اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة آل عمران (15) للشيخ : أبوبكر الجزائري
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وقد تم لنا هذا الموعود، فقف يا عبد الله وانظر إلى هؤلاء المؤمنين في هذه الحلقة فإنك تشاهد السكينة، ولو كان هذا الاجتماع في غير هذا المكان لكنت تسمع اللغط، والقول، والكلام، والضحك، والالتفات، والقيام والقعود، فما لنا ساكنين؟ لأن السكينة نزلت، والرحمة غشيتنا في هذه الساعة، في هذه اللحظة، فلا شر ولا أذى ولا ظلم ولا، فأية رحمة أظهر من هذه؟!
وأما الملائكة فيحفوننا، والله إنهم ليحفون بالحلقة ويطوفون بها ويستمعون الذكر وإن كنا لا نراهم لضعف أبصارنا، فلا قدرة لنا على رؤيتهم وإلا فهم يحفون بهذه الحلقة، وأما ذكر الله لنا في الملكوت الأعلى فهو ثابت بإذن الله وإن كنا لا نرى ولا نسمع، والحمد لله.
وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:34-37] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.
الأول: ما الفرق بين المداهنة والمداراة؟ وما الممنوع منهما وما الجائز؟
الجواب: المداهنة حرام؛ لأن الله تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9]، والمداهنة: أن نتنازل عن شيء من ديننا لنحفظ به شيئاً من دنيانا والعياذ بالله.
أما المداراة والمصانعة والمجاملة فهي: أن نتنازل عن شيء من دنيانا لنحفظ به شيئاً من ديننا، وهذا محمود.
وجواب ذلك: أن هذا أمر عظيم، وقد روى الإمام البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، ومعنى هذا: أيما قرية، أيما جماعة، أيما مؤمنون أو مؤمنات بلغهم هذا وعرفوه فقد انتهى الأذى من بينهم، فلا سب، ولا شتم، ولا تعيير، ولا تقبيح، ولا ضرب، ولا سلب.
ومن يقدر على أن يؤذي ولي الله؟ لا نقدر؛ لأننا إذا آذينا ولي الله أعلن الله الحرب علينا، وانهزمنا وانكسرنا، بل وخسرنا؛ لأن الله يقول في هذا الحديث القدسي: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، فلكي يأكل المؤمنون بعضهم بعضاً ويسخرون من بعضهم ويستهزئون ويأكلون أموالهم ويفجرون بنسائهم، فامرأة مؤمن يفجر بها مؤمن، وبنت مؤمن يفجر بها مؤمن؛ إذاً: نقول: لا ولي لله إلا من مات وبني على قبره ضريح، ووضعت التوابيت والأزر الحريرية عليه وعكف حوله النساء، وسيق إليه المرضى! ذاكم الولي، أما أنتم الأحياء فلا ولي فيكم، هذه هو قصد هؤلاء.
الجواب: كل مؤمن تقي هو لله ولي، أبيض أو أسود، عربياً كان أو أعجمياً، غنياً أو فقيراً، شريفاً أو وضيعاً، كل مؤمن ومؤمنة اتقى الله عز وجل -أي: خافه- فلم يترك ما أوجب عليه ولم يرتكب ما حرم عليه؛ فهو ولي الله، ومن آذاه فقد أعلن الله تعالى الحرب عليه، وهل يفلح من أعلن الله الحرب عليه؟
لا والله لا يفلح، فمن هنا كان مجتمعنا الإسلامي مجتمع الطهر والصفاء والعدل والمحبة والولاء، فلما عرف الأعداء هذا احتالوا علينا في عصور الظلمة والجهل، وهم الذين جهّلونا ومنعونا من أن نقول: قال الله، تعيش بين علماء لا يقول أحدهم: قال الله ولا قال رسول الله، بل قال الشيخ الفلاني، وقال سيدي فلان! فحرمونا حتى من ذكر الله.
والقرآن هو الروح، تلك الروح التي -والله- لا حياة بدونها!
