إسلام ويب

إن للرزق الحلال تأثيراً عظيماً على القلب؛ ولذلك حرص السلف على طلبه واجتناب المحرم منه، وقد جعل الله تعالى من أسباب جلب الرزق الحلال: التقوى وصلة الرحم، وكثرة الاستغفار والصلاة، والمتابعة بين الحج والعمرة والزواج، كما منع الله سبحانه وتعالى كل معاملة تفضي إلى أكل المال الحرام، مثل التعامل بالربا؛ لما له من تأثير على القلب والجسد.

أهمية الرزق الحلال

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا راد لقضائه سبحانه وتعالى, فهو سبحانه وتعالى المنعم المتفضل, إن أراد لعبده الهداية هداه وبين له سبل الخيرات، وإن أراد لعبده الضلالة والغواية أغواه بقدرته سبحانه وتعالى ومشيئته, وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30], ومع هذا فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل للعبد إرادة قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ الشمس:9-10]. أما بعد:

فقد بين أهل العلم أن أعظم اهتمام يجب على المسلم أن يهتم به هو اهتمامه بقلبه, والقلب وإن تأثر بما يتأثر به, إلا أن تأثره بالمال الحرام كبير، ولهذا قيل للإمام أحمد رحمه الله: يا أبا عبد الله ، ما علاج مرض القلب؟ قال: الكسب الحلال.

وقيل لإمام من أئمة الإسلام: اكتب لنا شيئاً في الزهد والورع، فكتب كتاب البيوع، فقالوا: يرحمك الله. سألناك عن الزهد والورع، وكتبت لنا في الكسب والبيع؟! فقال رحمه الله: إن من طاب أكله ورزق الرزق الحلال فقد تورع حقاً. وعلى هذا: فالورع والزهد ليس كلمات تقال، أو تصرفات تفعل، أو سلوكيات تقتدى، والقلب خاو وفاض من الأكل الطيب.

وكثيرون هم الذين يجاهدون أنفسهم على صيام النهار وقيام الليل, وكثيرون هم الذين يجاهدون أنفسهم على أن يتصدقوا بأموالهم، غير أننا نرى هؤلاء ربما لم يفتشوا عن أرزاقهم، ولم يبحثوا عن أموالهم، ولم يبحثوا عن مدخراتهم, فتش عن جيبك فلربما كان فيه بعض البطاقات الائتمانية المحرمة التي فيها شرط ربوي، فقد تقوم بين يدي الله تسأله الدعاء والمغفرة فلا يستجيب لك.

من منا لم تنله هذه الدنيا بلأوائها ونصبها وكدحها ومع ذلك يريد النجاة، ويريد أن تزول عنه هذه الهموم؟ بيد أنه ربما تضرع وأخبت وانكسر ثم لا يجد باباً مفتوحاً؛ لأنه قد تعامل بمعاملة ربوية، ( وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه )، والعياذ بالله.

صور من حياة السلف في طلب الرزق الحلال والابتعاد عن الحرام

ولقد كان سلف هذه الأمة من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم يخافون أشد الخوف من أكل المال الحرام, وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه: ( يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء أمن الحلال أخذ أم من الحرام ) رواه البخاري ، وهذا هو الواقع مع الأسف الشديد, بعض الناس يقول: أنا أريد أن أحصل على مائة ألف، أو مليونٍ، أو مبلغٍ من المال، أياً كان طريقه من الحرام أم من الحلال, وربما استسهل العقوبة، وما علم أن الله شديد العقاب.

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن كنا لنترك تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام.

حتى إن الواحد منهم لو أخذ شيئاً محرماً بشبهة أو جهل، أو اعتقاد خاطئ، أو اجتهاد لا يبرر لنفسه أو يسوغ لنفسه الوقوع فيه, مع أن أهل العلم نصوا رحمهم الله: أن كل من تعامل بمعاملة محرمة باجتهاد أو تقليد أو تأويل فما أخذه من المال فهو حلال عليه، لقوله تعالى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ [البقرة:275], كما حقق ذلك أبو العباس ابن تيمية رحمه الله.

