اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , كيف تحفظ القرآن؟ للشيخ : راغب السرجاني
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم إنا نسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك؛ أن تجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء حزننا، وذهاب همنا، آمين آمين وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
ثم أما بعد:
حديثنا اليوم عن أمر هام جداً في حياة المسلمين والمؤمنين، يستصعبه كثير من الناس، لكنه يسير على من يسره الله عز وجل عليه، وهو حفظ القرآن الكريم، فقراءة القرآن الكريم فقط لها أجر عظيم جداً عند الله عز وجل فما بالك بالحفظ؟! روى الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ حرفاً من كتاب الله تعالى فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)، فالأجر ضخم جداً وعظيم.
وروى الإمام مسلم رحمه الله عن أبي أمامة الباهلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقرءوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) .
فالقرآن يشفع لصاحبه يوم القيامة، وبالأخص سورة البقرة وآل عمران، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما فرقان من طير صواف -أي: جماعتان من طير صواف- تحاجان عن أصحابهما) أي: تدافعان عن أصحابهما.
فحفظ القرآن الكريم معجزة بكل المقاييس، فإن كثيراً من الناس يحفظون هذا الكتاب المعجز، فالأطفال يحفظون القرآن وهم دون العاشرة أو دون السابعة، والأميون أميين لا يعرفون القراءة والكتابة يحفظون القرآن كاملاً، والرجل الأعمى يحفظ القرآن، ومن لا يعرف العربية أصلاً يحفظ القرآن وكأنه من أهل العربية، بل يكون متقناً له أكثر من كثير من العرب، فإذا تكلم بالعربية فهو لا يستطيع أما قراءة القرآن فيقرؤه كما أنزل، فهذا أمر معجز، فالقرآن كتاب عجيب من رب العالمين سبحانه وتعالى، ولا يوجد أي كتاب آخر سماوي أو غير سماوي يحفظه الناس بهذه الصورة، يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ [العنكبوت:49].
والمسئولية الضخمة التي ستقع على عاتق من يحفظ هذا الكتاب الكريم ما يلي:
أولاً: مسئولية العمل، فالذي يحفظ آيات القرآن الكريم ولا يعمل بها يقيم الحجة على نفسه، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس ينامون، يعني: قيام الليل، وبنهاره إذا الناس يفطرون، يعني: يصوم النهار، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون.
وليس معنى هذا أن حافظ القرآن إنسان كئيب، أو مهموم دائماً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً).
والمسلم المطلع على كتاب الله عز وجل، والحافظ له يعلم ما سيكون من أحداث في الكون، ويعلم ما سيكون في يوم القيامة، والجنة، والنار، والحساب، والصراط، وأشياء أخرى تجعله دائماً يفكر في هذا اليوم.
ويكمل عبد الله بن مسعود وصفه لحامل القرآن، فيقول: وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون مستكيناً ليناً، ولا ينبغي له أن يكون جافياً، ولا ممارياً، ولا صياحاً ولا صخاباً، ولا حديداً.
فحفظ القرآن تربية للفرد وللأمة وهذا شيء عظيم جداً، فعلى حافظ القرآن الكريم أن يرتب نفسه ويربيها على العمل بما حفظ من هذا الكتاب العظيم.
ثانياً: مسئولية الصلاة، روى الإمام مسلم عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة) ، إلى آخر الحديث..، فارقرأ الناس لكتاب الله عز وجل هو الذي يؤمهم.
ثالثاً: مسئولية الفتوى والشورى، روى البخاري أن حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كان يقول: وكان القراء -يعني: الناس الذين يحفظون القرآن الكريم- أصحاب مجلس عمر رضي الله عنه، ومشاورته كهولاً كانوا أو شباناً، فبمجرد أنه حافظ للقرآن يصبح من أعضاء مجلس شورى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
رابعاً: مسئولية الجهاد في سبيل الله، فالقراء في موقعة اليمامة هم الذين حملوا لواء الجهاد، وكلما حدثت انتكاسة في صف المسلمين قام القراء لها، ففي موقعة اليمامة استشهد من الحفاظ خمسمائة رجل، فقد تحملوا عبء المعركة الكامل، ولما استشهد أصحاب القرآن أو معظم أصحاب القرآن، كان المجاهدون ينادون: يا أصحاب البقرة! فيستجيب للنداء الحافظون لسورة البقرة وهكذا بقية السور، ولهذا فإن حامل القرآن له مكانة عظيمة جداً في الإسلام.
