اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة منهاج المسلم - (60) للشيخ : أبوبكر الجزائري
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة؛ ليلة الخميس من يوم الأربعاء ندرس كتاب منهاج المسلم.
وها نحن مع الباب الثالث، باب الأخلاق، وها نحن مع [ الفصل الخامس: في خلق العدل والاعتدال] فما هو العدل وما هو الاعتدال؟ وكيف نظفر بهما ونحصل عليهما؟ وكيف نكون من أهلهما؟
ندرس ذلك لنتعلم.
[ وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء:58] ] لا جور ولا ظلم، أعطوا كل ذي حق حقه إن حكمتم [ ولهذا ] أي: لما سمعناه من حب الله للمقسطين [ يعدل المسلم في قوله ] إذا قال [ وحكمه ] إذا حكم [ ويتحرى العدل، ويطلبه في كل شأنه؛ حتى يكون العدل خلقاً له ] يعدل في قوله فلا يُضيع ولا يحيف، ويعدل في العمل فيعدل في الحكم، لا يزال كذلك حتى يصبح العدل خلقاً من أخلاقه، فلا يتكلف ولا يتعب أبداً [ ووصفاً لا ينفك عنه، فتصدر عنه أقواله وأعماله عادلة بعيدة عن الحيف والظلم والجور، ويصبح بذلك عدلاً لا يميل به هوى، ولا تجرفه شهوة أو دنيا، ويستوجب محبة الله ورضوانه وكرامته وإنعامه، إذ أخبر الله تعالى أنه يحب المقسطين، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كرامتهم عند ربهم بقوله: ( إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ) ] يعدلون -أولاً- في حكمهم إذا حكموا. ثانياً: في أهليهم من آباء وأمهات وأبناء وبنات وأخوات، وما ولوه من الولاية، إذا تولوا أمراً يعدلون فيه ولا يجورون أو يحيفون. من هؤلاء؟ (إن المقسطين) أي: العادلين عند الله، يوم القيامة على منابر من نور. من هم؟ الذين يعدلون في حكمهم إذا حكموا، وليس الشرط أن يكونوا حكاماً، فقد يحكم في قضية بين إنسان وإنسان، بين أخيه وابن أخيه مثلاً. (وأهليهم)، أول ما يعدلون بين الزوجات كما يأتي، وما ولوه من القضايا والأمور التي تولوها وأسندت إليهم، يعدلون فيها، فلا ظلم ولا حيف ولا جور.
[ وقال ] صلى الله عليه وسلم [ ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ) ] هذا يوم البعث، هذا يوم النشور، هذا يوم القيامة، هذا يوم تقف الخليقة كلها والعرق يكاد يلجم بعضها، في هذا الموقف لا ظل إلا ظل الله، ( سبعة ) -جعلنا الله وإياكم منهم- ( يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله )، من هؤلاء السبعة يا رسول الله؟! أجابنا قائلاً: [ ( إمام عادل ) ] حاكم عادل لا يجور ولا يحيف ولا يظلم. ثانياً: [ ( شاب نشأ في عبادة الله تعالى ) ] وما أكثر هذه الشبيبة التي نشأت في عبادة الله منذ الصبا. ثالثاً: [ ( رجل قلبه معلق في المساجد ) ] قلبه دائماً في المسجد إذا خرج منه، قلبه معلق به، إذا كان يتغدى أو يتعشى فقلبه في المسجد، وإن كان يعمل في الصنعة فقلبه معلق بالمساجد بيوت الله [ ( ورجلان تحابا في الله ) ] أي: أحب بعضهما بعضاً، لا من أجل جمال ولا مال، ولكن فقط لله عز وجل [ ( اجتمعا عليه وتفرقا عليه ) ] إذا رأيت فلاناً مع فلان اجتمعا اجتمعا على حب الله، وإذ رأيتهما تفرقا تفرقا على حب الله [ ( ورجل دعته امرأة ) ] طلبته [ ( امرأة ذات منصب وجمال ) ] شريفة عالية وذات جمال ومنظر [ ( فقال: إني أخاف الله ) ] رب العالمين. قال: [ ( ورجل ) ] وهو السادس [ ( تصدق بصدقة فأخفاها ) ] فكتمها [ ( حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه بالدموع ) ] وهو وحده بعيد عن الناس؛ ذكر الله في طريقه، أو في بيته أو في مصلاه؛ فسالت دموعه من عينيه. اللهم اجعلنا من هؤلاء السبعة، اللهم اجعلنا منهم!
