اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , أخلاق العلماء وأثرها في الأمة للشيخ : عبد العزيز بن باز
فنسأل الله تعالى أن يعيذنا جميعاً من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويخذل أعداءه.
ثم أشكر القائمين على هذه المؤسسة على دعوتهم لي إلى هذا اللقاء، وأسأل الله عزَّ وجلَّ أن يبارك في جهودهم، وأن يعينهم على كل خير، وأن يتغمد الملك فيصل برحمته ورضوانه، وأن يرفع درجاته في المهديين، وأن يصلح ذريته وجميع الأسرة، وأن يوفق خادم الحرمين الشريفين لما فيه رضاه، ولما فيه صلاح المسلمين وسعادتهم في العاجل والآجل، وأن يوفق جميع الأسرة السعودية لكل ما ينفع المسلمين في دينهم ودنياهم، وأن يجمع كلمتهم على الحق، وأن ينفع بهم العباد والبلاد.
كما أسأله سبحانه أن يوفق علماء المسلمين في كل مكان لما فيه صلاح المسلمين، ولما فيه توجيههم إلى الخير، ولما فيه إرشادهم إلى أسباب النجاة، وأن يعينهم على أداء الواجب، وأن يصلح قادة المسلمين جميعاً ويوفقهم لتحكيم شريعته، والالتزام الشرعي بها، والاستقامة عليها، وأن يوفق جميع المسلمين لما فيه صلاحهم وسعادتهم في العاجل والآجل.
أما موضوع المحاضرة فكما سمعتم هو: "أخلاق العلماء وأثر ذلك في المجتمع الإسلامي وغير الإسلامي أيضاً".
لا ريب أن العلماء الصالحين المهتدين هم خلفاء الرسل، وهم الدعاة إلى ما جاءت به الرسل من توحيد الله والإخلاص له، واتباع الهدي الذي جاءت به الرسل، وهم القادة في توجيه الناس إلى أسباب النجاة، وتحذيرهم من أسباب الهلاك.
ولهذا روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ليحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين)، يبصِّرون بكتاب الله أهل العمى، وينذرونهم عواقب الجهل والظلم، والذود عن أسباب الهلاك، يدعونهم إلى مكارم الأخلاق، ويحذرونهم من مساوئ الأخلاق.
المقصود أنه سبحانه وتعالى جعل العلماء هم الخلفاء للرسل، وهم الدعاة إليه، وهم المبصرون لعباده، فجدير بهم أن يؤدوا هذه الأمانة بكل عناية وإخلاص وصدق.
والأثر الذي أشرت إليه: (ليحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين) ذكره ابن عبد البر رحمه الله، وذكره العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه مفتاح باب السعادة ، وأطال فيه رحمه الله، وله طرق.
فأهل العلم هم الدعاة إلى الله، وهم المبصرون بكتاب الله أهل العمى، وهم الصابرون على الأذى، وهم النجوم التي يُهتدى بها في ظلمات الجهل والضلال والشكوك والأوهام، وهم -في الحقيقة- أهل خشية الله بعد الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فأئمة الهدى ودعاة الحق هم الرسل في الطبقة الأولى، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم يليهم العلماء بالله وبدينه، والهداة إليه، وهم على مراتب وعلى طبقات أيضاً.
وكلما كان العالم أعلم بما جاءت به الرسل، وأخلص وأصدق في العمل؛ كان أكثر قياماً بالخلافة، وأكثر تأسياً بالرسل، وأكثر أجراً، وأعظم ذكراً.
رأس العلم خشية الله عزَّ وجلَّ، فإن من خشية الله أن يؤدي العالم ما يجب عليه، وكلما كانت خشيته لله أكمل صار إخلاصه أعظم، وصار أداؤه للأمانة أكمل، يقول عزَّ وجلَّ: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] أي: العلماء بالله، العارفين به، المعظمين لحرماته، البصيرين بكتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، فهم أفضل الناس خشية، وأكثرهم تعظيماً لله، وأقومهم بحقه بعد الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فالحصر هنا للكمال: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، أي: الخشية الكاملة، وإلا فمعلوم أن كل مؤمن وكل مسلم يخشى الله، وإن تفاوتت المراتب؛ لكن كل مسلم يخشى الله، ولهذا أسلم لله، وقام بما قام به من حق الله.
وكلما كان المؤمن أخشى لله وأعظم خوفاً منه؛ صار قيامه بالواجب أكثر؛ ولكن العلماء بالله، المتبصرون في دينه، الفقهاء في شريعته، هم أفضل وأعظم الناس خشية، ولهذا قال عزَّ وجلَّ: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، أي: إنما يخشاه خشية كاملة العلماءُ به سبحانه وتعالى، القائمون بحقه، الفقهاء في دينه، المتبصرون في شرعه.
وعلى حسب خشية العالم لله، وعلى حسب بصيرته، وعلى حسب استحضاره ما يجب عليه من أداء الأمانة؛ يكون توجهه للعلم وطلبه وازدياده من العلم، وعمله بالعلم في نفسه وفي غيره.
فمن أخلاق العلماء البارزة العظيمة: الخشية لله سبحانه وتعالى، والتعظيم لحرماته، والنصح له ولعباده، تأسياً بالرسل عليهم الصلاة والسلام، وسيراً على منهاجهم العظيم، وأكثر الرسل وأعظمهم خشية وبلاغاً ونصحاً هو رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام، فهو إمامهم وسيدهم عليهم الصلاة والسلام جميعاً.
وأكثر الناس خشية بعده، وأكملهم إمامة أكملهم في الاقتداء به، ومحبته، والسير على منهاجه، وهم صحابته رضي الله عنهم وأرضاهم، فهم خير الناس بعد الأنبياء، وهم أكمل الناس في خشية الله، والإخلاص له، والصدق في أداء حقه، وفي أداء الأمانة، وفي تبليغ ما علموه من الرسالة، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون، وأفضلهم وإمامهم: أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وعنهم، ثم الفاروق ، ثم ذو النورين عثمان ، ثم علي رضي الله عنه أبو الحسن ، ثم بقية الصحابة على مراتبهم، هم أفضل الناس خشية لله، وأعظمهم قياماً بحقه بعد الرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم التابعون وأتباع التابعين على مراتبهم، وهؤلاء العلماء بعدهم، كل على ما منحه الله من العلم والبصيرة، وقوة في الحق، وأداء الأمانة.
وكلما عظم الإخلاص والخشية لله عزَّ وجلَّ؛ انتشر العلم والعمل، وازداد الصبر والثبات، وعظُم الأثر في الناس.
فهم لا يزالون أبداً يطلبون العلم حتى الموت، كما قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114]، فهم يطلبون الزيادة ويسألون الله الزيادة، ويبذلون كل ما يستطيعون في طلب المزيد من العلم.. من المذاكرة، ومراجعة الكتب، وسؤال أهل العلم، وحضور حلقات العلم، والرحلة في طلب العلم، ولو إلى بلادٍ بعيدة، كما رحل موسى عليه الصلاة والسلام إلى الخضر لطلب المزيد من العلم، وكما رحل جمع من الصحابة إلى مصر و الشام وغيرها لطلب العلم.
