اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة البقرة (1) للشيخ : أبوبكر الجزائري
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن درسنا عن تفسير كلام الله رب العالمين، وها نحن بعد أن ختمنا تفسير سورة الفاتحة -ختم الله لنا ولكم بحسن الخاتمة- نشرع في دراسة وتفسير سورة البقرة.
سورة البقرة سورة مدنية عدد آياتها مائتان وسبع وثمانون آية.
قيل: إنها تحتوي على ألف خبر، وألف أمر، وألف نهي.
وكان الصحابة رضوان الله عليهم إذا حفظ أحدهم سورة البقرة ولوه الأمر، أي: أسندوا إليه ولاية.
هذه السورة ورد في فضلها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة ). أي: حفظها والحصول عليها بركة ، ( وتركها حسرة ). أي: من لم يرزقها ويحفظها أصيب بحسرة، ( ولا يستطيعها البطلة ). يعني: السحرة.
وروى الترمذي أيضاً وصححه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً وهم ذوو عدد وقدم عليهم أحدثهم سناً لحفظه سورة البقرة). بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاً وكانوا عدداً من الرجال، وأمر عليهم أصغرهم سناً؛ وذلك لأنه يحفظ سورة البقرة، وقال له: ( اذهب فأنت أميرهم ). اذهب أيها الشاب الحدث السن فأنت أمير هؤلاء الكبار؛ كل ذلك لحفظه سورة البقرة.
وروي أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تجعلوا بيوتكم مقابر ). لأن المقبرة لا يقرأ فيها القرآن، ولا يصلى فيها فريضة ولا نافلة، فصلوا في بيوتكم النوافل، واقرءوا فيها القرآن حتى لا تكون كالمقبرة والعياذ بالله.
ثم قال: ( إن الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة ). الشيطان يهرب من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة.
قال تعالى: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2]. ويصلح هنا أن نقف على (ريب) فنقول: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ ثم نستأنف فنقول: فِيهِ هُدًى ، ويصلح أن نقف أيضاً عند لفظ (فيه) فنقول: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2]، فلهذا توضع علامات فوق الكلمة الأولى والثانية ليعرف القارئ أنه يجوز الوقف هنا وهنا، والذي يظهر أن الوقف على (لا ريب) أولى، فيكون الكلام فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2].
وإن كان معها الميم والراء كالرعد: ألف لام ميم راء.
وإن كان بدون ميم، الألف واللام والراء كإبراهيم، والحجر، ويوسف، وهود، ويونس نقرأ: ألف لام راء.
وإن كانت الكاف والعين، والهاء، والصاد كما في سورة مريم نقرأ هكذا بسم الله الرحمن الرحيم: كاف هاء يا عين صاد.
وهكذا آل حاء ميم (حم) و(عسق) وآل (طسم) والأحادية (ن) (ق) (ص).
الجواب: أولاً: الأخبار الواردة -والتي نقلها أهل التفاسير في الجملة- أن هذه الحروف تشير إلى مدد وزمان هذه الأمة منقولة عن بني إسرائيل، ولا يصح منها خبر أبداً.
ومن فسرها بأنها إشارة إلى أسماء الله تعالى فهو تفسير بلا دليل.
والقول بأنها أسماء للسور ليس بسليم، فلو كانت (الم) اسم سورة لما قلنا: البقرة، ولا قلنا: آل عمران.
ويبقى القول الذي نحفظه ونحافظ عليه حتى نموت أنها سر الله في كتابه، وهذا هو الوارد عن ابن عباس وغيره: إن لله في كتبه أسراراً، وسر الله في القرآن هي هذه الحروف، فلهذا نقول: (الم) الله أعلم بمراده بذلك. وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، وكذلك (طس) الله أعلم بمراده بذلك.
وإذا كان سراً من أسرار الله فلا يجوز البحث عنها والتعرف عليها؛ لأنها كالغيب، فالغيب لله، ولا يصح لأحد أن يحاول أن يطلع على غيب الله، والذي يدعي الغيب إن لم يتب يموت كافراً والعياذ بالله، والله عز وجل قد أخفى غيوباً رحمةً بعباده، فلا يصح لمؤمن أن يبحث ليعرف ما أخفى الله تعالى وما غيب عن عباده، وقد لعنت الشياطين لأنها حاولت أن تتعرف على الغيب.
إذاً القولة الصحيحة السليمة: (الم) الله أعلم بمراده به، ونفوض الأمر إلى الله.
