الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان، اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارض عنا كما رضيت عنهم. آمين.
نكمل النداء الثاني والأربعين إن شاء الله، ثم نأتي بالنداء الثالث والأربعين، ونعيد تلاوة هذا النداء الكريم؛ تبركاً وطلباً لحفظه وفهم معانيه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [المائدة:105].
بيان ما يزكي النفس وما يدسيها
هذا النداء أمرنا الله تعالى فيه بتزكية أنفسنا وتطهيرها؛ إذ قال:
عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ [المائدة:105]، أي: ألزموها بالطهر والتصفية؛ لأن سعادتكم متوقفة على هذا ، فمن زكى نفسه وطيبها وطهرها بالأدوات الخاصة التي وضعت لتزكيتها وتطهيرها فهذا إن شقي العالم وضل كله لا يضره ذلك إن هو زكى نفسه وطيبها وطهرها، فأصبحت محلاً لرضا الله عز وجل وجواره بعد الموت، ولا يضره من ضل على الإطلاق، وهذا هو الذي دل عليه قوله تعالى:
عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ [المائدة:105] أي: الزموا تطهيرها وتطييبها، وأدوات التطهير والتزكية: الإيمان والعمل الصالح، وليس هناك والله أمور أخرى تزكي النفس، لا ماء ولا صابون ولا سحر ولا غير ذلك، فلا تزكو إلا بالإيمان الصحيح والعمل الصالح المؤدى على الكيفيات التي وضعها الله ورسوله، والذي يدسي النفس ويخبثها ويدنسها هو الشرك والمعاصي، وكل ذنب يذنبه العبد أو الأمة يقع نكتة سوداء على قلبه، فإما أن يتوب فينمحي ويزول، وإما أن يزيد فيزيد حتى يختم على ذلك القلب وينتهي أمره، واقرءوا:
بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14]. فهذا أمر عظيم. فينبغي أن نعرف أهم الأشياء، وهي أدوات التزكية والتطهير والتطييب للنفس البشرية، ولنعلم يقينياً أنها الإيمان الصحيح والعمل الصالح، فبهما تزكو النفس البشرية، ولنعرف ما يلوثها ويخبثها حتى تعفن وتصبح أهلاً لغضب الله وسخطه، وذلكم الشرك والمعاصي، والشرك والكفر سيان بمعنى واحد، فالكفر والمعاصي إذا صُبَّا على النفس حولاها إلى أنتن من أرواح الشياطين، وقد حكم الله في هذه القضية بقوله:
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا *
وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ الشمس:9-10]. سواء كان شريفاً أو وضيعاً، أو غنياً أو فقيراً، أو عربياً أو عجمياً، أو في الأولين أو في الآخرين، أو في السماء أو في الأرض، فمن زكى نفسه أفلح، ومن دساها خسر وخاب، ولا يوجد حكم غير هذا، ولا أحد يعقب على حكم الله، ولا يوجد هيئة للاستئناف، فقد قال تعالى في سورة الرعد:
وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41]. فحكم الله في هذه القضية:
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]. وسواء كان أبيض أو أسود .. قصير أو طويل .. فقير أو غني، أو ابن زنا أو ابن كافرة، أو والده كافر فهذا غير مهم، وإنما فقط الروح إن زكت وأصبحت كأرواح الملائكة فقد أصبحت أهلاً لأن تنزل دار السلام في الملكوت الأعلى، وإن خبثت وتعفنت فمصيرها أتون الجحيم. فاعرفوا هذا زادكم الله علماً ومعرفة.
[ الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم! ] الذي يضع هذا الكتاب عند رأسه، ويسمع إلى نداء ربه، ويحفظ نداءه، ويفهم ما طلبه منه، ويستعد لتقديمه، هذا هو القارئ الكريم. وأبشركم فقد قام البارحة أحد المؤمنين وقال: أضيفوا للثلاثة آلاف نسخة ألفين من عندنا، فأصبحت خمسة آلاف، وإن شاء الله أيام وهي سبعون ألفاً، حتى لا يقول قائل: ليس عندنا الكتاب، وضعوه في الفنادق، حتى إذا نزل النزيل في الفندق بدلاً من أن يشاهد التلفاز فيصاب بالهوى والشيطان يقرأ نداء، ويتلذذ به، وينام على نوره.
