اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الأنعام (28) للشيخ : أبوبكر الجزائري
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله، راجين أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات الثلاث، وهيا نستمع إلى تلاوتها مجودة مرتلة، ثم نأخذ -بفضل الله- في شرحها وبيان مراد ربنا تعالى منها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ [الأنعام:95-98].
معرفة الله لها شأنها، فيجب على كل آدمي ذكراً أو أنثى أن يسأل عن الله حتى يعرفه، فإذا عرفه أحبه أكثر من حبه لنفسه، وخافه أكثر من كل مخوف، وبذلك يسهل عليه أن يعبده عبادة تسعده في الدارين، تكمله وتسعده في هذه الحياة وفي الحياة الآتية التي هي لازمة ولا محالة منها.
ومن طلب الله عز وجل وأراد أن يعرفه فعليه بالكتابين: كتاب الله القرآن العظيم، اقرأ واستمع وتدبر وتأمل تتجل لك صفات الرب الدالة عليه آياته، فتعرف الله بأسمائه وصفاته، ويدلك على معرفته حبك له، وخوفك منه: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].
الكتاب الثاني: كتاب الكون، انظر في هذه الأكوان العلوية والسفلية، هذه النجوم وهذه الأفلاك، هذه الشمس وهذا القمر، انظر إلى هذه النباتات والجمادات، انظر إلى نفسك وما حولك: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53].
والمعرض الغافل اللاهي كالبهيمة لا هم له إلا الأكل والشرب والنكاح، كيف يعرف ربه؟ فالذي ما طلب ربه لا يجده، ولا يحصل معرفته، فيجب أن نتذكر ونتفكر حتى نعرف الطريق إلى ربنا عز وجل.
فكيف -إذاً- لا يعبد الله تعالى وتعبد الأهواء والشهوات، وتعبد الأصنام والتماثيل والأحجار، أو تعبد الكواكب والنجوم، ويعمى الإنسان عن خالقها ومكونها وموجدها؟
إِنَّ اللَّهَ [الأنعام:95] يا من أعرضوا عن ذكره وأقبلوا عن دنياهم وهواهم، وتمثلت لهم الشياطين في أصنام وأحجار وعبدوها، اعلموا أن الله فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى [الأنعام:95]، ولا أحد في الكون يفلق الحب ليخرج منه الزرع أو يفلق النواة ليخرج منها الشجرة أو يخرج منها النخلة، من فعل هذا؟ ما هناك جواب إلا الله، إذاً: لم لا يُحب ولا يُخاف؟ لم يلتفت إلى غيره ويترك هو؟
فالنطفة المذرة ميتة، من يخرج منها إنساناً ذكراً أو أنثى، طفلاً أو طفلة؟ هل يد الإنسان؟ أو أطباء الناس؟ أو السحرة؟ الجواب: لا أحد إلا الله، وهذا الإنسان الحي من يخرج منه تلك النطفة المذرة؟ من أوجدها فيه؟ من أخرجها منه؟ إنه الله تعالى.
والحب الميت يخرج الله منه سنابل وأشجاراً، والسنابل والأشجار يخرج منها حباً ميتاً، وأقرب من هذا البيضة تخرج منها الدجاجة، والبيضة ميتة تعبث بها بيدك، فيخرج الله منها الدجاجة حية، والدجاجة الحية تخرج ميتاً، فمن أخرج هذا الميت من هذا الحي؟ هل هناك من يشارك الله في هذا؟ ليس في الكون كله من يفعل ذلك إلا الله، فلهذا يجب ألا يكون معبود العالمين سوى الله تعالى، لم تعبد الأهواء والدنيا والشهوات، وتعبد الأصنام والأحجار، وتعبد بعض المخلوقات كما عبدوا عيسى وألهوه وألهوا أمه، وكما عبدوا اللات والعزى ومناة من أوثان الجاهلية الأولى؟!
عجب هذا! فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [الأنعام:95] كيف تصرفون عن الله عز وجل وتعبدون غيره؟ أو كيف تصرفون عن عبادته وذكره وتلتهون بالأباطيل والألعاب وتنسون ربكم؟ أمر عجب.
فمن يفلق ذلك الظلام ويشقه ويخرج منه نور الصباح؟ من يفعل هذا سوى الله؟ كيف لا يتعرف إليه، كيف لا يعبد؟ كيف لا يذل له ويخضع؟ لولا أن الشياطين تعبث بقلوب الإنس والجن لتصرفهم عن الحق ليعبدوا الباطل.
فَالِقُ الإِصْبَاحِ [الأنعام:96]، وتعرفون قولهم: فلق رأسه، أي: أخرج مخه، فظلمة الليل كيف تفلق ويخرج منها الصبح والإصباح؟ هل يد إنسان تفعل هذا؟ لو اجتمعت البشرية كلها فلن تفعل هذا، والله تعالى يفعل هذا لماذا؟ هل لأنه في حاجة إليه؟ لا والله، ولكنه من أجلك يا ابن آدم، من أجلك أيها الإنسان، فاذكر هذه النعمة واشكر الله عليها.
فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا [الأنعام:96] تسكن فيه الأبدان والأرواح، وتسترجع ما فقدته في عمل النهار، فيسكن كل شيء في الإنسان ويهدأ ويستقر، وينام نوماً يعوضه طاقاته التي بددها في النهار في أعماله.
في أوروبا يختلف الوضع عنه عندنا، إذا جاء الليل يقل ذلك النور وذلك الهيجان، ودعنا من الكفار، فنحن نقول: امتن الله علينا بأن جعل الليل سكناً، فقلنا: نجعله حركة، بدل السكون حركة، ثم لو كنا نعمل بجد فنصنع وننتج مضطرين فإنا نقول: ممكن أن يعفو الله عنا، فنحن في حاجة إلى هذا العمل، لكن السهر كله لهو وأحاديث وأباطيل، المفروض أنه إذا صلينا العشاء نغلق أبوانا، لا دكان ولا مصنع ولا معمل، والناس في بيوتهم يذكرون الله وينامون ليستيقظوا آخر الليل، وعلى الأقل يستيقظون مع الفجر ليصلوا صلاة الصبح.
الآن كفرنا هذه النعمة وجحدناها، وأنكرناها وما بالينا بها، وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا [الأنعام:96] يسكن فيه الإنسان براً أو فاجراً، كافراً أو مؤمناً، من فعل هذا؟ الله جل جلاله وعظم سلطانه.
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا [الأنعام:96] بدقة بنظام الحساب، لا تتقدم أو تتأخر ثانية ولا لحظة ولا دقيقة، وبذلك عرفنا ساعات الليل وساعات النهار، وعرفنا الأيام والأسابيع والشهور والسنين، وفي ذلك مصالحنا وعهودنا وعقودنا.. وما إلى ذلك، كيف نعرف أوقات الصلاة؟ أوقات الصيام؟ كيف نعرف الحج؟ كيف وكيف لولا الشمس والقمر؟
وهل أريكم فضيحتنا؟ والله لو عرفنا الله تعالى معرفة حقيقة لكانت فرائصنا ترتعد إذا تكلمنا معه، فنحن نقف نصلي وقلوبنا لاهية، وأبصارنا تائهة، وأجسامنا خافتة، فأنت مع من تتحدث؟ مع من تتكلم؟
فصلاتنا كلها لا شيء، فلم لا نتلذذ بالكلام معه؟ لم حين نتكلم مع صديق أو قريب نجد لذاذة للكلام وينشرح الصدر، وتتكلم مع الله كأنك تتكلم مع ميت، هذه زلة عظيمة وهذا هو واقعنا.
ذَلِكَ [الأنعام:96] الذي سمعتم تَقْدِيرُ [الأنعام:96] من؟ إيجاد من؟ تدبير من؟ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الأنعام:96] غلبة وعزة لا تقهر، علم لا يخفى عليه شيء، فكيف لا يخاف؟ كيف لا ترتعد منه النفوس والقلوب؟ كيف يعصى؟ كيف لا يُطلب؟ وكيف لا يتعرف إليه؟
أولاً: هذه النجوم تعد الحصى في الوادي ولا تعدها، هناك نجم ما يصل نوره إلينا إلا بعد سنتين أو ثلاث، هناك نجوم أكبر من الشمس، والتباعد بينها لا تقدره أبداً، والمسافات بالسنين، فهذه النجوم من أظهرها وأوجدها؟ هل وجدت من نفسها؟ إن هذا الكلام عبث وسخرية، والذي يقول هذا يصفع على وجهه، ما تستطيع أن تثبت أن كأساً من الماء جاء بنفسه، ما تستطيع أن تقول: إن هذا العمود وجد بنفسه! كيف توجد هذه الأكوان نفسها؟ أين عقلك يا ابن آدم؟ لا خالق إلا الله، الله هو الخالق أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54].
قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأنعام:97] إي والله فصلها، بينها، شرحها، أظهرها، لكن للعالمين: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأنعام:97]، أما الذين لا يعلمون فلا ينتفعون بهذا، هذا التفصيل للآيات بهذا الازدواج وبهذا العرض، وبهذه الأحداث الكونية من فصله؟ إنه الله تعالى. ولمن فصله؟ هل للجهال الذين لا ينتفعون به؟ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأنعام:97].
إذاً: يجب أن نعلم، حرام أن نبقى جهالاً، نطلب حتى نعلم، من أراد أن يعلم فليطلب، كما نطلب علم أمور الحياة: أين بيت فلان؟ في الشارع الفلاني. لمن هذه السيارة؟ لفلان. فإذا لم تسأل فكيف ستعلم؟ يجب أن نسأل حتى نعلم، وإلا فلن ننتفع بهذه الآيات المبينة الموضحة المفصلة التي لا إجمال فيها بل على غاية البيان.
ذكروا حكاية صنعها اليهود عليهم لعنة الله، وقلدهم المجانين والحمقى والتائهون والملاحدة، وتبجح بها أيضاً حتى العرب والجهال في مدارسهم إلا أن الله أخبتهم، قالوا: الإنسان أصله قرد، ودرست هذه النظرية الداروينية في مدارس العرب، وهي كفر وكذب وبهتان وباطل، وفضحوا، دفنوا رأس خنزير أو كلب في الأرض كذا سنة ثم أخرجوه وقالوا: هذا هو أصل الإنسان، أصله قرد، وتبجح بها الملاحدة وصفق لها الذين لا يؤمنون بالله وقالوا: الإنسان أصله قرد!
إن الذي يقول هذه الكلمة كذب وكذّب الله والبشرية كلها، ولعنة الله عليه حياً وميتاً، فالله تعالى تولى خلق آدم على أجمل صورة، في أحسن تقويم، ثم تقول: لا. أصل الإنسان قرد، وتطور القرد! لم ما تطورت البغال والحمير والذئاب والكلاب وبقيت على صورتها؟ القرد فقط هو الذي تطور!
لقد بكينا وندبنا أيام كانت الفكرة شائعة منذ ثلاثين سنة في مدارسنا، نظرية داروين، والله يقول: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء:1] ألا هي نفس آدم عليه السلام، وتطلق النفس على البدن والروح، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ [آل عمران:185] كل إنسان.
وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ [الأنعام:98]، الإنشاء: اختراع وإيجاد بدون صورة ولا مثال، الإنشاء عندنا أن ينشئ كلاماً أو شعراً أو أشياء جديدة ليس لها نظير في السابق، فالله تعالى أنشأنا بلا سابق لذلك من نفس واحدة، أما نقول: لك الحمد، لك الشكر؟ أليس هو الذي أنشأنا؟ لم لا نقول: الحمد لله؟ نحمده ونشكره مقابل هذا الإنعام إنعام الإيجاد والإمداد.
قال تعالى: أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ [الأنعام:98] ولهذا معان كلها صالحة، أحسنها أن المستقر أي: في الأرحام، والمستودع: في أصلاب الرجال، هل يخرج الإنسان من غير هذين الموضعين؟ أين محل استقراره؟ في الرحم، وأين هو مستودع ومتروك لوقت معين؟ في الظهر، في ظهر الإنسان، في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وهل هناك مكان غير هذا وهذا؟ لا.
ثم بعد هذا منا المستقر في قبره، ومنا المستودع ثم يموت فيستقر في القبر أيضاً، كما أننا مستودعون الآن مستقرون يوم القيامة، والكل صالح، لكن الوجه الأول أقرب.
فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ [الأنعام:98] المستقر: هو المستقر في الرحم والقرار له، والمستودع: صلب الرجل وظهره؛ لأن ماء النساء من الصدور، وماء الرجال من الظهور، من الأصلاب.
إذاً: يجب أن نتعلم لنصبح عالمين ونطلب العلم لنصبح فقهاء متفقهين، أما الجهلة أصحاب ظلمة النفس فمطالبتهم بالاستقامة كالمطالبة بالمستحيل، كيف يستقيم طول حياته فيحل ما أحل الله ويحرم ما حرم الله، وينهض بما أوجب الله، ويبتعد عما نهى الله إذا لم يكن ذا علم بالله، وذا فقه في شرائع الله؟
لا سبيل إلى الاستقامة في أي أسرة أو بين أفراد أو في أمة أو قرية إلا إذا علمنا وفقهنا وأصبحنا أولياء لله عز وجل، فكل الذي نشكوه من الظلم والخبث، والربا والزنا والشر والفساد، والطلاق والنكاح والباطل مرده والله إلى الجهل، عدم البصيرة والفقه والعلم، والذي رمانا بهذه الظلمات -ظلمات الجهل- هو العدو الثالوث الأسود: المجوس واليهود والنصارى، أفقدونا الهداية حتى يتمكنوا منا وحتى نساويهم في باطلهم وشرهم وجحيمهم، واستجبنا لهم، فالقرآن تقرءونه على الموتى أم لا؟ كم حلقة معقودة الآن في المدينة لدراسة كتاب الله؟ أين أهل المدينة ؟كم منهم بيننا؟ كيف نعرف؟ كيف نتصل بربنا؟ كيف نحقق ولايتنا له عز وجل ونحن معرضون تائهون؟ وا أسفاه، وا حسرتاه! ولكن ما شاء الله كان.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الأنعام (28) للشيخ : أبوبكر الجزائري
https://audio.islamweb.net