى صار رأس ماله كذا مليار، بأي حق يحولها إلى شركة مساهمة وتعرض إلى الانتساب العام ويشترك فيها من هب ودب.
مثلاً: أنا جالس في بيتي، والآخرون في بيوتهم قاعدون، فلا ساهمنا ولا عملنا ولا تاجرنا، وهناك تاجر عنده شركة ضخمة يجبر على أن يحولها إلى شركة مساهمة، فأقوم أنا أشتري وهذا يشتري، وهذا يشتري، بأي حق ولماذا؟
قالوا: لأن هذا يمنع الثراء الفاحش!! ونحن نعلم من شرعنا أنه إن كان هذا الإثراء من طريق شرعي فلا حرج في ذلك ولو بلغ مليارات، وإن كان من طرق محرمة فنمنع الطرق المحرمة؛ فلا نعالج المشكلة بمشكلة أخرى.
ولما أجبرت الشركات الكبيرة على أن تتحول إلى شركات مساهمة، فما الذي فعل أصحاب الشركات الأصليون؟!
التاجر يقول: هذا حقي أنا؛ فيشتري بطريقة احتيالية -كما سبق- فيعود إليه رأس ماله، وما استفدنا شيئاً..ورطناه وورطنا الناس في معاملات كثيرة منها حرام، ورجع الأمر إلى صاحبه؛ لأن القضية من أصلها مبنية على غير أساس شرعي.
قالوا: لما عدا حالتي الغش والتزوير، تنقضي دعوى المسئولية المقررة للشركة بموافقة الجمعية العامة العادية على إبراء ذمة أعضاء مجلس الإدارة من مسئوليتهم، وفي جميع الأحوال لا تسمع الدعوى المذكورة بعد انقضاء سنة على تلك الموافقة، ولو اكتشفوا أن مجلس الإدارة أو واحداً منهم كان أكبر غشاش وأكبر مرابٍ وسرق ما سرق، ونهب ما نهب!!
فالقانون يقول: انتهت المدة؛ وهذا مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية، وإن كان بعض الفقهاء يقولون: إن التقادم يسقط الدعوى فإذا مرت سنوات طوال ثم أتيت أدعي على بيت يسكن فيه إنسان من ثلاثين سنة أو خمسين سنة، وقلت: هذا البيت لي! وأنا جاره، وساكت طوال هذه السنين، يقول بعض الفقهاء: هذا دليل على أن الدعوى باطلة وأنها تسقط، لكن هل هذا يسقط الحق فيما بينه وبين الله؟
لا طبعاً، لكنْ! هم يتكلمون عن النظام فقط، وفيما يخص إلزام المحاكم الوضعية أو البشرية بهذا؛ أما ما بينه وبين الله فلا يسألون عنه.
إذاً: اشتمل على هذه المخالفة وهي سقوط الدعوى بالتقادم، وهو -أيضاً- حكم مخالفٌ للشريعة، وما عرفه المسلمون بهذا الشكل إلا عندما استوردوا القوانين الوضعية.
فيقول النظام: ''شركة المحاصة تثبت بجميع الطرق بما في ذلك البينة'' ولماذا نص على أن شركة المحاصة يجوز أن تثبت بالبينة؟
أولاً: لأن المحاصة شركة مستترة؛ رجل يعمل والناس يعرفون أنه هو صاحب المحل، وهناك شخص آخر لا يعرفونه ساهم معه بشيء من المال؛ فهذه شركة المحاصة، ومفهوم ذلك أن الأصل في الشركات ألا تكون البينة هي مصدر الإثبات -البينة المعروفة شرعاً- فالمعتمد عليه عند القانونيين في البينة (الوثائق المحررة الخطية) أي أنك لو أتيت بعشرة شهود على شراكتك في شركة وهم عدول ثقات فلا يقبل منك هذا، أما لو أتيت بورقة خطية موثقة فإنها وحدها هي التي تقبل!!
فبعض القوانين تجعل هذا ركناً من أركان الشركة، أي أن الشركة التي لا تكتب فملكيتها باطلة؛ لكن النظام والقانون السعودي لم يعتبره ركناً وإنما اعتبره شرطاً للشركة، كما في المادة العاشرة.