لكنهم -أعني سلف هذه الأمة- لا يأخذون بالرخص, فقد جاء عند البخاري أن غلاماً لـأبي بكر الصديق , وهذا الصحابي الإمام لم ينل الصديقية لأجل فعل فعله فقط، بل لأجل شيء وقر في القلب وصدقه العمل, فقد جاء الغلام بطعام لـأبي بكر فأكل أبو بكر ، حتى إذا استقر شيء مما أكله في بطنه قال الغلام: يا أبا بكر ! لم تسألني عن هذا الشيء مم هو؟ فتوقف أبو بكر . فقال الغلام: كنت قد تكهنت لإنسان في الجاهلية، فلقيني في بعض أزقة المدينة فأعطاني الذي ترى، قال: فأدخل أبو بكر رضي الله عنه أصبعه في فيه فقال الغلام: مه مه أبا بكر ؟ حتى خرج كل ما أكل، ثم قال: والله لو لم تخرج إلا بخروج روحي لأخرجتها, سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: ( كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به ) والله المستعان, لقد كان جائزاً لـأبي بكر رضي الله عنه بعد ما استقر الطعام في بطنه أن يتركه، وأن يسوغ لنفسه بعض الأدلة ويقول: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195], ولن يجد أبو بكر صعوبة في تبرير عمله، ولكنه رضي الله عنه أحب أن يأخذ بالعزائم, وكم نحن بحاجة إلى مثل هذه النفس الأبية, مما يدل دلالة صريحة أن الجسد يتأثر بأكل المال الحرام، بل إن الجسد يتأثر بطبائع ما يأكله.

ولهذا قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: إن من حكم نهي الشارع عن أكل ما له ناب من السباع: أن السباع فيها من هبوب الوحوش وشياطين الجن ما لا يخفى، فنهى العباد عن الأكل منها خشية التأثر بطبائعها, وبين عليه الصلاة والسلام أن الإبل خلقت من الجن, فقال: ( أرأيتم إلى نفورها إذا نفرت؟ ) وأمر بالوضوء منها؛ لأن الغضب من الشيطان، والجان يطفأ بالماء, وهذا من حكم التشريع حينما أمر الشارع بالوضوء من لحم الجزور.

وقد كانت المرأة من سلف هذه الأمة إذا خرج زوجها لطلب الرزق تأخذ بثوبه، وتقول له: يا عبد الله، اتق الله فينا، فوالله إنا لنصبر على الجوع، ولا نصبر على النار.

ولا يوجد مِن نساء اليوم من تصنع هذا مع زوجها؛ لأن القضية عندهن أن يأتي الزوج بكل الكماليات التي تريدها الزوجة، حتى إن بعض الزوجات إذا قالت لزوجها: أحضر لي شيئاً، فقال: ما عندي شيء، قالت: ابحث, تدين, اصنع, المهم أن أعيش مثل فلانة، وأن أتكيف مثل علانة، وربما اضطر الزوج إلى بعض التصرفات التي فيها بعض الشبه جراء ذلك.

ولأجل ذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما يحصل في الوقوع في الحرام من الأذية للملائكة وللناس جميعاً، فقد قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : ( أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها )؛ وذلك لأن الغالب على الباعة أنهم يتورعون من الحلف الكاذب، ولا يتورعون من الأقوال الكاذبة التي يخادعون بها الناس.

ولهذا جاء عند الإمام أحمد وأبي داود والنسائي و ابن ماجه و الترمذي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على التجار, -يقول الراوي: وكنا يومئذ نسمى بالسماسرة- فقال: يا معشر التجار! قال: فالتفتنا فقلنا: لبيك يا رسول الله! قال: إن التجار هم الفجار، إلا من اتقى وأصلح وبر ). وأخبر عليه الصلاة والسلام أن التاجر إذا تخلى عن هذه الصفة -أي: صفة الفجور، وطبق سنة نبيه صلى الله عليه وسلم- فإن له أجراً عظيماً، قال عليه الصلاة والسلام: ( إن التاجر الأمين الصدوق مع الأنبياء يوم القيامة ), أو كما قال صلى الله عليه وسلم, وهذا لعظم فضل الأمانة، وعدم أكل المال الحرام.

ويقول عبد الله بن المبارك رحمه الله: لئن أتورع عن درهم فيه شبهة أحب إلي من أن أتصدق بمائة ألف ثم مائة ألف ثم مائة ألف.

واليوم يقول بعضهم: أدخل في الشركات المشبوهة التي فيها ربا وأتطهر، وما علم أن مثل هذا التطهر لا يمكن أن يتم؛ لأن الشركة ما زالت مستمرة في الإثم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( الإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس، وإن أفتاك الناس وأفتوك ).