ومن أخلاق أهل العلم: الرحلة في طلب العلم، والجد في طلب العلم وطلب المزيد قولاً وعملاً، فهم يسألون الله المزيد ويعملون في طلب المزيد، من العناية بكتاب الله عزَّ وجلَّ تلاوة وتدبراً وحفظاً وتعقلاً، ومراجعةً لكتب التفسير، ومذاكرةً في ذلك، وهكذا في الحديث النبوي، وأصول الفقه، وأصول المصطلح.. وهكذا في غير ذلك ، هم دائماً وأبداً يطلبون المزيد، ويعملون المزيد من طلب العلم، لعلمهم وشعورهم بشدة الحاجة إلى ذلك، والله سبحانه يقول: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85]، فمهما طلب العلم ومهما اجتهد ومهما حرص، فهو لم يؤتَ إلا القليل، وعلم الله أوسع وأكثر.
هكذا ينبغي لطالب العلم، وهكذا ينبغي للعالم المسئول، أن يكون حريصاً على طلب العلم، مع الاهتمام بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وعن طريق المذاكرة مع أهل العلم الذين يُرجى أن يكون عندهم من الفائدة ما لا يستغني عنها الشخص.
وهكذا أهل العلم يتواضعون في طلب العلم، وإبلاغ العلم، وفي قضاء الحاجة للمسلمين، وبذلك نالوا المراتب العالية، والدرجات الرفيعة.
يقول مجاهد رحمه الله وهو تابعي جليل: [لا يتعلم العلم مستحٍ ولا مستكبر]، ذكره البخاري رحمه الله تعليقاً وتبويباً، وقد صدق في ذلك.
فجدير بالعالم وطالب العلم أن يكون هكذا حريصاً على طلب العلم، متواضعاً في ذلك، لا يمنعه الحياء من أن يتفقه في الدين، ولهذا قالت أم سليم رضي الله عنها في الحديث الصحيح: (يا رسول الله! إن الله لا يستحيي من الحق، هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، إذا هي رأت الماء)، فقدَّمت هذه المقدمة قبل سؤالها: (إن الله لا يستحيي من الحق -ثم سألت- فقالت: يا رسول الله! هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، إذا هي رأت الماء)، أي: المني، وهكذا الرجل إذا رأى الماء في نومه، ليلاً أو نهاراً، وهكذا إذا خرج المني عن شهوة في غير النوم، مثل: التكفير، أو النظر، أو الملامسة، فعليه الغسل أيضاً.
والمقصود من هذا أن الحياء لا ينبغي أن يَمنع من العلم، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها عند سماعها كلام أم سليم : [نِعْم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين].
فلا ينبغي أبداً لمؤمن ولا لمؤمنة أن يمنعهما الحياء من التفقه في الدين، والسؤال عما أشكل، عن طريق الكتابة، أو الهاتف، أو أي طريق.
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه (كان يكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصِّر الخطبة، ولا يستنكف أن يمشي مع الفقير والمسكين والأرملة حتى يقضي حاجته)، خرَّجه النسائي بإسناد صحيح.
هكذا العالم ينبغي أن يكون عاملاً بعلمه، متواضعاً، حافظاً وقته، كثير الذكر لله عزَّ وجلَّ، قليل الكلام اللاغي، يحفظ وقته من أي كلام لا فائدة فيه، ويجتهد في تطبيق ما علمه من شرع الله.. من أداء الفرائض، وترك المحارم، والوقوف عند حدود الله عزَّ وجلَّ، وهكذا العالم وطالب العلم الصادق، يحمله علمه وطلبه للعلم على المبادرة والمسارعة والعناية الكاملة بالعمل.
ولما تخلف اليهود عن العمل غضب الله عليهم، وفضحهم، بسبب علمهم وعدم عملهم.. فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ [البقرة:90] نعوذ بالله!
ونزه الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن صفات اليهود وعن صفات النصارى، فإن اليهود مغضوب عليهم لعدم عملهم بالعلم، ولإيثارهم العاجلة على الآخرة، فباعوا الآخرة بالدنيا، وآثروا الدنيا على الآخرة، وكتموا العلم، فباءوا بغضب على غضب، ولعنهم الله، وفضحهم في كتابه العظيم، والنصارى غلب عليهم الجهل والضلال، وأبوا البصيرة، فوصفهم بالضلالة في قوله في جلَّ وعَلا: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6]؛ وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: (اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون) .
ونزه الله نبيه عن هذين الوصفين، فقال عزَّ وجلَّ: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:1-2]، صاحبنا هو محمد عليه الصلاة والسلام مَا ضَلَّ )[النجم:2]؛ لأنه على علم، وعلى هدىً، ليس بِجاهل، بل هو على علم وهدىً من ربه عزَّ وجلَّ.. وَمَا غَوَى [النجم:2] أي: ما خالف ما عنده من العلم، بل علم وعمل.
فهو مهتدٍ ليس بضال ولا غاوٍ، عامل بعلمه، قائم بحق الله عليه، داعٍ إلى ذلك عليه الصلاة والسلام، فلهذا قال سبحانه: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:2] .
فمن غلب عليه الجهل فهو ضال، ومن خالف العلم فهو الغاوي، قال سبحانه وتعالى: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ [الشعراء:91]، الذين لم يعملوا بالعلم، بل خالفوا معالمه، وآثروا الدنيا على الآخرة، وقدموا شهواتهم وحظوظهم العاجلة على طاعة الله ورسوله.
فالواجب على العالم أن يُعنى بالعلم، عملاً وسيرةً في جميع الأحوال، حتى تظهر آثار علمه عليه في أحواله كلها.
وعلى طالب العلم أن يتأسى بأهل العلم في ذلك، فيعمل بما علم، ويجتهد في تطبيق أقواله وأعماله وسيرته على ما علم ؛ لأنه الآن طالب، وغداً عالم مسئول بين يدي الله.
فالعلماء هكذا، يجب عليهم جلب العلم عن إخلاص، وصدق، وصبر، سواءً كانوا ذكوراً أو إناثاً.
فالعالم والعالمة، والفقيه والفقيهة، والمدرِّس والمدرِّسة، كلهم عليه واجب، من الدعوة إلى الله، والتعليم، والإرشاد، والصبر على ذلك، وبذلك يظهر العلم وينتشر.
وإذا كتم العالم علمه لن يُنتفع به, وصار منبوذاً عند الله وعند عباده.
فالواجب إبراز العلم وإظهاره ونشره بين الناس، على حسب القدرة والحاجة.
يقول عزَّ وجلَّ: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]، لا أحسن قولاً من هؤلاء، وهم الرسل وأتباعهم.
ويقول سبحانه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، فأتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام هم الدعاة إلى الله على بصيرة، هم معلمون ومرشدون وموجهون، هم أتباع الرسل على الحقيقة، علموا وعملوا ودعوا إلى الله عزَّ وجلَّ، وبصَّروا الناس.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا خطب الناس وذكَّرهم غالباً يقول لهم عليه الصلاة والسلام: (فليبلغ الشاهد الغائب، فرُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع)، هكذا ينبغي، فالعالم ينشر العلم، ويحث الناس على نشره أيضاً وتبليغه للناس.
