اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , نداءات الرحمن لأهل الإيمان 65 للشيخ : أبوبكر الجزائري
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان. اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارض عنا كما رضيت عنهم، آمين.
قبل الشروع في النداء الثاني والستين أذكركم بالنداء الواحد والستين، وهو النداء الذي استمعنا إليه أمس، وهذا النداء هو قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [الأحزاب:49].
ومضمون هذا النداء والذي نادانا من أجله هو: أنه نادانا ليعلمنا أن المطلقة إذا طلقت قبل الخلوة والجماع وقبل المسيس لا عدة عليها، فمن عقد على امرأة وطلقها قبل أن يخلو بها فلها أن تتزوج يوم طلاقها؛ لأنها لا عدة عليها واجبة ولا مستحبة.
وقد فهمنا هذا من قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [الأحزاب:49].
والمطلقة التي بنى عليها الفحل وخلا بها عليها عدة والله.
الأول: أن تكون عجوزاً لا تحبل ولا تحيض ولا تلد، أو تكون فتاة صغيرة لم تحض بعد، فهاتان عدتهما ثلاثة أشهر بالضبط، لا تزيد يوماً ولا تنقص.
الثاني: وإن كانت صغيرة تلد وتحيض فعدتها ثلاثة قروء، أو أطهار، وكل شهر يأتي فيه قرء، وقد يأتي فيه قرآن.
وهناك عدة أخرى ثالثة، وهي عدة ذات الحمل، إذا طلقت وجنينها في بطنها، فهذه عدتها وضع الحمل. ولو طلقها في الصباح وولدته في المساء انتهت عدتها، ولها أن تتزوج؛ لقول الله تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ [الطلاق:4]، أي: صاحبات الأحمال اللاتي يحملن الأجنة في بطونهن أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4].
وهناك عدة رابعة، وهي عدة من مات عليها بعلها وفحلها وزوجها، فهذه تعتد أربعة أشهر وعشراً، أي: وعشر ليال.
وهكذا نصبح فقهاء، ولو أننا منذ الصبا ونحن مع آبائنا وأمهاتنا في بيوت ربنا في مثل هذا الوقت العظيم بين العشائين، ونتلقى الكتاب والحكمة والله لكنا أعلم من في الأرض وإن لم نقرأ ولم نكتب، ولكن حرمونا، فلا نستطيع أن نجلس أبداً في حلقة كهذه؛ لأن الدكان مفتوح، والمقهى مفتوح، ومجالس الباطل والأضاحيك مفتوحة، فلا نستطيع أن نجلس أو نحبس أنفسنا. إذاً: فلنتذوق طعم المرارة، وهذا هو جزاؤنا؛ لأننا استجبنا لأعدائنا، وخرجنا من بيوت ربنا، فتأصل الجهل فينا، وأصبح المسلم لا يعرف عن الله شيئاً إلا من رحم الله.
وهذه التي طلقت قبل المسيس إن سمى لها مهراً فلها نصفه، فيعطيها النصف فقط، وترد النصف الآخر للزوج المطلق، وإن لم يسم لها مهراً لها المتعة؛ لقوله تعالى: فَمَتِّعُوهُنَّ [الأحزاب:49]. والتمتيع والإمتاع يكون بحسب حال المطلق، وبحسب راتبه، وبحسب دخله، وبحسب عمله، والقاضي هو الذي يبت في ذلك ويحكم.
