اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , نداءات الرحمن لأهل الإيمان 57 للشيخ : أبوبكر الجزائري
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان، اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارض عنا كما رضيت عنهم. آمين.
نداءات الرحمن تسعون نداء، اشتمل عليها كتاب الله القرآن العظيم.
وهذه النداءات كررنا أنها احتوت على كل ما تتطلبه حياة المسلم، ولم تترك شاردة ولا واردة من العقيدة إلى الآداب .. إلى العبادات .. إلى السياسة في الحرب وفي السلم .. إلى المعاملات في كل ما تطلبه حياة المسلمين إلا واحتوته هذه النداءات.
وقلنا: إن على كل مؤمن ومؤمنة أن يعمل على أن يصغي ويستمع إلى نداءات ربه إليه؛ إذ ليس من المعقول أن يناديك سيدك ثم تعرض عنه، ولا تلتفت إليه، أو تقوم من المجلس، بل إذا بلغك أن مولاك يناديك فأسرع لأن تسمع النداء. ولا يعقل أن ينادينا مولانا، ونحن لا نريد أن نسمع نداءه، فهذا لا يعقل، ووالله لقد نادانا لما أصبحنا أهلاً لأن ينادينا، وعرفنا أن هذه الأهلية إنما هي إيماننا الصادق، فنادانا بقوله: يا أيها الذين آمنوا ، أي: يا من آمنتم بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً.
وعرفنا -والمعرفة نافعة بإذن الله- أنه تعالى لا ينادينا للهو ولا للعب، ولا ينادينا للباطل، وإنما ينادينا إما ليأمرنا فنفعل ما يزكي أنفسنا ويطهرها، ويعدنا للكمال في الدنيا والآخرة، أو ينادينا لينهانا عما يدنس نفوسنا ويلوثها ويخبثها، من أجل ألا نحرم رضاه وحبه وولايته؛ حتى ننتهي عما نهانا عنه، أو ينادينا ليعلمنا ما لم نكن نعلم، ولا نعمة أعظم من هذه، فهو ينادينا ليعلمنا ما لم نكن نعلم، أو ينادينا ليبشرنا أو لينذرنا. وليس وراء هذا شيء. والحمد لله أننا مؤمنون، وأن لنا رباً ينادينا ويأمرنا وينهانا، ويعلمنا ويبشرنا ويحذرنا؛ من أجل إكمالنا وإسعادنا، ووالله لا شيء وراء هذا، وإنما من أجل أن نكمل ونسعد؛ لأننا أولياؤه.
لمنا وعتبنا في نداء أمس على من سمعه ولم يحفظه، وهو قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]. وكم من مؤمن أو مؤمنة يسمع نداء الله في كلمات معدودة ثم لا يستطيع أن يفتح فاه، ويحرك شفتيه، ويردد الكلمة حتى يحفظها، ويسمع القصص فيحفظها، والأباطيل فيرددها! وقد بكينا وقلنا: مضت قرون والعاميون المؤمنون يصلون وراء الإمام عشرين سنة .. أربعين سنة وهو يسمعون، ولا يحفظون الفاتحة، وتكلمهم قال الله وقال رسوله ولا يحاولون أن يحفظوا كلمة، وإذا كلمتهم عن الدنيا والأباطيل والترهات والخرافات يحفظون منها عشرات الكلمات. ولست واهماً في هذا، بل والله كما تسمعون، وسبب هذا عدم الاستعداد لقبول الكمال الإلهي؛ لأننا هبطنا.
وضربنا المثل الحسي الواقعي وقلنا: هذه أم الفضل أم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، تقول: ( صليت المغرب وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ بسورة: (والمرسلات)، فحفظتها ). فسمعتها وحفظتها. ولا تعجب، وكم من نسائنا ورجالنا وخاصة شبيبتنا - أيام كانت الأغاني متعلقة بها قلوبهم، وأيام كانت الآلات يحملونها في أيديهم- ترى أحدهم يحفظ الأغنية من أم كلثوم ، أو من عبد الوهاب ، أو من فلان، ويحفظها بالنغم ويعيدها. وتفسير السر يا علماء النفس: هو لأننا حجبنا عن السماء بالجهل العام، وأصبحنا من أهل الأرض، فما كان في الأرض نشتاق إليه، ونرغب فيه ونحفظه، وما كان يحدثنا عن الملكوت الأعلى والسماء وما فيها لم نحفل به، ولم نهتم، وتمضي الأعوام والله ولا نحرك شفاهنا به أبداً.