الأمر بتزكية كل إنسان نفسه
هذا القارئ الكريم عليه أن يعلم [ أن هذا النداء الإلهي الرحيم الموجه إلى عباد الله المؤمنين أي: المصدقين بالله رباً لا رب غيره وإلهاً لا إله سواه، والمصدقين بالإسلام ديناً لا دين يقبله الله تعالى غيره، وبمحمد نبياً ورسولاً من عند الله، هؤلاء المؤمنون حقاً وصدقاً يناديهم الجبار جل جلاله وعظم سلطانه؛ رحمة بهم، وإحساناً إليهم ] لا ليطلب منهم شيئاً، فهو ليس في حاجة إليهم [ فيقول لهم:
عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ [المائدة:105]، أي: الزموا أنفسكم هدايتها وإصلاحها، فاحفظوها من الوقوع في الذنوب والآثام؛ لتبقى طاهرة زكية محلاً لرضا الرحمن سبحانه وتعالى ] فعجلوا، ولا تفلتوها وتضيعوها، وما هي إلا أيام معدودة إن أنتم حفظتم طهارتها وحافظتم عليها حتى تنزلون بجوارنا، وإن أنتم خبثتموها ولوثتموها ورميتموها في مزابل المنكرات والفواحش والباطل فشأنكم، وسوف يجمعكم الله ويجزي المحسن بالإحسان والمسيء بالإساءة [ واعلموا أنه لا يضركم ضلال من ضل، ولا غواية من غوى ] أبداً. والدليل: إذا كنت شبعان وهذا جائع إلى جنبك لا يحصل لك جوع، وإذا كنت معافى سليماً وهذا مريض يتلوى من الآلام فإنه لا ينتقل إليك ذلك المرض، وإذا كنت طاهراً طيباً نظيفاً وهذا متسخ بالدماء والقيوح والأبوال لم يؤثر فيك ذلك أبداً.
عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]. وللهداية مجال سوف يمر بنا إن شاء الله.
قال: [ إذ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38] ] ومعنى رهينة: مرهونة، والشيء المرهون لا أحد يفكه إلا إذا جاء بما دفع له، فكل نفس بكسبها مرهونة تجزى به [ وَلا تَزِرُ [الأنعام:164]يوم القيامة وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164] ] والوازرة أي: نفس تحمل وزراً، فهي تحمل زنابيل أو أكياساً من الذنوب والآثام، فهذه الوازرة المثقلة بالذنوب لا تحمل ذنوب آخرين، وهي لا تستطيع؛ لأنها ممتلئة، مثل السيارة المشحونة التي فيها ألف طن لا تجد مكاناً لوضع أطنانك الزائدة، قال تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [فاطر:18]. وقد عرفتم أن المرأة تقول لولدها: يا ولدي! لقد عرفت أني كنت لك خير الأمهات، وأنا الآن في حاجة إلى حسنة واحدة ترجح بها كفة ميزاني، فيقول العبد الولد: إي أماه! أعلم أنك كنت لي خير الأمهات، ولكن نفسي نفسي، ويأتي الأب لابنه أيضاً ويقول: يا بني! لقد علمت أني كنت خير الآباء لك، والآن أنا في حاجة إلى حسنة ترجح بها كفة ميزاني، فيقول: إي والدي! أعلم أنك كنت لي خير الآباء، ولكن نفسي نفسي [ إذ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123] ].