وأما السراح الجميل فهو الذي ليس فيه أذى لا بالقول ولا العمل، والمسلمون اليوم لا يستطيعون أن يفعلوا هذا، ولو عرفوا لقدروا واستطاعوا، ولكن ما دام أنهم لا يعلمون ولا يعرفون فإنهم لا يستطيعون. والدليل على هذا: أن أحدهم يعيش في مدينة .. في قرية خمسين سنة لا يضرب مؤمناً ولا يسبه ولا يشتمه ولا يسخر منه ولا يستهزئ به، وإن طلبه وقدر عليه أعطاه، وامرأته يؤذيها بالسب والشتم والعناد والطلاق والكلام البذيء، ولا إله إلا الله! وهذا واقع. وسبب هذا الجهل، فنحن ما عرفنا.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته الشهيرة في منى وعرفات: ( اتقوا الله في النساء؛ فإنهن عوان في أيديكم )، أي: أسيرات. ونحن نحسن إلى الأسير اليهودي أو النصراني، ولا نسبه ولا نشتمه، ولا نركله ولا نقبحه، ولا نسخر منه، بل نقدم له الطعام، ونقدم له الشراب، وهو أسير وعدو. والمرأة أسيرة في بيتك وأنت تتعامل معها بما لا ينبغي أن يكون! وتطلق وتراجع، وتحلف بالحرام إن فعلت كذا وكذا، وكأننا ما عرفنا الكتاب ولا السنة، ونحن حقاً ما عرفناهما، فتجد الرجل في المدينة يعيش أربعين سنة .. خمسين سنة ولا يجلس جلسة كهذه، بل يجلس هناك وهناك يتحدث على الباطل، وليس عنده رغبة في أن يعلم عن الله، وهذا في مدينة النبوة، وأما في بلاد الباطل فحدث ولا حرج، فلا أحد يشهد هذه المشاهد، ولا أحد يجلس ليتعلم العلم؛ ولذلك لم يعرفوا.
شعر العبد أنه فاسق إذا لم يسأل أهل العلم إذا كان لا يعلم، وأنه عاصٍ لله بهذا لتعلم، فقوله: اسألوا فعل أمر، أي: واجب عليه أن يسأل، فكل من لا يعلم كيف يتزوج وكيف ينكح وكيف يطلق فيجب عليه أن يتعلم، ومن لا يعرف كيف يعاشر الناس ويخالطهم ويتعامل معهم فقبل أن يفعل يجب أن يتعلم، فضلاً عن أن يتعلم كيف يصوم ويصلي ويجاهد ويرابط.
ولو أخذ المسلمون بهذه الآية، أي: قوله: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] من ستة آلاف آية في القرآن لأفلحوا، فكل من لا يعلم آثم حتى يعلم، وليس في هذا شيء، فالمسئول لا يقول لك: أعطني عشرة ريال حتى أجيبك، أو أعطني زنبيل كذا حتى أجيبك، بل يجب عليه أن يجيبه. ولكن هذه الثغرات هي التي منها دخل العدو علينا، فأصبحنا أميين.
ولعل بعض السامعين من الزوار لم يفهموا فلسفتنا هذه، فأقول لهم: النداء الثاني والستون والنداء الثالث والستون هذان النداءان هما من نداءات ربنا جل جلاله وعظم سلطانه، فهو قد نادى عباده المؤمنين والمؤمنات بلفظ: يا أيها الذين آمنوا . وقد بلغت نداءاته لهم تسعين نداء من البقرة إلى سورة التحريم. وهذه النداءات بعد دراستها والوقوف عليها علمنا أنه لا يوجد ما تتوقف عليه حياة الطهر والكمال والعز والسيادة إلا حوتها هذه النداءات، ولا يوجد (5%) من المسلمين يريدون أن يستمعوا إلى الله وهو يناديهم، أو رغبوا في ذلك. فمالك أمرهم ومن بيده حياتهم يناديهم لإكمالهم وإسعادهم وهم لا يسمعون، وإن سمعوا لا يبالون بما قال، ولا يبالون بفهمها أو عدمه، وإذا فهموا لم يعملوا. وهذا لا يتصور منهم. ونحن سنواصل البكاء إلى أن تنتهي النداءات، ثم نسأل بعد ذلك: هل هذه النداءات تدرس في بيت؟ وسيقولون: ما رأينا، أو هل تدرس في مسجد؟ وسيقولون: ما سمعنا، أو هل تدرس في مدرسة؟ وسيقولون: ما علمنا. وسبحان الله! فكل هذا ما نفع. وآمنا بالله! فهذا حجة علينا فقط، والغافل يقول: أنا لا أجلس في الدرس لأنني لا أستطيع أن أعمل، فلهذا أقوم ولا أسمع شيئاً؛ حتى لا تقوم علي الحجة، ونقول لهذا: مصيبتك مضاعفة! فأنت مطالب بالعلم وقد تركته، فأنت آثم، وقد عصيت الله بذلك، وأما إذا استمعت ولم تفعل فلك نصف الأجر فقط. فافهموا هذا الكلام. فالذي يقول: أنا لا أستطيع أن أعمل، ولهذا لا أحضر مجالس العلم ولا أتعلم، ويبقى على نجاساته، ولا يحاول، نقول له: تعال وأصغ واستمع، وما يدريك أن يشرح الله صدرك في ليلة من الليالي، فإذا بك تقول: الله أكبر، وتطلب رضا الله، ولا تتعلل وتقول: أنا لا أستطيع العمل، ولذلك لن أحضر الدرس، فهذه ليست علة هذه. والذي يجلس في مجالس الذكر والعلم وإن قسا قلبه أو إن انصدم أو حدث له كذا فما يدريك أن يأتي يوم من الأيام وقد شرح الله صدره، وأقبل على العلم والعمل، وأما المقطوع الآيس فلن يفتح الله عليه.