نقول: إن ما يمارسه بعض الدارسين من كونه يعرف نظام الشركات، ويدرسه من خلال الآراء الفقهية، ويقول: (هذه المادة توافق قولاً للمالكية، وهذه المادة قد تخرّج على قول عند الحنابلة، أما هذه المادة فهي حرام بالإجماع، وأما هذه فهي كذا فإن ذلك ترقيع لا يجوز، لأن ذلك إقرار بأصل الفكرة، وهي استمداد القوانين الغربية واستيرادها كما هي، وتطبيقها في بلاد المسلمين؛ ثم بعد ذلك: نعقد المقارنات والمشابهات!! ولو بقينا على هذا الشأن، فسنظل عقوداً أو قروناً، وأوضاعنا لا تصلح أبداً.
ويقال لهذا العمل: هذا هو التلفيق الذي قال عنه العلماء: ''من تتبع رخص العلماء تزندق'' الموضوع في الأسهم يوافق رأياً عند المالكية، وموضوع توزيع الأرباح -فرضاً- يوافق رأياً عند الشافعية وموضوع كذا..، وهذا تلفيق لا يقره من يعتني بتطبيق المذاهب الفقهية، كما كان حال الأمة، عندما كانت مقسمة إلى انتماءات مذهبية، ولا من يدعو إلى تحكيم كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو ما يجب أن يدعو إليه كل مسلم؛ فلا يجوز أن نستورد قانوناً وضعياً، ثم نبدأ نقارن: فقرةً فقرةً أو مادةً مادة، ثم نخرِّجها على مذاهب الفقه؛ لأن الذي جاء بهذا القانون ما أراد هذه المواد، ويقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنما الأعمال بالنيات) وهذا ما نوى أن يستمد من كتب الفقه، ولا قصد أن يكون هذا الشيء حلالاً أو موافقاً لمذهبٍ فقهي؛ وإنما أنت -أيها المسكين- الذي تخرج الأحكام بينت ذلك، فنقول: هذا العمل لا يصح؛ وإنما الحل الصحيح الذي يجب أن تجمع عليه الأمة إجماعاً، هو أن يلغى نظام الشركات القائم حالياً، كما يلغى غيره، وتلغى أنظمة البنوك الربوية، ويلغى أي نظام مخالف لشرع الله إلغاءً تاماً.
ثم تشكل هيئة أو لجنة علمية من علمائنا الأفاضل، أو ممن هم دون العلماء، والعلماء يراجعون في النهاية لزحمة أوقاتهم، فتشكل هيئة علمية شرعية مرموقة تضع الحلول في النوازل الواقعة التي قد تستجد، وترتب أمور الشركات عندنا على ضوء الشركات المعروفة في الفقه الإسلامي، وما زاد عن ذلك فهو محل اجتهاد.
وإذا كان الغربيون قد وضعوا هذه الأحكام من عند أنفسهم من غير شرعٍ ولا هدى من الله، وإنما بتجارب طويلة في الواقع؛ فكيف بنا ونحن عندنا -والحمد لله- أكبر وأعظم مصدر للتشريع بإجماع كل القانونيين في الدنيا وهو الشرع بما في ذلك الفقه الإسلامي الواسع الثري العظيم -والحمد لله- وعندنا العقول والطاقات المُبدِعَة.
فيجب أن يلغى نظام الشركات الحالي، وترتب أوضاع الشركات لفترة انتقالية، تقررها اللجنة، وتبين كيف يمكن أن نرجع جميع أنواع الشركات الموجودة إلى أصولها الشرعية، وتبعاً لذلك تلغى الهيئات القضائية التجارية، بما في ذلك هيئة فض منازعات الشركات ويكون الرجوع في كل القضايا المختلف فيها كالأسهم والأرباح وأي شيء من قضايا الشركات إلى المحاكم الشرعية كما ذكرنا في الآيات، وكما ذكر الشيخ محمد رحمه الله، وكما هو الواجب على كل مسلم فإنه بمجرد أن يعرف الشركاء وتعرف الشركات السعودية منها والأجنبية أن مرجعها إلى الشرع فسوف تتخلى تلقائياً عن كثير من المحرمات؛ لأن الذي يشجعهم الآن على الربا مثلاً أو التعامل به، أن الميزانية والأعمال والتحاكم لا ترجع إلى الشرع، فيصادق على الميزانية، وتعلن في الجرائد، مع أنها تشتمل على الربا، وفي كثير من الأحيان يكون صريحاً، ومع ذلك لا يحاسبهم أحد ولا يعاقبهم أحد.