ولو سألك إمام من أئمة الإسلام: يا فلان! هل اكتتبت في شركة فيها ربا وأنت تكتتب؟ لقلت: لا, ولم تحب أن يراك في هذا الأمر؛ لأن الإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس, وعلى هذا فبدلاً من التصدق والتخلص من الأموال احرص على أن لا تأكل إلا طيباً، ولا يدخل جيبك إلا حلال.

والمشكلة أن كثيراً من الناس لا يتورعون, فكثيرون هم الذين يفتحون محفظة استثمارية، أو حساباً جارياً لدى بعض البنوك، وثمة شروط لأجل فتح هذه المحفظة، أو لأجل فتح حساب جارٍ، محرمة، ويقول المسكين لموظف البنك: أشّر على المكان الذي ترى أن أوقع فيه، ولا يجد لنفسه مندوحةً أو مسوغاً أن يقرأ الشروط والعقود، وهذا مع الأسف كثير, ثم يأتي ويقول: يا شيخ! ما حكم هذا العقد؟ والأصل أن يسأل قبل أن يبرم العقد.

فنقول: لماذا لم تكلف نفسك أن تصور مثل هذا العقد لتعطيه بعض طلبة العلم، أو بعض العلماء الذين يعرفون مثل هذه المعاملات ليروك الأمر على حقيقته وعلى بصيرته؟

فنلاحظ أن الناس ربما تساهلوا في مثل هذه الأمور، بيد أنهم إذا أرادوا أن يشتروا شيئاً لبيوتهم، أو يبرموا عقوداً لفللهم وقصورهم احتاطوا وفكروا وقدروا ثم نظروا ثم دخلوا في مثل هذه العقود, أما بعض المعاملات التي ربما يكون فيها شيء من الحرام فهو لا يبحث عن حكمها، إنما يبحث عن النسبة قلت أم كثرت, وهل هذا البنك الفلاني نسبته كثيرة أم قليلة, لكنه لا ينظر إلى نفس المعاملة، وهذا يدل على أن ثمة خللاً يحتاج منا إلى وقفة تبصر وروية.

تأثير الرزق الحرام على إجابة الدعاء

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : ( أن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وأن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172] ).

ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حالةً فيها من مسوغات إجابة الدعاء, ما لو وجدت حالة منها في شخص لكان حرياً أن يستجاب له، أما هذا فلم يجمع واحدة ولا اثنتين ولا ثلاثاً ولا أربعاً، بل أكثر من ذلك، ومع ذلك لم يستجب له, قال: ( ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث، أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام, ومشربه حرام, وملبسه حرام, وغذي بالحرام, فأنى يستجاب لذلك؟ ), فذكر (الرجل يطيل السفر) مما يدل على أن المسافر يكون في حال انكسار وضعف، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كما عند أهل السنن: ( أن دعوة المسافر لا ترد ), فهذا قد حقق موجباً من موجبات إجابة الدعاء، ولم يسافر فقط، بل كان كثير السفر، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه (أشعث أغبر)، مما يدل على أن التواضع والانكسار والإخبات بين يدي الله من أسباب الإجابة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا فيه من الدعاء )؛ لأنها حالة فيها نوع من الانكسار والافتقار بين يدي الله. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( رب رجل ذي طمرين مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره ), فالتواضع من البذاذة والبذاذة من الإيمان, ومع ذلك حقق أمراً أكثر من ذلك, (يمد يديه إلى السماء)، فإن رفع اليدين من الأسباب الموجبة لإجابة الدعاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله ليستحي من عبده أن يمد يديه، فيردهما صفراً خائبتين ) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى.

وقد ذكر السيوطي أن رفع اليدين في الدعاء مما تواترت به الأحاديث، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء لينال سرعة الإجابة.

ولم يكتف بذلك بل زاد أمراً رابعاً فكان يقول: (يا رب.. يا رب!) وقد ذكر الإمام مالك بن أنس وسفيان الثوري أن من الأسباب الجالبة لإجابة الله سبحانه وتعالى دعاء العبد: أن يكثر من قول: يا رب! ولو تأملت دعاء الأنبياء في القرآن ستجد أن أكثره فيه قول: ربنا! ربي! يا رب! فدل ذلك على أن ذكرها من أسباب الإجابة, فهذه الأمور كلها توفرت في هذا العبد المسكين، المنكسر المنطرح بين يدي الله, لكن ثمة أمور منعته من الإجابة: (مطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له), والله إنك لتعجب حينما ترى رجلاً قد أخذه الشيب، وعلاه الرهق والتعب والكلفة من هذه السنين التي تحملها، ثم يدخل إلى بنك ربوي ليبرم صفقة ربوية، وما علم المسكين أنها ربما تمنعه من إجابة الدعاء، أو ربما ينال بسببها نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى [الليل:14-15]، والعياذ بالله.