والثانية: حرمة أذيته بأدنى أذى، ولو بحرف.
والثالثة: حرمة نكاح زوجاته بعد موته.
وهيا نتغنى بالنداء، فالتغني بالقرآن جائز، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من لم يتغن بالقرآن فليس منا ).
قال: [ الآية (53) من سورة الأحزاب
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا [الأحزاب:53] ] وهذا النداء حفظه المؤمنون والمؤمنات وطبقوه على عهد الحبيب صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته وإلى اليوم، والذين لا يعرفونه لن يطبقونه.
وعلى صاحب هذه النداءات أن يضع نسخة عند وسادته، فإذا أراد أن ينام قرأ نداء، بمعنى: أنه يستمع إلى نداء سيده، فإذا أمره بأمر عاهده بأن يقوم به، وإذا نهاه عن شيء عاهده أن يتركه، وإذا علمه شيئاً علمه، وإذا بشره بات مسروراً فرحاً، وإذا حذره بات خائفاً متألماً. ومن كان هكذا فهو حي، وليس ميتاً.
الأحياء من الناس هم المؤمنون الصادقون، والكفار أموات، والله لا ينادي الأموات، ولا يقول لهم: يا أيها الذين كفروا افعلوا واتركوا؛ لأنهم أموات؛ ولذلك لا يناديهم.
والدليل على أن الكافر ميت غير حي: أن أهل الذمة من اليهود والنصارى والمجوس الذين يعيشون تحت راية لا إله إلا الله لا نأمرهم بالصلاة ولا بالصيام، ولا بالزكاة ولا بالحج، ولا بالجهاد، ولا نقبلهم حتى أن يدخلوا جيوشنا؛ لأنهم أموات. وأنت لا تأتي إلى ميت وتقول له: قم صل يا ميت! فهذا الكلام ليس معقولاً، ولا تأتي إليه تقول: يا ميت! قم زك من مالك؛ لأنه ميت، بل انفخ فيه الروح أولاً، فإذا سرت في قلبه وجسمه وقال: الله أكبر فكلفه؛ لأنه يصبح قادراً على أن يعمل، وأما هو ميت إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [النمل:80].
إذاً: احمدوا الله على هذه الحياة، فالحمد لله، وهذه الحياة قد تكون كاملة أو ناقصة، وجرب صاحبك في القرية الذي يدخن، وقل له: عبد الله! أنت مؤمن، فلا تدخن، فإن رمى السيجارة من يده وقال: أستغفر الله فهذا والله حي، وإن سخر منك وضحك وقال: ليس في هذا شيء فهذا مؤمن مريض؛ لأنه لا يقوى على الترك.
وكذلك لو رأيت مؤمنة كاشفة عن وجهها وعن عنقها وعن محاسنها، وتتكلم في الشوارع مع الرجال فقل لها: يا أمة الله! احتجبي، فأنت لست بعجوز، فاستري محاسنك، فإن ارتعدت وخافت ووقعت على الأرض ولفت عليها حجابها فهذه مؤمنة، وإذا ضحكت وأخرجت لسانها ساخرة منك فهذه ليست مؤمنة، بل ميتة.