روى الإمام مسلم رحمه الله أن نافع بن عبد الحارث رحمه الله لقي عمر بن الخطاب بعسفان، وكان نافع بن عبد الحارث عاملاً لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه على منطقة مكة، فقال لسيدنا عمر : من استعملت على أهل الوادي؟ أي: من وليت على أهل الوادي، فقال: ابن أبزى ، قال: ومن ابن أبزى ؟ أي: أنه استغرب الاسم لأنه لا أحد يعرفه، قال: مولى من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولى؟! قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل، وإنه عالم بالفرائض، أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين) سبحان الله!
وروى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين وأكثر من قتلى أحد في القبر الواحد، وكان يقول صلى الله عليه وسلم: (أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ -أي: من أكثر حفظاً للقرآن- فإن أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد)، فهذا يدل على عظم قيمة حافظ القرآن الكريم عند الله عز وجل وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى أبو داود عن أبي موسى الأشعري ، وقال النووي أنه حديث حسن، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم -يعني: الرجل الكبير- وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط)، يعني: السلطان العادل، فإكرام هؤلاء الثلاثة من إجلال الله تعالى.
وهنالك قواعد لحفظ القرآن الكريم، وقد يظن بعضكم أنني سأعمل له وصفة سحرية، أو أعطيه كبسولة، بحيث أنه يأخذها ويخرج من المحاضرة حافظاً القرآن الكريم، فهذا ليس من المعقول، فالعملية شاقة، وكبيرة، ومتعبة، روى البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعاهدوا القرآن -يعني: اقرءوه كثيراً- فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصياً من الإبل في عقلها)، ومعنى تفصياً أي: تفلتاً، وفي رواية أحمد قال: (لهو أشد تفلتاً من قلوب الرجال من الإبل من عقلها).
وحفظ القرآن الكريم يسير على من يسره الله عليه، وهنالك قواعد تساعد على حفظ هذا الكتاب العظيم، وهذه القواعد تنقسم إلى مجموعتين رئيسيتين، قواعد أساسية، وقواعد مساعدة، فالقواعد الأساسية من أهم القواعد لحفظ كتاب الله عز وجل، وهي ما يلي:
القاعدة الأولى: الإخلاص لله عز وجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)، فلا تبتغ به جاهاً، أو وجاهة، أو ارتفاعاً فوق الناس، أو إمامة، أو ثناء، أو مالاً، أو أي شيء من أشياء الدنيا، أو عرضاً من أعراضها، روى أبو داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله عز وجل، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)، أي: لم يجد ريحها، ولا يدخل الجنة؛ لأن الله عز وجل قال: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65].
وروى الإمام مسلم في صحيحة أن أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول الناس يقضى عليهم يوم القيامة: رجل استشهد فأتي به، فعرفه نعمه -أي: عرفه الله عز وجل نعمه- فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت فيه لك، قال: كذبت، ولكنك أنفقت ليقال هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار).
فمن عمل عملاً عظيماً وكبيراً وجليلاً ولم يخلص لله عز وجل كامل الإخلاص حبط العمل وألقى في وجهه، نعوذ بالله من ذلك.
فعليك أن تكثر من النوايا وأنت تحفظ القرآن، بتعدد النوايا سيتعدد الأجر وتتعدد الحسنات، فاحفظ القرآن من أجل أن تقرأه في كثير من الأوقات، كأن تكون ماشياً في الطريق، أو تقود السيارة أو غيرها من الأوقات التي قد تضيع عليك، فأنت تعمل على زيادة الحسنات، لأن الحرف بعشر حسنات. واحفظ القرآن من أجل قيام الليل، فكلما كنت أكثر حفظاً للقرآن استطعت أن تقوم أكثر الليل، لأن قراءة قصار السور دائماً في قيام الليل قد تؤدي إلى بعض الملل، أما إذا كنت حافظاً فأنت ستتجول في آيات الله الواسعة.
واحفظ القرآن من أجل أن تلبس والديك تاجًا يوم القيامة، روى أبو داود عن معاذ بن أنس رضي الله عنه قال: (من قرأ القرآن، وعمل بما فيه ألبس الله والديه تاجاً يوم القيامة) ضوءه أحسن من ضوء الشمس في الدنيا، فما ظنكم بالذي عمل بالقرآن؟ فهذا الحديث وإن كان ضعيف الإسناد إلا أنه لا شك أن ثواب الآباء الذين يحفظون أبناءهم القرآن سيكون كبيراً جداً، فهذه فرصة للآباء لاستغلال سن الأطفال الصغار، فإن ذاكرة الأطفال أقوى بكثير من ذاكرة الكبار، وقديماً قالوا: العلم في الصغر كالنقش على الحجر.