القرآن حولوه إلى المقابر والمآتم وليالي البكاء، يقرأ على الموتى فقط، ولا يجتمع اثنان في ظل شجرة أو جدار ويقول أحدهما للثاني: أسمعني شيئاً من كلام الله.. اقرأ علي من كلام ربي شيئاً. لن يكون هذا أبداً!
وزادوا المحنة الأخيرة التي ذكرنا، وهي: من قال: أنا ولي فإنه يخشى عليه أن يموت على سوء الخاتمة!
إذاً: هل أقول: أنا عدو الله! أعوذ بالله.
الآن ما بقي من السامعين والسامعات من يؤذي أحداً منا بنظرة ولا بكلمة نابية، ولا بسلب مال وإن قل، ولا ولا بهتك عرض وإن صغر، لأننا أولياء الله، والله يقول: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ).
عند باب المنزل جاءني شاب يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ قال: أنا حارس هذا المنزل، فإذا جاء الرجل بسيارة قلت له: ضع السيارة هكذا، فأول كلمة يقولها لي: ما هو بحق أبيك، من أنت! ويسبونني، فهل هؤلاء مؤمنون؟ أهذا هو الولاء يتركون المؤمن يبكي؟
معاشر المستمعين! أعود فأقول: من هو ولي الله؟ هل سيدي عبد القادر ؟ لقد عايشناه وعاصرناه، عرفنا عنه، مولاي إدريس عرفنا عنه، سيدي العيدروس، البدوي، سيدي أحمد التجاني.. عرفنا أنهم أولياء؟ فكيف عرفنا؟ لقد عرفنا ما لا ينبغي أن يعرف، وجهلنا ما يجب أن يعلم ويعرف.
أولياء الله هم المؤمنون والمؤمنات الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيمون الصلاة، ويحلون ما أحل الله، ويحرمون ما حرم الله، كل مؤمن تقي هو لله ولي، فمن هنا لا غيبة، لا نميمة، لا كذب، لا خيانة في مجتمعنا الإيماني مجتمع أولياء الله، على هذا نحيا وعليه إن شاء الله نموت.
نحصل على ذلك بإيمان وتقوى؛ إذ قال تعالى في تقرير هذه الحقيقة التي جهلها ملايين من المسلمين، قال تعالى من سورة يونس: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، وكأن سائلاً يقول: من هم أولياؤك يا رب الذين لا خوف عليهم ولا حزن؟ فيجيب تعالى بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63] أولئك أولياء الله لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64]، لا يموت أحدهم حتى يبشر بالجنة، برؤيا صالحة يراها أو ترى له.
تذكرون أن وفد نجران النصراني لما وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المدينة النبوية وجاء يجادل، وادعوا أنهم ما ألهوا عيسى وأمه إلا من أجل أن يحصلوا على حب الله! يقولون: عظمنا مريم أم عيسى، وعظمنا عيسى إلى حد التقديس والتجليل والإكبار والعبادة، من أجل أن نحصل على حب ربنا عز وجل!
قالوا: ما عبدناهما لذاتهما، ولكن من أجل أن يحبنا الله ربنا وربهما، فأنزل الله تعالى هذه الآية يقول فيها لرسوله: يا رسولنا! قل لهم: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]، ومعنى هذا: إن كنت تحب الله والله لا يحبك فماذا استفدت إلا الحزن والكرب والألم، أنت تحب الله وهو لا يحبك، فماذا استفدت يا محب سوى الكرب والهم والحزن؟ إذ ليس الشأن أن تحب، إنما الشأن أن تُحب.
يا عقلاء! أليس الشأن أن تُحَب لا أن تَحِب، فما دمتم تريدون أن يحبكم الله فحبه لا يأتيكم من طريق عبادة غيره وتأليه مخلوقاته، وأنا أرشدكم إلى الطريق الذي يصل بكم إلى أن يحبكم الله، فتسعدوا بحبه وتكملوا، ألا وإنه اتباع رسوله النبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم، اتبعوه يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم، هذه من اليقينيات، وهل يتم حب للعبد من الله بدون أن يمشي وراء خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم؟ والله ما ظفر به ولا حصل عليه أبداً.