أولاً: أن لا يدخلوا بيوته صلى الله عليه وسلم ] وقد كانت بيوت الرسول صلى الله عليه وسلم تسع، واليوم البعض عندهم عشرون عمارة كاملة، وقد كانت بيوت النبي صلى الله عليه وسلم حجرات، كل بيت منها طبقة واحدة من خشب وطين ولبن فقط، وكان لكل مؤمنة غرفة خاصة بها، وهذه تسمى حجرة وبيتاً، فكان المؤمنون لا يدخلون بيوته صلى الله عليه وسلم [ إلا بإذنه ] وهذا نحن قائمون به، فليس هناك من يدخل على بيت أخيه بدون إذن، وقد جاء هذا في نداء من النداءات الماضية، وهو قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27].
قال: [ كان هذا قبل نزول آية الحجاب هذه ] وآية الحجاب هي التي حجبت النساء عن الرجال الفحول، وقد كان هذا في السنة السادسة، وقد مكثوا ثلاثة عشرة سنة في مكة وست سنوات أو خمس في المدينة ولا حجاب، ثم في السنة السادسة نزلت هذه الآية آية الحجاب.
قال: [ كان هذا قبل نزول آية الحجاب هذه، لقوله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ [الأحزاب:53] ] والذي يأذن لهم هو أو نائبه. وقد بنى الفعل للمفعول، فليس الرسول دائماً يقول: تعال يا فلان! بل هناك أيضاً من يقوم من الأسرة [ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ [الأحزاب:53] ] وإناه بمعنى: وقته، ومعنى هذا: إذا كان غداً إن شاء الله الطعام عند الرسول فلا يأتي المحبون والطماعون والبهاليل قبل الوقت بساعتين، ويجلسون يتبركون ببيت النبي، ولم يكن هناك من لا يقبل هذا، والرسول صلى الله عليه وسلم كالقمر بينهم، أو يخرج عليهم كالشمس عندما تطلع، وحينئذ أصبح الرسول صلى الله عليه وسلم يتأذى، وكان لا يستطيع أن يتكلم مع نسائه، ولا أن يفعل غير ذلك؛ إذ الناس جالسين في البيت، فقال لهم الله: اسمعوا من الآن:
أولاً: لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام، لا أن يؤذن لكم إلى أي شيء، بل إلى طعام، حال كونكم غير ناظرين وقته أبداً، بل ادخلوا مع وجود السفرة، وأما أن تأتوا من الضحى وتنتظروا وتقلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتضيقوا على نسائه فهذا لا يجوز.
فقوله: غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ [الأحزاب:53] أي: وقته [ أي: لا تدخلوا بيت الرسول صلى الله عليه وسلم قبل وقت الأكل بزمن، ولا تجلسوا بعد الأكل أيضاً ] فإذا أكلتم فاذهبوا مع السلامة. فبعض الأصحاب كان يأكل ويبقى يتحدث ويتعلم، وكان الرسول في حاجة إلى أن يستريح، ونساؤه محجوبات عنهم. فلذلك علم الله هؤلاء إذا أكلوا أن يخرجوا مع السلامة، وليدعوا لمن أكلوا طعامه ويخرجوا. وهناك دعوة تساوي مليون من الذهب، وأكثر المسلمين و(95%) منهم لا يعرفونها، فهم يأكلون ويشبعون ولا يعرفونها، فهم يأكلون ويشبعون ولا يقولون: الحمد لله، بل ويأكلون بدون إذن من الله، فهم رأساً يرمون الملاعق في أفواههم ولا يقولون: باسم الله، فلا تأكل حتى تعلم أن الله أذن لك، فأنت تأكل باسمه، فلا تأكل بغير اسمه، ولا تكن سارقاً، ثم إذا فرغت اشكر المنعم، وقل: الحمد لله.
وهذه الدعوة من استطاع أن يحفظها ويذهب بها فهي خير له من قنطار ذهب، وهي: اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم. وهذه ليست صعبة، فليس صعباً أن تقول: اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم، أي: لأهل البيت. وهذه قد جمعت خير الدنيا والآخرة، ولم يبق شيء ناقص أبداً؛ لأنه تعالى إذا بارك لك فيما رزقك فهذا معناه: أنه بارك لك في مالك وفي زوجتك، وفي أولادك وفي وظيفتك، وفي عقلك وفي سمعك، وفي بصرك وفي بدنك، ولم يبق شيء لم يبارك لك فيه، فقد حفظ لك الدنيا بما فيها، وغفر لك ذنوبك وأدخلك الجنة. فليس هناك أمل أفضل من هذا. وهذه من جوامع الكلم المحمدي، فإذا أكلت عند أخيك المؤمن وقلت: باسم الله، وشبعت وقلت: الحمد لله فقل: اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم فهذا أفضل من أكلك خمسين مرة، ولو ذبح بقرة بكاملها فدعوتك هذه أعظم. فاحفظ هذه الدعوة.
وإذا كان واحداً فقط فقل: اللهم بارك له فيما رزقته، واغفر له وارحمه، إذا لم يكن عنده زوجة ولا ولد، وإنما جاء لك بالطعام من السوق فادع له: اللهم بارك له فيما رزقته، واغفر له وارحمه. وإذا بارك الله لك لم يبق لك شيء ناقص؛ إذ معنى بارك: حفظ ما أعطاك ونماه وزاد فيه، فإذا حفظ لك عقلك وسمعك وبصرك ومالك وأولادك ثم غفر لك ذنوبك ورحمك وأدخلك الجنة لم يبق شيء وراء هذا. والذي علمنا هذه الدعوة هو أبو القاسم؛ إذ لا يعرف هذا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: [ لقوله تعالى: فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا [الأحزاب:53]، أي: اخرجوا منتشرين في الأرض، كل إلى أهله أو عمله أو حاجته، ولا تجلسوا بعد الطعام مستأنسين بحديث بعضكم بعضاً، فتطيلوا الجلوس فتضايقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في هذا الوقت، إذ حصل هذا فعلاً من بعض الأصحاب رضي الله عنهم ].
وهنا حكاية لطيفة علمية: فقد كنا داخل المسجد منذ ثلاثين سنة، وجاءني شيعي يتقدم في الحلقة، وقال: يا شيخ! أنا في هم وفي غم وفي كرب، وأنا أتفرس أنك أنت الذي تزيل عني هذا الهم وهذا الغم، فسألته عن همه وغمه، فقال: أنا سمعت الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ [الأحزاب:53]. وهذا أبو بكر وعمر في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته، فمن أذن لهما؟ فقلت له: يا بهلول! كان ممنوعاً الدخول عليه أيام أن كانوا يقلقونه ويزعجونه، وأما بعد أن أصبحت بيته مقبرة فليس هناك مانع أن يدخلوا. وقلت يومها: إن الأعجام يسيئون فهم الشريعة؛ لعدم ذوقهم للغة القرآن، ولذلك لا يلامون. فهذا لا يفهم أن ذلك المنع كان حتى لا يزعج الرسول ولا يقلقه، وأما وقد مات والتحق بالملكوت الأعلى فليس هناك مانع من أن يدخل أبو بكر أو عثمان أو أنا أو أنت، وليس هناك سبب يمنع من هذا، فالآية خاصة بأيام حياته، وعندما كانت نساءه في البيوت فلا يدخل بغير إذن، بل حتى يأذن لهم. فافهموا هذا.
قال: [ وعلل تعالى لذلك بقوله: إِنَّ ذَلِكُمْ [الأحزاب:53] ] أي: الدخول قبل الوقت والقعود بعد الأكل [ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ [الأحزاب:53]، أي: أن يقول لكم: اخرجوا ولا تجلسوا ] وتعال طالع آداب النبوة، فهو إذا دعاهم ضيوفاً في بيته يستحي أن يقول: أريد أن أستريح، فاذهبوا إلى أعمالكم واخرجوا، ولا يقوى أو يقدر أن يقول لهم هذا. وهذه هي الأخلاق التي يجب أن نتحلى بها؛ حتى يراها الإنس والجن فينا، ويقال: هؤلاء محمديون أصحاب النبي محمد. ولكننا لم نتحلى بهذا، والسبب أننا هجرنا كتاب الله وهدي رسوله القرآن، وأصبح المسلمون يقرءونه على الموتى فقط، والسنة تقرأ للبركة، لا لطلب العلم والفهم والهدى والحكمة.
قال: [ وقوله: وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ [الأحزاب:53] ] أي [ أن يقوله لعباده أو يأمرهم به، ولذا أمرهم أن يخرجوا وينتشروا ] فالله رب كل شيء ومليكه لا يستحي من الحق، ولو كان الله يستحي من قول الحق لما استطعنا أن نعرف، ولا أن نسلك سبيل الهداية، فهو يبين لنا.