وقد ورد وصح أن هذه الحروف من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، إذ قال تعالى: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]. فالراسخون في العلم يقولون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ أي: المحكم والمتشابه مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا .
الخلاصة أن هذه الحروف المقطعة منها أحادية كـ(ص) و(ق) و(ن)، وثنائية كـ (يس) و(طه)، ثلاثية كـ (الر)، ورباعية كـ (طسم)، وخماسية كـ (كهيعص) هذه سر لله في كتابه، فإياك أن تبحث عن معناها، وإذا سئلت فقل: الله أعلم بمراده به، وهذا هو التفويض الحق.
الأولى: لما كان المشركون يحاولون أن يمنعوا الناس من سماع القرآن ويصرفوهم بكل وسيلة، وقد نفوا أبا بكر الصديق من مكة؛ لأنه كان يقرأ ويبكي، فتأثر الناس بقراءته وببكائه وأخرجوه من مكة، وقد صرح تعالى بهذا الفعل عنهم بقوله: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26]، قالوا للشعب المكي: لا تسمعوا لهذا القرآن، وإذا كان أحدهم يقرأ القرآن الغوا أنتم فيه بالصياح والضجيج والكلام الباطل؛ حتى لا يتسرب هذا النور إلى آذان وقلوب السامعين من باب الوقاية التي لابد منها.
فلما حاولوا صرف الناس عن سماع القرآن جاء الله تعالى بهذه الحروف التي تجعلهم ينصتون ويسمعون؛ لأنهم ما عهدوها ولا عرفوها، فعندما يأخذ القارئ يقرأ: (الم) وهذا النغم والصوت ما سمعوه، فيضطر إلى أن يصغي بأذنه ليسمع، وكذلك إذا قرأ: (طسم) فيصغي ويسمع.
إذاً الحصار الذي ضربوه على سماع القرآن أزاله الله بهذه الحروف، وقد كان رؤساؤهم يأتون إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم يسمعون القرآن في الظلام، ويتعاهدون أن لا يعودوا، وإذا أخذتهم المضاجع ما استطاعوا أن يناموا، فيأتون مرة أخرى في الظلام ويسمعون قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد جاء هذا مبيناً في سورة الإسراء؛ لأن هذا القرآن الذي يعرف لغته يفعل فيه ما شاء الله، وكم من أعرابي يُلقى كالخرقة البالية، فعندما يقرأ عليه القرآن يغمى عليه.
إذاً هذه الفائدة ذات شأن، وقد نفع الله بها؛ إذ فتحت الأبواب التي أغلقوها عن سماع القرآن.
الفائدة الثانية: أن هذا القرآن الكريم ادعوا -كفار قريش- أنه ليس بوحي الله ولا بتنزيله، وإنما هو مما تلقاه محمد صلى الله عليه وسلم إما من أحد العلماء، وإما تلقاه من الشياطين والسحرة والجان، وقالوا: إنه شعر، وقالوا: إنه سحر، وقالوا: إنها أقوال كهنة، وأحياناً يقولون: أملاه عليه فلان الرومي، وهكذا يتخبطون.
وقد تحداهم الله عز وجل بالإتيان بمثله فعجزوا، وتحداهم بسورة واحدة فعجزوا، فكأنما يقول لهم: إن هذه الحروف (المر) (حم) (عسق) منها تألف هذا الكتاب، وتركبت كلماته، فألفوا أنتم مثله إذ هذه الحروف لغتكم ومنطقكم، وتنطقون بها صغيراً وكبيراً. فإن عجزتم فقولوا: إنه كلام الله.
ويقرر هذا ويشهد له أنه في الغالب ما تذكر هذه الحروف إلا ويذكر الكتاب بعدها:
ص وَالْقُرْآنِ [ص:1].
يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس:1-2].
طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ [طه:1-2].
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ [يونس:1].
الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ [البقرة:1-2].
حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ [غافر:1-2].
أي: أن هذه الحروف المقطعة منها تألف كتاب الله، وهي حروفكم وتنطقون بها، فإن كان هذا ليس كلام الله، فألفوا نظيره، فأسكتهم وقطع أصواتهم، وعرفوا أنه كلام الله.
الخلاصة: لم يقل أحد من أهل العلم: إن هذا مراد الله، الله أعلم. ولكن قالوا: إن الحروف المقطعة أفادت فائدتين عظيمتين:
الأولى: فتحت الباب الذي أغلقه الكفار عن سماع القرآن، فلا يستطيع العربي يسمع (طسم) ولا يمد عنقه، فأصبحوا مضطرين إلى السماع، فإذا سمعوا دخلوا في النور، وعرفوا الطريق إلى الله.
