الحمد لله الواحد بلا شريك، والعزيز بلا نصير، والقوي العليم بلا ظهير، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه، وعظيم سلطانه، هو الأول ليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، وهو على كل شيءٍ قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الند، وعن الشبيه، وعن المثيل، وعن النظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
عباد الله! بعد أيامٍ قليلة نستقبل شهراً كريماً، وموسماً رابحاً، طوبى لمن شمر واستعد، طوبى لمن اجتهد وجد، فإنه موسمٌ عظيم، يا حسرة المغبون والمحروم من خيره، ويا مصيبة الغافل من اغتنام فرصه، وهنيئاً للمجدين المشمرين المستعدين للعبادة فيه.
عباد الله: أقبل هذا الشهر الكريم والناس تجاهه على ثلاثة أصناف؛ طائفة من الناس يسألون الله بلوغه وتمامه، يسألون الله الإعانة على صيامه وقيامه، والقبول في كل عملٍ فيه، يسألون الله المضاعفة والمغفرة والرحمة، وأن يمضي الشهر عليهم بأوفر نصيب وأطيب حظ، وأولئك الذين تمنوا هذا الشهر واستعدوا له، منهم من حرص على جمع شرف المكان والزمان، فرغب أن يصومه في مكة المكرمة، ليجمع بذلك بين شرف الزمان في رمضان، وشرف المكان في مكة ، وشرف الصلاة في المسجد الحرام، الصلاة الواحدة فيه بمائة ألف صلاة، فهنيئاً لأولئك، نسأل الله جل وعلا أن يجعل نياتنا وإياهم خالصةً لوجهه.
وطائفة من الناس استعدوا لهذا الشهر بالمأكل والمشرب، وطول النوم والكسل، والتهاون عن الصلاة في النهار بحجة أنهم صائمون، ولا نصيب لأولئك أن غفلوا عن الصلاة وهم صيام، بل الذي ينبغي لهم أن يحتسبوا وأن يدركوا أنه موسمٌ عظيم، ما هو بموسم أكلٍ ولا شرب، وإنما هو موسم صومٍ وإمساك حسيٍ ومعنوي، إنما هو موسم صلاح وعبادةٍ وتوبةٍ صادقة، إمساكٌ عن المحرمات، وعن الغيبة والنميمة، وعن الملهيات، والمصائب والمشغلات، إمساكٌ عن كل ما يغضب الله، والتفاتٌ إلى العبادة والطاعة.
وطائفة ثالثة من الناس يعدون الأهبة للهروب من هذا الشهر على شواطئ البلاد الأوروبية بعيداً عن فريضة الصيام، وبعيداً عن هذه الفريضة المباركة، فيا حسرتهم ويا ويلهم، ولا تقولوا: هذه مبالغة، بل إن من الناس من يفر إلى ذلك هرباً من الصوم، لما قيل لأحدهم عياذاً بالله من حاله: قد أقبل شهر رمضان، قال: لأشتتن شمله في الأسفار، أي: يسافر من هنا إلى هنا، ليترخص بذلك في الفطر، وليتهاون بذلك في العبادة، فهذا على خطرٍ عظيم إن مات على ذلك، نسأل الله جل وعلا أن يبلغنا وإياكم هذا الشهر على أحسن حال من الصحة والعافية، والتوبة الصادقة النصوح.
معاشر المؤمنين: استعدوا لهذا الشهر، واجتهدوا واعزموا على العمل الصالح فيه، فإنه موسمٌ من مواسم الجنة، موسمٌ من مواسم التجارة الرابحة، يقول
ابن قيم الجوزية : يا سلعة الرحمن -يريد الجنة-
ولا عجب يا عباد الله! أن يغفل الغافلون وهم يجهلون سلعة الرحمن، وهم يجهلون عذاب الله، ما داموا يجهلون الوعد والوعيد، والعقوبة والنعيم، ما داموا في غفلةٍ وجهلٍ عن ذلك، فلا غرابة أن تكون السلعة بين أيديهم ثمينة، ولا يشترونها بأيسر الأثمان، إلى أن قال رحمه الله:
الذين لا يعرفون الجد والتشمير في هذه الدنيا، وأنها موسم العبادة والزرع، وأن التحصيل غداً، هم الذين يغفلون ويجهلون عن ذلك، فاجتهدوا وأعدوا واستعدوا لهذا الموسم المبارك؛ من الأعمال الصالحة، والتوبة الصادقة النصوح، والبذل في جميع وجوه البر والخير، بالنفقة والصدقة على المساكين والأقارب، والعناية ببيوت الله جل وعلا، والالتفات إلى مصالح المسلمين فيها، فإن من قدم خيراً يكون منفعته لجمعٍ من المسلمين، فإن أجره يعظم ومثوبته تزداد بقدر ما زاد، وبقدر ما بذل في هذا الأمر الذي نفعه ومصلحته عائدةٌ إلى جمعٍ كبير من المسلمين، ألا وإن من ذلك العناية بالمساجد، والالتفات إليها، وفعل كل ما يصلح شأنها، وفعل كل ما يريح المصلين فيها ويجعلهم يأنسون ويرغبون ويطمئنون للجلوس فيها، متقلبين بين ذكر الله، وتلاوة القرآن، والعكوف فيه، فهذا من أعظم الأعمال. نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من المحسنين، وأن يجعلنا وإياكم من التائبين التوبة الصادقة النصوح.
اللهم تقبل منا، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، اللهم كن لنا ولا تكن علينا، اللهم ما سألناك فأعطنا، وما لم نسألك فابتدأنا.
اللهم يا مفرج هم المكروبين! يا نصير المستضعفين! يا إله الأولين والآخرين! نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، وباسمك الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت، وإذا سئلت به أعطيت، أن تجعلنا من التائبين الذين تتوب عليهم بقدوم هذا الشهر المبارك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا مأسوراً إلا فككت أسره، بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم اجعل لنا من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلوىً عافية، ومن كل فاحشةٍ أمناً، ومن كل فتنةٍ عصمة، اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم انصرهم بالإسلام، وانصر الإسلام بهم، اللهم ارفعهم بكتابك وسنة نبيك، اللهم ما علمت في أحدٍ خيراً لهم فقربه منهم، وما علمت في أحدٍ شراً لهم فأبعده عنهم، وأرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم من أراد بهم سوءاً وأراد بعلمائنا فتنة، وأراد بشبابنا ضلالاً، وأراد بنسائنا تبرجاً وسفوراً، اللهم فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه، وأدر عليه دائرة السوء، اللهم أذهب سمعه وعقله وبصره، اللهم من أراد بهم سوءاً فمزق شمله، اللهم ففرق جمعه، اللهم من أراد بهم سوءاً اللهم أحصهم عدداً وأهلكهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً، بقدرتك يا جبار السماوات والأرض.
اللهم اجعلنا على حوض نبيك من الواردين، ولكأسه من الشاربين، وعلى الصراط من العابرين، وبيض وجوهنا يوم تسود وجوه الكفرة والمجرمين، وآتنا صحفنا باليمين، واجعلنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين!
إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، نبيك محمدٍ وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.