فلو منعت وأحيلت إلى المحاكم الشرعية؛ لتخلصنا من هذا الداء -بإذن الله- ولأصبح الإنسان ملتزماً بأحكام سهلة مبسطة واضحة لديه، تنظم له أمور الشركات تنظيماً شرعياً صحيحاً، وفي نفس الوقت إن حصل خلاف فالحكم فيه للمحكمة الشرعية، فلا يتسرب الحرام؛ إنما يظل ما في النفوس من طبيعة الغش والاحتيال والطمع والشره إلا من رحمه الله، وهذا أمر طبعي في النفوس يعالج بنشر الدعوة إلى الله، ويعالج بنشر حب الخير، وحب الفضيلة، وما توعد الله به من غَشَّ، أو رابى أو تعامل بمحرم، أو ظلم، أو سرق، أو نهب، أو اختلس إلى غير ذلك، وبذلك يكون مجتمعنا مجتمعاً نقياً صحيحاً سليماً، فنرضي ربنا عز وجل ونتخلص من هذا الداء، الذي هو -كما قال الشيخ رحمه الله- أمر خطير كبير، يتعلق بالعقيدة، وبشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وليس من الأمور الاجتهادية.
قبل ذلك أنا أعرف كثيراً من الإخوان، يقولون: كيف؟!
فأقول: لا يوجد شيء صعب -بإذن الله تعالى- ألسنا مسلمين؟!
ألسنا نشهد صحوةً إسلامية كبرى؟!
أليست الشركات المساهمة منا وفي مجتمعنا؟!
أليس المساهمون من بلدنا؟!
أليس من يطالبهم بإلغائها عن رضا منا ومن أهل بلدنا؟!
فليس عندنا شيء مفروض علينا بقدر قاهر أو بقوة قاهرة أبداً!!
إذاً: لماذا لا نطالب نحن كأفراد في المجتمع -كلنا- بفمٍ واحد أن يكون نظام الشركات وغيره من الأنظمة موافقاً لشريعة الله، ويشكل له هيئة من العلماء؟!!
لا مانع من أن نتوقف الآن عن تأسيس أية شركة مساهمة؛ لأن نظام الشركات غير شرعي فلا تؤسس أية شركة مساهمة. ونقول: لا بد أن المؤسَّس لا يؤسَّسْ إلا على الشرع، والقديم يحل بطريق اللجنة، فنطالب جميعاً كتابياً وخطابياً، في الدروس وفي الخطب وفي الكتابات، وبكل شكل من أشكال التأثير، بهذا التغيير، فيحصل -بإذن الله تبارك وتعالى- ولماذا لا يحصل؟
ومن الذي يمنعنا؟!
فوالله لو طالبنا وصدقنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وخلصت النيات من الجميع، لا نعادي بذلك طرفاً أو نتهم طرفاً؟!
لا التجار ولا غيرهم، ولا أصحاب الشركات ولا غيرهم.. المقصود أن نخلص أنفسنا جميعاً: الحاكم والمحكوم والشركة والمساهم من الإثم، ومن هذه المصيبة الكبرى التي عبر عنها الشيخ محمد بن إبراهيم، وأنا أرجو أن ترجعوا إلى الفتاوى وتقرءوا قريباً من هذه الصفحات، فأنا ما أحضرت إلا نموذجاً واحداً، والنماذج التي ذكرها -رحمه الله- كثيرة جداً والأمر خطير جلل، علينا أن نتخلص منه جميعاً، ونخلص الأمة منه؛ لننال رضا الله؛ وننال الفوز والنصر والتمكين في الدنيا، وننال منـزلة الذين قال عنهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَصلُحون إذا فسد الناس، أو يصلحون ما أفسد الناس).