يقول جلَّ وعَلا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:159-160]، ذكر الوعيد العظيم لمن كتم الحق؛ لأنه ملعون من جهة الله، ومن جهة خلقه، ثم قال: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا [البقرة:160]، هؤلاء هم الذين يسلَمون مما وعد الله به من كتم العلم، بتوبته وإصلاحه وبيانه، فلا بد من توبة صادقة، ولا بد من إصلاح في العمل، ولا بد من بيان وعدم كتمان.
فمن أخلاق العلماء: البيان، والإرشاد، والإيضاح، والهداية للناس.. قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، فعليهم أن يتبصروا، وعليهم أن يعلموا ويرشدوا ويبلغوا، فهذا من أعمالهم ومن أخلاقهم العظيمة الواجبة.
وقال سبحانه: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، فالحكمة هي العلم، "قال الله، وقال رسوله" بيان ما أوجب الله على عباده، وما حرم عليهم، وما شرعه لهم بالأدلة.
وهكذا بالموعظة الحسنة؛ لأن الناس قد يكون عندهم تثاقل وغفلة وإعراض وتكاسل، فالموعظة الحسنة تحركهم وتشجعهم وتعينهم على أداء الواجب، فالترغيب والترهيب له أثر عظيم في قلوب الناس، وهذا هو الموعظة الحسنة، قد يكون عند بعضهم شُبَه يجادل عنها، ويـبديها وينشرها، فهذا يجادَل بالتي هي أحسن، بكشف الشبهة، وإيجاد اللبس، وإيضاح الحق، بالدلائل الواضحة، والجدال الهادف الرفيق، الذي ليس فيه عنف ولا شدة، بل بالتي هي أحسن، كما قال الله سبحانه: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46]، فنهى عن جدال أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، وهم كفرة، وهم اليهود والنصارى، فكيف بجدال أهل الإيمان؟! من باب أولى يكون بالتي هي أحسن، إلا الظالمين، فمن ظلم فله شأن آخر.
فعلى العالم أن ينشر علمه، ويبلغه للناس عن بصيرة وعن علم، عمَّا قاله الله ورسوله، لا عن جهل، فلا يتقول على الله بغير علم، فالقول على الله بغير علم من أكبر الكبائر، ومن أعظم المصائب، كما قال سبحانه: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، فجعل القول عليه بغير علم فوق هذه المراتب، فوق الشرك، فدل ذلك على عِظَم الخطر في القول عليه بغير علم، وعِظَم الجريمة.
فالواجب على أهل العلم أن يتكلموا عن علم، وأن يبلغوا عن علم، لا عن جهل.
وأخبر سبحانه في آيات أخرى أن الشيطان يأمر الناس بأن يقولوا على الله غير الحق، فالقول على الله بغير علم عصيان له سبحانه وطاعة للشيطان، كما قال عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:168-169].
فأخبر سبحانه أن القول عليه بغير علم مما يأمر به الشيطان ويدعو إليه.
فوجب على أهل العلم أن يحذروا ذلك، وأن تكون دعوتهم عن علم وبصيرة.
فالواجب على أهل العلم، وعلى أتباع أهل العلم، وعلى كل مؤمن أن يأخذ نصيبه من هذه الصفات الأربع، حتى ينجح ويربح، فالناس في خسران في أيامهم ولياليهم وسائر أحوالهم إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3]، هؤلاء هم الرابحون، وهم الناجحون، وهم السعداء، من عالم ومتعلم، ومن سائر المؤمنين والمتخلقين بهذه الأخلاق.
وقد أقسم على هذا سبحانه وهو الصادق وإن لم يقسم جلَّ وعَلا، ومع هذا أقسم، فقال: وَالْعَصْرِ [العصر:1]، والعصر هو الزمان، يقال لليل والنهار: العصران.
فالمراد أنه سبحانه أقسم بالليل والنهار اللذَين هما محل أعمال العباد، من خير وشر، أقسم بذلك على أن جنس بني آدم في خسران إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3].
ومعلوم أن الرب عزَّ وجلَّ له أن يقسم بما شاء من خلقه، لا أحد يتحجر عليه سبحانه وتعالى، فقد أقسم بأشياء كثيرة من مخلوقاته: وَالطُّورِ [الطور:1] .. وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ [الطارق:1] .. وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [البروج:1] .. وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1] .. وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [الليل:1] .. وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى [النجم:1]، إلى غير ذلك، لِمَا في هذه المخلوقات من الحكم العظيمة، والدلائل على قدرته سبحانه، وأنه رب العالمين، وأنه يستحق أن يُعْبَد سبحانه وتعالى.
لكن المخلوق ليس له أن يقسم إلا بربه، العبد ليس له أن يحلف إلا بالله وحده سبحانه وتعالى، ولا يجوز له أبداً أن يحلف بغير الله.. لا بالكعبة، ولا بالأنبياء، ولا بالأمانة، ولا بحياة فلان، ولا شرف فلان، بل هذا كله منكر، ومن المحرمات الشركية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) متفق عليه، وفي لفظ: (من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله أو ليصمت)، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك) خرَّجه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن عمر رضي الله عنه.
وخرج أبو داود والترمذي بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك).
فلا تحلفوا بآبائكم، ولا بأمهاتكم، ولا بالأنداد، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون، قال عليه الصلاة والسلام: (من حلف بالأمانة فليس منا)، فالحلف بغير الله من المنكرات القبيحة، ومن الجرائم، ومن أنواع الشرك؛ لكنه شرك أصغر في الجملة، وقد يكون شركاً أكبر إذا كان في قلب صاحبه تعظيم المخلوق كتعظيم الله، أو أنه يصبح إلى أن يعبد من دون الله، أو ما أشبه ذلك من العقائد، وإلا فالأصل أنه من المحرمات إذا جرى على اللسان، فهو من الشرك الأصغر، وقد حكى الإمام ابن عبد البر رحمه الله إجماع أهل العلم على أنه لا يجوز الحلف بغير الله، كائناً من كان.
والخلاصة: أنه سبحانه أقسم بالعصر أن جميع بني الإنسان في خسران إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3]، هؤلاء هم الرابحون، فخصال الخير وأعمال الخير، كلها ترجع إلى هذه الصفات الأربع:
- الإيمان بالله ورسوله، ويدخل في ذلك كل عمل صالح، وكل دعوة إلى الخير، وكل قول صالح، وكل ما يتعلق بترك المحارم عن نية صالحة، كله داخل في الإيمان.
- ثم أكد ذلك بقوله: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [العصر:3]، تأكيداً لدخول ذلك في الإيمان، فالإيمان بالله ورسوله يتضمن تصديق الله ورسوله، وتصديق المرسلين، والإيمان بما جاءوا به، والعمل بمقتضى هذا الإيمان، وتصديق الله بما أخبر، وتصديق رسوله عليه الصلاة والسلام بما أخبر، كله داخل في الإيمان، ثم أكد ذلك بقوله: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [العصر:3] أي: أدوا فرائض الله، واجتهدوا في طاعته، وتركوا محارمه، عن إيمان وصدق وإخلاص.