احفظ القرآن من أجل الوقاية من عذاب الله عز وجل يوم القيامة، روى الدارمي بسند صحيح عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه قال: اقرءوا القرآن، فإن الله لا يعذب قلباً وعى القرآن.
واحفظ القرآن من أجل أن تعلم غيرك، روى البخاري رحمه الله عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
واحفظ القرآن من أجل أن تكون قدوة حسنة للمسلمين، فنحن نريد الطبيب الملتزم الحافظ للقرآن، والمهندس الملتزم الحافظ للقرآن، والفلاح الملتزم الحافظ للقرآن وهكذا، فلو كان المسلم متقناً لمهنته فإن الناس ستربط بسهولة بين إتقان العمل وبين الإسلام والقرآن، وهذه هي الدعوة الصحيحة.
القاعدة الثانية: العزيمة الصادقة، فالمهمات العظيمة لا يقوى عليها إلا أولو العزم، وهنالك أشخاص عندهم الرغبة في حفظ القرآن الكريم، لكن الرغبة وحدها لا تكفي لحفظ القرآن الكريم، بل لا بد من إرادة جادة حتى يتحقق الأمل، فالإنسان عندما يكون راغباً في حفظ القرآن ثم يصر عليه، فإن الإرادة ستتحول إلى عزم لأنه يريد أن يحفظ، ثم إلى عمل ثم إلى عادة، فيتعود حفظ القرآن الكريم ومراجعته، فلا بد من عمل حثيث، يقول تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:19].
وروى الترمذي وابن ماجة وأحمد عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني) فالشيطان يسحب الإنسان بكلمة سوف، فإياك والتسويف.
القاعدة الثالثة: إدراك القيمة، فمن شعر بقيمة حفظ القرآن الكريم سيجد الوقت، روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين)، والمقصود بالحسد هنا: تمني أن يكون لك مثل ما عنده دون أن تتمنى أن يزول ما عنده، فالمطلوب من المؤمن أن يكون عنده هاتان النعمتان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار -أي: يقوم به في الليل ويقرؤه بالنهار- ورجل أتاه الله مالاً فهو يتصدق به أناء الليل وأناء النهار).
وروى الترمذي في سننه وقال: حسن صحيح عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب) فهذا تصوير رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي لا يحفظ شيئاً من كتاب الله عز وجل كالبيت الخرب، وكلما ازداد حفظاً ازداد البيت عمراناً وهكذا، فالعمران الذي نحققه في قلوبنا هو حفظ القرآن.
وروى الترمذي أيضاً وقال: حسن صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ، وارق، ورتل، كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها)، فعلى قدر حفظك تكون منزلتك في الجنة، نسأل الله عز وجل أن نكون من أهل الجنة.
وروى النسائي بإسناد حسن عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أهل القرآن أهل الله وخاصته)، وهم حفاظ القرآن، الذين يحافظون على قيام الليل بالقرآن، فحافظ القرآن الكريم يعمل عملاً مجيداً عند الله عز وجل، فعلينا أن نعي هذه القيمة لكتاب الله عز وجل حتى نحفظه جميعاً إن شاء الله رب العالمين.
القاعدة الرابعة: العمل بما تحفظ، فإياك أن تحفظ الآيات ولا تعمل بها، وكم هو شديد عليك يوم القيامة أن تكون حافظاً آيات الربا وتتعامل بالربا، أو آيات الأمر بغض البصر ثم لا تغض بصرك، أو آيات الحث على الإنفاق في سبيل الله وتجد نفسك شحيحة عن إخراج المال؟ لأنك لا تعمل بما تحفظ.
يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: رب تال للقرآن والقرآن يلعنه، لأنه لا يعمل بالقرآن، فالقرآن دستور وقانون، فليس هناك معنى لحمل القرآن بدون عمل، فهو ليس كتاباً للبركة فقط، بل هو دستور أنزله الله عز وجل هدى للناس، وسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان لا يحفظ السورة إلا بعد أن يعمل بها، ثم ينتقل إلى السورة الأخرى، ثم إلى السورة الأخرى وهكذا.