وهناك من تكون محجوبة إذا كانت في البيت؛ حيث لا يدخل عليها فحل ولا رجل إلا من وراء حجاب، وإذا أرادت الخروج إلى الشارع تحمرت وتبيضت وتزينت وخرجت إلى الشارع! وأنا لا أعرف كيف أوفق بين هذا وذاك، وقد تجد الواحد يستضيفك ويقدم لك الطعام بيده، وأما المرأة فلا تخرج ولا تراك؛ لأنها محجوبة في بيتها، ثم إذا خرجْتَ وخرجوا وجدتها في الشارع تلوي رأسها وتتكلم وتضحك، ونست الحجاب! في حين أن معنى الحجاب هو: حجب النساء عن الرجال، سواء بالحديد أو بالنار أو بالجبال أو بالصخور أو بالستائر، كما هو الواقع الآن، فالنساء الآن وراءنا، وإذا سألت إحدى أمهات المؤمنين عن حكم شرعي سمعته من الرسول، ونزل به جبريل في بيتها فيجوز ذلك ولا بأس، ولكن من وراء حجاب، مع أنه هي أمك محرمة عليك إلى الأبد [ وعلل تعالى ] واسمع الرحمن الحكيم العليم يعلل [ لذلك بقوله: ذَلِكُمْ [الأحزاب:53]، أي: السؤال من وراء حجاب أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ [الأحزاب:53] أيها الرجال! وأطهر لقلوبهن أي نساء النبي صلى الله عليه وسلم ] وقد سألني أمس فحل وقال: ها هو الشيخ الغزالي يقول: لا بأس للمرأة أن تتغنى بأغانٍ تحرك الضمير وتدفع إلى الصالحات، أي: لا بأس للمرأة إذا تغنت بالكلم الطيب؛ لأنها تثير العواطف، وهل السامع يذهب رأساً يركع ويسجد؟! فهو قال: لا بأس أن تغني بالكلم الطيب، وقال: وجه المرأة ليس عورة أبداً، وليست العورة التي عينها عمياء، فهذه عوراء، وقال: العورة هما السوءتان القبل والدبر، وأقول: نعم، هما عورتان، ولكن العورة كلام عام، فكل ما يستحى من كشفه فهو عورة. ولا تقل: يا شيخ! إنه لا يستحيا من كشف وجه المرأة؛ لأننا تعودنا أننا نشاهد النساء كاشفات عن وجوههن ولا يستحين. وأنا أقول: عود نفسك أن تحجب امرأتك عن ضيوفك وفحول الرجال، ثم إذا تفاجأت أن امرأتك تكشف وجهها فإنك تتغير. ثم إن الله قد بين هذا، وهو ليس في حاجة إلينا، فقد قال: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ [الأحزاب:53] أيها الفحول! وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53]. وهم يريدون أن يخادعوا أنفسهم، والجمل والثور والعنز والتيس إذا شم رائحة أنثى هاج، بل حتى الديك من الدجاج، وهم يقولون: الفحول لا يؤثر فيهم هذا أبداً! مع أن هذه غريزة غرزها الله، وطبيعة طبعها الله، فما إن يسمع الفحل صوت الأنثى حتى يتأثر قلبه، ولكنهم لا يؤمنون بالروح ولا بآثارها، ولا بخبثها ولا طهرها أبداً؛ لأنهم ما عرفوا الله ولا آمنوا به.