- ثم كملوا ذلك بالدعوة إلى الله، والتواصي بالحق، والنصيحة للناس، وتعليمهم، وإرشادهم، وتفقيههم في الدين.
- ثم كملوا هذا بالصبر على ذلك، وعدم الجزع، وعدم النكول عن العمل، فصبروا واستمروا في الخير.
وهذا من آثار العلم بالله، والبصيرة في دينه، والفقه في دينه، فكلما كان العلم أكثر كانت البصيرة أكمل، وصار الانقياد في العمل والجد في العمل أكمل.
ولهذا صح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين)، بفقهه في الدين، وبالتبصر بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وهذه من الدلائل على أن الله أراد بالعبد خيراً، والإعراض والغفلة من الدلائل على أنه ما أريد به الخير، نعوذ بالله من ذلك!
فكلما كان العبد أفقه بدين الله، وأشد بصيرة، وأكمل عناية؛ صارت حصيلته من هذه الخصال الأربع أكمل وأتم من غيره.. من الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
وليس هذا خاصاً بالعلماء كما تقدم؛ لكنهم هم الرأس في هذا، وهم القادة والأئمة، وإلا فليتبعهم في ذلك طلبة العلم، وكل مؤمن وكل مؤمنة، كلٌ له نصيبه من هذه الصفات الأربع على حسب اجتهاده وعمله الصالح، ونصيحته لله ولعباده، وتواصيه بالحق، ودعوته إلى الخير، وصبره على ذلك، كلما كان العبد أكمل في هذه الخصال الأربع صار نصيبه من الإيمان والأجر أكثر وأكمل.
والله المسئول سبحانه أن يوفقنا وإياكم وجميع المسلمين للفقه في دينه، والثبات عليه، وأن يرزقنا جميعاً العلم النافع والعمل الصالح، وأن يمنحنا التخلق بهذه الأخلاق العظيمة التي ذكر سبحانه أن أهلها هم الرابحون السالمون من الخسارة.
نسأل الله أن يمنحنا وسائر المسلمين النصيب الأوفى، والحظ الأوفر من هذه الخصال العظيمة، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعاً في كل مكان، وأن يولي عليهم خيارهم، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، إنه سميع قريب.
وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
الجواب: قد كتبنا في هذا غير مرة، وبينا أن الواجب على طلبة العلم والدعاة إلى الله التعاون على البر والتقوى بدلاً من الشتم والعيب والقدْح، فيكون التعاون على البر والتقوى والتناصح، حتى يزول ما هناك من انتقادات، وحتى يكثر الخير.
فـالإخوان المسلمون ، وجماعة التبليغ ، والجماعات الأخرى على اختلاف أسمائها، يجب أن يكون هدفها اتباع الشريعة، والتمسك بما جاء به المصطفى عليه الصلاة والسلام، وأن تبتعد عن كل أهداف سوى ذلك، وبهذا تتقارب القلوب، وتجتمع الجهود، ويقل النزاع، وتصفو القلوب.
أما الأهداف الأخرى فهي التي تفرق القلوب، وتفرق الجماعات، من أهداف سياسية، أو أهداف مالية، أو أهداف أخرى خلاف ما شرعه الله، فمن كان عنده نقد لأي جماعة، فينصح لها، ويكتب لها، ولرئيسها، ويوضح ما ينتقده عليها بالأدلة، بالرفق والحكمة، وهكذا تكون المناصحة، والحرص على جلب الخير ودرء الشر، وعلى تأليف القلوب، وعلى كثرة الخير وقلة الشر.
أما التنابز بالألقاب وذم هذا وذم هذا؛ فهو يمزق الصف ويفرق الجماعة، ويزيد الطين بلة، ويزيد الشر شراً.
فنصيحتي لجميع الجماعات المنتسبة إلى الإسلام، ونصيحتي للإخوان الذين قد يوالون هذه ويعادون الأخرى، أو يسبون الأخرى، أو يكرهون الأخرى، التناصح، وعدم إظهار الشناعة والسب الذي يفرق الناس، إلا إذا كان هناك جماعة معروفة بدعوتها إلى الباطل، وإنكارها الحق، فهذه تنابذ، ويُنبَّه عليها، ويُحذَّر منها، أما من كانت تدعو إلى الإسلام، وتريد الإسلام، وتنشر الإسلام، وقصدها تقريب الناس إلى الخير، وإبعادهم من الشر، فإن الواجب تشجيعها على ما عندها من الخير، وتنبيهها على ما عندها من الشر، وتحذيرها منه، حتى يكثر الخير ويقل الشر.
الجواب: المعروف عند العلماء أن هذه الأخبار كلها في العلم الشرعي، أن يتعلم في الدين، أما العلوم الأخرى فليس لها دخل في ذلك، كالطب، والهندسة، والحساب، والفلك.. وغير ذلك، ليس له دخل في هذا؛ ولكن على حسب نيات هؤلاء وعملهم الطيب، لكلِّهم أجورهم على حسب نياتهم، فإذا كان المهندس، أو الطبيب، أو الفلكي، أو غيره، يقصد في عمله وعلمه هذا إعانة الناس على الخير، وتوجيههم إلى الخير، وإغنائهم عن عدوهم، وما أشبهها من المقاصد الطيبة، فهو على نيته الصالحة، يؤجر على قدرها، وأما إذا كان قصده الدنيا فقط فليس له إلا قصده، وأما علوم الشريعة وأعمال الشريعة فالناس في أشد الحاجة إليها، والوضوح إليها، لقصد النجاة من النار، وأداء حق الله سبحانه وتعالى، والتقرب إليه، وما جاء من الأحاديث والآيات في مدح العلم وفضله، فهو عند أهل العلم فيما يتعلق بعلم الشرع وما يعين عليه.
كما في قوله سبحانه: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].
وقوله سبحانه: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ [آل عمران:18].
كل هذا في علماء الشريعة.. علماء الهدى.
كـذلـك يـقـول جلَّ وعَلا: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الرعد:19]، ويقول سبحانه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر:9].كل هذا فيما يتعلق بالعلم الشرعي.. وهكذا.
ويقول عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع).
هذا كله في العلم الشرعي.. علم القرآن والسنة، وما يعين على ذلك من أصول الدين، وأصول المصطلح، وقواعد العربية، ونحو ذلك مما يقصد به صاحبه التفقه في الدين، والاستعانة به على علم الشريعة.
وكذلك سؤال مرادف يقول: ما حكم من يسأل أكثر من عالم ليتبع الأسهل، أو يتتبع فتاواهم السهلة؟
الجواب: أما مسائل الإجماع فليس لأحد تركها، ما أجمع عليه العلماء رحمهم الله فالواجب الأخذ به والاستقامة عليه؛ لأن الله سبحانه لا يجمعهم على باطل، هذه الأمة لا تجتمع على باطل، يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله)، فإذا اجتمعوا فالطائفة منهم، وهي على الحق.