يقول سفيان بن عيينة رحمه الله: أجهل الناس من ترك ما يعلم، وأعلم الناس من عمل بما يعلم، وأفضل الناس أخشعهم لله.
وقال سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا حملة العلم! اعملوا به فإنما العالم من عمل بما علم، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، يخالف عملهم علمهم، وتخالف سريرتهم علانيتهم، يجلسون حلقاً فيباهي بعضهم بعضاً، حتى أن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله تعالى.
وقال عمار بن ياسر في موقعة اليمامة لأصحاب القرآن: يا أصحاب القرآن! زينوا القرآن بالفعال، فليس من المعقول أن نكون حافظين آيات الجهاد، أو ننكس على أعقابنا في موقعة اليمامة أو في غيرها.
القاعدة الخامسة: ترك الذنوب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، إلا وهي القلب)، فالقلب يفسد بكثرة الذنوب، وصاحب الذنوب لا يحفظ القرآن، فإن الشافعي رحمه الله شكا إلى شيخه وكيع سوء حفظه، فقد كان إذا نظر إلى الصفحة حفظها مباشرة، وفي مرة من المرات لم يستطع أن يحفظ بنفس قوة الحفظ التي كان يحفظ بها، فقال له وكيع رحمه الله: لا بد أنك عملت ذنباً ما، وهو المؤثر على حفظك، وهو أن الإمام الشافعي كان يسير في الشارع، فوقع بصره على ساق امرأة مرت أمامه وذلك أن الريح أخذ طرف ثوبها، فهذا هو الذنب الكبير الذي جعل الشافعي لا يحفظ!! فقال الشافعي رحمه الله هذين البيتين من الشعر:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأنبأني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي
فالذنوب المتراكمة على القلب سبب في عدم وعي القرآن.
والضحاك بن مزاحم رحمه الله تابعي، من أهل حمص بالشام، كان يقول: ما من أحد تعلم القرآن ثم نسيه إلا بذنب أحدثه؛ لأن الله عز وجل يقول: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30]، فنسيان القرآن من أعظم المصائب.
فعلى من أراد حفظ القرآن الكريم ترك الذنوب أو على الأقل سرعة التوبة من الذنوب؛ لأن النبي صلى الله لعيه وسلم قال: (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) ، لكن التوبة لا بد أن تكون سريعة كما يقول الله عز وجل: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17].
القاعدة السادسة: الدعاء اللحوح، فتدعو الله عز وجل كثيراً أن يمن عليك بحفظ القرآن الكريم، وأن يخلص لك نيتك، حتى تصبح النية كاملة لله عز وجل، وأن ييسر لك العلم بهذا الكتاب، فالله عز وجل يحب العبد اللحوح في الدعاء، كرر الدعاء عدة مرات، واختر الأوقات الشريفة كالسجود أو السفر أو أثنا المطر، أو في ختام الصلوات وغيرها من الأوقات التي نصح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا يوجد دعاء مخصوص أو صلاة مخصوصة لحفظ القرآن الكريم، أما ما يرويه بعض الناس عن صلاة معينة بأربع ركعات في كل ركعة تقرأ فيها شيئاً معيناً من القرآن من أجل حفظ القرآن الكريم فهذا لم يرد به أصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
القاعدة السابعة: الفهم الصحيح لكتاب الله عز وجل، فكلما كنت فاهماً لما تقرأ ازدادت قدراتك على الحفظ، وكلما كنت عارفاً لمعاني الآيات كان حفظك أكثر، والكلمة التي يصعب عليك فهمها سيصعب عليك تحفظها، استعن بتفسير مختصر، كمختصر الطبري ، أو ابن كثير ، أو تفسير السعدي ، أو غيرها من كتب التفسير من أجل أن تعرف معاني الكلمات، وأسباب النزول، والقصص القرآنية ليسهل عليك حفظ الآيات بسهولة، وكذلك آيات الأحكام كآيات الوضوء، وكفارة اليمين، وكفارة الظهار، وأحكام الصيام، ودية القتل الخطأ، فإذا فهمت الحكم الإسلامي حفظت الآيات جيداً.
وإذا أردت المزيد في فهم آية فاستعن بكتب التفسير المطولة كتفسير ابن كثير ، والطبري ، والقرطبي ، والظلال، أو غيرها من كتب التفسير في المكتبة الإسلامية.