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منجيان لصاحبهما إذا ضل غيره من العباد
قال: [ ولنعلم أيضاً يقيناً أنه لا يضرنا ضلال من ضل إذا نحن اهتدينا؛ لقول ربنا في إرشاده لنا: لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] ] وهذا يقوله لنا ليعلمنا ويرشدنا، لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] وأما إذا لم نهتد فنحن مصابين بالضرر من أنفسنا، ولكن إذا اهتدينا، و[ إذا نحن أمرنا بالمعروف من تركه بيننا ] إذ لا يصح أن نقول: إنا مهتدون الهداية المطلوبة ونحن نشاهد المعروف متروكاً في بيوتنا وفي قريتنا وفي مديتنا؛ لأن الله فرض علينا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومادمنا ما أمرنا ولا نهينا فكأننا سرقنا وزنينا وإن صمنا وصلينا؛ لأن الهداية ما تمت أبداً. فإذا لم تهدوا إلى ما فيه تزكية نفوسكم فالضرر حاصل، وإنما يزول إذا أمرنا بالمعروف [ ونهينا عن المنكر من ارتكبه فينا ونحن نراه ونشاهده، إذ ليس من الهداية الكاملة المنجية من العذاب والمسعدة للعباد أن لا نأمر بالمعروف ولا ننهى عن المنكر؛ إذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صفة لازمة من صفات المؤمنين الصادقين في إيمانهم، والمؤمنات الصادقات. ولنقرأ قوله تعالى من سورة التوبة في وصف المؤمنين بحق والمؤمنات بصدق، إذ قال: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71] ] هؤلاء هم المؤمنون. فإن قلت: أنا لا آمر بمعروف ولا أنهى عن منكر فلست بمؤمن، وقد انسلخت من المؤمنين. فلابد من هذه الصفة.
بالحب والنصرة يتحقق الولاء بين المؤمنين
قال: [ فلنذكر قوله ] في هذه الآية: [ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] ] ومعنى هذا: أن بعض المؤمنين أولياء بعض، وبعض المؤمنات أولياء بعض. والولاء لا يتحقق إلا بالحب والنصرة، وبذلك تعرف أنك وليي وأنني وليك، فالمؤمن الصادق في إيمانه يحب كل مؤمن ومؤمنة، وإن كانت المؤمنة رمصاء عمشاء، والمؤمن أعرج مكسوراً فقيراً، فيحبهما كما يحب أبناءه وإخوانه، ولا بغض ولا عداء، وكذلك النصرة، فإذا احتاج إليك أخوك لنصرته فقف إلى جنبه، فإن هزمته وخذلته على عمد وأنت قادر فلست بمؤمن، وراجع إيمانك. فافهموا هذا. ولو تدرس ألف سنة فلن تجن أكثر من هذا. وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، أي: متحابون متناصرون، يحب بعضهم بعضاً، وينصر بعضهم بعضاً للولاء الموجود، فمن كان يبغض المؤمنين فليس بمؤمن، ومن كان يخذلهم ويهزمهم ويقف مع أعدائهم عليهم فليس بمؤمن [ فهل من الولاية الواجبة التي هي الحب والنصرة أن يرى المؤمن أخاه تاركاً معروفاً يعاقب على تركه ولا يأمره به؟ ] هذا ليس من الولاء، وكذلك ليس من الولاء أن يرى أخاه تأكله النار ولا تطفئها عنه، أو يرى أخاه والحيوانات تمزقه وتنظر إليه ويسكت، فهذا ليس فيه الأخوة الإيمانية [ أو يرى أخاه ووليه منغمساً في منكر يخبث نفسه ويسخط الله تعالى عليه ويتركه؟ ] ثم يقول: هذا أخي [ والجواب: لا، لا، ليس هذا من الولاية، بل هو من العداوة. وهذا أولاً ] فليس من الأخوة أن ترى أخاك مغموساً في بول وعذرة وتقف بعيداً عنه ولا تنقذه؛ لأن كبائر المعاصي والذنوب والله لأخبث من العذرة والبول والدم والقيح، ولئن نسبح في بركة دماء خير من أن نزني زنية؛ لأن هذه السباحة يغسلها بالماء والصابون، والنفس لا تغسلها ولا يطيبها إلا مواد التطهير من العبادات التي تؤديها مؤمناً موقناً على الوجه الذي أداه رسول الله، وبينها لعباد الله، وكلك ألم وغضب على نفسك وأنت ساخط عليها، حتى تطيب وتطهر وتعود إلى نورها وبهجتها.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات المؤمنين
قال: [ وثانياً: أليس من صفات المؤمنين والمؤمنات أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؟ والجواب: بلى، وكيف والله يقول في صفاتهم: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ [التوبة:71] ] بصيغة المضارع دائماً وأبداً [ وَيَنْهَوْنَ [التوبة:71] ] دائماً وأبداً [ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة:71] ] ومن طاعة الله والرسول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر [ والرسول يقول ] فداه أبي وأمي والعالم أجمع: [ ( من رأى منكم منكراً فليغيره ) ] وهذه صيغة أمر [ ( بيده، فإن لم يستطع فبلسانه ) ] كأن يقول: لا تفعل يا عبد الله! [ ( فإن لم يستطع فبقلبه ) ] فإن لم يستطع أن يمد يده حتى لا تقطع، ولا أن يقول بلسانه خوفاً من أن يجر إلى السجن ويسجن، فإذاً: يتألم في قلبه وفي نفسه [ ( وذلك أضعف الإيمان )] وفي رواية: ( وليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان )؛ لأنه إذا أصبح يرى المنكر ويرتاح ويفرح فقد انتهى أمره، ويخشى عليه في يوم من الأيام أن يصبح يحب ذلك المنكر ويأتيه، ولما يألفه ويعتاده ويرتاح له فسيأتيه لا محالة إلا أن يعصمه الله.