وأتحداكم أن تعطوني فحلاً - وكلكم فحول- تتكلم امرأة أمامه ولا يتحرك قلبه، حتى لو كان طول الليل يتقلب عليها ظهراً على بطن؛ لأن طبيعته غريزته أنها إذا تكلمت المرأة انفعل لها، وذلك الانفعال له تأثيره على النفس البشرية، وهي تخبث به، وإلا لم يكن هناك معنى لقوله: أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53]. ولكن القوم لا يؤمنون ولا يعرفون. وقد قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. فاعلم أنك تصلي وتصوم من أجل تزكية نفسك وتطهيرها، وليس تطهير بدنك ولا ثيابك، ولكن نفسك؛ لأن الله لا يقبل أن يجاوره في الملكوت الأعلى إلا أصحاب الأرواح الزكية، ولذلك قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. وهم لا يؤمنون بهذا. وهم لا يستفيقون، بل يقولون: ليس هناك شيء في مصافحة المرأة والنظر إلى وجهها، فهو لن يأكلها إذا نظر إليها، وهم يقولون هذا لأنهم ما فهموا، ولا علموا، والله يقول: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53] [ أطهر أي: ] أزكى و[ أكثر طهارة من خواطر السوء الفاسدة التي لا يخلو منها قلب الإنسان إذا خاطب المرأة، أو خاطبت المرأة الرجل؛ إذ مثل هذا من الغرائز الفطرية في الإنسان ذكراً كان أو أنثى ] والمرأة أيضاً إذا سمعت صوت فحل فلا تسمع له، وأزواج الرسول يقول الله تعالى لهن هذا الكلام، فهو يقول لهن: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33]. ويقول: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا [الأحزاب:32]. ومن زمن كانت الغافلات من نسائنا في المدينة إذا قرع أحدنا الباب أو التلفون تقول: مين؟ فقلنا: هذا حرام، قولي: من، ولا تقولي: من؟ والحمد لله فالآن كثيرا من الطاهرات إذا دق الباب تقول: من؟ كما قال تعالى: وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا [الأحزاب:32]. فإذا قال: أين زوجك؟ فتقول: في السوق، ولا تزيد كلمة، وإن كانت لا تدري، فتقول: لا أدري، وإذا كان في المسجد فتقول: في المسجد، والتي ما عرفت هذا المنهج إذا سئلت: أين زوجك؟ قال: زوجي إبراهيم نعم أظنه الآن في المسجد، وقد يكون الآن في بيت أخيه، وتمدد حتى يذوب الفحل. وقد قال تعالى: وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا [الأحزاب:32]. بلا إطناب ولا زيادة في الكلام ولا غير ذلك، وإنما بقدر الحاجة فقط، فتتكلم المرأة مع الرجل بلا زيادة ولا نقصان.
وهم يقولون: صوت المرأة ليس عورة، كما قال الغزالي . ونحن نقول: اسمعوا التعاليم المحمدية، فقد قال: ( من نابه شيء في صلاته ). كأن يكون يتنفل فقرع الباب أو نادى منادٍ فإن كان فحلاً فليقل: سبحان الله! سبحان الله! فيفهم السائل أن الشيخ أو صاحب الدار في صلاة، وإذا كانت امرأة فلا تقول: سبحان الله؟ بل تصفق، وقيل: حتى الصوت لا يكون يطرب، وفي الحديث: ( إنما التصفيق للنساء والتسبيح للرجال ). هذه كلمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يوجد (5%) من المسلمين يعرفونها، وهي شائعة في كتاب الله. فالتصفيق للنساء، والتسبيح للرجال.
ولا إله إلا الله! فهم قد يقولون: يا شيخ! أنت ترجع بنا إلى الوراء! وأقول: وأساتذتكم قد تقدموا وطلعوا السماء ومع ذلك فهم أنجاس في أنجاس. ولست واهماً في هذا. فهاهم في البلاء والدمار والخزي والعار والذل والهون والدون والأكل والشراب كالبهائم، وأنت تعجب لحياتهم، ولا ترغب أن تكون حياتك مثلهم، فهم آيسون من رحمة الله عز وجل، وما إن يلفظ أحدهم أنفاسه إلا وتنقل روحه إلى عالم الشقاء؛ ليخلد فيه أبداً.
وها نحن في المملكة نساؤنا محتجبات، وهم يضحكون منهن ويسخرون، ويعملون في الدس والخديعة ليل نهار وبكل الوسائل؛ حتى لا تبقى المرأة السعودية متحجبة والله العظيم، ونقول: إننا لم نفقد شيئاً لما تحجبت نساؤنا، فنحن لم نجع، ولم نعطش، ولم يأكل بعضنا بعضاً، ولم يهنا الله ويذلنا، ولا سلط علينا اليهود والنصارى، ولم يحدث شيء من هذا، بل أعزنا الله لما سترنا نساءنا، فاحتجبن طاعة لربنا.
وبقي من الدرس بقية، نكملها إن شاء الله غداً. وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , نداءات الرحمن لأهل الإيمان 65 للشيخ : أبوبكر الجزائري
https://audio.islamweb.net