اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة آل عمران (22) للشيخ : أبوبكر الجزائري
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!
إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء إنك ولينا وولي المؤمنين.
وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات المباركات، سبع آيات:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [آل عمران:52-58].
معاشر المستمعين والمستمعات! أعيد إلى أذهانكم أن هذه الآيات نزلت في إبطال تأليه عيسى عليه السلام، وهي تحمل الرد المفحم لوفد نصارى نجران، إذ جاءوا يجادلون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحاجونه في شأن عيسى ووالدته، إذ يؤلهون عيسى وأمه، وهم مرتبكون في الأقانيم الثلاثة، هل هي الله وعيسى وروح القدس؟! أو هي مريم وعيسى وروح القدس؟! فكل طائفة تقول بما أملى عليها الشيطان، والحقيقة هي أن عيسى عبد الله ورسوله.
ومن عظيم بيان الله عز وجل أنه قص عليهم قصة عيسى من عهد جدته، والسياق في تقرير هذه الحقيقة هي: أن عيسى لم يكن بإله أبداً، ولا بابن الله أبداً، وتعالى الله أن يكون له ولد ولم تكن له صاحبة -أي: زوجة-.
أَحَسَّ أي: علم بواسطة النظر أو السمع، عرف منهم الكفر.
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ وعرف أنهم يريدون أذاه وقتله، وشعر بالإحساس الكامل قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران:52] طلب النصرة من المؤمنين؛ لأن القوم يمكرون ويدبرون له الأذى والقتل.
فأجابه الحواريون، والحواريون جمع حواري، وهو الأبيض القلب، الزكي النفس، ذو الأخلاق العالية.
والحواريون كانوا اثني عشر رجلاً، آمنوا بعيسى وصدقوه وشاهدوا آياته ومعجزاته، وكان يبعثهم للدعوة نيابة عنه.
قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ [آل عمران:52]، أي: استنجدهم عيسى عليه السلام لنصرته فما تأخروا عن نصرته بل رفعوا أصواتهم قائلين: نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ [آل عمران:52].
قوله: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ، وإلى هنا بمعنى مع، بمعنى من أنصاري مع الله؛ لأن حروف الجر تتناوب. من أنصاري مع الله، ويصح أن تبقى (إلى) على بابها، وهناك محذوف، من أنصاري في الطريق إلى الله؟ في دعوتي إلى الله؟
قَالَ الْحَوَارِيُّونَ وهم اثنا عشر من الصالحين، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من نبي إلا وله حواريون، وأنا حواريي الزبير بن العوام )، وهو ابن عمته، فرضي الله عن الزبير كان من حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ماذا قالوا؟ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ [آل عمران:52] يا روح الله: بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:52]، واشهد يا عيسى يا رسول الله بأنا مسلمون.
فاليهودية والنصرانية والبوذية.. هذه الملل كلها بدع ما أنزل الله بها من سلطان، فبعث الله الرسل وأنزل معهم الكتب التي تدعو إلى الإسلام، فهؤلاء الحواريون لما استنجدهم عيسى قالوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ [آل عمران:52] يا روح الله: بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:52] أي: منقادون خاضعون ذليلون لربنا عز وجل، ننصر من ينصره، ونوالي من يواليه، ونعادي من يعاديه، فكان يجب على النصارى الدخول في الإسلام والتخلي عن هذه البدعة المنتنة، ولكن هذا حكم الله: لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13].
آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ [آل عمران:53] من الآيات البينات من التوراة والإنجيل والزبور وما أنزل من الآيات القرآنية أو الآيات المعجزات.
وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ [آل عمران:53]، الرسول هنا بالألف واللام، (أل) للعهد، فمن هو الرسول؟ عيسى عليه السلام، فهو رسول الله أي: مرسوله الذي أرسله إلى بني إسرائيل.
وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ ما قالوا: آمنا بما أنزلت واتبعنا عيسى، بل قالوا: (اتبعنا الرسول) ففيه تقرير رسالة عيسى عليه السلام، وأنه عبد الله ورسوله، الرسول الكريم العظيم المبجل الصادق.
إذاً: توسلنا إليك يا ربنا بالإيمان بك.. توسلنا إليك يا ربنا بالإيمان برسولك فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:53]، توسلوا إلى الله بقولهم: رَبَّنَا أي: يا ربنا: آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ أي: صدقنا بالذي أنزلته علينا من بركات السماء؛ من الرسالات والمعجزات والخيرات والبركات.
وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ أي: مشينا وراءه، فلم نتقدمه ولم نمش عن يمينه ولا عن يساره، ولكن وراءه، فالإتباع أن تكون وراء المتبوع، وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ إذاً: فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ؛ توسلوا إلى الله بإيمانهم وعملهم الصالح، إذ قالوا: آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ أعطنا شيئاً، وهو اكتبنا مع الشاهدين، والشاهدون غير الشهداء، هم ما ماتوا في سبيل الله، فلم يقول واكتبنا مع الشهداء، قال: مَعَ الشَّاهِدِينَ فهل نحن منهم؟! كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فهو من الشاهدين، فالحمد لله أننا من الشاهدين؛ اللهم اكتبنا مع الشاهدين في ديوانهم.
أرأيتم إخوانكم الحواريين كيف يتوسلون إلى الله عز وجل؟! أهل بصيرة، ونحن -والحمد لله- لا نتوسل إلا إلى بالله وبما يحب أن نتوسل به إليه، وإخواننا في الشرق والغرب إلى الآن يتوسلون بجاه فلان وحق فلان! ويجادلون أيضاً.
قالوا: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ قال: فعلت.
قال: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران:54]. انتبه يا عبد الله! ويا أمة الله! بأن أفعال الله لا تشابه أفعال المخلوقين؛ وذات الله لا تشبه ذات المخلوقين، فإذا نسب تعالى إليه المكر فلا تفهم أنه كمكر الآدميين؛ لضعفهم وعجزهم وقلة قدرتهم، وإن كان المكر التبييت في الخفاء، فهم دبروا والله عز وجل دبر، ولكن تدبير الله فوق تدبيرهم، هو العليم الحكيم، القوي القدير، وهم الجهلة الضعفة العجزة المساكين، ومكروا كما علمتم ومكر الله عز وجل إذ رفع عيسى وتركهم يتيهون.
قال: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران:54]، فمكر الإنسان بأخيه الإنسان بالأذى والضرر به، ومكر الله لأوليائه لإنقاذهم ورفعهم وإعزازهم وإكرامهم، وكان الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول: ( اللهم امكر لي ولا تمكر علي )، فمن أراده أهل الشر بسوء ومكروا به وبيتوا كيف يضرونه فإن الله يمكر بهم ويضيع جهودهم وخيب آمالهم وينزل بهم نقمه وعذابه، وهذا بيان مكر الله عز وجل.
يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أي: متمم لك الأيام والليالي التي كتبتها لك تقضيها في هذه الدنيا، ثم بعد ذلك أنزلك لتتم بقية عمرك، وهنا الذي نوقن به ونُشهد عليه ونَشهد به أن عيسى لم يمت؛ لأن الله لا يجمع له بين موتتين، والموت صعب وسوف نذوقه يقول تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، فمرارته يأبى الله أن يصيب بها عبده مرتين.
فعيسى لا يميته الله مرتين، بل ينزله تعالى في آخر أيام الدنيا ويقضي فيها ثلاثة وثلاثين سنة؛ داعياً وعابداً وذاكراً وشاكراً لله تعالى، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيحج البيت، قال: ( كأني بابن مريم بالروحاء يلبي بحج وعمرة أو بعمرة وحج )، ثم يتوفاه الله كما توفى أنبياءه ورسوله وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، هل يدفن في الحجرة النبوية؟ إذا أراد الله أن يكرمه ويكرم أهل الحجرة دفنه معهم.
يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ هنا اختلف بعض أهل العلم وقالوا: متوفيك بمعنى مميتك. ولم يقل: مميتك بل قال: مُتَوَفِّيكَ أنا وفيتك يا عدنان المبلغ، فليس هنا معنى وفيتك بمعنى أمته بل أعطيته كاملاً وأتممته وكملته. فليس متوفيك هنا بمعنى مميتك.
مُتَوَفِّيكَ بمعنى متمم لك عدد الأيام التي كتبناها لك في كتاب المقادير، تتمها في هذه الحياة وتقضيها، ثم أرفعك إلي، وعيسى الآن في الملكوت الأعلى. السنن التي علمنا الله إياها إن شاء أبطلها وأوقفها وأجد بدون سبب، فقد أوجد عيسى عليه السلام بدون أب ولا أسباب.
إذاً: فعيسى في الملكوت الأعلى، ورسولنا صلى الله عليه وسلم لو شاء الله أن يبقيه في الجنة ليلة الإسراء والمعراج لا يعجزه عن ذلك شيء، فعيسى يأكل ويشرب، والطعام والشراب يتحول إلى عرق وجشاء كأهل الجنة، انتهت سنة الأرض حياة أخرى، لا يشيب فيها أحداً.