فالعالم كله: الغربي -ومن حذا حذوه ممن يعبد المال- يعبد المال والثروة ويجمعها من حلال أو حرام، فلماذا لا نصلح نحن إذا فسد الناس، وفسدت الدول والأمم من حولنا، ونقيم دين الله تبارك وتعالى كما أمر الله، ونستعين بالله، ولا يهمنا أية خسارة قد تقال بعد ذلك؟!
إن الخسارة الكبرى هي ألا نطيع الله عز وجل؛ أما ما عدا ذلك فهو ربح وفوز في الدنيا والآخرة.. فهذا البديل الأساس، وكل واحد مطالب أمام الله -بعد هذا البلاغ- أن يبذل جهده وأن يطالب أو يكتب أو يحاول بأي شكل من أشكال التأثير؛ بأن تصحح أوضاعنا المالية، والاجتماعية، وكل وضع من أوضاعنا: في أنفسنا، وفي أسرتنا، وفي مجتمعنا، وفي تعاملنا العالمي، وفي كل شيء أن تكون موافقة لشرع الله كما قال سبحانه: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:123-124].
وغيرها شركات خدمات مثل: شركة النقل الجماعي، أو الغاز، أو الأسماك إلى آخره؛ وهناك شركات إنتاجية مثل الشركات الزراعية والصناعية، فالبنك شركة مساهمة، وكل كلامنا هنا عن الشركات المساهمة ينطبق على البنك، والبنك أشد حرمة منها.
أيضاً لا بد أن نحيي القرض الحسن في الأمة، ولماذا فقد القرض الحسن؟!
فأنا مثلاً عندي مال فائض، فأقرض جاري أو أخي أو زميلي، وهو سيعمل ويدبر نفسه، ثم يعيد إليّ المال بدلاً من وضعه في البنك، أو من المساهمة به في شركة، بل ولي أجر عظيم في ذلك، لماذا أصبحت كل حساباتنا مادية؟!
فبدلاً من أن أقرض فلاناً أساهم بذلك المال وأربح.. لماذا ننسى الربح عند الله؟!
ولماذا ننسى ربح الآخرة وننظر فقط للمطمع الدنيوي؟!
قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى [النساء:77] وكم من آيات وأحاديث، يمكن يأتي بها كل واحد منكم لإثبات هذه القضية!!
والأمر الآخر هو شركة المضاربة: كثير من الناس اليوم في المجتمع عندهم طاقة عقلية إدارية، أو مهن، أو حرف، ولكن لا يجد المال؛ وكثير عنده رأس مال فيضعه في البنك أو يساهم به في شركة، وآخر السنة يعطى (4%) أو (3%) أو (5%) .
فمع هذه المحرمات التي ذكرنا، نقول: اعط مالك لشريك مضارب تعرفه وتعرف أموره، وتتحكم في عمله وتشرف عليه وتطمئن إلى أن مالك بيد أمينة؛ فإن ربح فالحمد لله ربحٌ حلال، وإن خسر فاعلموا أن الخسارة في البنوك خسارة ولو ربحت، فكيف إذا خسرت؟!
نسأل الله العفو والعافية.
البنك الوطني يشهد تدهوراً من قبل فترة وبنك القاهرة تدهور، وشركات مساهمة كثيرة تدهورت ولا تزال متدهورة إلى الآن، فالخسارة في المضاربة لا تجعلنا نترك المضاربة وهي حلال، وبإمكاننا أن نعملها جميعاً، ونتفق عليها مستفيدين من الطاقات الموجودة الآن في المجتمع.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
المقدم: فضيلة الشيخ أظنه بسبب هذا الفهم عند الإخوان وردت أسئلة خاصة بذكر شركات معينة كشركة صافولا، سابك، والبنك العربي، وبنك الرياض، وشركة مكة للاستثمار، وطيبة إلى آخر ما هنالك من شركات، يسألون عنها وعن حكم المساهمة فيها، فنرجو التفصيل ما أمكن وحفظكم الله.