معشر المستمعين والمستمعات! من أراد أن يظفر بحب الله تعالى له فليمش وراء رسوله، يرفع رجله كما يرفعها رسول الله ويضعها كما يضعها رسول الله، ويتناول اللقمة كما يتناولها رسول الله، ويركب ويهبط على نهج رسول الله، وينام ويستيقظ على نهج رسول الله، ويقضي ويحكم بما حكم وقضى به رسول الله، هذا الذي يظفر بحب الله، ومن طلب حباً لله من غير هذا المسلك فوالله ما ظفر به ولا حاز عليه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، وقد شرحنا هذا الموضوع.
إن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه العقائد والعبادات والآداب والأخلاق من شأنها أن تزكي نفس العبد وتطهر روحه، فإذا زكت روح العبد وطابت وطهرت أحبه الله؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا الطيبين، وقد أصدر حكمه على الخليقة كلها بقوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] أي: نفسه. وتزكية النفس تتم بماذا؟ هل بالماء والصابون؟! يا عبد الله! بم تزكي نفسك؟
زكها بهذه العبادات التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أدها كما بينها فتنتج بحمد الله زكاة نفسك، وتطيب روحك، وتصبح بين الصالحين طاهر النفس، ويدل على ذلك أنه لا خبث ولا تلوث ولا ظلم، ولا شر ولا فساد؛ لأن النفس طابت وطهرت، فكل ظلم وخبث وشر ناتج عن خبث النفس أولاً.
وقد رمز إلى هذا الحبيب صلى الله عليه وسلم إذ قال: ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب )، فمحط الطهر والزكاة في القلب والقلب مقر النفس.
إذاً: متابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم في كل شيء حتى في الخراءة، تبول كما كان يبول رسول الله، تتابعه في كل شيء، فهذه المتابعة تنتج للعبد المتابع بصدق زكاة روحه وطهارتها، ويومها يحبه الله عز وجل، ويصبح من أحباء الله، ومن أحبه الله أسعده والله وما أشقاه؛ إذ كيف يشقي أولياءه؟!
أولاً: محبة العبد للرب تعالى واجبة وإيمان ]، محبتنا نحن لله واجبة علينا، وإنسان لا يحب سيده ملعون يقطع رأسه، فمولاك وسيدك لا تحبه! كيف ذلك وهو يغدق عليك نعمه الليل والنهار؟! فحب الله فريضة على كل مؤمن ومؤمنة.
[ محبة العبد للرب تعالى واجبة وإيمان؛ وذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أحبوا الله لما يغذوكم به من النعم، وأحبوني بحب الله ) ]، أحبوا الله أيها المؤمنون لما يغدق عليكم من الطعام والشراب والأمن والصحة والعافية، وكيف تنسى هذا الإنعام ولا تحب صاحبه؟
وقد قلت لكم غير مرة: إذا خلوت بنفسك فضع رأسك بين ركبتيك وتذكر ما أنعم الله به عليك، فلا تلبث لحظات إلا وعيناك تذرفان الدموع وجسدك يرتعد وأنت في شوق إلى الله وحب له، والذي يعيش السنين العديدة ما يذكر لله نعمة كيف يحبه؟
مع أن طبعك يا ابن آدم أنك تعطى كأس اللبن أو الماء فقط وأنت في حاجة إليه فتحب من أعطاك وتثني عليه وتذكره بخير، والذي يغدق عليك نعمه كل لحظة تنساه ولا تحبه؟!
والعلة هي الجهل، ما عرفنا الطريق إلى الله، أبعدونا عنه، وإلا فهذا الحديث الصحيح كافٍ شافٍ، يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( أحبوا الله لما يغذوكم به من النعم، وأحبوني أنا بحب الله )، ألستُ رسوله؟ ألست نبيه؟ ألست المبلغ عنه؟ فكيف لا تحبونني؟ أحبوني بحب الله عز وجل، إذا أحببتم سيدكم ومولاكم فأحبوا من يحبه هو، وهذا هو الحب الصحيح: أن نحب ما يحب ربنا ونكره ما يكره.
قال: [ ثانياً: محبة الله تعالى للعبد هي غاية ما يسعى إليه أولو العلم في هذه الحياة ]، حب الله غاية نعمل الليل والنهار من أجل أن نفوز بها، أن نصبح من أحباء الله.
وقد ادعى اليهود هذه وادعاها النصارى وما فازوا بها، إذ قال تعالى عنهم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ [المائدة:18]، العبرة بما قبل هذه الدعوى؛ إذ محبة الله تنتج طاعة الله الكاملة، ومن ادعى حب الله وهو لا يطيعه فهو كاذب لا تصدقوه في دعواه، وقديماً قال الحكيم:
تعصي الإله وأنت تزعم حبههذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعتهإن المحب لمن يحب مطيع
فهيا نعمل على أن نمسي أحباء لله بالنية، عزمنا على ألا نعصي ربنا، فنحن أولياؤه، ونمتحن بأوليائه، إياك أن يراك الله الليل أو غداً تؤذي مؤمناً أو مؤمنة ولو بكلمة! انتبه! أولياء الله يحميهم الله، وأولياؤه يحمونهم أيضاً.
[ ثالثاً: طريق الحصول على محبة الله تعالى للعبد هو اتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالإيمان بما جاء به، وباتباع شرعه وطاعته في المنشط والمكره، لقول الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، إذ ليس الشأن أن تُحِب وإنما الشأن أن تُحَب ].
وقصة مجنون ليلى معروفة، فـمجنون ليلى تائه في الصحاري والأودية والجبال من حب ليلى وهي تكرهه، فماذا استفاد؟
الفائدة: أنك تُحَب لا أن تُحِب فقط، فمن أراد منا أن يحبه الرحمن فليطهر نفسه فقط من أدران الذنوب وأوضارها بالبكاء والتوبة بين يديه فيصبح محبوباً لله.
وبقيت زهرة اقتطفناها، وقلنا: هي خير من خمسين ألف ريالاً، حيث قلنا: من منا يعرف أنه محبوب لله؟ لو يجتمع أهل الدنيا والسماء غير الله لا يستطيعون أن يعطوك الجواب، فكيف تعرف أنك محبوب؟
لكن الله عز وجل علمنا، فمن أراد أن يعرف أنه محبوب لله فإنه يعرف، كما في حديث أبي هريرة : ( من عادى لي ولياً )، فقد قال فيه: ( وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل ) بعد الفرائض قطعاً، وما يزال يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام ( حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ).
قلت: إذا أصبحت يا أمة الله لا تطيقي أن تسمعي كلمة سوء فاعلمي أنك قبلتِ! وأنت يا عبد الله إذا أصبحت لا تستطيع أن تسمع كلمة من كلمات السوء فكذلك، ابدأ بالأغاني وانته بالغيبة وسب الناس، إذا أصبحت لا تستطيع ولا تقدر على ذلك فاعلم أن سمعك قد ملكه الله فهو لا يستخدمه ضده أبداً، ولا يستخدمه إلا في رضاه.
ثانياً: إذا أصبحت لا تستطيع أن تملأ عينيك نظراً إلى ما حرم الله عليك فاعلم أنك قبلت وأنك محبوب، فإن أصحبت تملأ عينيك وتنظر إلى النساء غاديات رائحات مكشوفات ومستورات وتجد لذاذة في ذلك فوالله ما قبلت، وبصرك يستخدمه الشيطان لا الرحمن، فما هو ملك لك الآن!
إن أصبحت تشعر كأن اللهب والنار في وجهك لا تقوى على أن تنظر فاعلم أن بصرك مملوك لله، ولا يستخدمه إلا فيما يرضيه ويحبه.
أيضاً: يدك التي تبطش بها بطشاً، تختطف الرجل من على صهوة جواده، هذه اليد إذا أصبحت لا تستطيع أن تمدها لتأخذ إبرة من مال مؤمن حرمه الله عليك فاعلم أنها مملوكة لله، ما تقدر أن تلطم بها جسم المؤمن؛ لأنه ولي الله وأنت وليه، فلا تقدر أبداً أن تؤذي بها مؤمناً أو مؤمنة.
إذاً: أصبحت اليد ليست لك بل ملكها الله، فهو لا يستخدمها إلا في رضاه، فتستطيع أن تستخدمها وتصفع عدو الله من الكافرين أو الفساق أو الفجار وأنت كالأسد، لكن كونك تنال بها سوءاً من مؤمن أو مؤمنة لا تستطيع، كأنك ألين الناس وأرقهم وأجبنهم.
وكذلك رجلك، تستطيع أن تمشي إلى مكة بها حافياً، تمشي بها إلى أبعد المساجد، تمشي بها إلى أبعد المزارات كالأقرباء والمرضى ومن إليهم، وتعجز أن تخطو خطوة واحدة في معصية الله، لا تقدر أبداً، فهنا اعلم أنك ولي الله محبوب له، فزت بحب الله.
والمرحلة الثانية: إن سألته أعطاك، والله لا يخيبك، اللهم إلا أن تسأل شيئاً ليس لك فيه خير، فيصرفه عنك ولا يعطيكه ويعطيك عوضه فوق ما تتصور: ( ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته )، آمنا بالله!
العبد يكره الموت والله يكره إن يسيء إلى عبده، ولكن لابد منه! هذا هو الحبيب، هذا الرحمن الرحيم، أحبوه بما يغذوكم من النعم يحببكم.
قال: [ رابعاً: دعوى محبة الله ورسوله مع مخالفة أمرهما ونهيهما دعوى باطلة، وصاحبها خاسر لا محالة ].
اسمع هذا الإعلان: قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران:33]، من أخبر بهذا الخبر؟ إنه الله. وكيف وصلنا هذا؟ من طريق كتابه ورسوله، كتابه الذي أنزله، ورسوله بينه لنا وعلمناه.
يقول بعضهم مثل هذا لما أعلمناكم من أنهم يحرفون كلام الله، وسبقهم إلى هذا اليهود والنصارى، لا يتركون صفة على حقيقتها أبداً إلا ويؤولون ويحرفون ليبقى الظلام وتبقى الأمة في جهالتها ويسودونها.
وها هو السيد واقف يجادلني، قال: كيف تقول في قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام:74]: إنه أبوه، هذا عمه!
قلت: الله يقول: أبوه، وأنت تقول: عمه! قال: نعم. وشاعت عند المفسرين من السيوطي إلى البوطي ، فلِم هذا؟ ما حملني على هذا؟ الله يقول: أبوه، وتقول: لا، قل: عمه! كيف هذا؟ قالوا: هذا جار على لسان لغة العرب، يطلقون العم على الأب، والأب على العم!
قلنا له: يا بني! هذه القضية درسناها وعرفناها، من أراد أن يظهر في مظهر عال ويسمو في درجة ليكون الناس دونه فإنه يفتري الكذب ليقبل الناس عليه، لقد قال مفسر: الناس غالطون؛ ليس هذا بأبيه، هذا عمه، إذ كيف يدخل أبوه النار!
فيفوز هذا العالم بهذه الشطحات يلتقطها، يأتي بغرائب الألفاظ والمعاني ليظهر في المجتمع، وأحدثكم حديث علم: إن رغبة الآدمي في التفوق والعلو تحمله إذا انفصل عن ولاية الله على أن يفتري ويكذب على الله.
إذاً: لكي يفارقون جماعة المسلمين ليعملوا على إعادة مملكة الساسانيين ومجدهم وتاجهم لا بد أن يضعوا في كل مسألة فاصلاً بيننا أهل السنة وبينهم، تتبعناهم فوجدنا كل عبادة فيها فاصل، حتى النكاح، فهم يتناكحون بنكاح المتعة، وأهل السنة والجماعة أعلمهم رسول الله بحرمة هذا النكاح وأعلن هذا في مكة، وأعلنه عمر ، إذاً: لكي ينفصلوا ويتكتلوا وحدهم تزوجوا بنكاح في المتعة حتى في المدينة.
فلا توجد عبادة بدون فاصل، يقولون: حتى نخرج من دائرة أهل السنة والجماعة علنا نعود من جديد إلى مملكتنا ودولتنا، هذه هي السياسة، فالوضوء يسمح فيه على رجله، وهل فيكم من يمسح في الوضوء على رجله ويعتبره غسلها، وأنه أطاع الله؟
فلا توجد عبادة إلا ووضع أئمتهم فاصلاً لها، هل خوفاً من الله؟ والله ما هو من ذلك، هل رغبة في الجنة؟ العلة: أن توجد تلك الأمة التي هدم عرشها عمر .
إذاً: ما عساي أن أقول؟! إن العلماء من النصارى واليهود والمجوس والمسلمين عندما يتورطون في حب الجاه والمنصب يخترعون ويبتدعون ليتفوقوا ويظهروا، ومن جملة هذا اعتقادهم أن آزر هذا عم إبراهيم وليس بأبيه، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم تحدث بهذا عشرات المرات في القيامة وفي الدنيا، وقال: أبوه، فقالوا: لا. لا، أنت قل: عمه، ما السر؟ حتى لا نقول: أبوه في النار، نقول: في الجنة.
وفي القرآن الكريم أن امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين صالحين فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [التحريم:10].
فأبو إبراهيم آزر كابن نوح كنعان ، هل نفعتهم الأبوة أو البنوة أو النسب؟ ما نفعت، ونحن عندنا الآن علم وبصيرة، فقد عرفنا أن دخول الجنة بزكاة أنفسنا وطهارة أرواحنا، لقد أقسم الجبار بأعظم إقسام: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8] كم يميناً هذه؟ ثمانية. يقسم تعالى على النفس فيقول: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ [الشمس:9-10] وخسر مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:10]، فهل بقي الآن كلام، هل بقي جدال أو خصومة؟ أيحلف الله ويقسم بأعظم أيمان وإقسامات ويقول: حكمنا بكذا، وتقول: لا! من يقول هذا القول؟
والله ما هي إلا رحمة الله، إن زكيت نفسك يا عبد الله بهذه المواد الطيبة الطاهرة المزكية فزت وإن كنت ابن فرعون، وإن أنت لوثتها وغفلت عنها وشغلتك الدنيا وشهواتها ومت وهي خبيثة فلن تفلح وإن دفنت في البقيع؛ لأن حكم الله صدر: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فمن يراجع؟ هل بلغكم أن الله إذا حكم يعقب على حكمه في هيئة استئناف؟! لقد قال تعالى من سورة الرعد: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41]، انتهى الأمر.
نبينا موسى ما إن تجلى الله تعالى للجبل حتى أغمي عليه وصعق، فكيف تستطيع أن تنظر إلى الله وتعرف ذاته؟! فالله تعالى خلق آدم بيديه ونفخ فيه من روحه، أول روح هي روح آدم من الله عز وجل.
وتعرفون كيف أكرمه في دار السلام، وأوجد له عروسه، فزوجه ليست من طين، بل من لحمه ودمه، حواء جدتنا من أين خُلقت؟ من ضلع آدم الأيسر، خرجت وأحبها آدم، وسكن إليها وسكنت إليه، وهما في دار السلام ينعمان بالنعيم الدائم، وإذا بالعدو إبليس، والله ما زنى زانٍ ولا فجر فاجر، ولا كذب كاذب ولا سرق سارق، ولا قتل قاتل، ولا قال سوءاً قائل إلا بنزغته، فكل الشر الذي تشاهده هو علامة وجود إبليس، بعد هذا أيبقى عاقل يقول: أين هو؟ هذا الذي يتشحط في دمه من قتله؟ إنه إبليس، هذا العدو الأصيل.
اغتم وكرب وحزن عندما قال تعالى للملائكة بعد أن خلق آدم: اسْجُدُوا لِآدَمَ [البقرة:34]، أي: حيوه بتحية السجود، والركوع والسجود بمعنى واحد، فما كان منهم إلا أن قالوا: الله أكبر وسجدوا.
