اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة آل عمران (30) للشيخ : أبوبكر الجزائري
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال -فداه أبي وأمي والعالم أجمع- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم! رجاءنا إنك ولينا وولي المؤمنين.
قد انتهى بنا الدرس إلى هاتين الآيتين المباركتين من سورة آل عمران، نتلوهما بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:84-85]، هاتان الآيتان الكريمتان سبقهما آيتان درسناهما في درس سابق. فهيا نراجع ونستذكر ما استفدناه من الآيتين السابقتين.
يقول تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:79-80]، هاتان الآيتان نستمع إلى ثمرتهما ونتائجهما؛ فيتجلى لنا -أكثر- معرفة ما فيهما.
أولاً: لم يكن من الممكن -مما يتأتى وقوعه- لمن آتاه الله الكتاب والحكمة -أي: الكتاب والسنة- وشرفه بالنبوة أن يدعو الناس لعبادة نفسه، فضلاً عن عبادة غيره].
فهذا والله! ليس من الممكن، بل ومن المستحيل أن يعطي الله عبداً الكتاب والحكمة، ويشرفه بالنبوة، ثم يقول للناس: اعبدوني من دون الله!
فهكذا ينفي الله تعالى هذا الزعم الذي ادعاه اليهود والنصارى، فيقول: مَا كَانَ لِبَشَرٍ [آل عمران:79] أي إنسان من البشر أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:79]؛ لأن السفهاء من اليهود قالوا: تريد منا أن نعبدك يا محمد؟!
فإذا أمرهم بطاعته، أمرهم بطاعة الله عز وجل، بأن يعبدوا الله لا أن يعبدوه، فلما تفوه بعض السفهاء ألقمهم الله بهذا الحجر، ونفى أن يتم هذا لمخلوق، وإذا وجدنا من دعا الناس إلى عبادته؛ فإنه ما دعاهم إلا لجهله وضلاله وعماه، وبعده كل البعد عن الوحي الإلهي والحكمة الإلهية، أما وقد آتاه الله الكتاب والحكمة والنبوة ثم يدعو الناس لأن يعبدوه، فهذا والله! لن يكون.
[ ثانياً: سادات الناس هم الربانيون الذين يربون الناس بالعلم والحكمة فيصلحونهم ويهذبونهم ] سادات الناس هم أولئك الربانيون الذين يربون الناس بالعلم والحكمة فيصلحونهم ويهذبونهم؛ إذ قال تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79].
أما رِبِّي اليهود ورهبان النصارى فليسوا أهلاً لهذا أبداً؛ لأنهم لا يعلمونهم الكتاب ولا يعلمونهم الحكمة، ولكن يحشون عقولهم بالأباطيل والضلالات والخرافات؛ ليبقوا مسخرين لهم يعبدونهم من دون الله.
فرد عجيب! قوله تعالى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79].
[ثالثاً: عظماء الناس من يعلمون الناس الخير ويهدونهم إليه] روى ابن عبد البر في كتابه العلم قال: ( من علم وعمل بما علم، وعلّمه غيره دُعي في السماء عظيماً )، قد كنا نقول من عظماء الرجال: نابليون وأفلاطون وسقراط ، وأخيراً عظماء الشيوعية ستالين ، ثم عبد الناصر ، ثم الزعيم الأوحد صدام .. لماذا؟ لأننا ما عرفنا وما علمنا.
والآن علمنا وعرفنا أن عظماء الرجال هم الذين يتعلمون الهدى ويعملون به، ويعلمونه غيرهم، فأولئك هم عظماء الرجال في السماء والملكوت الأعلى، أما الذين يجاهدون الناس، ويعلمونهم الضلال ويأتونه قبلهم، فهؤلاء أسافل وأساقط الرجال.
من علِم الكتاب والحكمة، وعمل بهما وعلَّم بهما أسرته وجيرانه، وأهل بلده، والناس عامة، فأولئك يدعون في السماء: عظماء الرجال.
فالآية شاهدة، إذ يقول تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79].
[رابعاً: السجود لغير الله كفر؛ لما ورد أن الآية نزلت رداً على من أرادوا أن يسجدوا للرسول صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:80]].
(أيأمركم): استفهام إنكاري.
( هم من هم ممن جاءوا من الشام -وكانوا نصارى- أن يسجدوا للرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: لا. السجود لله )، وهكذا تحيتنا تحية أهل الجنة: السلام عليكم، أما الانحناء والركوع والسجود فهذا لله لا لسواه، وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43].