عاش نوح ألف سنة ولا أدري شاب أم لم يشب، ثم كونه في ذلك العالم غير قابل للفناء، إذاً: لا يشيب ولا يهرم، أهل الجنة كلهم في سن ثلاثة وثلاثين سنة، لا ينقصون ولا يزيدون بلا حد ولا نهاية، طبيعة ذلك العالم ما تقبل هذا الذي نعيشه نحن بالشمس والحرارة والشرف والمرض والقوة والعجز، وما يدرينا عما قريب نسمع عيسى نزل، ينزل على المنارة البيضاء في مسجد دمشق الجامع بين ملكين.
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55] أي: بجواري في ذلك القدس والطهر في الملكوت الأعلى، والمسافة كما علمتم سبع آلاف وخمسمائة سنة بالطائرة. هذه الجنة.
وقوله: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:55]، هذا اللفظ يدل على أن المجتمع اليهودي تلك الأيام أخبث مجتمع متعفن أنجاس يتعاملون بالربا، والعهر، والزنا، والخيانة، وسفك الدماء.. فأراد الله أن يطهره من تلك الأخلاق والأوضاع الهابطة الساقطة برفعه إليه وتركهم في فتنتهم.
إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:55]، كفروا بك يا عيسى وبما جئت به من الإنجيل وما أنزلنا فيه من الآيات البينات؛ لأنه نزل بما يتنافى مع شهواتهم وأطماعهم وأغراضهم وآدابهم الهابطة وأخلاقهم الفاسدة، فلم يطيقوا ذلك فلما شاهدوا المعجزات الخارقة للعادات قالوا: ساحر وابن زنا، وقالوا.. وقالوا.. تنفيراً وإبعاداً للناس عن عيسى عليه السلام.
وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:55] أي: من الذين يعيشون في مجتمعات هابطة وساقطة وييسر الله له أن ينقذه منه وينزله في بلاد طاهرة.
وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [آل عمران:55] وعد الصدق، اسمعوا هذا الوعد لعله يتحقق لكم في المستقبل، لقد تحقق لأسلافنا كما أعلم الله عز وجل: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:55]، وهذا يشمل كل من يكون على منهج عيسى في التوحيد والعبودية لله رب العالمين، وقد حقق الله هذا لرسولنا وأصحابه وأحفادهم بعد أبنائهم ثلاث قرون وهم سائدون، والكفار أذلة مهانون من اليهود والنصارى وغيرهم.
وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [آل عمران:55]، فاليهود لا يسودون علينا أبداً. فإذا تمسك المسلمون بالكتاب والسنة ينتهي وجود اليهود ولا عزة ولا كرامة لهم، ولكن نحن الذين أعززناهم فابتلانا الله باليهود فأذاقونا مر الذل والهون، وهم حفنة وشواذ جاءوا من الشرق والغرب، ليعلمنا الله بأننا مذنبون؛ بأننا سلكنا مسلكاً لا يريده الله عز وجل، فأرانا آية من آياته لعلنا نفيق ونفهم، فهم أذل الخلق، وكم من معركة انتصروا فيها وتمزقنا وهربنا.
ولكن إذا اجتمع المسلمون في روضة رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم وقالوا: بايعناك يا إمام المسلمين، وكلمتنا واحدة ودستورنا واحد وأمة الإسلام أمة واحدة، لرحل اليهود وانتهت عزتهم وكرامتهم، ولكنا رضينا بالانقسام والفرقة والخلاف والمشاحنة، وتركنا الصلاة ومنعنا الزكاة وأبحنا ما حرم الله، كيف نريد أن ينصرنا الله عليهم؟!
والشاهد عندنا في هذا الوعد الإلهي الكريم: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ [آل عمران:55] كافركم ومؤمنكم، عزيزكم وذليلكم: فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [آل عمران:55]، أي بيان أعظم من هذا البيان الإلهي؟! ثُمَّ إِلَيَّ لا إلى سواي ولا إلى غيري: مَرْجِعُكُمْ [آل عمران:55] أبيضكم وأسودكم، عربكم وعجمكم، مؤمنكم وكافركم، راجعون إلى الله، يجمعنا ثم يبعثنا ليقضي بيننا ويحكم وهو أحكم الحاكمين، هذه عقيدة البعث والجزاء: ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أولاً، في يوم القيامة الذي يقوم الناس فيه من قبورهم، يوم قيام وقيامة البشرية، فينفخ إسرافيل في بوقه فيخرجون من الأجداث والقبور في خلقهم وتركيبهم على أكمل صورة: فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68]، وهذا رد على النصارى الذين يقولون: لا أجسام يوم القيامة ولا سعادة إلا للأرواح فقط. وهذا كذب وخرافة وضلالة يعيشها النصارى الآن، لا يعجز الله أن يعيد الخلق من جديد من قال ذلك فقد كفر وكذب الله ورسوله.