المال الحرام سبب للعذاب

وقد بين الله سبحانه وتعالى في كتابه أن من أكل مالاً حراماً فإنه سوف يعذب بطنه يوم القيامة، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10], وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من حفظ فمه عن أكل الحرام فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ضمن له الجنة، فقال: ( من يضمن لي ما بين لحييه، وما بين فخذيه أضمن له الجنة ), أي: فلا يأكل إلا حلالاً، ولا يشرب إلا حلالاً، وكلما تورع المرء عن ذلك فهذا دليل على صدق اللجأ إلى الله، وصحة الاستقامة، وعنوان الإيمان والتقوى.

الأسباب الجالبة للرزق

وثمة أسباب جالبة للرزق الحلال, لعلي أذكر بعض المعاملات التي يتعامل الناس بها، وربما ظنوها حلالاً وهي غير ذلك, وكيف يتخلصون منها.

أما الأسباب الجالبة للرزق الحلال:

تقوى الله تعالى والإيمان به

فأولها: تقوى الله سبحانه وتعالى والإيمان به.

إن تقوى الله معناها: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثوابه وتخاف عقابه، تفعل أوامره، وتجتنب نواهيه، ولهذا قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3], قال ابن كثير رحمه الله: ومن يتق الله في فعل ما أمره به، وترك ما نهاه عنه، يجعل الله له من أمره مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب, وهذا أمر واقع, كما قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]، وبركات السماء: هي المطر وهو أعظمها, وبركات الأرض: هي النبات والثمار، والعقار والنفط والكنز والذهب والفضة, وهذه لفتة يمكن أن يستدل بها على أن من أعظم الكسب كسب المسلم في العقار، لقوله تعالى: بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96], والعقار أرض، فدل ذلك على أن العقار فيه بركة، وقد جاء في بعض الآثار: ( إن الرزق تسعة أعشاره في العقار ).

وينبغي للمؤمن أن يتقي الله سبحانه وتعالى، فلا يتعامل إلا بالحلال، وأن يؤمن بالله سبحانه وتعالى، وأن يكون إيمانه بأن الله كما قسم الأرزاق، وقسم الخلائق، وقدر الأقوات، فإن ( كل نفس لن تموت حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ).

كثرة الاستغفار

ثانيها: كثرة الاستغفار, فقد جاء رجل إلى الحسن البصري فقال: يا أبا سعيد لم تحمل امرأتي! فقال له: أكثر من الاستغفار, وجاءه آخر يشكو الفاقة والفقر, فقال له: أكثر من الاستغفار, وجاءه آخر يطلب البنين, فقال: أكثر من الاستغفار, فقال له رجل: سألك فلان فقلت: أكثر من الاستغفار، وسألك آخر عن المال. فقلت له: أكثر من الاستغفار، وسألك ثالث عن الولد فقلت له: أكثر من الاستغفار, فقال الحسن : اقرءوا إن شئتم قول الله تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12].

والاستغفار عظيم في تفريج الكربات، وفي تنفيسها، فإن الله سبحانه وتعالى ما جعل كربة إلا وجعل لها تنفيساً, وأعظم تنفيس للكربات هو كثرة الاستغفار, فلازموا الاستغفار، فإن الله سبحانه وتعالى سوف يجعل لمن لزم الاستغفار من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ويرزقه سبحانه تعالى من حيث لا يحتسب.

كثرة الصلاة

كثرة الصلاة, إما كثرة الصلاة بركوعها وسجودها، وإما كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم, أما عن كثرة الصلاة بركوعها وسجودها فقد روى الإمام أحمد من حديث بلال بن رباح ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه شيء فزع إلى الصلاة ), وقال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132], قال أهل العلم: إن الصلاة والاصطبار عليها سبب من أسباب كسب الرزق الحلال وجلبه.

وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى أبو داود و الترمذي من حديث أبي أيوب أنه قال: ( يا رسول الله! كم أجعل لك من صلاتي؟ ) يعني: من دعائي، كما أخبر بذلك وفسره كثير من أهل العلم منهم أبو العباس ابن تيمية رحمه الله و ابن القيم رحمة الله تعالى على الجميع, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما شئت، وإن زدت فهو أفضل, قال: أجعل لك ربعها, قال: ما شئت، وإن زدت فهو أفضل, قال: ثلثها, قال: ما شئت، وإن زدت فهو أفضل, قال: نصفها, قال: ما شئت، وإن زدت فهو أفضل, قال: أجعل لك صلاتي كلها ), يعني: أجعل لك دعائي كله فلا أدعو لنفسي وإنما أدعو لك أنت يا رسول الله! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذاً يغفر ذنبك، وتكفى همك ), وأعظم هم هو هم الرزق, مع أن الله يقول: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6], ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ), فيعطيه الله سبحانه وتعالى بكثرة صلاته راحة وطمأنينة وقناعة ( قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه ), وهذه القناعة لن ينالها إلا من اتقى الله، وآمن به، وأكثر الاستغفار، وأكثر الصلاة, وهذا أعظمها وقد ورد في السنن: ( من جعل الآخرة همه، غفر الله له ذنبه، وكفاه همه، وأتته الدنيا وهي راغمة ) أخرجه ابن ماجه من حديث ثوبان وسنده لا بأس به.

صلة الأرحام

رابعها: صلة الأرحام, وأعظم صلة هي صلة الوالدين، والأولاد، والإخوة، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك ), وروى أبو هريرة بسند جيد (أن رجلاً قال: يا رسول الله! عندي دينار, قال: أنفقه على والديك, قال: عندي دينار آخر، قال: أنفقه على ولدك. قال: عندي دينار آخر, قال: أنفقه على زوجك. قال: عندي دينار آخر, قال: أنفقه على غلامك. قال: عندي دينار آخر, قال: أنت أبصر به).

فصلة الرحم من الأسباب الجالبة للرزق الحلال, قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه من حديث أنس : ( من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه ), وأعظم صلة الرحم هي البشاشة، والندى، والمعروف، وصلتهم بالمال تستديم بها منهم ذكراً وثناءً عاطراً لك إلى يوم الدين.

ومع الأسف الشديد فإن بعض الناس إذا ما رزقه الله مالاً لا يعطي أقاربه منه مخافة العين، زعم, وربما كان عنده زكاة كثيرة، وعنده أقارب محتاجون، وربما مدوا أيديهم للناس ومع ذلك لا يعطيهم، يعطي البعيد ويترك القريب، وما علم أن صلته لأقربائه فيها أجران: أجر الصدقة، وأجر القرابة، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: ( أن ميمونة كانت لها أمة فأعتقتها ), ومع أن الشارع يحث على عتق الرقاب, فإنها لما أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ( لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك ), وقال عليه الصلاة والسلام: ( الصدقة على القربى فيها أجران. أجر الصدقة، وأجر القرابة ).

ومن المعلوم أن العبد إذا وصل رحمه فإنه يرزق بركة في ماله، والبركة قسمان كما حقق ذلك أهل العلم كـالشوكاني و أبي العباس ابن تيمية وغيرهما ممن شرح هذا الحديث، قالوا: البركة الأولى: البركة الحسية, فإن العبد إذا وصل رحمه بماله وبشاشته، وصلته واتصاله وقرابته فإن الله يرزقه زيادة في المال لقوله صلى الله عليه وسلم: ( يبسط له في رزقه ).

وقد سمعت من بعض التجار الأثرياء الذين يشار إليهم بالبنان في هذا البلد الطيب المبارك، وهو يخبر أن أعظم سبب لثرائه بعد الإيمان بالله والأمانة هو: الصدق وصلة الأرحام، وأخبرني بعض الإخوة -وكان باراً بوالدته- فقال: والله إنني لا أستطيع أن أحسب أو أن أقدر كم هي الثروات التي دخلت حسابي؛ بسبب بري.

وهذا أمر مجرب معلوم، وإذا أردت أن تعلم فبر بوالديك، فـ( الوالد أوسط أبواب الجنة ).

وبعض الناس ربما اشتكى والده عند المحاكم, مع الأسف الشديد, وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما روى أهل السنن فقال: ( يا رسول الله! إن أبي يأخذ مالي, فقال له: أنت ومالك لأبيك ), وقال عليه الصلاة والسلام: ( إن خير ما أكلتم من كسبكم, وإن أولادكم من كسبكم ), فدل ذلك على أن كسب الولد من أعظم الكسب، فينبغي للابن وينبغي للبنت إذا أخذت راتبها أن تطعم والدتها من هذا الراتب، عله أن يبارك لها فيه، وعليها أن تحسس أمها أنها معها، وإذا توظف الإنسان في وظيفة فعليه أن يعطي أمه من هذا الراتب وأخواته ووالده، وأن يتكفل بشيء من واجبات المنزل التي أصبحت تثقل كاهل رب الأسرة, فيتعاون الأبناء مع آبائهم وأمهاتهم, وإذا جاء من سفر أتى بما تشتهيه أمه وتتطلع إليه نفسها، فيقدمه بنفس راضية، ومحيا مستبشر؛ فإن ذلك -والله- من أعظم أسباب الرزق, وكم هي الغبطة والفرحة التي ينالها المرء حينما تستقبل أمه القبلة، وترفع يدها إلى السماء تسأل الله أن يرزق ولدها الرزق الحلال.

وأذكر أن بعض الإخوة في السابق كانوا يعيشون على فتات من الدنيا، وكان بيعهم وشراؤهم في صغار الأشياء, فهذا رجل كان باراً بأمه، وكان يستدين لحاجة منزله، وحاجة أمه، حتى كثر الدين عليه، ولم يكن ذا عمل كبير، بل كان يجمع سعف النخل ويبيعه على الناس، فلما أكثر أصحاب الديون من طرق الباب عليه، كان يقول لهم: هونوا عليكم لا أريد أن تسمع أمي, فدخلت عليه أمه مرة وهو مهموم مغموم فقالت له: يا بني! ما شأنك؟ قال: لا شيء يا أماه! لا يريد أن يعكر صفوها, فقالت: عزمت عليك لتخبرني, فلما ألحت عليه قال: عليّ ألفا ريال، وكان الريال في ذلك الوقت القليل هم الذين يحصلون عليه، بل لقد كان بعض الناس يعملون عند بعض الأسر بطعامهم وشرابهم, قالت: ألفان؟ قال: يا أمي! هوني عليك، والله إن الله عز وجل سوف يفك أزمتنا, فقالت الأم: والله -يا بني- لن يتركك الله وقد بررت بأمك، والله ما أعلم عليك -يا بني- إلا خيراً, اذهب -يا بني- إلى السوق, ثم صعدت الأم إلى هضبة خارج منزلها، واستقبلت القبلة وأخذت تدعو له، وانطلق الرجل بسعفه إلى السوق وبدأ ببيعه، فجاءه رجل ممن يعمل مع بعض التجار وبعض الأمراء، وكان يريد سعفاً كثيراً؛ لأنهم يريدون أن يحيطوا على مزرعة التاجر، فقال له: أتبيعني هذا السعف؟ قال: نعم, قال: لكني أريد كثيراً, قال: عندي أكثر, كم تريد؟ قال: أريد حمل كذا سيارة, بكم؟ قال: حد, بالعبارة واللهجة التي يعرفها العامة, قال: أتبيعني بألفين؟ فضحك وبكى، ثم التفت إلى أمه وهي تدعو فنادى بأعلى صوته: يا أماه! خلاص خلاص، استجاب الله دعاءك, وهذا يدل على أن بر الوالدين من أعظم الأسباب الجالبة للرزق الحلال.

المتابعة بين الحج والعمرة

المتابعة بين الحج والعمرة, فقد قال صلى الله عليه وسلم كما روى الإمام أحمد رحمه الله و الترمذي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: ( تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد ).

الزواج

سادسها: الزواج، فالزواج من الأسباب الجالبة للرزق، وكلما كان الزواج مؤنته يسيرة كان مباركاً، وقد قال الله تعالى: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32], قال ابن مسعود : ألا أريكم التجارة الرابحة؟ قالوا: نعم, قال: الزواج, قالوا: رحمك الله يا أبا عبد الرحمن الزواج يحتاج إلى مال فكيف يكون الزواج فيه مال؟ قال: اقرءوا إن شئتم إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32].

فهذه أسباب جالبة للرزق الحلال, ولا شك أن الرزق الحلال كثير في هذا الزمن وفي غيره، ومن زعم أن الرزق الحلال قليل وقد فقد فقد أبعد النجعة، وخالف شرع الله, فإن الله سبحانه وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51], وقال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29], وبين أهل العلم أن الأصل في الأشياء الحل، والحلال كثير، ولله الحمد.

المال الحرام وبعض أحكامه

وقد أخبر أبو العباس ابن تيمية رحمه الله أن من تورع عن البيع والشراء بحجة أن كل التعاملات محرمة: فإنه من أهل الأهواء.

أقسام المال الحرام والفرق بينها

على المسلم أن يتقي الله وأن لا يأكل حراماً، والمال الحرام: هو كل ما حرمه الشارع على المسلم حيازةً أو تملكاً.

والمال الحرام: إما أن يكون محرماً لذاته، وإما محرماً لكسبه, والمحرم لذاته مثل: أن يأخذ حق الغير غصباً أو سرقة، فهذا محرم لذاته؛ لأنه مملوك للغير, والواجب على من فعل هذا أن يرده إلى أصحابه، ولا يجوز له أن يتصرف فيه، أو أن ينتفع به، ولو مات وجب على ورثته أن يخرجوه؛ لأن المال الحرام لا يملك، ويجب التخلص منه, بل إن أكثر أهل العلم قالوا: إن المال الحرام لا يجب أن يزكى عنه؛ لأن الواجب هو إخراجه من مال المسلم.

أما المحرم لكسبه: فهو أن يكون أصل المال حلالاً، لكن تعامل المرء ببعض التعاملات فنتج من ذلك مال حرام، فالمال ليس فيه نجاسة، ولكن النجاسة في كسبه.

والمحرم لكسبه إن تعامل فيه المرء جاهلاً، أو متأولاً، أو مقلداً إماماً من أئمة الإسلام فإنه بعد عمله لا يجب عليه أن يتخلص منه، وإن كان الورع والأفضل التخلص منه لكنه لا يجب, كما ذكر ذلك أهل العلم لقوله تعالى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ [البقرة:275].

وقال أبو العباس ابن تيمية : ومن تعامل بمعاملة أو بعض الحيل التي يرخص فيها أهل العلم باجتهاد، أو تقليد، أو تأويل، فما أخذه من هذا المال فلا يجب عليه إخراجه, واستدل بالآية التي ذكرناها.

وعلى هذا فالفرق بين المحرم لذاته والمحرم لكسبه: أن المحرم لذاته إذا علمه بعد الجهل فإنه يعفى عن الذنب، ولكن يجب عليه أن يتخلص منه، ويرده إلى صاحبه إن كان يعلمه، وإن لم يكن يعلمه فإنه يصرف المال في المصالح العامة، كأن يصرفه على الفقراء والمساكين، والطرق والمدارس ومبرات الخير، لكن لا يصرفه في المساجد والمصاحف وغير ذلك من العبادات المحضة.

التعامل مع المرابي ومشاركته

وينبغي أن نعرف أيضاً أن ثمة فروقاً بين أن تتعامل مع المرابي، وأن تشاركه، وأن تدخل في شركة ربوية، فهذه ثلاث صور:

الصورة الأولى: أن تتعامل مع المرابي, وهو الشخص الذي يرابي، وربما كان أكثر ماله حراماً، أو بعض ماله حراماً وبعضه حلالاً، فإذا اشترى منك سيارة، أو اشتريت منه سيارة، أو كان عنده محل يبيع فيه بعض المباحات فلا حرج أن تتعامل معه بيعاً وشراءً, لك مالك، وله ماله، فهذا يسمى التعامل مع المرابي, وهذا لا بأس به ولا حرج عند عامة أهل العلم، بل نقل بعضهم الإجماع على ذلك، وقد تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود والنصارى، ومات عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة عند يهودي كما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، ومن المعلوم أن اليهود كانوا يأكلون الربا، كما قال تعالى: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ [النساء:161].

وعلى هذا فلو أن بنكاً ربوياً أراد أن يشتري منك سجادة، أو أجهزة إلكترونية مباحة مثل: الميكروفون، أو السماعات، أو الجوالات، أو الكمبيوتر فلا حرج في ذلك؛ لأن هذا المعقود عليه مباح، والعقد مباح ولا حرج.

الصورة الثانية: أن تشارك المرابي, أي: تدخل في شراكة بينك وبينه، فهذا فيه تفصيل: إن كان سيتعامل بهذه الشركة في الأمور المباحة فلا حرج، مثل أن تأتي بمائة ألف وأتى رجل يتعامل بالربا بمائة ألف وضاربتم بهذا المال في الأمور المباحة مثل العقار فلا حرج, أو لو أن شخصاً من التجار يتعامل بالربا، أو يستثمر أمواله في البنوك الربوية وطلب منك أن تستثمر أمواله في المباحات: كالعقار والسلع وغير ذلك فلا حرج؛ لأن هذه مشاركة مع المرابي، وسوف تتعاملون بالحلال, فهي شركة مباحة.

وقد ضارب النبي صلى الله عليه وسلم بأموال قريش قبل الإسلام، ومن المعلوم أنهم كانوا يأكلون الربا، وكانوا يقولون: إما أن تقضي وإما أن تربي.

الصورة الثالثة: المشاركة مع المرابي في شركة ربوية فهذا حرام، أو أن تدخل في شركة ربوية فهذا حرام؛ لأن الأصل في الشركة أن أعضاء مجلس الإدارة، أو المدير يتصرف بنفسه أصالة وعن غيره وكالة، وسوف يتصرف بشيء من مالك في الحرام, مثل لو أن شخصاً قال: أعطوني أموالكم وسوف أتعامل بها في العقار، ولكن إذا لم أجد فرصة استثمارية فسوف أضعها في بنك ربوي لآخذ الفوائد الربوية, قلنا: هذا حرام، ولا يجوز الدخول مع هذا الشخص أو في هذه الشركة, لأن جزءاً من مالك سوف يكون مشاعاً في الحرام.

فإذا تبين لك هذا ثم تعاملت بمعاملة فيها بعض اللغو، وعدم الصفاء، أو بعض الشبه مثل: الذين يتبايعون في الأسواق ويحصل منهم نوع من اللغو، أو يحصل منهم نوع من الحلف، وقد نهى الشارع عن الحلف في البيع، وربما حلف بعضهم وهو كاذب، فإذا وقع ذلك فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( يا معشر التجار! إن التجارة يشوبها الحلف واللغو، فشوبوه بالصدقة ), فدل على أن المتعامل ببعض التعاملات التي فيها نوع من اللغو أو الحلف، أو اختلف أهل العلم في إباحتها، أن يتصدق بجزء من ماله, وقد تقول: كم؟ أقول: أنت وما تجود به نفسك, لقوله صلى الله عليه وسلم: ( فشوبوه بالصدقة ), ولم يقدر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً.

ومثل ذلك: إذا تعامل الإنسان بالشركات المباحة في أسواق المال، سواء كانت هذه الشركات المباحة عندها استثمارات في أسهم في شركات مختلطة أو أنه يضارب، فالمضاربة في الغالب لا تسلم من تغرير وتدليس وتلبيس؛ لأن السهم أحياناً يرتفع بسبب أن مضاربه غرر به على الناس, فهذا نوع شبهة، ونوع غش، فشوبوه بالصدقة, ولا يلزم أن تخرج هللة أو هللتين أو ثلاثاً كما يقول بعض الفضلاء، ولكني أرى أن تتصدق بما تجود به نفسك، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( فشوبوه بالصدقة ).

ومن المسائل أيضاً: أن الإنسان إذا تعامل بمعاملة ظاناً أنها مباحة فلما أبرم العقد علم أنها محرمة، فإننا نقول له: إن استطعت أن تتخلص من هذه المعاملة فهذا أفضل وأولى، وإن لم تستطع فلا حرج عليك أن تبقى, مثل: بعض عقود المرابحة للآمر بالشراء في بعض البنوك التي تتعامل بهذا النظام، أعني بها: المرابحة، بيع المرابحة للآمر بالشراء؛ فإن بعض البنوك لا تملك السلعة، وإن ملكتها لا تدخل في ضمانها، فتربح ما لم تضمن، وهذا محرم لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن, فربما دخل الإنسان بناءً على اجتهاد، أو فتوى كما يقول بعضهم، فحينئذ إذا سأل عالماً أو طالب علم وبين له الخلل في مثل هذه المعاملة فإن استطاع أن يتخلص من هذه الأقساط فهو أفضل، وإن استمر بناءً على اجتهاد بفتوى فلا حرج عليه كما مر معنا من قول أبي العباس ابن تيمية : ومن تعامل بمعاملة: باجتهاد، أو تأويل فما أخذه من هذا المال فلا يجب عليه التخلص منه، لقوله تعالى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ [البقرة:275].

نكتفي بهذا، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الرزق الحلال وآثاره للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

https://audio.islamweb.net