وإبليس كنيته هي أبو مرة، فكل مرارة هو والدها! فحينئذ قال: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [الإسراء:61]؟ قال الله تعالى له: اسجد، فقال: لا أسجد؛ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص:76]، قالت العلماء: أساء إبليس في القياس، فقياسه فاسد، ادعى أن النار خير من الطين وهذا خطأ، الطين ينبت البقلاوة والحلاوة والبر والنار ولا تنبت، تحرق كل شيء، فهذا القياس باطل، فلما أبى أبلسه الله وطرده فأخرج من دار السلام.
إبليس هذا هو من عالم الجن، والعوالم الأربعة التي أصبحت معرفتها من الضروريات عندنا: عالم الجن، وعالم الملائكة، وعالم الإنس، وعالم الحيوانات، إذاً: إبليس من عالم الجن، وكان يعبد الله مع الملائكة، إذ الاتصال بين الجن والملائكة ثابت، فالجن مخلوقون من النار والملائكة من النور، وما الفرق بين النار والنور إلا أن هذه تحرق وهذه لا تحرق.
وازداد الكرب بعد الإبلاس والهم، وأراد الإغواء قبل وجود اللاسلكي، فالمؤمنون المحمديون يقولون: أخبر الله تعالى فقط، فلا بد أنه وقع، والجاهلون والمتخبطون قالوا: إبليس دخل في صورة أفعى، ومن يسمح لها أن تدخل الجنة؟ قالوا: بعدما أبلس وأخرج دخل بحيلة. ما هذه الحيلة، قالوا: دخل في صورة أفعى! ويقبل هذا المفسرون والعلماء!
لأنهم أبوا أن يقولوا: آمنا بالله، حيث أخبر تعالى أنه اتصل بآدم وحواء في الجنة اتصالاً أراده الله، ولما عجزوا قالوا: دخل في صورة حية، فهل الجنة فيها حيات!
والآن يوسوس باللاسلكي، خلق الله في قلب كل مؤمن محطة صالحة للتلقي والإرسال، واقرءوا: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس:4-5]، المحطة الموجودة في صدر آدم وحواء، اتصل بهما إبليس بمحطته وراسلهما، وقال: هل أدلكما على شجرة في الجنة إذا أكلتما منها لن تموتا وستخلدا. فآدم تحرج وتردد، وحواء قالت: ها أنا آكل، فالنساء شجاعات إذا كنّ يدلين إلى الهاوية، قالت: ما بي شيء فكل أنت.
ولهذا أنصح لكم ألا تستجيبوا لنسائكم إلا إذا كنّ ربانيات صالحات طاهرات، أول امرأة خانت في الدنيا حواء خانت أبانا آدم، أخبر بهذا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم.
فلما أكلا من الشجرة انكشفت سوأتهما، وقبل كانا مستورين بأنوار الله، ما يخطر ببالهما شيء اسمه فرج ولا شهوة ولا جسم أبداً، سبحان الله! كالطفل الرضيع، طفلك الرضيع هل يعرف شهوة أو لذة أو عورة؟ لا أبداً، غافل تماماً.
فكذلك هما كانا في دار الخلد لا يشعران بشيء أبداً، ما إن زلت القدم وسقط الحجاب حتى تاها، أخذا يضعان ورق الشجر على فرجيهما بالفطرة: وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:121-122].
قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ [آل عمران:33] متى؟ بعد أن تاب عليه وهدى، اجتباه، فنبأه وأضفى عليه من الكمالات، ليحمل رسالة الله ويبلغها إلى أبنائه وأبناء أبنائه وأحفاده، فكان ممن اصطفى الله آدم، مع أنه سبقت له زلة لكن تاب، و( التائب من الذنب كمن لا ذنب له ) ، خذوا هذه القاعدة: من تاب من ذنبه أصبح كمن لا ذنب له، والتوبة: هي الإقلاع الفوري عن الزلة والاستغفار والبكاء والعزم على أن لا عود أبداً، فيمحى ذلك الأثر بإذن الله.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة آل عمران (15) للشيخ : أبوبكر الجزائري
https://audio.islamweb.net