والآن عدنا، ونحن ننادي منذ أربعة وخمسين يوماً من يوم أن بدأنا بدراسة نداءات الرحمن، وها هي أيها المؤمنون! قد جمعت لكم فاحفظوها، وتعلموا ما فيها، فهذه سبيل نجاتكم، وطريق سعادتكم، ولكننا كأننا نتكلم مع الموتى.
وهنا ظاهرة لا ننكرها، وهي أن كثيراً من المؤمنات ساهمن في طبع هذه الرسالة، ووصلتنا معوناتهن، وقد بلغت تسعة آلاف. وبعض المؤمنين أيضاً أسهموا؛ لأن هذه الرسالة يجب - وليضحك علينا العلماء، فهم يقولون: كيف يجب؟ ونحن نقول: أيناديك سيدك لإكمالك وإسعادك ولا تسمع النداء؟ ثم إن هذه النداءات تحمل العلم، وهو فريضة على كل مسلم ومسلمة في كل شئون الحياة، في النكاح، وفي البيع والشراء، وفي الحرب والجهاد، وفي الصلاة والعبادات، وأنت لن تتكلف شيئاً، وإذا كنت عامياً لا تقرأ فقل لابنك أو أختك أو أمك: أسمعني الليلة نداء من نداءات ربي، فيقرأه عليك، فتحفظه، ثم يشرحه ويبينه لك، وهكذا، ولن تكمل هذه التسعين نداء إلا وأنت من علماء الأمة الإسلامية، وإن كنت والله لا تقرأ ولا تكتب. ولست واهماً في هذا. فالعلم معرفة كيف يعبد الله وكيف يتقى، وكيف يحب ويخاف، ولا تحتاج إلى قلم ولا قرطاس. وهكذا نبكي.
اعرفوا المطلوب منا في هذا النداء، فالذي طلبه منا منادينا أمرين عظيمين:
وقد عرف الدارسون أهل الحلقة المباركة ثمرة هذه التقوى، فبها يتحقق أسمى هدف، وأشرف منصب، وهو ولاية الله عز وجل. فإذا أردت أن ندلك على ما يجعلك ولياً لله فنقول: آمن به واتقه، وستصبح وليه، ولا يوجد غير هذا، وليس الأولياء هم أهل الكرامات والمعجزات والخارقات وغير ذلك، بل إذا آمنت واتقيت فأنت ولي، كما قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]. وهم الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]. فكل مؤمن تقي هو لله ولي، وإن لم تظهر على يديه كرامة ولا معجزة ولا غير ذلك، وإن كان فقيراً مريضاً لاصقاً بالأرض فهو ولي الله.
إذاً: التقوى تثمر أشهى ثمرة، وهو تحقيق ولاية الله عز وجل. فأولياء الله ليسوا ببيض ولا حمر ولا صفر، وإنما هم فقط المؤمنون المتقون.
وقد احتال العدو علينا، وهذا العدو هو الثالوث المكون من ثلاثة عناصر، وهم المجوس واليهود والنصارى، فقد تعاونوا على ضرب الإسلام والمسلمين، ونجحوا، وكانت أول ضربة ضربوا بها المسلمين هي إبعادهم عن القرآن الكريم عدة قرون، وقرابة ثمانية قرون والقرآن لا يقرأ إلا ليلة الموت فقط، وإلى الآن نقول: دلوني على مؤمن يجلس تحت ظل شجرة أو جدار، أو يجلس في مسجد ويقول لأخيه المؤمن: تعال من فضلك! أسمعني شيئاً من القرآن، فإلى الآن هذا لم يبلغنا إلا نادراً، أو دلوني على مؤمن يقول: أنا لا أحسن القراءة، فتعال يا بني! أو يا أخي! أو يا أبتاه! أسمعني شيئاً من كلام الله، فهذا لا يوجد، في حين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نزل الله القرآن عليه وحفَّظه إياه فحفظه وعرف معناه يقول لـعبد الله بن مسعود : ( يا ابن أم عبد ! تعال اقرأ علي شيئاً من القرآن. فيعجب عبد الله ويقول: أعليك أنزل وعليك أقرأ؟ فيقول: إني أحب أن أسمعه من غيري ). وفي مجالس عديدة لم نر من يقول: اقرأ يا فلان! القرآن، إلا مجلس الشيخ عبد العزيز بن باز أو نادراً، بل تكون المجالس فيها ألف جالس وليس فيهم من يقول: أسمعونا شيئاً من كلام ربنا، بل أبعدونا عن القرآن. والقرآن روح، ولا تتم الحياة بدون روح، ووالله لن تكون، والقرآن نور، والهداية لا تتم بدون نور، وهذا والله ما يكون. ولكنهم أبعدونا عن القرآن فمتنا، وعشنا في الظلام، فلا نهتدي إلى عزنا وكرامتنا وسيادتنا. وحقيقة القرآن روح، فقد أخبر الله بهذا، فقال: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]، أي: نوراً، كما قال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8]. وفي آية الشورى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]. والذين يشاء هدايتهم هم الذين طلبوا الهداية، والذين قرعوا باب الله، فهم الذين يفتح لهم، والمعرضون المستنكفون المستكبرون والله ما يهتدون، فلا بد من طلب الهداية. ولا نطيل، وإنما نحن فقط نذكر الناسين، ونعلم غير العالمين.