من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرم الهداية
قال: [ وأمر آخر - وهو عظيم وخطير-: وذلك أننا إذا تركنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا نتمكن من الهداية، ولا نظفر بها أبداً ] ولا تفهم من قوله تعالى:
لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ [المائدة:105] أننا إذا تركنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحصل لنا الهداية، بل لن تحصل ولن تتم أبداً؛ لأنها سنن الله عز وجل، فإذا كان جيرانك يصفقون ويغنون وأنت ساكت فقد يستدعونك فتحضر، وعام أو عامين وأنت تصفق مثلهم وتغني رأساً [ إذ الدار أو المجتمع إذا ظهر بينهم ترك المعروف وارتكاب المنكر لا يلبثون إلا قليلاً وقد عمهم الفساد، فتركوا طاعة الله وطاعة رسوله، وخبثوا وساءت أخلاقهم وفسدت أحوالهم، وعمهم العذاب والعياذ بالله تعالى. وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرر هذه الحقيقة فيقول: (
إن الناس ) ] أبيض وأسود [ (
إذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه ) ] وبالأمس وصلنا هنا وذكرت لكم مثالاً محسوساً، من لا يفهمه لا يفهم النهار والليل، فقلنا: إذا قام عمال البلدية في قرية أو مدينة أو حي بإضراب؛ لأنهم يريدون زيادة الراتب فتصبح السيدة تجمع أوساخها في زنبيل وترميها عند عتبة الباب؛ لأنها لا تخرج، والأخرى كذلك، والثانية كذلك، ففي اليوم الأول تكون زنابيل الأوساخ عند الأبواب، ثم في اليوم الثالث .. الأسبوع الأول .. الأسبوع الثالث .. الشهر الأول تصبح الأزقة قمامات كلها، فيعلو البعوض والذباب القاتل، وفجأة تأتيهم الملاريا والوباء فيهلكون، وتبقى بقية تتأقلم مع تلك الأوساخ، فتعيش لا تعرف معروفاً ولا منكراً. فافهموا هذا المثل. وانظروا إلى الحديث: (
إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه )، وفي حديث آخر: (
ثم تدعونه فلا يستجيب لكم ). فإذا انتشر البلاء لا يستجيب الله، وتمضي سنته. وهذه الأمثلة لها واقع في حياة المسلمين، فأي بلد لا يوجد فيه أمر بالمعروف ولا نهي عن منكر عمه الخبث، وأنا أعجب وكلنا عجب لما كان يستقل إقليم عن بريطانيا أو إيطاليا وفرنسا لا يكون دولته على قواعد دولة القرآن الأربع، والسبب أنهم ما عرفوها وما بلغتهم، مع أن العجائز يحفظن هذه الآية:
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41]. فهذه بعض آية من سورة الحج، علمنا الله فيها كيف نبني دولتنا المستقلة المتحررة، فنبنيها على أربع دعائم، فإن رفضنا ذلك والله لم يقم لنا شأن، ولن نعرف هداية ولا نوراً ولا طيب ولا طهراً. ولا تقولوا: يا شيخ! هذه أحلام، وليست حقائق. ونقول: انظروا إلى دولة