ثانياً: هذا الكتاب لو كان من وضع النبي صلى الله عليه وسلم أو من وضع البشر أو الإنس فإنه مؤلف من هذه الحروف فليأتوا بمثله، وقد تحداهم بقوله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ [الإسراء:88] واتحدوا على قلب رجل واحد عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]، وسكتوا، فتحداهم بعشر سور: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [هود:13] فما استطاعوا. وأخيراً تحداهم بسورة: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:23-24]. وقالت العلماء في قوله: وَلَنْ تَفْعَلُوا : هذه لن يقولها إنسي ولا جني قط، لمَ؟ لأن الله هو الذي يملك الغيب.
ولو قلت الآن: هل تستطيع أكبر دولة وهي اليابان أن تصنع آلة من الآلات وتقول: أتحدى البشرية في ظرف سبعين سنة أن توجدوا نظيرها؟ والله ما يقولون، ولا يستطيعون، والله عز وجل قال في القرآن: وَلَنْ تَفْعَلُوا ومضى على هذا التحدي ألف وأربعمائة عام فلم يستطيعوا، ولن يقول هذه الجملة إلا الله.
وهذا الكتاب هو النور فلا هداية إلى الإسعاد والإكمال إلا عليه وبه، وهذا الكتاب روح، فوالله لا حياة بدونه، وهذا الكتاب شفاء، فوالله لا شفاء للأمراض والأسقام الباطنة إلا به، فالشح، والبخل، والكبر، والحسد، والغل، والغش، والشرك، والرياء، وغيرها من الأمراض لا تعالج بالسكر ولا بالعسل ولا .. إنما بالقرآن وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]. فهذا القرآن هدى وبشرى للمسلمين.
قال: [و(يس)] كذلك قالوا: (يس) هذه اسم الرسول، وهو خطأ فاحش أنكره علماء السلف.
قال: [و(حم)] هذه ثنائية، [ومنها الثلاثية والرباعية والخماسية، ولم يثبت في تفسيرها عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء]، فلا صح، ولا ورد، ولا ثبت حتى في حديث واحد أن النبي صلى الله عليه وسلم فسَّر (حم) ولا (يس) ولا (طه) ولا (ن) ولا (ص) ولا غيرها، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحاشى أن يقول فيها برأيه، فمن أين للآخرين أن يقولوا؟!
قال: [وكونها من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه أقرب إلى الصواب، ولذا يقال فيها: (الم) الله أعلم بمراده بذلك]، أي: كون هذه الحروف من المتشابه الذي استأثر الله وحده بفهمه وعلمه ومعرفته، هذا هو الأقرب إلى الحق، لأن الله قال في الآيات: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7] فقسم القرآن إلى قسمين: المحكم الذي لم ينسخ وهو الذي يحمل الشرائع والقوانين والأحكام، ومعناه واضح جلي، يفهمه أهل القرآن، والمتشابه الذي يقف العبد دونه لا يعرف ما يقول، فيفوض أمره إلى الله ويقول: الله أعلم بمراده بهذا أو بذاك.
قال المؤلف: [وقد استخرج منها بعض أهل العلم فائدتين: الأولى: أنه لما كان المشركون يمنعون سماع القرآن مخافة أن يؤثر في نفوس السامعين، كان النطق بهذه الحروف (حم) (طس) (ق) (كهيعص) وهو منطق غريب عنهم يستميلهم إلى سماع القرآن، فيسمعون فيتأثرون، وينجذبون فيؤمنون ويسمعون، وكفى بهذه الفائدة من فائدة]، فهذه فائدة عظيمة وكافية.
والفائدة [الثانية: لما أنكر المشركون كون القرآن كلام الله أوحاه إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، كانت هذه الحروف بمثابة المتحدي لهم، كأنها تقول لهم: إن هذا القرآن مؤلف من مثل هذه الحروف فألفوا أنتم مثله. ويشهد بهذه الفائدة ذكر لفظ القرآن بعدها غالباً نحو: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ [البقرة:1-2].. الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ [يونس:1].. طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ [النمل:1]. كأنها تقول: إنه من مثل هذه الحروف تألف القرآن فألفوا أنتم نظيره، فإن عجزتم فسلموا أنه كلام الله ووحيه وآمنوا به تفلحوا].
قال المؤلف: [ شرح الكلمات: (ذلك): هذا] أي: هذا الكتاب الذي تسمعون [وإنما عُدل عن لفظ هذا] القريب [إلى ذاك] البعيد [ لما تفيده الإشارة بلام البعد من علو المنزلة وارتفاع القدر والشأن] تقول: هذا الرجل وذاك الرجل، وإذا زدت اللام كان الشأن أكبر. أي: (الم) من هذه الحروف تألف ذلك الكتاب الذي تحداكم به منزله فعجزتم.
قال: [(الكتاب): القرآن الكريم] وهذا رد على من زعم أنه الإنجيل والتوراة، والكتب السابقة موجودة في تفاسير الناس، فالكتاب الفخم الجليل العظيم هو القرآن الكريم، ولا داعي أبداً إلى أن نشير إلى كتاب ما ينزل علينا ولا هو بين أيدينا.
قال: [(الكتاب): القرآن الكريم الذي يقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس.
(لا رَيْبَ): لا شك في أنه وحي الله وكلامه أوحاه إلى رسوله] محمد صلى الله عليه وسلم.
وهنا كلمات لغوية في الهامش: لفظ (الكتاب) يطلق على عدة معان؛ لأن الكتاب بمعنى الكتب، فيطلق لفظ الكتاب على الفرض، ومنه كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] ومعنى كتب علينا: فرض علينا، والفرض الكتب، ويطلق على العقد بين العبد وسيده، لكن أين العبد وأين سيده؟ هذا أيام كان للرجال عبيد أيام الجهاد، فلما نجاهد الكفار ونأسر نساءهم وأطفالهم ماذا نصنع؟ نذبحهم! نصب عليهم الغاز! نقتلهم! لا، نأويهم ونربيهم وندخلهم نور الله، فهذه هي شريعة الله، وقد قدروا على تلويثها وتقبيحها، وجعلوا الجهاد سبة في العالم الإسلامي، وهم شر الخلق للحوم التي تمزقت في هذه الأيام في بلاد الروس ما عرفتها البشرية. الشاهد عندنا أن السيد يكون له عبد قد رباه ونماه، فصلح، يقول لسيده: اكتب بيني وبينك عقداً على أن أعطيك مبلغاً من المال خلال أربع سنوات، واتركني اذهب حيث أشاء وحررني، قال تعالى: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور:33] أما إذا كان أعمى فلا يستطيع أن يتركه أو أن يتخلص منه بل يبقى معه.
ويطلق أيضاً على القضاء والقدر يقال: هذا كتبه الله علينا، أي: قدر وقضى، وهذا مما يدل عليه لفظ الكتاب، ولكن المقصود هنا القرآن الكريم.
ثم قال: [ (لا رَيْبَ): لا شك في أنه وحي الله وكلامه أوحاه إلى رسوله] محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: [ (فِيهِ هُدًى): دلالة على الطريق الموصل إلى السعادة والكمال في الدارين]، فأنت تريد مثلاً مسجد قباء، وتحتاج إلى دليل فيعطيك أحدهم دلالة: إذا وجدت كذا، امش كذا، فهذه تسمى الدلالة، وهي الهداية إلى مسجد قباء، وفي القرآن دلالات هداية إلى السعادة والكمال بل هو كله هداية؛ دلالة على الطريق الموصل إلى السعادة والكمال في الدارين، فهذا الكتاب ليس مخصصاً لإسعاد البشرية في الآخرة فقط، لا والله، بل لإسعادها في الدنيا أولاً وفي الآخرة ثانياً.
ومن قال: المسلمون أشقى الناس اليوم وقبل اليوم، قلنا: نعم؛ لأنهم حولوا القرآن إلى القبور وإلى الموتى فجازاهم الله بذلك.
قال: [ (للمتقين): المتقين أي: عذاب الله بطاعته بفعل أوامره واجتناب نواهيه] (هدىً) لمن؟ (للمتقين) من هم هؤلاء؟ بنو فلان وفلان! المتقون الذي يتقون عذاب الله بوقاية يجعلونها، ويتقى عذاب الله بطاعته، وهي: فعل ما أمر وترك ما نهى وحرم. ولا يتقى الله بشيء غير هذا، وهذه الوقاية تقينا من عذاب الدنيا وخزيها، وعذاب الآخرة وخزيها.
فالقرآن لا ريب فيه، وقد يقول قائل: هل الناس شاكون ومرتابون! نقول: هو ما قال: لا يشك فيه، إنما قال: هو في حد ذاته لا يتحمل الريب والشك، وعلى سبيل المثال: من منكم يشك في أن هذا المسجد هو مسجد الرسول؟ هذا لا يقبل الشك أبداً لمعرفة الناس به، وكذلك من يقول: هذه ليست بالشمس أو هذا ليس بالقمر، وكذلك هذا الكتاب هو في حد ذاته لا يحمل الريب أبداً، ولا يتطرق إليه الشك بحال، وإن شك فيه الناس فإنما هو لظلمة نفوسهم أو لأغراضهم المادية أو لأهوائهم، وهذا أمر آخر.
قال المؤلف غفر الله له: [ من هداية الآية: أولاً: تقوية الإيمان بالله تعالى وكتابه ورسوله. ثانياً: الحث على طلب الهداية من الكتاب الكريم]؛ لأن الله قال: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2].
قال: [ثالثاً: بيان فضيلة التقوى وأهلها] واستنبطنا هذا من قوله: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2] فما قال: للفاجرين أو الفاسقين؛ فهؤلاء لا يجدون فيه هداية، بل هذا النور خاص بالمتقين.
فهذه الفضائل وهذه الأنوار القرآنية الكريمة حازها الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ هذه صفة أولى وَيُقِيمُونَ الصَّلاة صفة ثانية، وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ صفة ثالثة، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ صفة رابعة، وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ صفة خامسة، أُوْلَئِكَ أي: الذين حققوا الإيمان بما سبق عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ أي: أهل الشرف، وأهل المراكز العالية، والمنازل الرفيعة، ولم يقل: (في هدى من ربهم) لأن (على) تدل على الاستعلاء والتمكن، كقولك: ركبت على الفرس، أي: متمكناً منه، فـ(على هدى من ربهم) أي: متمكنون من الهداية، وحسبهم أنهم هُمُ الْمُفْلِحُونَ .
وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ : يُديمون أداء الصلوات الخمس في أوقاتها مع مراعاة شرائطها وأركانها وسننها ونوافلها الراتبة وغيرها.
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ : من بعض ما آتاهم الله من مال ينفقون، وذلك بإخراجهم لزكاة أموالهم وبإنفاقهم على أنفسهم وأزواجهم وأولادهم ووالديهم، وتصدقهم على الفقراء والمساكين]. و(من) في قوله: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ تبعيضية. أي: لا ينفقون كل ما يملكون، ولكن ينفقون من بعض ما آتاهم الله من مال، وذلك بإخراجهم: أولاً لزكاة أموالهم، وثانياً بإنفاقهم على أنفسهم وأزواجهم وأولادهم ووالديهم؛ إذ النفقة هنا واجبة، وبتصدقهم على الفقراء والمساكين.
ثم قال: [ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ : يصدقون بالوحي الذي أنزل إليك أيها الرسول وهو الكتاب والسنة]، لأن السنة وحي ثان، فأحكام الرسول صلى الله عليه وسلم وقضاياه كلها مستمدة من القرآن الكريم، وبعضها وحي خاص يوحى به إليه، فيلقيه الله تعالى في روعه، فلهذا الكتاب الوحي الأول والسنة الوحي الثاني، والسنة هي التي سماها الله الحكمة.
قال: [ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ : ويصدقون بما أنزل الله تعالى من كتب على الرسل من قبلك كالتوراة والإنجيل والزبور.
وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ : وبالحياة في الدار الآخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب، هم عالمون متيقنون، لا يشكون في شيء من ذلك، ولا يرتابون لكمال إيمانهم، وعظم اتقائهم.
أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ : الإشارة إلى أصحاب الصفات الخمس السابقة] ما هي الصفات الخمس السابقة؟ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:4] وقبلها صفتان الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة[البقرة:3] فهذه خمس صفات.
ثم قال: [والإخبار عنهم بأنهم بما هداهم الله تعالى إليه من الإيمان وصالح الأعمال هم متمكنون من الاستقامة على منهج الله المفضي بهم إلى الفلاح.
وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ : الإشارة إلى أصحاب الهداية الكاملة، والإخبار عنهم بأنهم هم المفلحون الجديرون بالفوز الذي هو دخول الجنة بعد النجاة من النار].
والله تعالى أسأل أن يشرح صدورنا ويفقهنا في ديننا، ويتقبل منا إنه سميع عليم.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة البقرة (1) للشيخ : أبوبكر الجزائري
https://audio.islamweb.net