وقد عرفنا أيضاً كيف نصبح صديقين مسامين لـأبي بكر الصديق ، والطريق الذي يجب أن نسلكه إلى ذلك، فقد قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ). والمرأة معه كما عرفنا. ( ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق؛ حتى يكتب عند الله صديقاً ). ولن يأتيك صك يشعرك بأنك صديق، بل إذا لم تجرب على نفسك كذبة منذ عشرين سنة أو أربعين عاماً فأنت إذاً: صديق، وقد يعرفك أهل القرية أنك صادق وصديق إذا لم يجربوا عليك الكذب.
وقد أطلنا في تذكار الأمر الأول، لأن هذا يتعلق بغيرنا، ونحن لسنا أهلاً له، حتى نؤمن من جديد، ولكن من باب علمه ومعرفته وما يدعو إليه وما يطالب به، وإن كنا عاجزين فقد يأتي يوماً نقوى ونقدر، فننهض بهذا التكليف.
وهيا نتغنى بهذا النداء ساعة، وهو ليس بالطويل، وجربوا أيها العوام! فستحفظونه.
قال: [ الآية (123) من سورة التوبة
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123] ] فأمرنا بقتالهم لا بقتلهم؛ لأنا إذا قلتنا الكفار فمن يعبد ربنا، وقد خلقهم لعبادته؟ فلهذا لم يقل تعالى: (اقتلوهم) أبداً. والبرهان على ذلك: أنه دارت الحرب عشر سنين بين المؤمنين والكافرين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنوات، وكان القتلى من الجانبين ألفين وخمسمائة قتيل، والآن في بلاد المسلمين يأكل بعضهم بعضاً، وفي ثلاثة أيام سقط سبعة آلاف أو ثمانية آلاف من المسلمين، في حين إن الحرب دارت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة والكافرين من جهة عشر سنين، وكان القتلى من الطرفين ألفين وخمسمائة بالعد؛ لأن الله ما أمرنا بقتل الكفار، بل أمرنا بقتالهم؛ حتى يؤمنوا ويسلموا، ويدخلوا في رحمة الله فيكملوا ويسعدوا، والآن المسلمون يقتل بعضهم بعضاً، وهؤلاء ليسوا بالمسلمين، ولا بأس فلن نسحب عنهم هذا اللقب.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123]. وأما الفاجرين فلن يكون معهم بالنصر والتأييد. وعلى كلٍ إن شاء الله الكتاب لما يوجد بين أيدكم تحفظونه، فلا نضيع الوقت.
وذكرنا: أن لأهل الذمة بعض الترتيبات من باب ترغيبهم في الإسلام، كما ذكرنا في حادثة الأمريكي: ففي يوم الأربعاء كنا في منزل في الرياض على عشاء، وكان هناك مسلم أمريكي، قد أسلم من أربع سنوات، وسمى نفسه حذيفة ، فقلت: يا حذيفة ! اذكر لنا سبب إسلامك، فقال: كنت في باخرة مع ربانها أعمل معهم، فجاء الربان الأبيض ومد يده إلى الأبيض بجانبي يصافحه، ولم يصافحني؛ لأني أسود، فقلت: هذا هو الهوان والدون، فسأطلب الإسلام الذي يسوي بين الأبيض والأسود، والغني والفقير، وغيرهم.
وما إن قال هذا المعنى حتى عرفت مسألتين علميتين، لم أعرفهما منذ الدراسة إلى اليوم، وهما: سبب إلجاء المسلمين أهل الذمة إلى أضيق الطريق، فإذا كنا في الشارع فأهل الذمة يبعدون عن خيل الله إلى جانب الطريق.
وثانياً: سبب قوله الله تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]. وألا يبعثوا بها مع غيرهم، بل يأتي الواحد بنفسه، ويمدها بيده وهو صاغر، والسر في هذا: أن هذا الذمي من أهل الكتاب لما يشاهد نفسه دون الآخرين يتساءل عن المانع، فيعرف أنه ليس مسلماً فقط، فيسلم ليدفع هذه المذلة عنه بالإسلام، وهكذا أسلموا بمئات الآلاف والملايين. فاستفدنا هذه القضية من أمريكي عامي. وكما تفرحون أنتم بالعلم فكذلك نحن فرحنا فرحاً شديداً بهذا، فقد عرفنا هذا السر، والحمد لله.
قال: [ فإن أبو ] الأولى والثانية [ فالثالثة ] إذ لم يبقَ إلا هي [ وهي قتالهم ] لا قتلهم؛ إذ لو قتلناهم لم يبق من يعبد الله، ونحن نريد أن يعبدوا ربنا، فلا نقتلهم، بل نقاتلهم، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة:123]. فقال: قَاتِلُوا [التوبة:123]. ولم يقل: اقتلوا، فنقاتلهم [ حتى يهزموا، وتدخل خيل الإسلام بلادهم عنوة، وتصبح من مال الإسلام والمسلمين ] عقوبة لهم، بعد أن رفضوا الإسلام، ورفضوا الصلح، وأبوا إلا القتال، فلا نقتلهم، ولكن نخضعهم وتصبح ديارهم ريعاً للمسلمين، ولا نؤذيهم، بل نتركهم في مزارعهم يشتغلون، ولهم النصف ولنا النصف مثلاً [ إذ يصبح مال تلك البلاد خراجاً، وتصبح تلك البلاد ضمن بلاد المسلمين، ثم يعسكرون على حدود البلاد المجاورة ] من وراء الحدود الجديدة، فقد قال تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة:123]. فإذا دخلوا العراق عسكروا وراءها على البلاد الأخرى [ ويعملون ما علموا مع الحدود الأولى ] وهكذا حتى ننتهي إلى مغرب الشمس وغروبها، وكذلك فعل ذلك السلف الصالح، فلما وصلوا إلى المحيط الأطلنطي رمى ذلك الصحابي رضي الله عنه بفرسه وقال: اللهم فاشهد! لو كنت أعلم أن وراء هذا البحر عباداً لقطعته. فهيا نكون مثلهم، وعلينا فقط أولاً: أن نطهر قلوبنا ونزكي نفوسنا، ونهذب أخلاقنا وآدابنا. واليوم وردتني رسالة من أقبح الرسالات، وكأنني من شر الخلق، ووالله لو أرفع يدي وأدعو عليه لتمزق، وقد قلت لكم ولا أنسى هذا: أني ما دعوت على أحد إلا أراني الله فيه ما يسيئه، وهذه ليست أمة، فلم تأتني رسالة واحدة فقط، ولا عشر، بل أكثر، فهم بلا فهم لا وعي ولا بصيرة ولا غير ذلك، ويدعون العلم والكتابة وغير ذلك، والعياذ بالله. فوضعنا لا يشكى إلا إلى الله، والسبب لأننا عشنا بلا مربين، فنحن لم نرب في حجور الصالحين، فلم نتعلم الآداب والأخلاق والكمالات، وليس لنا ذلك.
قال: [ وهكذا حتى يكون الدين كله لله، ولا يبقى من لا يدين لله وبالإسلام؛ امتثالاً لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة:123] الآية ] وتتماها: وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123].