أما في مسائل خلافية عند الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم؛ فليس للإنسان التشهي وتتبع الرخص، واتباع هواه في أخذ ما شاء من أقوالهم عند الاختلاف، أو في أخذ ما جاء من فتاوى أهل عصره لمجرد هواه، بل الواجب أن يتحرى الحق إذا كان من أهل العلم، فما كان أقرب إلى الدليل والحجة أخذ به، لا لأنه قول الشافعي ، ولا لأنه قول أبي حنيفة ، ولا لأنه قول مالك ، ولا لأنه قول أحمد ، ولا لأنه قول الظاهرية، أو قول الثوري ، أو قول فلان؛ بل يأخذ به لأنه أقرب إلى الحق، وأن الدليل معه أظهر.
فهذا هو الواجب على أهل العلم أن يأخذوا بما هو الأقرب إلى الدليل والأظهر للحجة من جميع الأقوال المختلفة الإسلامية، وهكذا الفتاوى في عصره كذلك.
أما إن كان عامياً لا يعرف الدليل، ولا يحسن التمييز، فهذا يسأل أهل العلم، ويتحرى أقربه إلى الخير، للاقتداء به في مظهره العلمي وعمله الصالح، يتحرى أقربهم إلى الخير ويستفتيهم ويعمل بذلك؛ لأنه ليس عنده الأدوات التي تعينه على الترجيح.
الجواب: الواجب على طلاب العلم من الشباب والشيوخ، والرجال والنساء، احترام العلماء، وتقديرهم، ومعرفة أنهم هم الطبقة العليا في الناس بعد الرسل، على حسب ما أعطاهم الله من العلم والعمل، فهم متفاوتون، وعلى حسب احترامه وتقديره لهم تكون عنايته أيضاً بأقوالهم والأخذ بها، وترجيح الراجح، والدعوة إلى التمسك بذلك، ومتى سقطوا من عينه لم يأخذ بأقوالهم، ولم يحترم فتاواهم، فالواجب أن يقدرهم ويحترمهم لِمَا حملوه من علم الشريعة، وأن يكون أقربهم إلى الحق، وأصدقهم في اتباع الحق، أعظم منزلة في قلبه من غيره.
ثم في الأخذ بالفتاوى يعتمد على ما قام عليه الدليل، وظهرت عليه الحجة، من أقوال أهل العلم في عصره، أو فيما ينقله العلماء في كتبهم عند الاختلاف.
ومن أبرز العلماء وأولاهم بالاتباع والعناية: أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني ، العلم المشهور، شيخ الإسلام ، هذا من أبرز العلماء وأفضلهم، ولا أعلم على حسب ما اطلعتُ عليه لا في زمانه ولا بعد زمانه أعلم بالله ودينه، وأتقى لله منه، فيما ظهر به من كتبه ونشاطه وغيرته لله، رضي الله عنه ورحمه.
ثم يليه في هذا تلميذه البار الصادق العلامة ابن القيم رحمه الله، وهو من أكمل الناس علماً وفضلاً وتقوى، وتجده أيضاً بالعناية بكتبه، وقد اعتنيا جميعاً بالأدلة الشرعية، والعلل المرئية، وترجيح الراجح، وتزييف الزائف في مسائل الخلاف بكل عناية، وبكل تجرد، وبُعدٍ عن الهوى، وليسا معصومين، فكلٌّ له أغلاط، وكل له هفوات، لا شيخ الإسلام ، ولا العلامة ابن القيم رحمة الله عليهما، ولا غيرهم من أهل العلم، كلٌّ له نصيبه مِمَّا أعطاه الله من العلم والفضل، وكلٌّ له أغلاط، وكلٌّ له أخطاء؛ لكن هي بالنسبة إلى علمهم وفضلهم كقطرة في بحر، وهكذا الأئمة الأربعة، وهكذا أهل العلم، كلٌّ له بعض الأخطاء، وبعض الأغلاط، على حسب بصيرته في كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وعلى أصل ما بلغهم من العلم، فقد يبلغ العالم أكثر مما يبلغ العالم الآخر من الأدلة الحديثية، وقد يفهمون من الكتاب العزيز ومن السنة ما لا يفهمه الآخر؛ فلهذا تفاوتوا، وتفاوتت مراتبهم في العلم، وهم طبقات.
وقد صنف أبو العباس ابن تيمية رحمه الله كتاباً في هذا الشأن، سماه: رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وهو كتاب جدير بالعناية، كتاب مفيد مطبوع يوزع في دار الإفتاء، ويباع في المكتبات، فهو كتاب جيد ومفيد، يعرف به طالب العلم منازل العلماء، وأعذارهم فيما قد يفعلون من الأخطاء والأغلاط.
والحاصل: أن أبا العباس ابن تيمية من خيرة أهل العلم، وهو جدير بأن يُعتنى بكتبه وأقواله، وهكذا تلميذه العلامة ابن القيم رحمة الله عليه.
وهكذا أئمة الدعوة، مثل: محمد بن عبد الوهاب ، ومن سار في دعوته، ونصر دعوته، وألَّف فيها، هم أيضاً جديرون بالعناية، يجب أن يُعتنى بكتبهم، وما قرروه في توحيد العبادة، وفي الرد على أهل البدع، وفي نصر السنة، فلهم في هذا حظ وافر، ونصيب عظيم رحمة الله عليهم.
ولذا فإن شيخ الإسلام ابن تيمية يعتبر في المعنى شيخاً للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، وإن كان بينهما مسافة طويلة من الزمان؛ لكنه في الحقيقة شيخ له، لعكوف الشيخ الإمام محمد على كتبه والاستفادة منها، ومن كتب ابن القيم ، ومن أشباههم من أهل العلم والبصيرة.
فالحاصل أن هؤلاء الأخيار من أولى الناس بأن يُعتنى بكتبهم وما قرروه من أدلة، كما يُعتنى بالكتب الماضية من كتب أهل العلم في المذاهب الأربعة، والاستفادة منها، والاعتناء بها؛ لأن كل كتاب في الغالب لا يغني عن كتاب، ولا سيما الكتب التي تذكر الأدلة، وتعتني بالخلاف، وتذكر خلاف الأئمة، فإنها تفيد طالب العلم كثيراً، فينبغي أن يُعتنى بها، وعلى رأسها كتب المتقدمين، وهكذا كتب الحديث في القمة وفي المنزلة العليا بعد كتاب الله، فيعتني بها بعد كتاب الله، فإن بعد كتاب الله كتب التفسير وكتب الحديث، فهي الأسس وهي الكتب التي تعتبر في القمة على بقية الكتب؛ ولكن كتب أهل العلم يُستفاد منها في تخريج الأدلة وبيانها في محلها، واستنباط الأحكام منها، والجمع بين ما تعارض منها مع ما ظاهره التعارض، وبيان صحيحها من سقيمها، إلى غير ذلك.
فطالب العلم يستفيد من هذه وهذه، ومن كتب الأولين والآخرين، ولا يحتقر زيداً أو عمراً ما دام من أهل السنة ومن أهل الحق، وممن يعنى بالدليل، فإنه قد يجد عنده ما لا يجد عند الآخر.
ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يحرص على الكتب التي تذكر المسائل الخلافية، وتذكر أدلتها؛ ليستفيد منها حسب طاقته، وحسب وسعه وإمكانه، والله المستعان.
الجواب: تقدم الجواب عن هذا.. على حسب نيتهم الصالحة، وعلى حسب رغبتهم في الخير، وعلى حسب نشاطهم في علم الشريعة يكون نصيبهم؛ لكن ليس المهندس والطبيب مثل عالم الشريعة، هذا عالم بالشريعة، وهذا عالم بشيء آخر، فالطبيب والمهندس والفلكي وأشباههم علومهم دنيوية، ليس لها نصيبها من العلم الشرعي إلا بقدر التفاتهم إلى الشرع، وعنايتهم بالشرع، وحرصهم عليه، فإذا اعتنوا بالشرع والتفتوا إليه كان لهم نصيبهم من علم الشرع والفضل في هذا والأجر، وإذا أعرضوا عن ذلك فهم كسائر علوم الدنيا.
الجواب: عدم الاستجابة لها أسباب.. قد يدعو الإنسان في آخر الليل، ويدعو بين الأذان والإقامة، وفي سجوده، وفي ساعة الجمعة؛ ولكن لا يستجاب له لأسباب بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، يقول عليه الصلاة والسلام: (ما من عبد يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تُعجل له دعوته في الدنيا، وإما أن تُدَّخر له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من الشر مثل ذلك، قالوا: يا رسول الله! إذاً نكثر، قال: الله أكثر!).
فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الدعوات قد يستجاب بعضُها معجلاً، وقد يؤجل بعضها، وقد يعوض عنه صاحب هذه الدعوة، ونحن نشاهد هذا، كما قال السائل، كلٌّ يشاهد هذا، يدعو بدعوات لا تحصل له، فلا يظن أن الله غافل عنها، وأنه يخلف الميعاد، لا. فهو الصادق في وعده سبحانه وتعالى، حيث قال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وكما في الحديث الصحيح، في حديث النزول يقول صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: هل من داعٍ فيستجاب له، هل من سائل فيُعطى سؤله، هل من مستغفر فيغفر له، هل من تائب فيُتاب عليه.)، هذا وعد من ربنا بالاستجابة؛ ولكنه قد يؤجلها، وقد يعطيه خيراً منها على حسب حكمته وعلمه سبحانه وتعالى.
وهذا النزول -وسائره من الصفات- نزول يليق بجلال الله، لا يعلم كيفيته إلا هو سبحانه وتعالى، عند أهل السنة والجماعة، وكذلك نقول في الاستواء، والغضب، والرضا، والمجيء يوم القيامة، وغير ذلك: كلها صفات تليق بالله سبحانه وتعالى، لا يساويه فيها خلقه، كما قال مالك رحمه الله، وربيعة ، وأم سلمة وغيرهم: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب. وهكذا يقال: النزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، وهكذا في الغضب، والرضا، والكراهة، والمحبة، والبغضاء، والسمع، والبصر، وغير ذلك، كلها صفات تليق بالله لا يشبهه سبحانه وتعالى فيها مخلوق، كما قال عزَّ وجلَّ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] .. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4].
وهكذا الدعوات، يُستجاب بعضُها ويُؤجل بعضُها، ويُمنع بعضُها ويُعطى من الخير شيء آخر، أو يدفع عنه من الشر مثل ذلك أو غير ذلك.
وقد تكون له معاصٍ وذنوب استحق بها المنع، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليُحرم الرزق بالذنب يصيبه)، فالإنسان قد يُحرم من الإجابة لأعمالٍ سيئة فعلها، أو ذنب فعله، قد تكون الإجابة حُجبت لأسباب أعمال السائل السيئة ومعاصيه، وقطيعته لرحمه، أو غير ذلك من الآفات، ولهذا قال في الحديث: (ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم).
فالحاصل أن الدعاء يُستجاب؛ ولكن الاستجابة على أقسام:
- تارة يستجاب استجابة معجلة.
- وتارة يؤجل ذلك المطلوب إلى الآخرة.
- وتارة يصرف عنه من الشر مثل ذلك بدلاً من إعطائه سؤله.
- وتارة يُمنع لأعماله السيئة، ولتقصيره في أمر الله، ولتعاطيه ما يمنع الإجابة من سيئات وأخطاء مشتركة.
ثم أيضاً هناك سبب آخر بيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم، وبيَّنه أهل العلم، وهو أنه قد يؤجل ويؤخر ليجتهد في العبادة، ويجتهد في الدعاء، ولعل الله يفتح له أبواباً من الخير في أسباب هذه الحاجة التي يلح فيها، فتكون حاله أصلح من حال الأولى، بسبب هذا اللَّجَأ إلى الله، والاجتهاد في الدعاء، والحرص على طلب الحاجة، فيفتح الله عليه الأبواب الكثيرة من الخير، ويزداد بذلك صلاح قلبه، وقوة إيمانه، ورغبته فيما عند الله، فتكون هذه الحاجة التي طلبها سبب خير كثير، وسبب هداية وصلاح، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (يُستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول: دعوت ودعوتُ فلم يستجب لي)، فيستحسن عند ذلك ألا يدع الدعاء، فينبغي ألا يمل، ولحديث: (إن الله يحب الملحين في الدعاء)، فينبغي أن يُلِحَّ في الدعاء، ويجتهد ولا ييأس، ويحسن الظن بربه، ويرجوه سبحانه أن يعجلها له إذا كان فيها خير، أو يدخرها له إن كان ذلك خيراً له، أو يعطيه خيراً منها إذا كان ذلك خيراً له، وربك أحكم وأعلم سبحانه وتعالى.
الجواب: ليس من شرط الداعية إلى الله والمعلم أن يكون كاملاً، بل ينبغي أن يُستفاد من طالب العلم، ومن المعلم الداعية إلى الله، وإن كان عنده نقص في أخلاقه وأعماله؛ لكن لا يمنع هذا من نصيحته وإرشاده إلى الخير بالكلام الطيب، والأسلوب الحسن، مثل: أن يكون متكاسلاً عن الصلاة في جماعة، فينصح، أو أن يكون مسبلاً ملابسه، فينصح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار)، ونهى عن الإسبال، وذمَّ المسبلين، وقال: (إياك والإسبال فإنه من المخيلة)، كذلك إذا كان يحلق لحيته أو يقصها، يُبَيَّن له ويُنصح ويقال له: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قصوا الشوارب وأعفوا اللحى ..) ، (جزوا الشوارب وأعفوا اللحى ..) (خالفوا المشركين .. ) (خالفوا المجوس) .. (قصوا الشوارب ووفروا اللحى، وخالفوا المشركين).. كلها أحاديث صحيحة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، كذلك إذا كان عنده تكاسل عن الأعمال الأخرى من الخير، أو عدم العناية بالدرس، أو ما أشبه ذلك، لا يمنع هذا من أخذ الفائدة منه، مع النصيحة.