الجواب: نعم، هذا أحد الشواهد على ما قلت، انظروا كيف كثرت الأسئلة عن شركات معينة، أو عن تعامل معين مع شركات معينة، هذا -كما قلت لكم- أحد الأسباب في أن تلقى هذه المحاضرة؛ لأننا لو ظللنا ندرس كل فقرة من كل شركة وكل نظام في كل شركة وحده؛ لمضى علينا وقت طويل بدون أن نصل إلى أي نتيجة؛ ولهذا فقد جئتكم بنظام الشركات بأصله، وبينت لكم مخالفته للشريعة من هذه الأوجه إجمالياً وتفصيلياً، فيبقى بعد ذلك المخرج المعين في جزئية معينة في وقعة معينة، هذا قد بينه المشايخ، ولفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين، فتويان مطبوعتان في كتيب، ولسماحة الشيخ عبد العزيز فتوى كذلك.
وقد كان الكلام عاماً؛ لأننا أصلنا القضية من أساسها، ومثلت ببنك الرياض لأنه شركة مساهمة، علاوة على أنه بنك ربوي لا تجوز المساهمة فيه بحال، وإذا كنت أطالب بإيقاف كل أنواع الشركات الآن حتى تصحح أوضاعنا وتوافق الشريعة، فماذا تتوقعون أن أقول في بنك الرياض وهو يتعامل بالربا.
إذاً: القضية -إن شاء الله- واضحة لجميع الإخوة، وأن هذا العموم أردنا به تأصيل القاعدة في الشركات، وأن تصبح مطالبتك شاملة لتصحيح نظام الشركات من أساسها؛ ليوافق شرع الله، أما إذا كنت تريد أن تتخلص من موضوع معين، فلذلك جواب مفصل وموجود ذكره العلماء: وهو كيف تتخلص من الربا إذا عرفت نسبته وإذا لم تعرفها إلى آخر ما ذكروا، والمؤسسات الربوية الصريحة لا يجوز المساهمة فيها بأي حال من الأحوال.
الجواب: أحب أن أؤكد لكم أن وضع الأموال في البنوك حرام سواء كان بدون فوائد أو بفوائد؛ لأن وضع المال في البنوك ليس إيداعاً كما يسمونه ونتخيله، بل هو قرضٌ على الحقيقة لا على المجاز.. بمعنى: أنك أنت تقرض البنك مائة ألف، أو مليوناً أو المبلغ الذي تقول عنه أنك أودعته في البنك، والدليل على أنه قرض أنه لو جاءت أزمة -كما حدث في الأزمة الماضية- وقال كل واحد: أريد أن أسحب أموالي، فيقولون: لن نعطيك لأننا قد أدخلناها في مشاريع تجارية وفي كذا أو كذا من الأمور، ولن نعطيك كل مالك بل نعطيك (50%) أو(20%).
وأما الوديعة في الشرع فهي أن تضع مالك أمانة عند إنسان، ومتى احتجت إليه فإنك تأتي إليه وتأخذ هذه الوديعة، أما أن تعطي واحداً يشتغل فيه كهذه الشركات أو غيرها، فهذا إقراض فلماذا نقرض البنوك؟
إذا قال واحد منا: أنا أقرضهم من غير أن آخذ منهم شيئاً.. قلنا: زدت الطين بلة من جهة فأنت لم تأخذ حراماً، ولكنك أعنت على الحرام، والله تعالى يقول: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2] ولا يدخل في هذا الحكم الضرورة، كأن تكون لا تستطيع أن تحمل مبلغاً معيناً، أو لا بد أن تضعه في مكان معين، هذه الضرورة لها أحكام، لكننا نتكلم عن الوضع العادي.
الجواب: يا أخي إذا دخل المجرم فالعرض أغلى من المال، وكثير من الناس يقصد بالتسلق على البيوت الأعراض، وهي أغلى عندنا من المال.. هذا شيء؛ الشيء الثاني: أن هناك وسائل يمكن أن نحفظ بها المال -وقد أشرت إليها فيما مضى- ومن غير ذلك يمكن أن تُسْتأجَر صناديق معينة، أو أماكن مفصلة، ويضع فيها فرد أو مجموعة أفراد مبالغهم إذا كان لا بد أن تتجمع وأن تتكدس.
وفي الضرورة القصوى يضع المال عند أقل البنوك شراً، ولا نقول أفضلها؛ فكلها ربا، لكن عند أقلها شراً.
