اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة آل عمران (18) للشيخ : أبوبكر الجزائري
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سابق عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ فداه أبي وأمي والعالم أجمع قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم لنا هذا الخير واجعلنا من أهله يا رب العالمين.
وأزيدكم: يقول صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ).
كيف نعتزل بيوت الله؟ كيف نشرد إلى المقاهي والملاهي والأباطيل؟
( وما من مؤمن يصلي الفريضة ويجلس في مسجده ينتظر الفريضة الثانية إلا والملائكة تصلي عليه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث )، فإن انتقض وضوؤه خرج إلى خارج المسجد فتقف الملائكة عن الصلاة عليه.
هل أنتم معي في هذا الفهم أو تظنونه شبه خرافات؟ والله لو يرزق أحدنا اليقين لما استطاع أن يفارق بيت الله بين المغرب والعشاء حتى الموت؛ لأن الوقت ما هو وقت تجارة، ما هو وقت سياحة، ما هو وقت وظيفة، إذا كان الكفار أهل النار يذهبون إلى المقاهي والملاهي والمراقص والمقاصف ودور الباطل والسينما أين يذهب أولياء الله، دلوني؟ يذهبون إلى بيوت ربهم، يجلسون بين يديه، يستمطرون رحماته، يطلبون رضاه.
وشيء آخر: يتعلمون الكتاب والحكمة ويزكون أنفسهم؛ لأنهم يريدون أن ينزلوا منازل الأبرار، والمسافة بعيدة حتى تصل إلى دار السلام.
كيف تخترق هذه المسافة؟ بأن تربط نفسك في بيت الله ساعة ونصفًا، ولكنك يا عبد الله تأبى ذلك.
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا [الأعراف:176] إذا كانت لديكم روافع ترفع الحجارة والصخور وأطنان الإسمنت إلى شاهق العمارات، ترفع الأطنان من ظهر السفينة إلى البر والشاطئ، فما هي الرافعة التي ترفع هذا الإنسان إلى الملكوت الأعلى؟
قولوا: القرآن، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الأعراف:176] لا وحي الله ولا هدي رسول الله، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176] وها هم المسلمون عرباً وعجماً يلهثون ولن ينتهي لهثهم أبداً، هذا قرآن أم ماذا؟
هذا القرآن الذي يقرأ على الموتى يا عباد الله، أسألكم بالله يوبخ به الميت هذا أم يقرأ على الحي؟
والله يقول وقوله الحق: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69] ماذا؟ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا [يس:69-70] وقراءة سبعية: (لتنذر من كان حياً)، أين الميت؟ من ثمانمائة سنة والقرآن لا يقرأ إلا على الموتى، لا يجتمع اثنان في ظل شجر أو حائط أو في بيته يقول له: أسمعني شيئاً من كلام ربي، اقرأ علي شيئاً من القرآن ،أبداً، ومن قال: كيف؟ يرفع يده، هل مر بكم أحد وقال: تعالوا أسمعوني كلام الله؟ حصل هذا؟ يقرأ على الموتى، أي نعم، أليس هذا الواقع؟
ما هي الرافعة التي ترفع البشرية إلى مستويات الكمال البشري؟ القرآن والحكمة المحمدية، الحكمة تبين القرآن وتظهر مراد الله منه، لا بد من رسول الله، والقرآن هو مصدر الهداية الإلهية.
إذاً: واحر قلباه ممن قلبه شبم. بعد هذا البكاء نعود إلى درسنا وتلاوة كتاب ربنا.
المجوس واليهود والنصارى الثالوث الأسود، أبعدونا عن روح الحياة، يا أيها الزائرون هل بلغكم أن القرآن بمثابة الروح أم لا؟ قالوا: ما بلغنا ما سمعنا، إيه ما بلغهم، أما قال تعالى في سورة الشورى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]؟ سماه روحاً أم لا؟ وهل يحيا مخلوق كائن بدون روح؟ ولا بعوضة، القرآن روح لا حياة بدونه أبداً.
نظر العدو إلى حياة تلك الأمة الطاهرة النقية في قرونها الذهبية الثلاثة فعرف أنها والله ما حييت إلا بالقرآن، ولا اهتدت إلى كمالها إلا بالقرآن؛ لأن القرآن روح ونور، نحلف لكم بالله العظيم إنه لنور، خالق النور وواهبه يقول: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8]، وفي هذه الآية: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52].