عبد العزيز في الصحراء وفي البراري لم يكن عندهم إلا الشعير والتمر، ثم أصبحت مضرب المثل، ولم تكتحل عين الوجود بعد القرون الثلاثة بدولة أو مجتمع ساده الأمن كما سادها، ولا عمها الطهر كما عمها، وهذا ليس بالرشاش والمدفع والهيدروجين، وإنما بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بعد إقام الصلاة وإيتاء الزكاة. ولا يمكن لأحد أن يرد علينا، فنحن نعرف خفايا الأمور وبواطنها، فخصوم الإسلام وأعداؤه الذين درسنا في حجورهم وتخرجنا علماء على أيديهم لا يسمحون لنا أن نوجد هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يسمحون أن تقام الصلاة في ظاهرة عامة خمس مرات في اليوم والليلة، بل إذا قال المؤذن: حي على الصلاة ووقف دولاب العمل وأقبلت الأمة إلى بيوت الرب هذا المنظر يفزع اليهودية، ويمزق أحلامها، ولن يسودوا العالم الإسلامي، ونحن كالأبقار ميتون، أقمنا دولة لا تأمر بالصلاة والزكاة، وكأننا كفار لا نؤمن بالله ولا بلقائه، وهذا هو الواقع أيها الدارسون والدارسات! ولو لم يجئ الله بهذه الدولة لقلنا قد يعذرون، فقد عشنا ألف سنة وما رأينا الإسلام عز ولا ساد ولا أمن ولا طهر الشركيات والأباطيل والزنا وغير ذلك، ولكن جاء الله بهذه الدويلة لحكمة إلهية؛ لتقوم الحجة لله على المسلمين الزاعمين الإسلام، الذين يسخرون من الصلاة، ويقولون: هذه المصلي؛ يستهزءون به.
وقد بلغنا اليوم أن شبيبة تجمعوا في بلاد المتدينين أخذوا يتابعون السافرات، والتي يشاهدونها سافرة يؤدبونها، فتجمع شبيبة آخرون وقالوا لهم: اسمعوا إن قتلتم سافرة سنقتل خمساً وعشرين متحجبة، فعللوا يا علماء النفس! هذه الظاهرة، ليس لها علة إلا الجهل، فهم ما عرفوا الله، ولا جلسوا في حجور الصالحين، وهم شبيبة مسلمة في بلد إيمان وإسلام، ووالله إن لم يعودوا إلى بيوت الله ليتعلموا الكتاب والحكمة ويزكوا أنفسهم تحت تربية ربانية ما خرجنا من الفتن والإحن، ولا عززنا ولا سدنا، ولا كملنا بحال من الأحوال. وقد بينا الطريق، والآن كتاب المسجد وبيت المسلم موجود، فكل طالب علم يجمع قريته أو أهل حيه عليه، وإذا كان جاداً وصادقاً يقبل أيدي أهل الحي وأرجلهم، ويقول: ائتوا بنسائكم وأبنائكم، ويأتي هو بامرأته وأولاده، وسيأتون واحداً بعد واحد، وأسبوع وإذا هم كلهم في المسجد، فيعلمهم ليلة آية وأخرى حديثاً، فيتعلمون ويطهرون وينمون، ولا تمضي السنة إلا وهم ربانيون، فلا كذب ولا خيانة، ولا زنا لا فجور، ولا أغان ولا باطل، ولا خداع لا غش، بل يصفوا صفاء كاملاً، فلنفعل هذا، فلم يقيدنا أو يكبلنا أو يمنعنا شيء، ونحن كأننا نساق سوقاً إلى الهاوية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال: [ ولنصغ للترمذي ] صاحب السنن [ يحدثنا بما يلي: ... عن أبي أمية الشعباني قال: ( أتيت أبا ثعلبة الخشني ) ]رضي الله عنه، تابعي جاء الصحابي [ ( فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ ) ] وكيف تئولها؟ [ ( قال: أية آية؟ قلت: قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]. قال: أما والله لقد سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ] فقد فتح الباب أمامه [ ( فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً ) ] والشح لا يطاع، وإنما المعنى كأن تريد أن تتصدق بريال ثم تقول: لا، أنا في حاجة إليه، وتسمع وترد الريال في جيبك، فهنا قد أطعت شحك؛ لأن الشح يأمر بعدم الإنفاق، فمن استجاب له وأطاعه