وهل من الضرورة الانتظار إلى أن تلغى القوانين الوضعية أولاً أو أننا نوجد البديل الشرعي إلى آخر ما قال...؟
الجواب: أنا ما قلت: نلغي النظام ونلغي القوانين الوضعية ثم بعدها نعد ونوجد البديل! بل يُصدر أمرٌ بإلغاء النظام وإيقاف العمل به ومع هذا الأمر يرفق الأمر بتشكيل لجنة شرعية لتصحيح أوضاعنا الاقتصادية، ومهمتها وضع نظام الشركات.
فلا أرى تعارضاً ولا توجد مدة فاصلة بين الأمر بالإلغاء وبين تشكيل اللجنة.
أما الخطوات العملية التي يجب أن نتخذها جميعاً، فقد أشرت إلى بعضها ولا ننتظر حتى يلغى؛ بل نسعى إلى أن يلغى ونطالب بإلغائه؛ لأن هذا من واجبات ديننا، وفي نفس الوقت نحاول أن نتخلص منه ما أمكن بالوسائل الشرعية المتاحة.
الجواب: نعم. أحسنت! هو موجود وكيف لا يوجد؟!
وعندنا هنا في جامعة الملك عبد العزيز كلية الإدارة والاقتصاد التي أصدرت عدة كتب قيمة ونافعة، وقد استفدت منها ولا زلت.
وفي جامعة الإمام محمد بن سعود، رسائل علمية موجودة سواء في الشركات أم في غيرها.
فالجهود موجودة -والحمد لله- لكن تشكيل لجنة بأمر من أجل تصحيح الأوضاع، وتفويض هذه اللجنة العلمية من المختصين بالرجوع إلى ما تريده من المصادر المهيأة لها، وسوف تبحث وتعمل، حتى تقنعنا وتضعنا على حكم الله، كما تجتهد إن شاء الله.
الجواب: لا أظن ذلك، ومن أين جاء الأخ بهذا؟
فكيف عرفها وهي جزء من الشركة؟
وقرأنا لكم من الفصل الرابع: الفرع الأول: الأسهم. الفرع الثاني: حصص التأسيس من الصكوك التي تصدرها شركة المساهمة، وعنوان الفصل: الصكوك التي تصدرها شركة المساهمة، فإذاً قد أصدرت بذلك صكاً وهو حصة تأسيس، ولا يقال إنه حدث قبل أن تصبح لها شخصية معنوية، وأظن أنه لا يؤثر في كون الحكم حراماً أو حلالاً أو أن تكون الشركة قد اكتملت بالوضع القانوني أو لم تكتمل؛ المهم أنها قامت وأن حصة بعض الشركاء هي هذه الحصة المجهولة.
الجواب: المنفعة غير معلومة، يقول النظام: للشركة المساهمة أن تصدر حصص تأسيس لمن قدم إليها عند التأسيس أو بعد ذلك، أي بعد التأسيس وبعد أن تصبح لها شخصية اعتبارية تعطي براءة اختراع أو التزاماً حصلت عليه من شخص اعتباري فهو إذاً مجهول، ما هو الاختراع وما هي البراءة؟
وما قيمتها؟
فبعض الناس يخترع اختراعاً يوازي عشرة ملايين ريال، وبعض الناس يخترع اختراعاً لا يوازي مائة ولا ألفاً، ومن يقدره؟
وعلى أي اعتبار يساهم به؟
فواضح في هذا سببُ التحريم إن شاء الله.
الجواب: نسأل الله العافية! فشر الناس من باع دينه بدنيا غيره -عافانا الله وإياكم من ذلك- وما أحبَّ مثل هؤلاء الناس إلى أهل الشر، وأكلة أموال الناس بالباطل، وأصحاب الطمع المادي الذين لا يبالون بحلال ولا بحرام؛ ليتمندلوا بأمثال هؤلاء الذين يفتون بغير علم، فيجعلونهم وقايةً -كما يزعمون ويظنونهم- وقاية لهم من النار، يعني وبالمثل العامي ''وكِّل بها عالم وامش سالم'' ! لا.. لا سلامة من الإثم ولا من الحرام أبداً؛ لكن اللوم ينصب على هؤلاء الذين يفتون بغير علمٍ، نسأل الله العفو والعافية.