قالوا: أبعدوهم عن القرآن فيموتون ويعيشون في الظلام، وفعلوا ونجحوا، كيف تقول يا شيخ: نجحوا؟ أنا أسألكم: استعمرونا أم لا؟ أين ممالك الهند الإسلامية؟ أصبحت مستعمرات بريطانية أم لا؟ أين جزر جاوى الإسلامية؟ أصبحت مستعمرات بلجيكية أم لا؟ أين الشرق الأنور الأوسط؟ أصبح مستعمرة بريطانيا أم لا؟ أين شمال العروبة والأفريقية والإسلام؟ أصبح مستعمرات إيطالية وفرنسية وأسبانية، هل هناك من يرد علي؟ لو كانوا أحياء مهتدين أيستعمرهم كافرون ميتون؟ والله ما كان ولن يكون.
وما زلنا على حالنا ما أفقنا أبداً، القرآن نجتمع عليه في الموت فقط، والآن حتى العرس لا بأس أيضاً؛ لأنهم يفرفشون، لا ليتدبروا فتلوح الأنوار ويمشون وراءها لهدايتهم وكمالهم.
هيا نتلو هذه الآيات لنقف على ثمارها الناضجة، وهدايتها القرآنية؛ لأن القرآن كل آية منه تحمل هداية إلهية، ستة آلاف ومائتان وأربعون آية، كل آية علامة كالشمس تدل على وجود الرب وعلمه وحكمته وقدرته ورحمته.
فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ [آل عمران:39] أين؟ يصلي أم يرقص؟ أين نادته الملائكة؟ أين كان؟ في المحراب: وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ [آل عمران:39-40] كيف يقول زكريا؟ لأن العدو ما إن سمع البشرى حتى قال: إيه يا زكريا! هذا الشيطان يضحك عليك. كيف هذا؟ أنت رجل كبير وامرأتك عاقر ويقول لك ويبشرك؟ ما هو من الملائكة، هذا الشيطان. فاضطرب نبي الله زكريا، وطلب من ربه أن يعطيه آية.
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا [آل عمران:41] لا تقل: كيف جاء الشيطان ليفتن نبي الله؟ هل عرفت أنه جاء لإبراهيم أم لا؟ من أجَلُّ: زكريا أو إبراهيم؟ إبراهيم. لما رأى في منامه أن يذبح إسماعيل تقرباً إلى ربه وطيبته هاجر وغسلته ونظفته وخرج به إلى منى؛ ما إن وصل إلى العقبة الفاصلة بين منى ومكة حتى وقف العدو: أي إبراهيم! ماذا يفعل ربك بهذا الغلام؟ أين يذهب بعقلك يا إبراهيم؟ إن الله في غنى عن أن تذبح هذا الطفل، ارجع، رجمه بالحصا، عرف أنه عدو الله، وتقدم فاعترضه في المرة الثانية، تعرفون هذا أم لا؟ ماذا ترمون في الحج؟ الأماكن التي وقف فيها العدو أم لا؟ ذكرى خالدة إلى يوم القيامة، فلعنه ورماه وتقدم إبراهيم حتى الجمرة الأخيرة، أيس العدو، فلا عجب أن يقف الآن هذا العدو على زكريا ويقول: كيف تفهم هذا الفهم وتقول: الملائكة بشرتني؟ هذا الشيطان يضحك عليك.
هنا: قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً [آل عمران:41] علامة. قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [آل عمران:41]هل المعنى: حرمت عليك الكلام؟ لا، لن تستطيع أن تنطق، مع كمال فصاحته ورجولته وبشريته، ثلاثة أيام والله ما يقدر على أن يقول: قف أو اجلس، ولا يطلب حاجات إلا بالرمز، وفي نفس الوقت لسانه من الذاكرين إلى عنان السماء، يذكر الله، يمجده، يسبحه، يهلل كأفصح ما يكون، ولا يقدر أن يقول: أعطني يا فلان الماء .. أين ذهب فلان؟ من يقوى على إعطائه هذه الآية؟ والله لو تجتمع البشرية كلها ما استطاعت أن تعطيها لرجل، نعم. يقطعون لسانه وما يتكلم، هذا يذكر الله بأعلى صوته، أما أن يقول: فلان ذهب، والمرأة عند الباب، والماء موجود فلا.
قال: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:41] واضح هذا القرآن أم لا؟ هذا يقرأ على الموتى، أيقومون يتوضئون ويصلون، أو يتوبون من ذنوبهم ويستغفرون؟ انتهى أمرهم. هذا يقرأ على الأحياء فقط.
