إسلام ويب

عندما يختل الأمنللشيخ : سعد البريك

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الأمن نعمة من الله يمنَّ بها على من يشاء من عباده، وإن الله قد حثنا على طاعة أولي الأمر حفاظاً على الأمن، كما أوجب على الحكام إقامة الأحكام والحدود الشرعية حفظاً للأمن، فالأمن به تحفظ الأنفس والأموال والأعراض، ويحفظ به دين المرء المسلم؛ لذلك كان حفظه مسئولية جميع المسلمين.
    الحمد لله الذي جعل الأمن والأمان والطمأنينة للمؤمنين، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] الحمد لله الذي جعل الخوف والذلة والصغار على الكافرين والمنافقين: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].

    معاشر المؤمنين: كان الحديث في الجمعة الماضية عن الأمن وحاجة الأمة إليه، وعن حال أمةٍ من الأمم إذا فقدت الأمن ليلةً أو يوماً من أيامها، وأعظم درجات الأمن: الأمن في الدين .. الأمن على الملة .. الأمن على الشريعة .. الأمن على العبادة، ولأجل ذلك امتن الله جل وعلا على بني إسرائيل يوم أن نجاهم من كيد فرعون وبطشه ومكره، فما كانوا يأمنون على دينهم وأنفسهم، وخذوا مثالاً مما ورد في القرآن على أمةٍ من الأمم لم تجد أمناً في دينها، قال تعالى: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ [يونس:83] لم يجدوا حريةً يستطيعون بها أن يتقدموا بخطىً ثابتةٍ ربيطة الجأش إلى اعتناق هذا الدين، لأجل ذا ما آمن لموسى إلا ذريةٌ من قومه على خوف ووجل، وعلى رهبة أن يكتشف فرعون أمرهم فيقتلهم، ولأجل ذلك كانت أوامر الطاغية وأوامر المستبد فرعون أن قال: اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ [غافر:25] وكانت منةً من الله أن نجا المستضعفين من كيد فرعون وبأسه: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة:49] لقد كان البلاء بتلك الأمة على زمن ذلك الطاغية يجسد صورةً من حالٍ صعبة شديدة يوم أن لم يجد القوم أمناً يأمنون به، فما تجرأ إلا قليلٌ منهم أن يؤمنوا على خوفٍ من الطاغية وملئه، لقد كانت معاناةً صعبة، بل إن ذلك البلاء عاد بأثرٍ رجعي حتى على الأطفال، وحتى على الأجنة، فبات فرعون يقتل أطفال بني إسرائيل عاماً، ويستحي بعضهم عاماً؛ حتى لا تفنى السخرة والخدمة لأجل خدمته وحاجته، ويقتلهم عاماً آخر خشية أن يكون النبي الموعود به من بينهم، أي أمنٍ عاشه أولئك القوم، ولكن لما منَّ الله عليهم وبعث لهم موسى، ورفع به الظلم والضيم عنهم ما كان من بني إسرائيل بعد تلك النعم إلا العناد والمكابرة والإصرار على الضلالة.

    أيها الأحبة: لما كانت قضية الأمن في الدين مهمة، جاءت الشريعة بحفظها وتحقيقها، ولأجل ذا كانت من أعظم مهمات الوالي أو الحاكم أو الإمام، كما نص على ذلك الماوردي رحمه الله في الأحكام السلطانية، قال: إن من أوجب واجبات الحاكم والإمام أن يحفظ الدين والملة على أصولها، فلا يأذن ببدعة، ولا يسمح بما يخالف الشريعة، أو يقدح في أصول العقيدة، هذا من كلامه أو بمعناه.

    حال الأمن عند المسلمين في الاتحاد السوفيتي

    أيها الأحبة: وإن شئتم نقلةً يسيرة إلى زمننا وواقعنا المعاصر، انظروا حال إخواننا في الاتحاد السوفيتي ، في روسيا وقد جثمت الشيوعية بكلكلها على صدور المسلمين في تلك البلاد اثنين وسبعين عاماً، حتى ظن الظانون أنه لم يبق أحدٌ يعرف لا إله إلا الله، أو يعرف الفاتحة، أو آيةً من كلام الله، أو حديثاً من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] لما تكفل الله بحفظ هذا الذكر وضمن طائفة منصورة على الحق إلى يوم القيامة منتشرةً في أصقاع المعمورة جعل لهذا الدين رجالاً يتربون عليه، وينشئون صغارهم عليه حتى في الأقبية وتحت السراديب.

    أخبرنا عددٌ كثيرٌ بل متواتر ممن ذهبوا إلى كازخستان وطاشقند وتركستان، وكثيرٍ من بلاد الاتحاد السوفيتي سابقاً قالوا: وجدنا أمةً مسلمة، ووجدنا عدداً من المسلمين حفظوا القرآن، هل حفظوه في المساجد؟ ليس ثمة مساجد، هل حفظوه في حلق الذكر؟ ليس ثمة حلقة ذكر، فأين حفظوا وأين درسوا اللغة؟ حفظوه في الأقبية وتحت السراديب يقف واحدٌ على فتحةٍ فوق سطح الأرض من فوقها سجادٌ أو خشبٌ أو لوح كأن ليس تحت الأرض شيء، واثنان أو ثلاثة تحت الأرض يقرءون القرآن ويحفظون الآيات ويتدارسون الحديث. هذا دينٌ محفوظ، هذه ملةٌ ماضية: (ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار)، (ليتمن هذا الأمر حتى لا يبقى بيت مدرٍ ولا حجر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيزٍ أو بذل ذليل).

    نعم -أيها الأحبة- تلك صورةٌ من صور الخوف على الدين، وعدم الأمن لأولئك الذين أرادوا أن يتمسكوا، وفي المقابل عبرةٌ لنا يوم أن نجد أمة من وجد القرآن عندها فحكمه الإعدام، ومن وجد متلبساً بحلقة أو دراسةٍ شرعية فحكمه الإعدام، وما حول ذلك فحكمه السجن المؤبد مع الأعمال الشاقة.

    نعم. ما كان هذا الكلام في زمن موسى وفرعون، بل في هذا الزمن القريب، ومع هذا كله ما نفع روسيا رءوسها ولا طائراتها ولا قنابلها: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا [الحشر:2] ما كنا نظن، بل إن كثيراً ما كانوا يظنون بسقوط روسيا فضلاً عن غيرها: مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ [الحشر:2] ظن الروس أن (kjb) أن المخابرات، أن الرءوس النووية، أن عابرات القارات، أن الطائرات، أن أجهزت التصنت، أن كل وسائل ملاحقةٍ أمنية لجريمةٍ أو غيرها ستحفظ هذا الكيان من السقوط: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر:2] لقد كانت الرادارات حوامة حول حدود تلك القارة، فإذ بالقنبلة تنفجر من تحت صنم لينين، إذ بالهاوية تنفجر من تحت تمثال تروتسكي وفردريك إنجلد وطغاة الشيوعية الذين ذبحوا وعاثوا خلال الديار وقتلوا تقتيلاً.

    الأمن في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم

    أيها الأحبة: لقد كان الناس في زمنٍ مضى وإلى يومنا هذا لا يأمنون على دينهم، فإن كنا في أمنٍ على ديننا كما نرى ونشاهد اليوم فلنحمد الله على هذه النعمة، ولنحافظ عليها، وإن الأمة لا تزال بخير ما دامت عزيزةً بدينها، رافعةً رأسها به، مظهرة لشعائرها، لا تخاف في ذلك أحداً أبداً.

    لقد ابتلي بهذا الأمن حتى الصحابة رضوان الله عليهم.

    عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان الرجل قبلكم يؤخذ فيحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) أخرجه البخاري.

    جاء خباب وكان النبي صلى الله عليه وسلم متوسداً بردةً في ظل الكعبة، فجاء خباب وكشف عن ظهره ليري رسول الله صلى الله عليه وسلم آثار الكي، نفطات من قيح ودمٍ وصديد على جلده، كانت سيدته تعذبه ويشكو إلى رسول الله ما لقي، فقال له صلى الله عليه وسلم هذا: (كان الرجل قبلكم يحفر له في الأرض، فينشر بالمنشار فيشق باثنتين ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه) بل لقد جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وقالوا: يا رسول الله! أحدنا لا ينام إلا وسلاحه تحت رأسه، لا يبول إلا وسلاحه على كتفه، متى نأمن؟ متى نصر الله؟: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ [يوسف:110].. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142].

    أيها الأحبة: لقد مس النبي وأصحابه البأساء والضراء وزلزلوا زلزالاً شديداً، كانوا على خوف في أمر دينهم، مكثوا زمناً في مكة لا يصلون إلا خفية، ولا يلتقون إلا خفية حتى أعز الله دينه بـالفاروق، بالإمام الأواب شهيد المحراب عمر بن الخطاب ، فلما آمن واعتز بإيمانه الدين ذهب إلى قريش وقال: [يا معشر قريش! أما تعلمون أني آمنت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال أبو جهل: حاشاك ذلك يا بن الخطاب ، فقال: بل هو ما سمعت يا عدو الله! ثم عاد إليهم وقال: إني مهاجرٌ هذا اليوم سالك بطن هذا الوادي، فمن أراد أن تثكله أمه فليلحقني وراء هذا الوادي] هجرةٍ علنية وتحدٍ بقوةٍ إيمانية: (المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير).

    أمة الإسلام وخير البرية عاشوا صوراً من الخوف على دينهم وعلى معتقدهم وعلى ملتهم، بل كان صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ويرفع يديه في غزوة بدر ويلح على الله حتى سقط رداؤه عن عاتقه، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول له: (يا رسول الله! كفاك منشادتك ربك، إن الله منجزك ما وعدك، والرسول يقول والدمع يتحدر على وجنيته الشريفة: اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعد اليوم أبداً).

    يا عباد الله: الأمن على الدين .. الأمن على العبادة .. الأمن على الملة .. الأمن على الصلاة .. الأمن على العقيدة من أعظم صور الأمن ودرجات الأمن، فحافظوا على ذلك وانتبهوا إليه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089076822

    عدد مرات الحفظ

    781401681