قال: [ من ثمرات العدل في الحكم: إشاعة الطمأنينة في النفوس ] أهل البلاد يصبحون مطمئنين ساكني النفوس؛ لأنهم يعيشون تحت نظام العدل، فلا ظلم ولا جور ولا حيف [ روي أن قيصر ] ملك الروم [ أرسل إلى عمر بن الخطاب رسولاً؛ لينظر أحواله ويشاهد أفعاله؛ لما بلغه من العدل، فلما بلغ المدينة هذا النصراني سأل عن عمر وقال: أين ملككم؟ فقالوا: ما لنا ملك، بل لنا أمير! ] ليس لنا ملك إنما لنا أمير [ قد خرج إلى ظاهر المدينة، فخرج هذا الرومي في طلبه، فرآه نائماً فوق الرمل وقد توسد درته -وهي عصا صغيرة كانت دائماً بيده يغير بها المنكر- فلما رآه على هذه الحال وقع الخشوع في قلبه وقال: رجل يكون جميع الملوك لا يقر لهم قرار من هيبته وتكون هذه حاله؟! ولكنك يا عمر ! عدلت فنمت وملكنا يجور، فلا جرم أن لا يزال ساهراً خائفاً ] هذا عمر ! وهذه شهادة العدو له.
قال: [ وأما الاعتدال فهو أعم من العدل ] أوسع [ فهو ينتظم كل شيء من شئون المسلم في هذه الحياة ] يجب أن يعدل فيها [ والاعتدال هو الطريق الوسط بين الإفراط والتفريط ] بدلاً من أن تأكل (كيلو) أو تأكل ربع (كيلو) كل نصف (كيلو)، بدلاً من أن تصل إلى البيت في خمس دقائق هدئ السرعة، فتصل في نصف أو ربع ساعة، فالعدل وسط بين الشيئين وهو يتناول الأقوال والأحكام كما قدمنا، وأما الأعتدال فهو أعم من العدل فهو ينتظم كل شأن من شئون المسلم في هذه الحياة [ وهما الخلقان الذميمان ] الإفراط خلق ذميم والتفريط خلق ذميم [ فالاعتدال في العبادات أن تخلو من الغلو والتنطع والإهمال والتفريط، وفي النفقات الحسنة بين السيئتين، فلا إسراف ولا تقتير، ولكن القوام بين الإسراف والتقتير. قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67]. وفي اللباس: حد بين الفخر والمباهاة، ولباس الخشن والمرقعات ] كالمتصوفة والذين يعدونه من الزهد [ ولا بين لباس الأغنياء بالفخر والمباهاة ] فالذي يلبس ثيابه ليفاخر بها ويباهي لا ينبغي له هذا، أو اللباس الخشن والمرقعات؛ بدعوى التقرب إلى الله والافتقار إليه [ وهو في المشي حد وسط بين الاختيال والتكبر، وبين المسكنة والتذلل ] لا مسكنة وتذلل ولا مباهاة وفخر، ولكن الاعتدال [ وهو في كل مجال وسط لا تفريط ولا شطط ] في كل حالات الإنسان الوسط الوسط، فإن الله يحب الوسط.
قال: [ والاعتدال أخو الاستقامة وهي] أي: الاستقامة [ من أشرف الفضائل وأسمى الخلائق، إذ هي التي توقف صاحبها دون حدود الله فلا يتعداها، وتنهض به إلى الفرائض فلا يقصر في أدائها، أو يفرط في جزء من أجزائها، وهي التي تعلمه العفة؛ فيكتفي بما أحل الله عما حرم الله، ويكفي صاحبها شرفاً وفخراً قول الله تعالى: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن:16]، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأحقاف:15-14] ].
اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارض عنا كما رضيت عنهم يا رب العالمين!
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة منهاج المسلم - (60) للشيخ : أبوبكر الجزائري
https://audio.islamweb.net