اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الحشر (2) للشيخ : أبوبكر الجزائري
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الأمسيات الربانية ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة الحشر المدنية، ومع هاتين الآيتين الكريمتين، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوتهما، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع، وتلاوتهما بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:6-7].
وكذلك بنو النضير أخرجهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة لما نقضوا العهد، وذلك لما انتهت معركة أحد في السنة الثالثة، وذلك بالتحديد بعد ستة أشهر من وقعة غزوة أحد، وسبب ذلك: أن أحد المعاهدين لرسول الله صلى الله عليه وسلم قتل اثنين ظلماً، فجاء القوم يطلبون الدية من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان العهد الذي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود أنهم يساهمون في الديات، أي: إن أصيبوا بدية فالرسول يساهم فيها، وإن أصيب المسلمون بدية فاليهود يساهمون فيها، فمن ثَمَّ خرج إليهم مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وبعض أصحابه، ونزلوا بديارهم، فأفرشوا لهم فراشاً في ظل جدار وواعدوهم بأنهم سيتعاونون معهم في الدية، لكن الشيطان زين لهم أن يطلقوا حجر رحى أو مطحنة من فوق السطح على النبي صلى الله عليه وسلم فيموت، وبذلك يستريحون منه نهائياً، وبالفعل جاءوا بالمطحنة وقبل أن يطلقوها أوحى الله تعالى إلى رسوله: أن قم فقام، فاندهش أصحابه فتبعوه، فلما وصل إلى المدينة عرف أن بني النضير قد نقضوا عهدهم، إذ أي نقض أعظم من أنهم يريدون قتل رسول الله؟ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم برجاله ونزلوا على بني النضير، وأخذ المسلمون يقطعون نخل بني النضير ليغيظوهم ويغضبونهم حتى ينزلوا لمقاتلتهم، فتألم بعض الصحابة لقطع النخيل، فأنزل الله الإذن بذلك، ثم جرى الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم، وهو أن يخرجوا من ديارهم ويأخذوا أموالهم معهم على إبلهم، إذ إن الركائب هي الإبل التي تحمل البضائع لا الخيل، وبالفعل فقد كان أحدهم إذا أعجبته الخشبة فإنه يهدم السقف لأجلها، وكذلك إذا أعجبه الباب أخذه! فخرجوا فنزل بعضهم في خيبر، إذ فيها يهود، وذهب بعضهم إلى أذرعات بالشام.
ثم قال تعالى: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحشر:6]، إي والله! إن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فقد أراد أن يجلي بني النضير فأجلاهم بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذوا أموالكم واتركوا هذه البلاد، وفعلاً فعلوا ذلك.
مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [الحشر:7]، أي: رده عليه من مال أهل القرى فلله قسمة، وللرسول قسمة، ولأقرباء الرسول صلى الله عليه وسلم من بني هاشم قسمة، ولليتامى قسمة، وللمساكين قسمة، ولابن السبيل -أي: المسافر- قسمة، أما أنتم أيها الأبطال المجاهدون فلا حق لكم في هذا، لكن ما حصلتم عليه بالقتال فنعم، قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ [الأنفال:41]، أي: ما اغتنموه بالجهاد والقتال فيقسم بينكم هكذا، وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال:41]، أي: أن الخمس منه لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين، وأربعة أخماس للمجاهدين، فالذي جاهد على فرسه له قسمان، والذي جاهد على رجليه له قسم واحد، وأما ما كان لله فيكون في المصالح العامة، وأما ما كان للرسول صلى الله عليه وسلم فينفقه في أسرته.
مرة أخرى: معشر المستمعين! الغنيمة إن كانت بالمصالحة وعدم قتال وحرب فهي للرسول ينفقها على ما ذكره تعالى له، والذين ما قاتلوا لا حق لهم فيها، وإن كانت الغنيمة بالقتال والجهاد وركوب الخيل فهذه تقسم خمسة أقسام: خمس لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كما في الآية، وأربعة أخماس للمجاهدين، فالذي جاهد على رجليه له قسم، والذي جاهد على فرسه له قسمان من الغنيمة؛ لأن الفرس يكون أكثر تأثيراً، وكذلك فصاحبه ينفق عليه.
مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [الحشر:7]، يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم، مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الحشر:7]، وابن السبيل هو المسافر، إذ لم يكن هناك مطعم ولا فندق، وبالتالي فيلزمهم أن يطعموه وأن ينفقوا عليه.
كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً [الحشر:7]، أي: متداولاً، بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ [الحشر:7]، هذا هو السر، وهذه هي حكمة الله عز وجل، وهو العزيز الحكيم.
وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7]، سواء عقيدة أو أدباً أو خلقاً، فما أعطاكه وأذن وسمح لك فيه فخذه، وما نهاك عنه فلا تفعله، وبالتالي معشر الأبناء! نهاكم عن حلق وجوهكم فلا تحلقوها، قال عليه الصلاة والسلام: ( لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال )، وكذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم المرأة أن تلصق الشعر بوجهها لتكون كالرجل.
أولاً: أن تكون مؤمناً صادق الإيمان، أي: أن تؤمن بالله والدار الآخرة، إذ إن هذا يساعدك على أن تتقيه.
ثانياً: أن تعرف ما أمرك الله به فتفعله كما أمرك، وأن تعرف ما نهاك عنه فتتركه وتتجنبه؛ لأنك إن لم تعرف ما نهاك عنه فكيف تتقيه؟ إن كنت لا تعرف ما يحب الله من الاعتقاد والقول والعمل فكيف تفعل ذلك؟ وإن كنت لا تعرف ما نهى الله وحرمه من الاعتقاد الباطل والأقوال والأفعال الفاسدة فكيف تتقيه؟ وبالتالي لا بد من العلم، وقد أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم )، والمسلمة تابعة لأخيها المسلم، لكن أي علم؟ علم الصناعات والزراعة والفلاحة؟ لا، إنما المقصود طلب العلم الذي به تعبد الله عز وجل عبادة تزكي بها نفسك، ويؤهلك للجنة دار السلام يوم القيامة، العلم الذي تعرف به ما يحب الله وما يكره، وكيف تفعل المحبوب؟ وكيف تترك المكروه؟
وها نحن كما قلنا بالأمس: إننا تحت النظارة، وقد استقللنا وأصبحنا قادرين على أن نعبد الله ونطبق شرعه وهاهم إخوانكم معرضون غافلون! قيل لأحدهم: أين ربك؟ فقال: بالمرصاد، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14]، فإما أن يتوبوا ويسلموا ويبايعوا إماماً لهم ويوحدوا دولتهم ويطبقوا شرع الله بينهم من إندونيسيا إلى موريتانيا، وإلا والله ستنزل بهم بلايا ورزايا وأحداث وفتن، وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحشر:7]، لماذا؟ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:7]، والعياذ بالله، أما أنتم أيها الأفراد! فاتقوا الله تعالى، واعرفوا ما يحب فافعلوه، واعرفوا ما يكره فاتركوه، وبذلك تنجون وتسلمون، وإن جاءت المحنة فستؤجرون عليها فقط ولا تعاقبون.
قال: [ ثانياً: أن الفيء وهو ما حصل عليه المسلمون بدون قتال، وإنما بفرار العدو وتركه، أو بصلح يتم بينه وبين المسلمين، هذا الفيء يقسم على ما ذكر تعالى في هذه الآية، إذ قال: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الحشر:7]، وأما الغنائم وهي ما أخذت عنوة بالقوة وسافر إليها المسلمون فإنها تخمس، خمس لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل يوزع بينهم بالسوية، والأربعة الأخماس الباقية تقسم على المجاهدين الذين شاركوا في المعارك وخاضوها، للراجل قسم، وللفارس قسمان ]، والفارس هو الذي يركب فرساً.
قال: [ ثالثاً: وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطبيق أحكامه والاستنان بسننه المؤكدة وحرمة مخالفته فيما نهى عنه أمته، روى الشيخان: أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لعن الله الواشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها: أم يعقوب، كانت تقرأ القرآن، فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فقال: ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله عز وجل؟ فقالت: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته، قال: إن كنتِ قرأته فقد وجدته، أما قرأت قوله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحشر:7]، قالت: بلى. قال: فإنه صلى الله عليه وسلم قد نهى عنه، أي: الوشم ].
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الحشر (2) للشيخ : أبوبكر الجزائري
https://audio.islamweb.net