لا نقول إنهم بالضرورة لا يعلمون الأحكام، ولكنهم في حقيقة الأمر ما علموا مما أحله الله وما حرمه الله لم ينفعهم في العلم بالله، ولو كان لديهم العلم بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لما حكموا بخلاف ما حكم الله عز وجل وفتحوا باب الشر في هذه المسائل العظيمة.
فإذا كان الربا حلالاً، فآيات الربا التي في القرآن ما معناها؟!
أهي أحرف مكتوبة هكذا لا معنى لها؟!
ما معنى تحريم الربا إذن؟
وما هو الذنب الذي توعد الله تبارك وتعالى عليه بقوله: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279] وكتب الأحاديث التي فيها أبواب الربا في كتب الفقه جميعاً، ماذا تعني؟
وأقوال الفقهاء في كل كتب الفقه عن حكم المرتد، وقولهم ''والمرتد من استحل شيئاً مجمعاً على تحريمه، أو معلوماً تحريمه بالضرورة من الدين'' ما معنى هذه القواعد، وهذه الأدلة، وهذه النصوص إذا كان الربا في صورته الجاهلية المقيتة حلالاً -كما يزعم هؤلاء الذين يفتون وهم مضلون؟!
وصدق فيهم قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {حتى إذا هلك العلماء، اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علمٍ، فضلوا وأضلوا}.
وأكرر أنه قد لا يكون جاهلاً بالمسائل، ولكن يكفي أنه جاهل بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وجاهل بحق الله على عباده من الطاعة والاتباع، وجاهل بمقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي قال الله تعالى فيه: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65].
وقد أنكر صلوات الله وسلامه عليه الربا إنكاراً شديداً.
وهذا المفتي جاهل بمصالح الناس أيضاً، فإن القانونيين في جميع أنحاء العالم ممن نظر نظرةً مجردة متجردة، قالوا: إن الربا آفة تدمر الشعوب، وتدمر الاقتصاد، بأي شكل من الأشكال، فهؤلاء المفتونون خالفوا المعقول، وخالفوا المنقول، نسأل الله العفو والعافية.
الجواب: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، فيدخل في هذا كل من أعان بأي شكل من الأشكال على خدمة هذا الربا، وعلى خدمة هذا الجهات، أو المؤسسات الربوية، ولو كان فرَّاشاً، ولو كان حارساً، أو ما يسمونه أمين صندوق أو مراجع حسابات، أو كاتباً.
المهم كل ذلك داخل في هذا الحكم فهو حرام عليهم، ولا يجوز لأحدٍ أن يبقى وأن يظل يعمل في أي بنك من البنوك، أو أي عمل محرم -ولكن البنوك هي أظهرها- إلا للضرورة، أي بأن يَجِدَّ في البحث عن مصدر للرزق، فمتى وجده وإن كان أقل من ذلك، فيجب عليه أن يتركه، والله تبارك وتعالى سيعوضه خيراً بإذن الله، وهذا الكلام لا نحتاج إلى الإفاضة فيه؛ لأن فتاوى العلماء فيه وكلام الخطباء دائمة ومتكررة.
لكن الشق الثاني الذي قد يخفى على بعض الحاضرين، وهو: إذا كان الأب أو الزوج يعمل في بنك أو مؤسسة ربوية أو محرمة عموماً، فكيف يأكل الابن أو الزوجة؟
فنقول: إن الحرام لا يتعدى ذمتين أي أن المال الحرام لا يتعدى ولا ينتقل بين ذمتين؛ فالإثم والحرام إنما هو على الأب أو على الزوج أو على القريب الذي يأكل الحرام، أما من يعوله أو من يزوره فإنه لا يأثم بأن يأكل عنده.
ولكن مع ذلك نقول: إن الابن متى استطاع أن يستقل عن دخل أبيه من المحرم فليستقل عنه وسيغنيه الله عز وجل من فضله، وكذلك الزوجة لو استطاعت أن يكون لها دخل أو مصدر من غير مال الزوج فهذا خير وأفضل؛ لأن من الورع ترك ذلك، وما دامت هي لا تستطيع الإنفاق، والزوج هو الذي ينفق، وهي تنصحه وتحذره وتحاول أن تعينه على تركه وهو يأبى؛ فهي لا إثم عليها فيما تأكل من عنده.