هناك غلطة شامية نلفت النظر إليها: أبناء الشام تربوا على هذه الخطيئة، يقبل يد أبيه.. يد الشيخ.. يد عمه، ثم يسجد عليها، فأصبح حتى الشباب الكبار إذا سلموا على المشايخ يفعلون هذا، يقبل يد الشيخ ثم يسجد، فمن لاحظها من أخيه يلفت نظره إليه، ويقول: هذا لا ينبغي، ويكفيك التقبيل، فلماذا تسجد؟!
إذ السجود لغير الله كفر، فلا نعفر وجوهنا في التراب إلا لله رب الأرباب، فلا يستحق المخلوق ما هو حق لله دون سواه.
وحتى التحية العسكرية لطفناها وقلنا للعسكري: إذا حييت الرئيس رد بـ: السلام عليكم؛ لأن هذه التحية مأخوذة عن المسيحيين، فنحن ندعو ربنا ونحييه برفع أيدينا الثنتين ونقول: الله أكبر، أما من كان له يد واحدة فالله غالب، لكن لو كان له يدان ويتوجه إلى الله فلا يجوز له أن يمد يد واحدة ويقول: الله أكبر، ألست تقول في آخر صلاتك: التحيات لله؟
فقلنا لإخواننا لما فتح الله علينا: إذا حييت الرئيس، وإلا قل: السلام عليكم تخرج من الفتنة.
قال أخونا: بعضهم يقبل المصحف ويسجد عليه. وهذا التقبيل أخف من أن يقبل يد الشيخ، وإن كان لا ينبغي، فهذا فعل الجهال، والذين سمعوا هذا وعرفوه وفعلوه، فإنه يخشى عليهم أن يهلكوا، فإن كنت جاهلاً معفي عنك، أما وقد علمت وتقول: إيش في هذا؟
فهل رأيت رسول الله فعل هذا؟ وهل ورد حديث وقال: اسجدوا للقرآن وعليه، فكيف تصر على هذا؟!
وهكذا يرفع الله أقواماً ويضع آخرين بهذا القرآن، قبَّله وليس له حاجة، فكيف يقبله بفمه، ولا يحبه بقلبه ولا يقرأه طول عمره؟!
لكن لا بأس بتقبيل المصحف، لكن لا تسجد عليه، فلا تؤلهه.
فلو قال قائل: لا تلمنا يا شيخ! ما تعلمنا. نقول: نلومكم، فلم لا تتعلمون؟
تعرفون صنع السيارات وقيادتها، والمزارع وإنتاج البصل والفول.. وو...، إلا كيف تعبدون الله ما تعرفون؟!
الوقت يا شيخ! لا يتسع.. ما عندنا وقت. لا، بل عندكم وقت، فإذا دقت الساعة السادسة مساءً فكل الدنيا يجب أن تتخلى عن الأعمال الدنيوية.
فالنصارى واليهود إذا دقت الساعة السادسة أغلق الدكان.. ارم المسحاة.. ارم المطرقة.. هيا نروح على أنفسنا، فيأخذون نساءهم وأطفالهم إلى دور السينما والمراقص والمقاصف، أربع ساعات.. خمس ساعات من الليل.
ونحن المسلمون لا نستطيع أن نغلق الدكان مع غروب الشمس، لم؟ لا ندري، ما فقهنا. فيكفي من صلاة الصبح وأنت تعمل إلى غروب الشمس، فهيا بابنتك وامرأتك وأولادك إلى بيت الرب، تطهروا وتنظفوا وائتوا إلى بيت مولاكم تستمطرون رحمته، وتبكون بين يديه، وتذكرونه بأسمائه، تتعلمون الهدى الموصلة إليه، ثم تصلون العشاء وتعودون في خير وبركة إلى بيوتكم، وهكذا كل ليلة طول العمر. فكيف لا نستطيع؟
والله! لو أن أهل قرية أو حي من أحياء المدن أقبلوا على الله في صدق كل ليلة من المغرب إلى العشاء؛ يتعلمون الهدى ويعملون به لم يمض عليهم سنة أو أقل وهم كلهم عالمون عارفون أولياء الله، لو رفعوا أكفهم إلى الله على أن يزيل الجبال لأزالها؛ فتكون تحققت لهم ولاية الله.
فاليهود والنصارى صرفونا عن هذا صرفاً عجباً، ونحن نائمون ما صحونا بعد!