كان مسلم لبناني يركب مع مسيحي في سيارة، فتحادثا وتجاذبا أطراف الحديث، وأخذ المسيحي يسخر ويقول: أنتم المسلمون تقولون إننا في الجنة بأبداننا وأرواحنا نأكل ونشرب؟ قال المسلم: إي نعم، فقال المسيحي: إذاً كيف تكون بطوننا وأنتم تقولون في الجنة لا بول ولا غائط؟! ثم ضحك.. فألهم الله عز وجل المسلم العامي وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [الأنعام:83]، قال له: يا هذا! أنت سخرت من أننا نأكل ونشرب ونتمتع بالجنة بأبداننا وأرواحنا، وأنتم تؤمنون بمجرد أرواح في الجنة، فالطفل الصغير في بطن أمه من الشهر السادس يأكل ويتغذى وينمو على الغذاء وهو لا يبول ولا يتغوط، وبمجرد أن يخرج من بطن أمه يبول!
فكانت صفعة رادعة لذاك الصليبي وانتبه.
نعم أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الشرب يكون كله عرق أطيب من ريح المسك، وأما الشبع يكون جشاء، فلا بول ولا غائط ولا مرض ولا هرم ولا كبر ولا ولا.. وعالم الجنة غير قابل للفناء.
عرفتم يوم القيامة ما ننسى هذه الكلمة الإلهي: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:55]، قد يقول القائل: هيا نتبع عيسى الآن، نقول: نعم، ولكن ما نسخه الله من الشرائع والأحكام يجب أن نتركها لأن الحكيم نسخها، وما أقره ولم ينسخه وما هو عليه نحن الآن نعمل به وقائمون عليه، فما خرجنا عن شريعة عيسى أبداً إلا فيما أذن الله فيه بالفعل أو الترك حسب علمه وتشريعه للخلق، عقيدتنا عقيدة عيسى والحواريين، عبوديتنا هي عبودية عيسى والحواريين، فكون أحل لهم طعام حرمه علينا، أو أذن لهم في فعل ما لم يأذن لهم فهذا يعود إلى حكمة المشرع بحسب أحوال الناس وأوقاتهم، فنحن متبعون لعيسى عليه السلام، لكن لما خالفناه وخرجنا عن هدي الله ورسوله أحل الله بنا ما أحل بنا؛ استعمرنا الشرق والغرب وأذلونا وأهانونا وما زلنا نستعطفهم ونسترحمهم، أما وعد الله فنافذ: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [آل عمران:55]، والنصارى ما اتبعوا عيسى بل كفروا به، فجعلوه إلهاً فعبدوه وجعلوه إلهاً مع الله، ما ننسى بيان عيسى أبداً: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، أما كون اليهود أذلاء تحت النصارى لقلتهم فقط، ومع هذا فقد انتصروا على النصارى، وهم يسوسونهم في الداخل والخارج بحيلهم ومكرهم، وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [آل عمران:55]، فالشرائع والأحكام الذي اختلفتم فيها الله يحكم بينكم فيه، فيحق الحق ويبطل الباطل.
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:56]، ولأن الكفر مفزع في الحقيقة، ففطرة الإنسان لا تتلاءم مع الكفر، الآن لو تقول لمسيحي: كافر! يغضب، لو تقول ليهودي: كافر! يغضب، لو تقول: لعاصي من العصاة الذين لا يصلون ولا يصومون يا عاصي! يغضب.
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا [آل عمران:56] بالهون والذل والدون والإهانة والفقر والبلاء.
وَالآخِرَةِ [آل عمران:56] لا تسأل عن عذاب النار فطعامهم الزقوم وشرابهم الحميم، والسلاسل يدخلونها في فمه ويخرجونها من دبره، طولها سبعون ذراعاً.
فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ [آل عمران:57]، أجور: جمع أجرة، أجر وأجور، ما يتقاضاه العامل مقابل عمله، هم آمنوا وعملوا الصالحات فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ [آل عمران:57] كاملة.
ثم قال: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:57]، أي: لا يحب الظالمين.
إذاً: فاطمئنوا أيها المؤمنون بأن أجوركم تستوفونها كاملة غير منقوصة؛ وعلة ذلك؛ لأن القاضي لا يظلم؛ لأن المجازي لا يظلم، الظلم حرام عليه، وقد قال تعالى في الحديث القدسي: ( إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ).
وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:57] أبشروا إذاً لن ينقصكم من أجوركم شيئاً.
قولوا: نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
اللهم اجعلنا من أتباعهم الصادقين والمؤمنين الصالحين، واجمعنا بهم يا رب العالمين.
وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة آل عمران (22) للشيخ : أبوبكر الجزائري
https://audio.islamweb.net