والحاصل: أن العالم قد يكون عنده نقص وتساهل في بعض الأمور؛ سواءً كان مدرساً، أو داعية إلى الله عزَّ وجلَّ، أو قاضياً، أو غير ذلك، فينبغي في هذا المناصحة السرية اللينة الطيبة حتى يحصل المقصود، وحتى يكثر الخير ويقل الشر.
وهذا هو المطلوب من المؤمنين فيما بينهم، وهو التناصح: (الدين النصيحة).
الجواب: هذا قد قلناه مرة أن التعامل مع البنوك بفائدة من الربا الذي لا شك فيه، ولا يجوز التعامل معها بالربا بفائدة، قلَّت أو كثرت (10%) أو (5 %) أو (20%) أو (100%) لا فرق في ذلك، فإن الأحاديث الصحيحة واضحة في مثل هذا، والنقود الموجودة (العُمل الموجودة) هي مثل الذهب والفضة؛ لأنها هي عيون السلع، وهي ثمن المبيعات، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواءً بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)، فلا يباع دولار بدراهم سعودية، أو عملة مصرية، أو عراقية، أو غير ذلك، غالباً، بل يداً بيد، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (لا تبيعوا منها غائباً بناجز)، ولا يباع دولار بدولارين؛ لأن هذا ربا الفضل، ولا ريال بريالين، ولا جنيه بجنيهين، هذا ربا الفضل ، حتى لو كان يداً بيد، فإذا كان نسيئة صار أعظم في الإثم، صار ربا فضل وربا نسيئة جميعاً، وهكذا الودائع، لأنها قروض، يعطيه قرضاً ويسميها وديعة وهي قرض، يستعملها البنك ويستفيد منها، ويتصرف فيها، وهي قرض عليه، لازمة في ذمته، فإذا كانت هذه الوديعة بـ(10%) أو (5 %) فهذا هو عين الربا.
وقد عمل بعض الناس في هذا كتابة حاول فيها حل الربا إلا مسألة واحدة، وهي: إذا كان المدين فقيراً فأمهله الدائن بشرط الفائدة، فقال: هذا هو ربا الجاهلية!! وحاول في رسالته هذه حل الربا، وقد غلط كثيراً وأخطأ خطأً عظيماً، وأتى بمنكر من القول لا وجه له.
الجواب: كنت أفتي بهذا لمن استطاع، وأنه واجب على الدول الإسلامية، وعلى الأغنياء من المسلمين أن يساعدوا إخوانهم، وأن يدعموهم بالمال والنفوس؛ لأنهم محتاجون إلى ذلك، وقد ذكر العلماء أن الجهاد فرض كفاية؛ لكن إذا نزل بالمسلمين عدو ودهمهم في بلادهم صار فرضاً عينياً على المدهومين وعلى من حولهم حتى يساعدوهم، فإذا لم يكفِ مَن حولَهم ساعدهم مَن حولَهم من بعيد، وهكذا حتى تعم المسألة جميع المسلمين؛ للدفع عن إخوانهم وبلادهم.
وهذا منطبق على إخواننا المجاهدين في الأفغان، ولكني أقيد أنه لا بد من الاستطاعة، ولا بد من إذن الوالدين، إذا كان هناك والدان أو أحدهما، لقوله صلى الله عليه وسلم: (ارجع فاستأذنهما)، لما استأذن بعض الصحابة للجهاد قال له: (أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد)، ارجع إلى والديك وبرهما.
وفي الأحاديث الصحيحة يقول صلى الله عليه وسلم لما سئل: (أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها، قيل: ثُم أي؟ قال: بر الوالدين، قيل: ثُم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) فقدم البر.
وأنا أفتي بأن الواجب على الولد أن يستأذن والديه، فإن أذنا له جاهد.
وبعض الإخوان من أهل العلم المعاصرين يرى أن الأصل على حاله، وأنه فرض كفاية فقط، وأن من حولهم يكفون من الباكستانيين وغيرهم، وفي هذا بعض النظر والتأمل.
والأقرب فيما يظهر لي أن الواجب على المسلمين جميعاً أن يساعدوهم، وأنه لا يخص من حولهم؛ لأن الحديث لم يخص، فهم الآن مظلومون، وقد قتل منهم جمع غفير، حتى ذكروا أن المقتول ما بين شيخ وطفل وامرأة ومجاهد يزيد على مليون، هذا أمر عظيم، وقد أُخرجوا من ديارهم، ولجئوا إلى باكستان وغيرها، فإذا كان لا يجب على إخوانهم فمتى يجب؟! هذه داهية عظيمة، وشر عظيم، أصيب به المسلمون في الأفغان؛ فوجب على إخوانهم أن يجاهدوا معهم، وأن يدعموهم بالمال والنفس حسب الطاقة والإمكان لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].
فالأقرب وجوب الجهاد معهم ومساعدتهم، وهذا هو الأقرب والأظهر، حسب طاقة المسلمين فيما بينهم.
الجواب: لا شك أن هذا فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، وطلب منه النساء ذلك وخصص لهن وقتاً واجتمع بهن، وهكذا العلماء بحمد الله، إذا طُلِب منهم ذلك يخصصون، وأنا قد جعلت هذا مرات كثيرة مع جمعيات نسائية هنا، وفي مكة ، وفي الطائف ، وفي جدة كذلك، وليس عندي مانع من التخصيص في أي مكان، وهكذا إخواني من أهل العلم ليس عندهم مانع، لا في الرياض ولا في غيرها متى طُلب منهم ذلك، وهنا بحمد الله نور على الدرب فتح الله به خيراً كثيراً، فبإمكان المرأة أن تسأل عن طريق هذا البرنامج، تكتب إلى البرنامج، فيأتيها جواب البرنامج، في كل ليلة مرتان في نداء الإسلام، وفي الساعة التاسعة والنصف في إذاعة القرآن الجواب عن الأسئلة، هذا بحمد الله فيه خير كثير للنساء والرجال جميعاً، وهكذا الكتابة إلى دار الإفتاء، إذا لم تكن معدة للإجابة عن الأسئلة، وهكذا القائمون ببرنامج نور على الدرب لو كُتب إليهم، وهكذا غيرهم من العلماء إذا كُتب إليهم حصلت الفائدة أيضاً.
ولكن مع هذا ليس عندي مانع، وليس عند إخواننا من أهل العلم فيما أعتقد مانع، إذا طُلب منهم ذلك، هذا بحمد الله حق، وهذا واجب للجميع، فإن العلم ليس للرجال وحدهم، العلم للرجال والنساء جميعاً، فعلى النساء طلب العلم، وعلى الرجال طلب العلم، وهكذا حضور النساء في حلقات العلم خلف الرجال متسترات متحجبات، يسمعن العلم ويستفدنه، لا شك أن هذا واقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، بشرط الحجاب وعدم التبرج.
فالمقصود أن إجابة السائلات، وتخصيص وقت لهن لا مانع منه أبداً، لا عندي ولا عند غيري من إخواني أهل العلم، لا في الرياض ولا في مكة ولا في غيرهما.
الجواب: نعم، لَها أن تَخطب في النساء، وتذكرهن، وتبيِّن لهن ما يَجب حسب علمها؛ لكن ليس لها أن تدخل فيما لا تعلم.
وقد سِمعتم بالمحاضرة آنفاً: خطر القول على الله بغير علم، فإذا كان عندها علم من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وحاضرت بذلك أخواتِها، فهذا خير عظيم، ينفع الله به أخواتها، وهذا من الدعوة إلى الله، ومن تعليم الناس العلم.
الجواب: لا أعلم بأساً في ذلك، وليس داخلاً في قوله: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ [الأحزاب:32]، هذا من باب التعلم، تقرأ الآيات، وتقرأ الحديث، وتقرأ القصة، وتقرأ الغزوة، وغير ذلك، هذا لا بأس به؛ لأن هذا من باب التعلم، وليس من باب الخضوع بالقول، والقرآن يحتاج إلى ترتيل، ويحتاج إلى تحسين صوت، فلا مانع من ذلك بقراءتها على الأستاذ، كما تقرأ على المدرسة، وإذا تيسر أن تكون القراءة على مدرسات فهذا أكمل وأفضل.
الجواب: الذي يظهر من الشرع المطهر أنه ليس لها التخصص فيما ليس من شأنها، بل هو من شأن الرجال، فلها التخصص فيما ينفعها وينفع مجتمعها، في سائر الدين، كالتخصص في التفسير، وفي الحديث، وفي الفقه، وفي السيرة النبوية، وفي التاريخ الإسلامي، وفي قواعد العربية، وما أشبه ذلك مما ينفع مجتمعها، أما التخصص في الكيمياء، أو في الفلك، أو في الجغرافيا، أو في الهندسة، أو في العمارة، أو في التجارة، أو ما أشبه ذلك، فهذا يخرجها عمَّا هي فيه، وما هو مطلوب منها ، وهذا قد كفيت إياه والحمد الله من جهة الرجال.
فينبغي لها أن تقتصر على ما ينفعها وينفع مجتمعها، وأن تَدَعَ الشيء الآخر للرجال، كما أن الرجال يَدَعُون لها ما قد يخصها من مسائل الولادة، وما يتعلق بالنساء في الطب، يخرجن طبيبات للنساء، لهن خصوصية، والطبيب للرجال كذلك، إذا تيسَّر وأمكن أن يُخَصَّ للنساء طبيبات وللرجال أطباء، فهذا هو الواجب، وهذا هو الطريق السليم.
فالحاصل أن المرأة يكون لها تخصصها اللائق بها، ويكون للرجل التخصص اللائق به، والرجل معلوماته أوسع، وواجبه أكثر، فإذا خُصِّصت المرأة لطب النساء، والتعلق بعوراتهن، كان هذا أكمل وأولى، ومتى دعت الضرورة إلى أن تشارك الرجل أو تشارك المرأة والعكس هذا شيء آخر من باب الضرورات، وأما من جهة أمور الدين فينبغي لها أن تقتصر على ما يتعلق بدينها، وما يعين على ذلك، وأما الأمور الأخرى من هندسة، وتجارة، وعمارة، وفلك، وجغرافيا، وأشباه ذلك، فهذا للرجال، وهذا هو الأظهر من خلال الأدلة الشرعية.
- ما رأيكم في نشر وتداول وبيع الشريط الإسلامي المشتمل على محاضرات وندوات؟
- وما رأيكم كذلك في النشيد الإسلامي الذي يُتداول بين الشباب لحثهم على الفضيلة واجتذابهم إلى مكارم الأخلاق، وسامي معاليها؟
الجواب: الشريط الإسلامي من نعم الله العظيمة الآن، الذي يحفظ للناس المحاضرات والندوات الطيبة والفوائد العظيمة، والشريط الإسلامي جدير بالعناية والحفظ والتداول.
أما الأناشيد فمحلها محل تفصيل، إذا كانت أناشيد إسلامية سليمة، ومقصودها الحث على الخير، والنشاط في العلم، والتعاون مع الدولة فيما ينفع المسلمين، وحماية الأوطان، وصيانتها مما يضرها، فهذه لا بأس بها، أما إن كان فيها مما يخالف الشرع أو في غيرها من الأشرطة فلا.
الجواب: هذه من البلاوي العظيمة، والشرٌّ المستطير، والواجب عدم استعمال الكافرات، لا للخدمة ولا لغير الخدمة، لا سائق، ولا عامل، ولا طبيب، إلا عند الضرورة القصوى، وهي للدولة خاصة، الضرورة القصوى التي لا يوجد من يقوم بها من المسلمين، كما استخدم النبي صلى الله عليه وسلم اليهود في خيبر للضرورة، ثم أجلاهم عمر ونفاهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أخرجوا المشركين من هذه الجزيرة ).
فاستخدام الكفرة شره عظيم، وعواقبه وخيمة، وإذا كان في البيوت وتربية الأطفال كان أشدَّ شراً.
فالذي أنصح به: الحذر، وهو الواجب، ولا سيما في هذه الجزيرة العربية ، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب ، حتى لا أجعل إلا مسلماً)، وأوصى في آخر حياته صلى الله عليه وسلم بإخراج المشركين من هذه الجزيرة .
فالواجب على المسلمين الحذر منهم، وألا يستقدموهم.
وإذا كان ولا بد، فلا بد أن يكون من طريق الدولة، بعد مراعاة الضرورة القصوى، فيما يحتاجه المسلمون من طبيب ومهندس ونحو ذلك، بقدر الضرورة القصوى.
الجواب: ناصر الدين الألباني من خواص إخواننا المعروفين، قد عرفتُه قديماً، وهو من خيرة العلماء، ومن أصحاب العقيدة الطيبة، وممن فرَّغ وقته في الحديث الشريف، وخدمة السنة، فهو جدير بالاحترام والعناية الشرعية، وهو جدير بأن يُنتفع بكتبه ويُستفاد منها، وأنا ممن يستفيد منها، وقد طالعتُ كثيراً من كتبه، فهي كتب مفيدة، وهو أخٌ صالح، وصاحب سنة، وهو ليس معصوماً، مثل غيره من العلماء، قد يصحِّح بعض الأحاديث ويخطئ، وقد يضعِّف ويخطئ؛ لكن في الجملة يغلب على عمله في التصحيح والتضعيف هو الطيب والاستقامة، وهو ولله الحمد من أهل السنة والجماعة ، رزقنا الله وإياه الاستقامة وحسن الخاتمة، وكثّر من المسلمين ممن يشاكله في العلم والعمل، والدعوة إلى الخير، والله المستعان.
وكذلك لا يُنسى أخونا شعيب ، وأخونا عبد القادر الأرناؤوط، وعبد العزيز بن رباح، فكل له جهوده في السنة، وهكذا غيرهم مِمَّن خَدَمَ السنة مِن إخواننا، ومَن خَدَمَ العلم الديني من أبناء المسلمين، وانتفعوا به، نسأل الله لهم الهدى جميعاً. ولكن من نذر نفسه لخدمة السنة فله مزيد الفضل على من أعطاها بعض وقته.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , أخلاق العلماء وأثرها في الأمة للشيخ : عبد العزيز بن باز
https://audio.islamweb.net