قال: [ وقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123] أي: بنصره وتأييده. والمتقون هم الذين اتقوا الشرك ] واجتنبوا [ المعاصي ] أي: معاصي الله والرسول [ و] اتقوا [ الخروج عن السنن الإلهية في النصر والهزيمة ] والذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، والذين يمتثلون أوامر الله ونواهيه، هؤلاء المتقون، فالله معهم.
وعلى سبيل المثال: عندما نغزو فلنذكر أن الله معنا، ولنذكر ما أمر الله به عند الغزو، وهو قوله تعالى: إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا [الأنفال:45-46]. فهذه خمس تعليمات، فإذا لم نؤدها ولم نكن بمتقين لم ينصرنا، وسننهزم وإن كنا نملك الذرة والهيدروجين، فقد قال تعالى: أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:36] بنصره وتأييده، وأما الفجرة الذين يقاتلون لا ينصرهم الله. وسنن النصر والهزيمة معروفة، فالخلاف وعدم ذكر الله هذه عوامل الهزيمة.
قال: [ وفعلاً امتثل أمر الله تعالى المؤمنون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وما إن انتهت حرب الردة في أطراف الجزيرة حتى قام أبو بكر رضي الله عنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجهيز الجيوش الإسلامية إلى الروم عبدة الصليب، وإلى الفرس عبدة النار، ففتح الله تعالى عليه ببركة خلافته لرسوله صلى الله عليه وسلم، وتوفي أبو بكر رضي الله عنه، وتولى أمر المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وواصل الجهاد، فاستولى على ممالك في الشرق والغرب، واستشهد عمر رضي الله عنه في محراب رسول الله ] صلى الله عليه وسلم [ إذ قتله أبو لؤلؤة المجوسي ؛ انتقاماً منه لكسره عرش كسرى، وتولى أمر المسلمين خليفته عثمان ذو النورين رضي الله عنه وأرضاه، فواصل الزحف والجهاد تنفيذاً لأمر الله: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة:123]. فاتسعت البلاد الإسلامية شرقاً وغرباً، ودخلت ممالك كبيرة وعديدة في دين الله، واستمر الجهاد والفتح وحدود البلاد الإسلامية تتسع شرقاً وغرباً طيلة ثلاثة قرون، وهي القرون التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ). وما إن انتهت القرون الذهبية حتى كاد العدو المؤلّف من ثلاثة أعداء - وهم المجوس واليهود والنصارى- حتى أصبح يعرف بالثالوث، كاد أمة الإسلام بالمكر والدس، ففرق كلمتها، وشتت جيوشها ورجالها، ومزق بلادها، وأخذت تتراجع الحدود حتى ضاقت، ووقف المد والجزر، والأمر لله من قبل ومن بعد.
واليوم البشرية تتطلع إلى الإسلام لينقذها من عللها وأمراضها وظلمتها وشرورها ومفاسدها، فعسى الله تعالى أن يتوب على المؤمنين، فتجتمع كلمتهم ودولتهم، فينهضون بهذا الواجب، قتال من يلي حدود البلاد الإسلامية حتى يدخل في الإسلام وهكذا حتى يتم وعد الله في قوله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: ( ليتمن الله هذا الأمر حتى ما يبقى بيت مدر ولا وبر إلا يدخله الإسلام، بعز عزيز أو ذل ذليل ) ].
أولاً: وجوب الجهاد واستمراره على أمة الإسلام حتى لا تبقى فتنة أو اضطهاد لمؤمن، ويكون الدين كله لله.
ثانياً: مشروعية البدء في الجهاد بأقرب الكفار إلى بلاد المسلمين من باب: ( الأقربون أولى بالمعروف).
ثالثاً: وعد الله تعالى بالنصر والتأييد لأهل التقوى العامة والخاصة ] فهذا الوعد [ باقٍ لا يتبدل ولا يتغير ] قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:36].
[ رابعاً: أمة الإسلام آثمة إذا لم تحقق هذا الواجب، وهو قتال من يلي بلادها؛ حتى يعم الإسلام ديار العالم كافة، ولا يُعفى من الإثم إلا أهل الأعذار ] فقط [ في قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [الفتح:17]. والنساء والأطفال والمجانين، كل بحسب حاله قوة وضعفاً. والله نسأل أن يعفو ويغفر؛ فإنه عفو غفور. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ].
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , نداءات الرحمن لأهل الإيمان 57 للشيخ : أبوبكر الجزائري
https://audio.islamweb.net