أما الزائر فإنه لا حرج عليه أن يأكل من بيت ذلك الإنسان، ولا يحرم عليك إن كان يتعامل بالربا؛ لكن هذا لا يعني أن تتساهل معه فمن الورع أن يتركه؛ لأن فيه شبهة ويجب أن تنصح هذا القريب، وتبذل كل ما تستطيع من الدعوة ليترك البنك، فإذا زرته فإنما تزوره لتنصحه وتبين له خطر ما هو فيه إن ظل مصدر دخله من هذا المال الحرام، وهذه -تقريباً- أبواب يُسأل عنها كثيراً: الأب أو الزوج أو الزائر.
بقي الأجير: يسأل الأجير يقول: أنا أعلم أن صاحب العمارة يعمل في البنك، أو يأكل الحرام، فهل يجوز أعمل عنده، بأن أبني له بيتاً أو كهربائياً يعمل في كهرباء العمارة أو أي عمل، فنقول: أنت لا يحرم عليك ما ذكرت؛ لأنك إذا عملت عملاً حلالاً، وأخذت أجرتك أنت بوسيلةٍ حلال فلا يحرم عليك المال وإن كان صاحبه أخذه من حرام؛ لكن من جهة الورع لو أنك تورعت وقلت: لا أعمل إلا عند من أعلم أن دخله حلال، لكان في ذلك خير، لكن أن تسأل عن عمل المقاول أو صاحب العمارة: ما هو؟
وهل دخله حلال أم حرام؟
حتى تعمل عنده، فهذا لا يجب عليك من فضل الله وسعة رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إنما عليك أن تتقي الله في عملك، وأن تأخذ الأجرة التي تستحقها من حلال.
نعم. لا يجوز الأكل من مال حرام، لكن هل هذا حرام؟
وعلى أية حال، المسألة -كما ذكرنا- من مسائل الشبهة والورع ولا نشك في هذا، لكن لا نقول: إنه حرام، فهذا الذي نهى الله عنه كما قال تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ [النحل:116] نتورع عنه، فقد يوجد من يقول بالتحريم كما قلتم، لكن أنا لا أعلم من قال: إنه يحرم.
الجواب: هذا واضح أنه حرام، ما دام يعد النقود التي توضع من البنوك الربوية في المؤسسة، وهذا لا يحتاج إلى سؤال؛ لأن البنك المركزي في أي دولة أو بنك البنوك هو البنك الأساسي، والذي يسمى عندنا: مؤسسة النقد، الذي كل يوم يجبر بالمقاصة بين البنوك في التعامل؛ فكل يوم يأخذ من هذا ويعطي هذا.. إلى آخر هذه المعاملات، فمن هنا هو بنك البنوك، فهذا العمل عمل ربوي، وعمل محرم؛ لأنه يقر الربا، ويشجع عليه، ويخدم أهله؛ فأكبر خدمة تقدم للبنوك الربوية هو ما تقوم به مؤسسة النقد من المقاصة فيما بينها، ولولا هذه المقاصة لصعب عمل البنوك جداً، ولاحتاجت إلى عملية طويلة، لا تخفى على من يعرف هذا من أهل الخبرة، فالموظف في مؤسسة النقد وبالذات في هذا القطاع، لا شك أنه يدخل في عموم الحديث والأدلة التي ذكرناها في تحريم الربا، والعمل في المؤسسات الربوية.
الجواب: هذا الخبر مفرح جداً وسار -لا شك في ذلك- ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يكون حقيقة، لكني ليس عندي علم على الإطلاق لم أسمع بهذا إلا هذه اللحظة فلا أستطيع أن أؤكده ولا أن أنفيه، وإن غداً لناظره قريب، وإذا حصل فستعلمون وسينشر ونفرح به جميعاً.
ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يهدينا جميعاً، وأن يردنا إليه رداً حميداً، وأن يهديَ ضالَّ المسلمين، وأن يجعلنا جميعاً هداةً مهتدين، وأن يحيينا مصلحين، نسعى إلى تحكيم كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل صغيرة وكبيرة من أمرنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر