اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الصف (2) للشيخ : أبوبكر الجزائري
أما بعد: ها نحن ما زلنا مع سورة الصف المدنية، ومع هذه الآيات الثلاث، فهيا بنا نصغي مستمعين تلاوتها مجودة مرتلة، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:7-9].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [الصف:7]. اللهم لا أحد أظلم ممن يفتري على الله الكذب، ويقول: لله بنات، ويقول: لله ولد، ويقول: لله شركاء يُعبدون معه، ويقول: الله فعل كذا وهو ما فعل، أو الله حرم كذا وما حرم، ويكذبون على الله. والكذب على غير الله حرام وظلم، فمن باب أولى الكذب على الله عز وجل. واليهود قالوا: عزير ابن الله، وأصروا على هذه القولة الخبيثة إلى اليوم، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، وما زالوا مصرين عليها إلى اليوم، ومشركو العرب قالوا: الملائكة بنات الله، وأن الله أصهر إلى الجن فأنجب الملائكة، فهم بنات الله. وكذلك اليهود حرموا ما أحل الله، وأحلوا ما حرم الله، في عشرات بل في مئات المسائل، والنصارى ذلك شأنهم، فقد حرموا ما أحل الله، وأحلوا ما حرم الله، والعرب حرموا ما أحل الله، وأحلوا ما حرم في مسائل كثيرة. إذاً: فلا أظلم من هؤلاء، ومن كان كذلك انتقم الله منه.
قال تعالى هنا: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ [الصف:7]. ولو كان قبل مجيء الإسلام وقبل مبعث الرسول وقبل نزول القرآن فالأمر أهون. ولكنه الآن يدعى إلى أن يستسلم لله وينقاد، فيؤمن ويعطي ما طلب الله منه أن يعطيه، ويمنع ما أمر الله أن يمنعه، ومع هذا يصر على الكذب على الله عز وجل، وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ [الصف:7]. ولو أن اليهود أو النصارى ما جاءهم الإسلام، وما دعوا إليه فإنه يهون الأمر، ولو أن العرب ما دعوا إلى الإسلام فإنه يهون الأمر، ولكنهم يفعلون هذا وهم يدعون إلى الإسلام.
وهكذا الذين يحلون ما حرم الله، فقد كذبوا على الله، والذين يحرمون ما أحل الله كذبوا على الله، والذين ينسبون إلى الله الصفات الناقصة من صفات العجز والجهل -والعياذ بالله- قد افتروا وكذبوا على الله، فنبرأ إلى الله منهم، ونفزع إليه؛ ليحفظنا حتى لا نكذب على ربنا كلمة واحدة.
ثم قال تعالى: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الصف:7]. وقد عرفتم بالأمس أن كل من توغل في الشر والفساد يحرم الهداية، وكل من توغل في الكذب على الله ونسبة الباطل إليه والسحر وما إلى ذلك وتوغل في ذلك سنين ما يهتدي أبداً ولا يسلم، وكذلك كل من توغل في السرقة وفي شرب الخمر وفي الدخان -والعياذ بالله تعالى- وأصر على هذه الجريمة وأبى أن يتوب فإنه يأتي وقت لا يقبل الله منه توبة ولا يتوب، ولذلك يقول تعالى: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الصف:7]، أي: المتوغلين في الظلم.
أولاً: ظلمك لنفسك، فلا تظلم نفسك، والإنسان يظلم نفسه، فإذا فعل كل الذنوب والآثام والمعاصي فإنها تتحول إلى عفن ونتن على النفس وظلمة. فكل ذنب هو ضد النفس، فتصاب بالسواد والظلمة، والنتن والعفن، وتتدسى ويكرهها الله ويلعنها. فيا عبد الله! لا تظلم نفسك، أي: بارتكاب معاصي الله ورسوله، فإن ذلك والله لظلم لنفسك.
ثانياً: الظلم لغيرك من إخوانك البشر مؤمنين وكافرين، فلا يحل لك أن تظلم أحداً، لا أن تسبه ولا أن تشتمه، ولا أن تأخذ ماله ولا أن تهتك عرضه، ولا أن تؤذيه أبداً. فحرام الظلم، فلا تظلم غيرك.
ثالثاً: أبشع الظلم وأقبحه: ظلمك لربك تعالى، فهو يخلقك لتعبده فتعبد غيره وتتحداه، ويخلقك لذكره وشكره فتذكر غيره وتشكر غيره، وتكفر بالله. فالشرك أفظع أنواع الظلم، واسمعوا قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48]. فلا تظلم ربك، ولا تأخذ حقه وتعطيه لـعبد القادر الجيلاني، أو تعطيه لرسول الله أو لـفاطمة، فعبادة الله من حقه سبحانه، ومن أجلها خلقك لتعبده، فإن أنت صرفتها إلى غيره ولو إلى إبراهيم الخليل ولو إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقد ظلمت ربك أفظع ظلم، والعياذ بالله، وأنت مشرك في هذه الحال. فلنحذر الظلم عباد الله! سواء ظلم أنفسنا أو ظلم إخواننا بني آدم أو ظلم ربنا.
هكذا يقول تعالى: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الصف:7]، أي: المتوغلين في الظلم.
فهم يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، فليطفئوا الشمس وينفخوها فلن تنطفئ، وليطفئوا القمر، ووالله لدين الله أقوى من الشمس والقمر، ولا يقدرون على إطفائه أبداً، وما استطاعوا. فهم يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ [الصف:8]. ولو كان مصباحاً أو سراجاً لأطفئوه بكلمة أف، وأما دين الله ونور الله والوحي الإلهي في كتاب الله فلا ينطفئ أبداً والله، بل استنار وعمر الكون من أمريكا إلى الصين، فعبد الله عز وجل، وأنه لا إله إلا هو.
هكذا يوبخهم تعالى ويؤدبهم، فيقول: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ [الصف:8] بما يكذبون على الله. وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8]. وفيها قراءتان سبعيتان: (والله متمٌ نوره) و(والله متمُ نوره). والقراءتان سبعيتان جائزتان، فاقرأ بما شئت.
وقوله: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8]، فقد كان نور الله في مكة مدة ثلاث عشرة سنة، وانتشر قليلاً فقط، وما إن جاء الرسول إلى المدينة ومكث فيها عشر سنوات حتى أضاء الجزيرة كلها وانتشر نور الله.
وقال هنا: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ [الصف:9]. ويخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن عيسى إذا نزل من السماء على منارة دمشق لم يبق من يعبد غير الله، فإذا نزل كسر الأصنام، وقتل الخنزير، وما يبقى من يعبد غير الله قط إذا نزل عيسى، ويظهر الله دينه على الدين كله، فلا تبقى يهودية ولا مسيحية ولا شرك، ولا غير ذلك. فعندما ينزل عيسى عليه السلام يظهر الله الإسلام على الأرض كلها، ولن يبق دين سوى الإسلام.
والآن نور الدين قد انتشر، فالآن الإسلام منتشر في العالم بأسره، وأوروبا التي كانت تحاربه الآن الإسلام ينتشر بين أفرادها ليل نهار، وكذلك أمريكا والصين واليابان. وهذا خبر الله، وهو صدق، فقد قال: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى [الصف:9]، لا بالضلال، وأرسله بدين الحق ألا وهو الإسلام؛ من أجل أن يظهره ويقويه وينصره على الدين كله، وما يبقى دين إلا الإسلام، وبين لنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أن هذا يتم بكامله عند نزول عيسى عليه السلام، فعيسى يكسر الأصنام التي يعبدها النصارى، ويقتل الخنزير الذي يأكلونه. وبين كل ما يتم في ذلك الوقت، ولن يبق إلا الإسلام فقط. وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:9]. فرغم أنوفهم سيظهر الله هذا الدين. والله تعالى نسأل أن يجعلنا من أهله والقائمين عليه.
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: عظم وجرم الكذب على الله، وأنه من أفظع أنواع الظلم ] فيا معشر الأبناء والإخوان! لا نكذب على ربنا، ونقول: هذا أحله الله والله ما أحله، وهذا حرمه الله والله ما حرم، وهذا أمر الله به والله ما أمر، وهذا نهى الله عنه والله ما نهى، فلا يحل لنا أن نكذب على ربنا فيما بيننا، وأما الذين نسبوا إليه الولد والبنت وما إلى ذلك فهم شر الخلق. فلا نكذب على ربنا، فإنه لا ظلم أفظع من الكذب على الله.
[ ثانياً: حرمان الظلمة المتوغلين في الظلم من الهداية ] فهم محرومون في أي زمان وفي أي مكان من هداية الله إلى يوم القيامة. فالله لا يهدي القوم الظالمين الذين توغلوا في الظلم، وانتشروا فيه.
[ ثالثاً: إيئاس المحاولين إبطال الإسلام وإنهاء وجوده ] من اليهود والنصارى والبوذيين والمشركين [ بأنهم لا يقدرون، إذ الله تعالى أراد إظهاره، فهو ظاهر منصور لا محالة ] وهم والله ما ينتصرون، وسيبقى الإسلام، ويعم الأرض. والآن المسيحيون أشبه باليائسين أيضاً، والإسلام ينتشر في أوروبا وفي أمريكا.
[ رابعاً ] وأخيراً: [ تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ] إذ قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ [الصف:9]. وهذا الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم. ففيه تقرير النبوة المحمدية والرسالة، فهو رسول ونبي صلى الله عليه وآله وسلم.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الصف (2) للشيخ : أبوبكر الجزائري
https://audio.islamweb.net