اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الملك (1) للشيخ : أبوبكر الجزائري
أما بعد: ها نحن الليلة مع فاتحة سورة الملك المكية، ذات الثلاثين آية، وبالإجماع أن الملك مكية نزلت بمكة، وآياتها ثلاثون آية.
وقد ورد في فضلها من الأحاديث الكثير، منها: ( أن من لازم قراءتها عند فراشه كل ليلة تقوم مقام من يدافع عنه في القبر ), أي: تحاج فتان القبر وتغلبه، وينجيه الله من ذلك.
فهيا بنا نصغي إلى هذه الآيات الأربع الأولى مجودة مرتلة، ثم بعد ذلك نتدارسها.
بسم الله الرحمن الرحيم: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ * وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ [الملك:1-5].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جلّ ذكره: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك:1]، هذا هو الله رب العالمين، وهو إله الأولين والآخرين، وهو الذي يجب أن يعبد، وأن يذلّ له، وأن يطرح بين يديه، وليس الأصنام ولا الأوثان، ولا الشهوات ولا الأهواء ولا الدنيا. فهو الذي ينبغي أن يعبد, ولا يعبد سواه. والآيات نزلت في مكة, وكان المشركون يعبدون الأحجار والأصنام, وكان حول الكعبة ثلاثمائة صنم.
وقوله تبارك وتعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1]، أي: الملك كله في السموات وفي الأرضين لا يملكه سوى الله, ووالله لا مالك إلا هو، وأنت إذا ملكت اليوم فغداً تموت، ويكون الملك لله الواحد القهَّار، وفي الدنيا الملك له أيضاً.
وقوله: تَبَارَكَ [الملك:1], أي: تعاظم وتقدس ودام، فهو الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1]. فكل ملكٍ في السموات والأرض بيد الله، يعطي من يشاء, ويمنع من يشاء، ويعز من يشاء, ويذل من يشاء، ويسعد من يشاء, ويشقي من يشاء. فليس لكم يا بني آدم! سوى الله فقط، فلا عيسى ولا أمه، ولا العزير ولا نبي الله، ولا أحد من خلق الله، وما لكم إلا الله فقط وحده، فهو الذي يعطي ويمنع, ويضر وينفع. فهذا الذي يجب أن نتحد على عبادته، ونستمر عليها؛ حتى نلقاه ونفوسنا زكية طاهرة نقية.
ثم قال تعالى: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك:1]. فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. فلهذا اطلب منه حاجاتك، واسأل ما تريد منه, ولا تخف أبداً، فهو على كل شيءٍ قدير. ولكن اطلب الممكن، فأما غير الممكن فلا، فلو تقول: اللهم حولني إلى أنثى لا يحولك، أو اللهم رد عمري إلى طفلٍ ما يرده لك.
وسأل بعضهم في قوله: عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك:1] هل يستطيع أن يخلق إلهاً مثله؟ والجواب: هذا غير ممكن, ولا يقوله ذو عقل. ونحن نفهم من قوله: عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك:1] أنه على كل شيء يُوقع ويُفعل يفعله ويوجده. فعلينا أن نسأله حاجاتنا مهما عظمت.
وقدم ذكر الموت على الحياة هنا لأنها عظة وعبرة للعقلاء، فقال تعالى: خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ [الملك:2]. والحكمة في أنه خلقهما والعلة لذلك والسر: لِيَبْلُوَكُمْ [الملك:2], أي: ليمتحنكم ويختبركم؛ ليرى أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2]. هذا هو سر الحياة والموت. ودائماً نكرر أن علة الحياة هي: أن نعبد الله عز وجل بذكره وشكره. وعلة الموت هي: لنجزى على عملنا في الدنيا دائماً وأبداً, شكراً كان أو كفراً، فقد قال تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2], أي: أيكم ذكره صالحاً وشكره صالحاً. وكم من عابدين يعبدون مع الله سواه, وهذه عبادة سيئة وليست حسنة، وكم من عباد يعبدون الله بغير ما شرع, وعبادتهم باطلة وليست حسنة. ولذلك لابد وأن تكون العبادة موافقة لشرع الله عز وجل, وبيان رسوله صلى الله عليه وسلم. فإذا أسأت في صلاتي ما تقبل أبداً؛ لأنها عمل سيئ، وإذا أحسنت صلاتي قبلت. فلا يقبل إلا ما كان موافقاً لما شرع الله, وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:2]. فهو العزيز الذي لا يمانع في شيء يريده أبداً، وهو لا يغلب ولا يقهر أبداً، بل هو قهار، لا يعجزه شيء، ولا يحول بينه وبين مراده شيء. بل هو العزيز الغالب، وهو الغفور الذي يغفر الذنوب لمن تاب ولو كانت مثل الجبال, أو مثل زبد البحر. فهو الغفور عظيم المغفرة، ومهما كانت الذنوب فإنه يقوى على مغفرتها، وعدم المطالبة بها؛ لقدرته على ذلك. فهو العزيز الغفور، فمن تاب إلى الله توبة نصوحاً فلو كانت ذنوبه كالجبال يمحوها الله عز وجل, ولا تبقى.
فالله هو الذي خلق سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا [الملك:3]. ولا يفعل هذا سوى الله. ثم هم يعبدون اللات والعزى, ويعبدون مناة والثالثة الأخرى, ويعبدون عيسى, ويؤلهون الدنيا, ويعبدون الشهوات, وينسون الله, ولا يذكرونه.
فارفع رأسك إلى السماء, واذكر من خلق السماء، واسأل عنه تعرفه، واسأل عما يحب وتعلم ذلك، واسأل عما يكره, وتعلم ذلك واتركه، وأما أن تعيش كالبهيمة فقط في الأرض تأكل وتشرب وتموت فهذا خسران أبدي.
ثم قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [الملك:3]. فانظر إلى السماء فلن تجد شقاقاً فيها ولا انحرافات, ولا مكاناً منخفضاً ولا مكان منعزلاً أبداً، بل هي طبق واحد. وهذا عجب. فَارْجِعِ الْبَصَرَ [الملك:3] مرة ثانية, فارجع وانظر فإنك والله تعيا وتتعب وتضع رأسك، ولن تجد مكاناً معوجاً. والذي خلق هذه السموات هو الله, وليس مخلوقاً من المخلوقات. ولن يقدر على رفعها هذا الرفع سبع طبقات سماء فوق سماء إلا الله, فهو الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ [الملك:3] أيها السامع! هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ [الملك:3]؟ والله ما ترى لا شقوق ولا تقطع ولا تمزق.
وقوله: بِمَصَابِيحَ [الملك:5], جمع مصباح، فهي منيرة كما ينير المصباح، وقيل في الصبح: صبح؛ لأنه كالمصباح ينير الحياة ويضيئها.
ثم قال تعالى: وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ [الملك:5]. فإن الشياطين لما يحاولون أن يستمعوا ما تقوله الملائكة من الغيب الذي عند الله وينزلون به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجمون بتلك النجوم، فيؤخذ من الكوكب العظيم قطعة ويرمى بها، أو توجد كواكب صغيرة مخلوقة لهذا فقط, أي: للرجم فقط. والكل صحيح.
والشياطين جمع شيطان, وهم الأبالسة لعنة الله عليهم، والشياطين عالم كعالم الملائكة وكعالم الإنس، وهم عالم الجن، ومن فسق منهم وفجر وكفر وأشرك وعبد غير الله فهو شيطن, يقال فيه: شيطان.
والعوالم أولاً: عالم الملائكة, وهو مخلوق من النور، وثانياً: عالم الجن, وهو مخلوق من النار، وثالثاً: عالم الإنس, وهم بنو آدم, وهم مخلوقون من التراب.
وكل من فسق وفجر وتمرد على الله وخرج عن طاعته فهو شيطان, فنعوذ بالله منه، وخاصة شياطين الجن، وشياطين الإنس أكثر، وهم يفسقون ويفجرون, ويضللون ويقودون إلى المهالك أكثر من شياطين الجن.
ثم قال تعالى: وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ [الملك:5]. وما قال: عذاب جهنم أو عذاب النار؛ لأن السعير أشد حرارة من جهنم, وأشد من النار، فهناك عذاب خاص في النار للشياطين, يسمى عذاب السعير.
وهذه الآيات تقرر: أنه لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله، وأن الدار الآخرة لا بد منها. فأيما آدمي ذكراً أو أنثى آمن بأنه لا إله إلا الله وعبد الله، وآمن بأن محمداً رسول الله, واتبعه فيما جاء به، وآمن بالبعث والدار الآخرة والجزاء إلا وأصبح ولياً من أولياء الله، ومن أعرض عن واحدة من هذه فهو في الهالكين, والعياذ بالله. فمن عبد مع الله غيره كالمشركين فوالله ما يدخل الجنة, والمشركين والله ما يدخلونها, مع أنهم آمنوا بالله، كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]. ولكنهم يعبدون الشيطان والشياطين كالأصنام والأحجار.
والذين أيضاً يعملون الصالحات كأن يسقوا العطاش, ويشبعوا الجياع, ويعتقدون أن لا حياة في الدار الآخرة كالشيوعيين فهؤلاء لا ينجون ولا يكملون, بل هذا مستحيل.
إذاً: هذه الآيات وما يأتي بعدها من سورة الملك تقرر: أنه لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتدعو العباد إلى عبادة الله؛ ليعبدوه, فيكملوا ويسعدوا في الدنيا والآخرة. ولا سعادة ولا كمال إلا بشرع الله, وما فيه من الأنظمة الدقيقة والقيام بها.
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: تقرير ربوبية الله تعالى بعرض دلائل القدرة والعلم, والحكمة والخير والبركة، وهي موجبة لألوهيته، أي: عبادته دون من سواه عز وجل ] ففي هذه الآيات: تقرير ربوبية الله، وأن الله رب كل شيء ومليكه. وهذه الربوبية مستلزمة قطعاً لأن يعبد وحده, ولا يعبد معه سواه. فالربوبية مستلزمة للألوهية، فهو ما دام رباً يملك كل شيء وبيده كل شيء، ويعذب ويشقي ويسعد فإذاً هو الذي يعبد، فلا يعبد غيره أبداً. فمن هداية هذه الآيات: تقرير ربوبية الله المستلزمة لعبادته وحده دون من سواه.
[ ثانياً: بيان الحكمة ] والعلة والسر [ من خلق الموت والحياة ] فقد خلق الله الموت والحياة ليبلونا وليمتحننا وليختبرنا أنطيعه أم نعصيه .. أنذكره أم نكفره .. أنشكره أم لا نشكره. فهو خلق الموت والحياة للمحنة وللابتلاء، فمن آمن وعمل صالحاً أسعده في الدارين، ومن كفر وفسق وفجر أشقاه وعذبه في الدارين. وحاشاه تعالى أن يخلق هذه العوالم كلها والجنة والنار والسموات والأراضين وكل المخلوقات ليلعب, أو لا لشيء، والعياذ بالله. فهو ما خلق هذا إلا من أجل أن يمتحننا؛ ليبلونا أنذكره ونشكره أم نكفره ولا نشكره.
[ ثالثاً ] وأخيراً من هداية هذه الآيات المباركة: [ بيان الحكمة ] والسر [ من خلق النجوم، وهي في قول قتادة رحمه الله: أن الله جل ثناؤه إنما خلق هذه النجوم لثلاث خصال: زينة للسماء الدنيا، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها ] فقد خلق الله النجوم ليضيء لنا الكون، ولترجم بها الشياطين، ولنعرف بها الطرق في البحر والبر. فلما نمشي في الظلام فالكوكب يدلنا أن هذا شرق, وهذا غرب. فقد خلقت النجوم لثلاث فوائد.
الفائدة الأولى: زينة للسماء الدنيا, كما قال تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ [الملك:5]، أي: جملها وزينها.
ثانياً: لرجم الشياطين, وقد رأيناهم يرجمون بأعيننا.
ثالثاً: المسافرون في البر والبحر لما يشاهدون الكواكب يعرفون الطريق. هذه ثلاث فوائد.
قال: [ فمن تأول فيها غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به، وتعدى وظلم ] هذا كلمة قتادة ، فمن قال: توجد حكمة غير هذه الثلاث فقد اعتدى، وقد يوجد والله أعلم.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الملك (1) للشيخ : أبوبكر الجزائري
https://audio.islamweb.net