انتهى [ ( وهوى متبعاً ) ] واتباع الهوى: أن يتبع كل ما تهواه النفس والشهوة والشيطان والدنيا، ويمشي وراءه، فإذا زينت له لعب الكريم مدة أربع ساعات مثلاً يلعب ويلهو [ ( ودنيا مؤثرة ) ] ومعنى مؤثرة: يؤثرها على الآخرة، فهذه ضرتان، أولاهما تسمى الدنيا، والثانية تسمى الآخرة، فإن أنت آثرت الدنيا على الآخرة فهذا هو إيثارها، فتعمل للآخرة ساعة، وتعمل للدنيا ثلاث وعشرين ساعة، وتعطي للآخرة ريالاً، وتعطي للأخرى مائة ريال. هذا الإيثار [ ( وإعجاب كل ذي رأي برأيه ) ] وهو في هذا الوقت في أغلب بلاد العالم [ ( فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام؛ فإن من ورائكم أياماً الصابر فيهن مثل القابض على الجمر ) ] والقبض على الجمر يحرق القلب [ ( للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون عملكم ) ] وهذا خطير. وحبذا لو يطبع هذا الحديث ويوزع في العالم الإسلامي بالفاكس، فهو جديد على المسلمين، و(95%) منهم ما سمعوا به ولا عرفوه. ويمكن في المليون أن يوجد واحد، ونرجو الله أن تكون الأيام ما زالت بعيدة عن هذا، وقد يكون وقع في بعض الجهات.
قال: [ وأخيراً: نصغي بآذاننا إلى أبي بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ] وقد صلنا هذا الخبر وبيننا وبينه ألف وأربعمائة سنة، وأبو بكر ورسول الله هناك في الحجرة مدفونين من قبل ألف وأربعمائة سنة. وقد وصلنا هذا الخبر وملايين البشر ما سمعوا به ولا عرفوه [ وهو يقرر ما سبق في شرح هذا النداء، وهو أنه لا هداية تتم للعبد ما لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، اللهم إلا أن يوجد في بلد أو ] في [ دار لا يرى فيها معروفاً متروكاً ولا منكراً مرتكباً، لقد أبو بكر الصديق رضي الله عنه خطيباً يوماً ] ما [ فقال: ( أيها الناس! تقرءون هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]. وإنكم تتأولونها على غير تأوليها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب ). فلنذكر هذا فإنه هاد وكاف بإذن الله ] إذاً: من كان عنده جار يغني ويرقص مع بناته يدخل إليه يسلم عليه في البيت ويقول له: من فضلك أنت مؤمن، وقد انتهى هذا اللهو، وهذه الحالة قد انتهت، ولم تبق أغان ولا مزامير في بيوت المسلمين، بل أنت مؤمن، صل بأولادك وأهلك، وخذهم إلى المسجد يصلون. وإذا شاهد منكراً في أي حال من الأحوال يأتي إلى صاحبه ويضع رأسه أو فمه في أذنه ويقول له: أنت مؤمن، وأنت عبد الله، فلا تفعل هذا، فهذا لا يليق بمثلك، وهكذا لا يبقى دش على السطوح. وهذا هو الولاء والنصرة والمحبة، كما قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]. وعلة هذا الهبوط الجهل فقط، وليس هناك علة أخرى. وكيفية الخروج من هذا الجهل أن نقبل على الكتاب والسنة، وهم يقولون: مدارسنا كلها تعلم الكتاب والسنة، ونقول: إنكم لم تبنوها من أجل أن يعبد الله، ويتعلم دينه، وإنما من أجل الوظيفة، وإذا سألت الطلاب والطالبات: هل ذهبوا إلى المدرسة ليعرفوا الله فيحبوه، ويعملوا بإرشاده وطاعته أو للوظيفة؟ لقالوا: للوظيفة.
قال: [ أما قوله تعالى في ختام النداء: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [المائدة:105] إنه يحمل الوعد والوعيد ] الوعد بالخير والوعيد بالشر، ودائماً يكونا هكذا، فالوعد بالجنة والوعيد بالنار [ وعد لمن أطاع الله ورسوله فطهر نفسه وزكاها بالطاعة، ووعيد لمن عصى الله ورسوله فخبثت نفسه وداسها، وحكم الله في ذلك واضح، وهو قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. اللهم زك أنفسنا، أنت خير من زكاها، وأنت وليها ومولاها. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ] انتهينا من النداء السابق.
الآن مع النداء اللاحق، وسنقرأ الآيات، وهذا النداء عجيب، وأهل القرآن لا يوجد منهم خمسة يفهمونه، أو يعرفون ما فيه، وأنتم في ليلتكم تعرفونه إن شاء الله.
قال: [ النداء الثالث والأربعون: في وجوب الإشهاد على الوصية، وجواز شهادة غير المسلم على الوصية إذا تعذر وجود المسلم ] وهذا النداء طويل.
[ الآيات (106 ، 107 ، 108) من سورة المائدة
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [المائدة:106-108] ] وهذا النداء عجب، ولكن قراءة الشرح تبينه وتفصله؛ حتى يصبح مفهوماً أمامنا، فاسمعوا الشرح، وتعاد تلاوته إن شاء الله غداً.
[ الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم! أن هذا النداء الإلهي يحمل هداية وإرشاداً للمؤمنين بحل مشكلة عويصة قد تحدث لبعضهم في يوم من الأيام ] لا لكلنا [ وهذا بيان ما تضمنه النداء الجامع لثلاث آيات من كتاب الله ] فهذا النداء فيه ثلاث آيات.
وجوب الإشهاد على الوصية
قال: [ الأولى: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:106]، أي: يا من آمنت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً ] فقولوا: لبيك اللهم لبيك [ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة:106] ] فإذا كان فلان على سرير الموت ويريد أن يوصي بمال أو بشيء أو أي شيء فيطلب اثنين من العدول [ أي: ليشهدا. اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة:106]، أي: من المسلمين على وصية أحدكم إذا حضره الموت، وعنده ما يوصي به من مال وحقوق. هذا في الحضر ] في داخل المدينة .. في البيت .. في المستشفى، وهذا سهل جداً، فإذا شعر بقرب ساعته ينادي: احضروا لي فلاناً وفلاناً، فيقول لهما: أشهدكما أني كذا وكذا وعندي كذا، ولفلان كذا وكذا. هذا في الحضر [ أما إذا كان أحدكم مسافراً وحضره الموت ولم يكن معه في سفره مسلم، وإنما معه كفار فقط ] كأن يكونوا كلهم بريطانيين أو فرنسيين أو أمريكيين، أو كان يكون في فندق في بريطانيا فجاءه الألم والموت، وهو يريد أن يشهد، فيمكن صاحب الفندق أن يأتي باثنين، ويقول لهما: اسمعا ما يقول واكتبا [ فليشهد الكافر ] ويقول له: اشهد علي [ للضرورة ] فقط ، وأما لو كان فيهم مسلمون فلا يحتاج إليهم، ولا يجوز ذلك.
كيفية الحكم إن حصل ريب أو شك في شهادة الشاهدين على الوصية
قال: [ وإن ] أشهد بريطانيان أو أمريكيان أو اثنان كافران و[ حصل ريب وشك في صحة ما شهدا به؛ المؤمنان أو الكافران ] إذ لما دعوناهما قالا: ميتكم قال كذا وكذا وأشهدنا، فشككنا فيما قالا، وأنه يمكن أن يكون قال هذا، ويمكن أنهما أخذا المال من جيبه [ فاحبسوهما، أي: أوقفوهما بعد صلاة العصر ] وحتى المؤمنان أيضاً إذا شهدا وشككتم في شهادتهما [ فيقسمان لكم بالله ] وصلاة العصر لأنه وقتها وقت عظيم، وفي الحديث: (
يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ). وهذا من باب تغليظ الأيمان أن تكون بعد العصر عند المحراب [ فيقولان في قسمهما: والله لا نشتري بأيماننا ثمناً قليلاً، ولا نكتم شهادة الله؛ لأنا نكون حينئذ من الآثمين، ونحن لا نرضى الإثم لأنفسنا. هذا إن حصل لكم ريب وشك في شهادتهما، سوءا كانت الشهادة في الحضر أو السفر، إلا أنها في السفر أقرب لحصول الريب والشك في صحة شهادة الشهود، وإن وجد عند الشاهدين اللذين شهدا وحلفا على شهادتهما إن وجد عندهما خيانة وكذب بما ظهر من آثار ذلك فليحلف منكم آخران؛ يردان شهادة وحلف الأولين، كما قال تعالى:
فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ [المائدة:107]، أي: الأحقان بالشهادة، فيحلقان قائلين:
لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا [المائدة:107]، أي: لأيماننا أصدق وأصح من أيمانهما،
وَمَا اعْتَدَيْنَا [المائدة:107]، أي: عليهما باتهام باطل وكذب مفترى؛ لأننا لو فعلنا ذلك لكنا من الظالمين، إذ قال تعالى عنهما:
وَمَا اعْتَدَيْنَا [المائدة:107]، أي: في أيماننا إنا إذاً لمن الظالمين.
والثانية: قوله تعالى: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ [المائدة:108] ] إذا عرفوا أنهم سوف يحلفون عند المحراب [ أي: ما شرعه تعالى لكم من الإشهاد والأيمان على الشهادة، وقيام شاهدين لرد شهادة المرتاب فيهما، لاسيما إذا ظهرت علامة عدم صدقهما أقرب أن يصدق الشهود في شهادتهم وفي أيمانهم.
والثالثة: قوله تعالى: أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ [المائدة:108]، أي: وأقرب أيضاً إلى أن يخاف الشهود أن ترد أيمانهم إذا هم حلفوا، فهم لذلك لا يكذبون خوف الفضيحة أن تلحقهم ] وتشملهم. فلهذا يصدقون في شهادتهم. وهذا احتياط عجيب.
الأمر بتقوى الله والسماع لما يأمر به وينهى عنه
قال: [ الرابعة: قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ [المائدة:108]، أي: خافوه أيها المؤمنون! فلا تخرجوا عن طاعته بترك أوامره أو غشيان معاصيه. وَاسْمَعُوا [المائدة:108]، أي: ما تؤمرون به، واستجيبوا لله فيه، ومن ذلك قبول هذا التوجيه الإلهي في وجوب الإشهاد على الوصية عند الوفاة، وجواز إشهاد غير المسلم في حالة انعدام وجود المسلم، كما في السفر، ثم إن حصل ريب وشك في الشهادة فليقم اثنان ذوا عدل منكم ويردان الشهادة بأيمان، وإن حصل أيضاً بعد الإشهاد والحلف ظهور علامة خيانة وكذب في الشهادة فليقم آخران يردان الشهادة ويعطيان الحق المطلوب ].
التحذير من الفسق وبيان عاقبته
قال: [ والخامسة: قوله:
وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [المائدة:108]، أي: إلى ما فيه خيرهم وسلامهم وسعادتهم وكمالهم؛ لأنهم خبثوا أنفسهم، ودنسوها بالذنوب والآثام.
ألا فلنحذر الفسق، وهو خروج عن طاعة الله وطاعة رسوله. ومن الفسق ما هو كفر، ومنه ما هو من كبائر الإثم والفواحش. فلنحذره إذ كله مانع من هداية الله تعالى؛ إذ العبد إذا توغل في الشر والفساد يصبح غير أهل لطلب الهداية بالتوبة والاستقامة، ومن ثم يحرم هداية الله تعالى ] والقصة ستأتي بالتفصيل، وسبب نزول هذه الآية حادثة عجيبة حدثت على عهد الرسول في الشام، وانتقلت إلى المدينة، وسنسمعها غداً إن شاء الله. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.