قال: [ الاعتبار بالغير؛ إذ زكريا دعا بالولد لما رأى كرامة الله تعالى لـمريم ] زكريا في عمر ثمانين سنة أو تسعين ما يلد، امرأته عاقر، قطعت رحمها ما هناك شيء، ولما سمع مريم، من مريم هذه؟ خادمة الله. بنت من؟ عمران، أمها ما اسمها؟ حنة. مريم نذيرة الله، خادمة الله، أمها نذرتها لله.
رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا [آل عمران:35] لا أستأنس به ولا يخدمني ولا يبيت ولا يظل معي، هو لك يا رب، فقط أكرمني بوجود ولد، واستجاب الله وأعطاها الولد، أعطاها مريم، ومعنى مريم: خادمة الله، فلما ولدتها لفتها في القماطة في لفافة من قطن أو كتان وخرجت بها إلى المسجد تعرضها على صلحاء بني إسرائيل، من يأخذ هذه النذيرة؟ واشرأبت النفوس وتطاولت الأعناق وكل يريد أن تكون في بيته لأنها نذيرة الله، مستواهم كان عالياً رفيعاً، فاضطروا إلى القرعة، من يظفر بهذه النذيرة وتعيش في بيته وهي لله، فاقترعوا ففاز بها زكريا، وتدبير الله أن امرأة زكريا خالة مريم لتعيش في بيت خالتها، والخالة بمنزلة الأم، يقول هذا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ( الخالة بمنزلة الأم ) فهي أولى القريبات بالحضانة بعد الجدة والأم، الخالة بمنزلة الأم.
واستأجر لها زكريا ضئراً مرضعاً سنتين كاملتين، لما أصبحت تعقل وضعها في المسجد؛ لأنها منذورة لله، أين في المسجد؟ غرفة ملتصقة به وبابها مفتوح إلى المسجد وهي فيها تعبد الله.
إذاً: فكان عليه السلام وهو نبي الله ورسوله إذا أتاها بالغداء أو العشاء أو تأخر يجد عندها فاكهة الجنة، فاكهة في الصيف لا توجد في الصيف وأخرى في الشتاء لا توجد في الشتاء، فسألها قال: أنى لك هذا يا مريم؟ كيف؟ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:37] هنالك دعا زكريا ربه، ما دامت السنن يتجاوز الله عنها ويتركها إذاً سيعطيني ولداً وإن كنت كبير السن وامرأتي عاقراً.
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ [آل عمران:38] ماذا قال؟ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [آل عمران:38] هنا اعتبر زكريا بمريم أم لا؟ هذا الاعتبار، ما دام رأى أن الله قادر على أن يبطل السنن بكاملها، أتاها بفواكه الشتاء في الصيف والصيف في الشتاء؛ فكذلك يعطيه الولد وإن كان كبير السن وكانت امرأته عاقراً.
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ [آل عمران:38] هذا هو الاعتبار أم لا؟
( الدعاء هو العبادة ) ومضت على أمتنا قرون لا يدعون الله إلا مع الصالحين، الله وحده، يا الله، يا رجال البلاد، يا رب، يا رسول الله، ما هناك دعاء لله وحده. وربما يقول البعض: لعل الشيخ واهم، خرّف! اسألوا أهليكم عن: يا رسول الله يا رسول الله، يا مولاي فلان، أين الله؟ حتى في السيارات: يا فاطمة، يا حسين ، أما الله فلا.
الدعاء مخ العبادة، وقد مثلنا غير ما مرة للعبرة، حيث نقول لشخص: ارفع يديك على هيئة الدعاء وتمسكن، فسنرى أن هذا العبد -والله- لفقير، والله يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ [فاطر:15] هذا والله فقير، ما الدليل؟ ها هو يشحت، هل رفع أكفه أم لا؟ أعلن عن فقره؟
ثانياً: ربه فوق أم عن يمينه أو شماله؟ فوق، ذلك أنه رفع يديه هكذا إلى السماء.
ثالثاً: هذا مؤمن بأن الله تعالى يسمع كلامه وهو على عرشه بائن من خلقه، والمسافة لا تقادر والله يسمعه، مؤمن بسماع دعائه.
رابعاً: شعور كامل بأن الله غني وقدير على أن يعطيه حاجته، لو لم يعرف هذا والله ما رفع كفيه إليه ولا سأله. عرفتم هذا؟ إذاً: الدعاء هو العبادة، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( الدعاء هو العبادة ) ( من لم يسأل الله يغضب عليه )، ألحوا في الدعاء.
إذاً: [ مشروعية الدعاء وكونه سراً أقرب إلى الإجابة ] وزكريا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم:3] ما معنى خفي؟ سر لا يطلع عليه أحد حتى في بيته، فالدعاء كونه سراً أقرب إلى الإجابة من كونه علناً.
إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [مريم:3-4]، فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [مريم:5].
فيستحب أن يكون الدعاء سراً كالذكر، نحن لا نعرف نذكر الله سراً، بل نرفع أصواتنا: الله، الله، الله، هو هو هو. لا إله إلا الله. هكذا كان آباؤنا وأمهاتنا، قروناً ما نعرف كيف نعبد الله. من فعل بنا هذا؟ الثالوث الأسود، صرفنا عن كل سلم يرقى بنا إلى الكمال، أبعدنا عن كل طريق تصل بنا إلى الفوز والفلاح؛ لأنه عدو ونحن له عدو، ولكن ما أفقنا ولا عرفنا.
قال: [ مشروعية الدعاء، وكونه سراً أقرب إلى الإجابة، وكونه في الصلاة كذلك ]، الدعاء في الصلاة أقرب إلى الإجابة منه خارج الصلاة، كونك تصلي وتدعو أفضل، والدليل: لما قنت أبو القاسم شهرين كان يقنت في الصلاة أو خارجها؟ لم ما طلع المنبر ودعا بالناس؟ يدعو وهو في الصلاة، وقال: ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ) والله يقول: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19]. من أين أخذنا هذا؟ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ [آل عمران:39].
إذاً: فضيلة صلاة الصبح والعصر، ويبين هذا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فيقول: ( من صلى البردين دخل الجنة ) أي: لازم هذه الصلاة حتى مات، صلاة البرد الأولى: الصبح، والبرد الثاني: العصر.
ما نحفظ هذا الحديث: ( من صلى البردين دخل الجنة ) قلها يا بني: ( من صلى البردين دخل الجنة ) لم لا نحفظه حتى ندعو الناس إلى صلاة الصبح وصلاة العصر؟ لأن الصبح وقت نوم والعصر وقت راحة.
( من صلى البردين دخل الجنة ) والله يقول: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [غافر:55].
إذاً: في هذه الآيات هدايات عظيمة أم لا؟ أنوار تلوح لأولي الأبصار، للذين يقرءون القرآن للهداية، لطلب المعرفة والسير في طريق الله الموصل إلى رضاه.
ستون فارساً جاءوا للجدال، للمحاجة، تريدون خبرًا عن عيسى؟ أنا أعلمكم بجدته إن كنتم لا تعرفون، كيف حملت جدته بأمه وأنتم لا علم لكم، ما سبق: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ [آل عمران:33-36] إيه! تحاجون محمدًا؟ أنتم جهال ما تعرفون عن عيسى شيئاً، محمد الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب اسألوه يقص عليكم تاريخ عيسى من عهد جدته، أفحمهم، قطعهم، ورضوا بدفع الجزية وانهزموا.
وما زال السياق الكريم، قال تعالى: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ [آل عمران:42] اذكر يا رسولنا لهذا الوفد الطائش.
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ [آل عمران:42] يا خادمة الله.
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ [آل عمران:42] اختاركِ من بين نساء العالم عالم زمانها.
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ [آل عمران:42] لا ذنب تقارفه أبداً، لا إثم ولا ذنب، من أين يأتيها؟ أليست هي محبوسة في المحراب ملازمة للمسجد تذكر الله طول الليل والنهار، طهرها أم لا؟ بهذه الأسباب العجيبة.
وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:42] اختارها اختيارًا على علم لأن تظهر آيات الله فيها، فينفخ جبريل في كم درعها فتسير النفخة إلى بطنها، فإذا عيسى عبد الله ورسوله يهتز في بطنها، فألجأها الطلق إلى جذع النخلة في ساعة، هل لنساء العالم أن يفزن بهذا؟ مستحيل. مختارة هذه: وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:42].
أخبرنا أبو القاسم قال: ( كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع: مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ، وفضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ) خمس الآن زد عليهن أمك وزوجتك وأختك وبنتك إذا والت الله بعد أن عرفته فلم يتقلب قلبها إلا في طلب حبه ورضاه، وزكت نفسها بالعبادات وطهرتها بالبعد من الذنوب والآثام هي في هذا الكمال، واقرأ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ... [الأحزاب:35] إلى آخر الآية. فقط قلبك تعطيه لله، لا لـسلمى يا رجل، ولا لـفريد الأطرش يا امرأة، قلبك لله لا يتقلب إلا في طلب رضا الله، ووجهك لا تقبل به إلا على الله، والجوارح تابعة تؤدي الواجب وتبتعد عن الحرام، وتعيش على ذكر الله حتى يوافيك الأجل فتحتفل بموتك الملائكة في حفل عظيم، واقرءوا قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [فصلت:30-31].