فطلب العلم واجب؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم )، والله تعالى يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فيجب على كل مؤمن ومؤمنة إن لم يعلم بما يعبد الله أن يسأل العلماء ليعرف، وعلى العالم أن يبين، وانتهى الجهل نهائياً، فالخنا، والزنا والدعارة، والتلصص، والإجرام، والخيانة، وسوء السلوك، وسوء الآداب، وفساد الأخلاق وقد خمت ديار المسلمين بها نتيجة للجهل فقط.
أي: اذكر يا رسولنا لهم، اذكر يا عبد الله! لليهودي والنصراني: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ [آل عمران:81] والميثاق العهد المؤكد بالأيمان، لَمَا آتَيْتُكُمْ [آل عمران:81] مهما آتيتكم مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ [آل عمران:81]، أما إذا جاء يكرر ما عندكم، فهو دجال وكذاب وليس بنبي، لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمران:81].
ثم قال لهم: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81]، الله أكبر! فما من نبي نبأه الله، ولا رسول أرسله إلا أخذ عليه العهد والميثاق، إذا بعث الله بعده الرسول وهو موجود أن يؤمن به وأن ينصره، إلا إذا جاء بما يخالف ما عند النبي فمعناه أنه دجال وكذاب، وليس بنبي ولا برسول.
ثم استقررهم: (أَأَقْرَرْتُمْ)؟ قالوا: أقررنا، (قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا -الله- مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)، بعد هذا هل بقي ليهودي أو لنصراني أو لصليبي أن يدخل الجنة بعد اليوم؟!
ثم قال تعالى: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران:82] لا غيرهم.
ثم قال تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83]، عجباً كيف يكفر بالله هؤلاء الهابطون من اليهود والنصارى؟!
أولاً: بيان سنة الله تعالى في الأنبياء السابقين، وهي أن يؤمن بعضهم ببعض وينصر بعضهم بعضاً].
الآن في المدينة أمير عينه إمام المسلمين، فلو بعث أميراً آخر هل سينكره، ويقال له: ما نصدقك، ما أنت هو.. جاءك ببيان بما عندك؟ أم المفروض أن يقول: مرحباً وأهلاً، ونحن معك وإلى جنبك. هذا واضح.
فكيف يرسل الله الرسول، أو ينبئ نبي ويأتي إلى أهل البلاد وبينهم نبيهم يقول: لا. لا. يكفي ما عندنا.. ما نؤمن بهذا.. ما نصدق.. يبقون مسلمين؟!
مستحيل. فهؤلاء مجانين معتوهين، يستحقون الضرب والنقمة الإلهية.
قال: (بيان سنة الله تعالى في الأنبياء السابقين) أي: لنبينا صلى الله عليه وسلم، (وهي أن يؤمن بعضهم ببعض وينصر بعضهم بعضاً).
ألم يكن عيسى مع يحيى يشد ساعده؟
ألم يكن إسماعيل مع إسحاق؟
وهكذا دعوة الله، ما من نبي إلا ويجب عليه أن يؤمن بالنبي الجديد، وأن يقف إلى جنبه ينصره؛ لأن الرسالة واحدة، اللهم إلا إذا جاء ساحر دجال وقال: أنا نبي. فننظر هل يختلف ما جاء به مع ما عندنا أو يتفق؟ فإذا كان يتفق فهذا من عند الله، وإذا كان ما يتفق يجب أن يضرب على رأسه.
أعيد القصة: أولاً: وجد في العالم الإسلامي ثلاثون نبياً دجالاً وكلهم أهلكوا ودمروا، آخر واحد جاءنا في البيت منذ أربع سنوات ونحن في المكتبة، قال: أنا نبي الله.
ليس معقول هذا ولدي.
قال: أنا نبي الله، نبأني الله، اسمعوا لي واستجيبوا. فبهتنا، ماذا نصنع؟
فجاء فحل من فحول الحي أبو عبد العزيز بعصاه، فقلنا له: يا شيخ عبد الله ! هذا الشاب يقول: أنا نبي. فقال له: أنت تقول أنك نبي؟ قال: نعم، نبي. قال له: من نبأك؟ قال: الله. فينهال عليه بالعصا حتى صرخ وقال: أكذب ما أنا بنبي.
إذاً: بالنسبة إلى عهد النبوة المحمدية قد ختمها الله بخاتم النبيين، فكل من جاء بما جاء به محمد، وقال: أنا نبي يجب أن يقطع رأسه فهو دجال كذاب؛ لأن الله قال: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] ما بقي، لعلم الله بأن الأرض أوشكت على النهاية، وأن العالم سيكون في منزلة بلد واحد، والآن يقرأ القرآن فيسمعه العالم بأسره، وهذا سر ختم الله النبوات بمحمد صلى الله عليه وسلم، لو يبقى العالم كما كان أهل إقليم ما يعرفون عن الآخر لكان على الله أن يبعث في كل إقليم رسول.
[ثانياً: كفر أهل الكتاب وفسقهم بنقضهم الميثاق، وتوليهم عن الإسلام، وإعراضهم عنه بعد كفرهم بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أخذ عليهم الميثاق بأن يؤمنوا به ويتبعوه]، فهم كفار فساق ملعونون من أهل الخلود في النار، مهما نزلوا الصوامع أو عبدوا الشيطان. فمن يبلغهم هذا؟!
سبق وأن قلت: إن اليهود والنصارى لما مكروا بالمسلمين وغشوهم وخدعوهم وضللوهم وهبطوهم نتيجة ذلك أن حرموا من الإسلام، فلما انتشر الإسلام في العالم وأضاءت أنواره في الكون من قام وأطفأها أليس اليهود والنصارى؟ بلى.
إذاً: جزاؤهم أن أجيالهم بالملايين حرمت من الإسلام، ولو كان الإسلام كما كان والله ما بقي على الأرض من لا يسلم؛ ليشاهد أنواره ورفعته وعزته وطهره وصفاءه كما في أول القرون، لكن لما أطفئوا النور وأصبح المسلمون حيارى تائهين ضلالاً جهالاً، وغلبوهم وسادوهم وحكموهم فكيف سيسلمون؟!
فهم عوقبوا بنفس ذنبهم، فلو أن الإسلام ترك ما حورب وامتد نوره وظله في العالم ما بقي بيت إلا وأسلم أهله؛ لأنه نور الله، القلوب تطهر.. النفوس تزكو.. العدل يسود.. الرحمة تنتشر.. الخير يعم، فلماذا لا يسلم الناس؟
فلما مكروا اليهود والنصارى بالمسلمين والإسلام حرموا هداية الله، فالآن ملايين بل بلايين اليهود والنصارى إلى جهنم، فهم الذين حرموا أنفسهم: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123].
[ثالثاً: بيان عظم شأن العهود والمواثيق].
إذا عاهدت يا عبد الله! إياك أن تخلف عهدك أو تنقضه، شأن العهود والمواثيق عظيم؛ فلهذا كان العربي إذا عاهد لو يموت ما يخلف.
فإسماعيل عليه السلام أثنى عليه تعالى بقوله: كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:54]، أثنى عليه بكونه إذا واعد ما يخلف؛ لأنه أقام سنة ينتظر صاحبه، واعد وعداً فبقي في ذلك المكان عاماً كاملاً، وخاف أن يرجع فينقض العهد.
وهذا حفيده الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام وهو قائم في مكانه ينتظر وعداً، ومن ثم يقول: ( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق -من بينها-: إذا واعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ).
وعندنا لطيفة أخرى أيضاً حدثنا بها شيخنا الطيب العقبي خريج المسجد النبوي، صاحب جريدة القبلة وأم القرى، محا اسمه الجزائريين محواً.
بنى أحد الصالحين مسجداً وسماه: مسجد العقبي، فجاء وزير الأوقاف برجاله ومحاه هذا الاسم؛ لأنه ناشر دعوة التوحيد، وهدانا الله على يديه وعرفنا الله، إذاً فالضلال والخرافة والباطل والزعامات محوا اسم العقبي .
قال العقبي : حججت أيام ما كان أهل البلد يحجون على الإبل، وأصحاب البادية ينزلون هنا في المدينة، ويطلبون الحجاج يخدمونهم حتى يحجوا ويعودون إلى المدينة، ويسمون: الركب، فالشيخ حج مع رجل من هؤلاء ومعه شاب يخدم الحجاج بأجرة، وتلك الأيام كان السلب والنهب مغطي البلاد، حتى إن الرجل يؤخذ بابه من بيته، فتجد بابك يباع في السوق فلا تتكلم وإلا تقتل، الفوضى بلغت نهايتها.
والشاهد عندنا: هذا الشاب الذي يخدم الشيخ الطيب رحمة الله عليه عشرة أيام في الطريق، وأربعة أيام في مكة، ولما وصلوا عرفة قال الشيخ للشاب: آه. لو تسلم يا بني وتترك هذا الإجرام وتستقيم؟
قال الشاب: أستأذن عمي، إذا أذن لي أتوب، معناه: لو قال: تبت ما يرجع، قال: أستأذن عمي، أي: ليس عمه أخو أبيه، بل عمه الذي يستخدمه، فلما جاء العم، قال: يا عم! إن هذا الشيخ يطلب مني أن أستقيم وأن أتوب، قال: لا. ومن لأسرتنا ومن لحالنا؟ كيف تتوب؟ محتاجين إلى السلب والنهب وكذا كيف نعيش؟!
والشاهد عندنا في كلمة الصدق فلو قال: أتوب فلن يرجع أبداً.
قال تعالى: كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:54]، وهكذا المسلمون في الجملة، أما في العصور الذهبية فكل مسلم يرضى أن يموت ولا يخون عهده ولا ميثاقه.
فلما عم الظلام وغطى البلاد، وعادت الجاهلية والجهل؛ اختلط أمر الناس، وإلى الآن المسلم البصير الواعي ذو العلم لا يخون عهداً ولا ينقضه ولو يخرج من ماله وأهله.
[رابعاً: الإنكار على من يعرض عن دين الله الإسلام، مع أن الكون كله خاضع منقاد لأمر الله].
قال تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83]، فلو أن اليهودي أسلم أو النصراني أسلم، فهل سيكون هناك من يخرج عن أوامر الله وتدبيره؟!
فإذا أراد الله أن يخلقه ذكراً كان ذكراً، فهل تستطيع أمه أن تحوله؟
أراد الله أن يخلق هذه البنت أنثى، فهل تستطيع أن تحولها إلى ذكر؟
أراد الله أن يخلق هذا الولد أسوداً، فهل تستطيع أن تجعله أبيضاً؟
أراد الله أن يجعل هذا الولد قصير القامة، فهل تستطيع أن تجعله يطول؟
مستحيل، خاضعون لأمر الله يفعل فينا ما يريد ويحكم ما يشاء، فقط كون أوامر تكليفية من أجل الجنة أو النار، هذه عرض علينا البشرى، وعرض علينا النذارة، فمن استجاب رفعه ومن أعرض هبطه، وإلا أمرنا بيد الله يحيي متى شاء، ويميت متى شاء، يعز.. يذل.. يغني.. يفقر.. يصح .. يمرض، هل يوجد من يرد على الله؟
هانحن مسلمون رغم أنوفنا، كيف يعرضون؟ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:83]، كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [البقرة:116].
علَّم الله الرسول صلى الله عليه وسلم، ونحن معه أتباعه أن نقول هذا القول، وليكفروا كلهم.. أمريكا والصين، فنحن آمنا بالله رباً وإلهاً، لا رب غيره ولا إله سواه، بيده كل شيء وإليه يرجع كل شيء، فهو المحيي والمميت، والمعطي والمانع، والضار، والنافع، رب الأولين والآخرين، منزل الكتاب، وباعث الرسل، أرحم الرحمين ورب العالمين، لا رب لنا غيره ولا إله لنا سواه.
وآمنا بما أنزل علينا من القرآن الكريم، وما حواه من أحكام وهداية وتعاليم وشرائع وأخبار، الأمر الذي فوق طاقة البشر أن ينزلوا مثله، وآمنا بما أنزل على إبراهيم الخليل من التوحيد؛ قال الله تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [النحل:120-123] أي: يا محمد أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [النحل:123] أي: إبراهيم هذا الأب الرحيم، هذا الذي ابتلي فصبر ففاز وظفر، ولم يبتل ابتلاؤه غيره، وإليكم نظائر ذلك:
فقد ابتلي بأن يواجه الطغاة والجبابرة ويجادلهم في الله ليؤمنوا بالله، وحكموا بإعدامه، وأججوا له النيران، وألقوه مكتوف اليدين والرجلين في جحيم لا تطاق -فمن أراد أن يعرف فلينظر إلى الأفران الكبيرة-، وخرج منها، وترك البلاد والعباد: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، خرج مع ابن أخيه لوط وامرأته سارة لا يحملون ديناراً ولا درهماً، ولا طعاماً ولا شراباً، خرجوا من أرض بابل اتجهوا غرباً إلى أرض الشام، فأي ابتلاء هذا؟
فقد كانت أول هجرة عرفتها البشرية هي هجرة إبراهيم، أول من هاجر في ذات الله، ترك الكفر وأهله، وننزل ببلاد الشام وامتحن امتحاناً آخر، ما وجد آذاناً صاغية ولا قلوباً واعية، ولا..، فاتجه غرباً انتهى إلى بلاد مصر من طريق فلسطين، ما إن وصل إلى مصر ومعه امرأته سارة الربانية وهي بنت عمه، فشاهدها من نسميهم بالمغربية: القوادون، وفي المدينة الجرارون.