آه! ما للمسلمين ما عرفوا هذا؟ لأنهم هجروا كتاب الله وبيوت الله، سحروهم فأبعدوهم، وملئوا قلوبهم بحب أوساخ الدنيا وقاذوراتها فنسوا هذا كله وهجروه.
اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43] فكانت تصلي مع الرجال في بيت المقدس.
وأبو القاسم أذن للنساء منا كذلك فقال صلى الله عليه وسلم: ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله )، وكان عمر يمنع عروسه وهو فحل، يا عمر ! نصلي العشاء؟ فيغضب، يا عمر ! نصلي الصبح في الظلام؟ فلا يجيب، قالت: أما والله قد أمر رسوله أن يقول: (لا تمنعوا) فلأصلين حتى تقول: لا تخرجي، وما استطاع أن يقول لها: لا تخرجي.
قالت: إذاً سوف أصلي الصبح والعشاء في المسجد.
وقد كانت نساء الصحابة يحضرن الصبح في الظلام والعشاء في الظلام، وأما في النهار فلا، لماذا؟ حتى لا يفتن الفحول من الرجال، وحتى لا يفتتن هن بالرجال.
وهنا قد يسأل سائل: يا شيخ! كيف تقع هذه الفتنة؟
والجواب: إذا نظر إليها فتن، وإذا نظرت إليه فتنت، وإذا مسها بأي شيء .. يصافحها أو يقدمها بعلها هذه مدام فلان.
لا تعجبن بني فإن القوم جهال، ما عرفوا أن النظرة هكذا تلقيها عمداً ينعكس دخانها ونتنها على روحك وأنت لا تشعر؛ لأننا نحافظ أشد المحافظة على طهارة أرواحنا وزكاتها، فكل ما يلوث تلك الطهارة أو يصيبها بدخن حرام نبتعد عنه؛ لأن سعادتنا موقوفة على زكاة نفوسنا، ما سمعتم حكم الله الصادر علينا؟ أما قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]؟ فالنظرة الأولى معفو عنها، ما ينعكس دخانها؛ لأنك غير قاصد، التفت فوجدت امرأة فنظرت، والثانية سهم من سهام إبليس مسموم أيضاً.
فلهذا إما أن نحجب الرجال عن الشوارع والأسواق وإما أن نحجب النساء، لا محالة، خيروا. ماذا ترون؟ نحجب الرجال؟ يا رجال! غطوا وجوهكم ودعوا النساء يكشفن وجوههن، هذا مخالف للفطرة أم لا؟ لأننا نحن الفحول لنا مجالات: المزرعة والمتجر والبناء والشوارع، والمؤمنات لهن البيوتات لتربية البنين والبنات، مصادر البشرية، ما هن في حاجة إلى أن يخرجن إلى الشوارع، هذه هي الفطرة البشرية أم لا؟ هذا دين الله، والماسونية الخبيثة قلبت أوضاع الحياة من أجل أن يكونوا دولة بني إسرائيل وكونوها.
وبعض الناس يشبك يديه مع امرأته في الشارع ، فهذا يحملها على ظهره أحسن! المرأة ظل الرجل تمشي وراءه في ظله، لا إلى جنبه ولا أمامه، فإن قدمها أمامه أصبح ديوثاً، تقوده إلى حيث تشاء، وإلى جنبه أصبحت مساوية له، أين تمشي المرأة؟ وراء الرجل، هو حاميها، هو الأسد وهي كاللبؤة وراءه، هو الذي يدفع عنها، أما إذا كانت هي أمامه وهو وراءها فلا يستقيم ذلك، فآه مما فعل بنا اليهود!
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43] هذه هي الصلاة أم لا؟ ما قال: صل، بل ذكر ما هو أعظم، وهو الاطراح بين يدي الله، تعفير الوجه على التربة في الأرض، والانكسار بين يدي الله، وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43].
يقول تعالى في هذه السورة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:100] لبيك اللهم لبيك. اسمعوا: إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100].
إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:100] من هم أهل الكتاب؟ اليهود والنصارى، أساتذتنا ومعلمونا.
أكثر من درسوا عليهم وتخرجوا على أيديهم وأصبحوا وزراء وفنيين في العالم الإسلامي من هذا النوع، هبطوا.
ويقول تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101] مستحيل.
وصلى الله على نبينا محمد.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة آل عمران (18) للشيخ : أبوبكر الجزائري
https://audio.islamweb.net