فالمغرب الإفريقي يسمون من يقود إلى الفاحشة: القواد، وسيلة، وعندنا هنا في المدينة نسميه الجرار، ولا فرق، فالقواد يقود بالزمام، والجرار يسحبه على الأرض حتى يوصله إلى الفاحشة، والعياذ بالله!
ما إن شاهد الجرارون والقوادون حتى أتوا سلطانهم وقالوا: توجد امرأة كالقمر لا تصلح إلا لك، يتملقون ليأخذوا الدراهم، فعرف إبراهيم عليه السلام، فمن ينصره؟ وماذا يصنع؟
قال: يا سارة ! إنه لا يوجد على الأرض مؤمن إلا أنا وأنت، فأنا أخوك وأنت أختي، إذا سألك هذا الطاغية لا تقولي: زوجي، بل قولي أخي، ولست بكاذبة، وهذا هو الخروج من الكذب ويسمى بـ: (التورية)؛ لأنها لو قالت: زوجي، قال: اذبحوه، كيف يتزوجها وزوجها موجود؟
إذاً: ووصلت إلى سرير الملك، وجلست إلى جنبه وطيبوها وطهروها، وأراد أن يطايبها ويلاطفها فيضع يده على كتفها أو رأسها، فيصاب بالشلل الفوري، قبل أن تعرف البشرية الشلل هذا ما هو، تيبس يده، يصرخ: ادع ربك، تدعو تعود يده كما كانت، يأكلون ويتطايبون آكام، ثم يهم بيده ما إن تصل إلى جسمها يشل على الفور، ثلاث مرات، ثم قال: أخرجوا عني هذه الشيطانة فليست هذه بشرية، وهذا من تدبير الله عز وجل رب إبراهيم عليه السلام، قال: سنعوها، بلغة نجد أو الحجاز، بمعنى: أكرموها، أعطوها المال.. أعطوها بغلة تركبها.. أعطوها خادمة تخدمها، فأعطوها هاجر أم إسماعيل، فهي أمكم يا أولاد إسماعيل، وعادت منتصرة مستبشرة، قالت: أخزاه الله وأذله وأكرمنا، وتبرعت لإبراهيم عليه السلام ولتشاركه في المحنة بـهاجر خذ هذه، وتسرى بها يا إبراهيم -جزاها الله خيراً- فهذه سارة ابنة عم إبراهيم، خذ هذه الخادمة تسراها، أي: يحسن لباسها وفراشها ويجامعها مملوكة، فتسراها إبراهيم عليه السلام، فحملت وولدت إسماعيل ، وسارة اشتطات غيظاً وغضباً، وأصابها كرب، أنا مع ابن عمي عشرات السنين ما ولدت، وهذه بنت أمس تلد اليوم وتصبح بإسماعيل، ما أطاقت العيش معها، فأمر إبراهيم عليه السلام أن يذهب بها إلى صحراء الحجاز، وأبعدها عن أرض فلسطين، فما كان منه إلا أن خرج بها ليلاً، وهي تعفي أثرها أي: أرخت رداءها أو إزارها من أسفل حتى يغطي آثار الأقدام، ووصل بها إلى جبال فاران في الوادي الأمين في مكة، وتركها مع طفلها إسماعيل تحت شجرة، والبيت عبارة عن كوم من تراب أخذتها السيول من قرون، وقفل راجعاً، فقالت: لمن تتركنا يا إبراهيم؟ آلله أمرك بهذا؟
قال: نعم، قالت: إذاً فاذهب فإنه لن يضيعنا.
يا عبد الله! ما تبيع الدخان في دكانك، وأنت في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا تقل: لا الزبائن لن يحضروا. فأنت توكلت أنت على الدخان، فأين توكلك على الله؟ هذا مثال.
يتركها مع طفلها الرضيع تحت شجرة، دوحة عند ماء زمزم قبل أن يخرج، وتقول: آلله أمرك؟ فيقول: نعم، فتقول: إذاً فاذهب فإنه لن يضيعنا.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة آل عمران (30) للشيخ : أبوبكر الجزائري
https://audio.islamweb.net