واستحضر أنك لا تحفظ القرآن لمجرد الحفظ، بل من أجل العمل به، فلابد من الفهم لكل كلمة وكل آية في كتاب الله عز وجل.
القاعدة الثامنة: التجويد المتقن، فالقرآن الكريم ليس كأي كتاب آخر، إذ إن له طريقة خاصة في قراءته، والتجويد له قواعد معروفة لدى قراء وحفاظ القرآن الكريم، يجب أن تتعلمها إن أردت حفظ القرآن الكريم.
روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة) ، وفي رواية الإمام البخاري قال: (وهو حافظ له) ، يعني: الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، وهم الرسل، سواء كانوا من البشر، أو من الملائكة، وفي كلا الأمرين أمر عظيم جداً.
ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي يقرأ القرآن وهو يتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران) يعني: أجر القراءة، وأجر التعتعة والمشقة، وفي هذا تشجيع لمن يجد صعوبة في قراءة القرآن ألا يمتنع عن القراءة، أما الذي يتقن القراءة فإنه ينتقل إلى جوار السفرة الكرام البررة.
قال النووي : الماهر بالقرآن، أي: الحاذق للقرآن الكامل الحفظ له. والسفرة إما الملائكة وإما الرسل.
وتجويد القرآن لا يمكن أن يتم إلا عن طريق حافظ متقن للتجويد، فلابد تؤخذ قراءة القرآن إلا بالتلقي، ولا تنفع الاستعانة بشريط كاسيت، أو دسك كمبيوتر، أو إذاعة القرآن الكريم فقط، فهذه الأشياء تساعد على إتقان الحفظ أو التجويد، لكن لا بد أن تتلقى القواعد من شخص يتقن هذه القواعد حتى تتقنها تماماً، ثم بعد ذلك تستعين بشريط الكاسيت أو بالكمبيوتر أو بغيره حتى يساعدك على إتمام الإتقان في التجويد.
القاعدة التاسعة: القراءة المستمرة من غير حفظ، لا بد أن تقرأ آيات الله عز وجل كثيراً، اجتهد أن تختم القرآن في شهر أو أقل من شهر، وانتبه أن يمر عليك شهر من غير أن تختم فيه قراءة القرآن، روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يقرأ القرآن بالليل -يعني: يقوم الليل- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحمه الله! لقد ذكرني كذا وكذا آية كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا) ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أنسي بعض الآيات، فلما استمع إلى الرجل تذكر الآيات.
وفي الدماغ شيء يسمى الذاكرة الحديثة أو القديمة، والذاكرة القصيرة أو الطويلة، فالإنسان لما يسمع القرآن مرة أو مرتين فإنه يدخر في الذاكرة القصيرة، فهي تحفظ بسرعة وتنسى بسرعة، لكن المهم أننا ننقل القرآن من الذاكرة القصيرة إلى الذاكرة الطويلة، وهذا لن يأتي إلا باستماع القرآن وقراءته كثيراً.
إذاً: نجتهد في قراءة القرآن وختمه على الأقل مرة في الشهر، وسماعه بكثرة، وإذاعة القرآن الكريم فيها خير كثير جداً، ويفضل أن نسمعها كثيراً في البيت، أو في السيارة أو في غيرها.
القاعدة العاشرة: الصلاة الخاشعة بما تحفظ، فكلما حفظت سورة حاول أن تصلي بها، وأن تتدبر في معاني ما تقرأ، وأن تركز على كل كلمة في السورة التي حفظتها، وأن تراجع الآيات التي حفظتها من قبل، فلا بد لك من صلاة بمفردك تراجع فيها القرآن الكريم، وأفضل صلاة لمراجعة القرآن الكريم هي قيام الليل، فمن أجل أن تحفظ القرآن لابد أن يكون لك ورد من قيام الليل، فتصلي في كل ليلة ساعة أو نصف ساعة قبل الفجر، أو بعد العشاء، تراجع فيه الآيات التي حفظتها أثناء الأسبوع أو أثناء الشهر السابق.
إذاً: القواعد الأساسية لحفظ القرآن الكريم هي ما يلي:
القاعدة الأولى: الإخلاص لله عز وجل.
القاعدة الثانية: العزيمة الصادقة، وإياك والتسويف، فلابد أن تبدأ في حفظ القرآن الكريم، فلا تؤجل عمل اليوم إلى الغد، سيوسوس لك الشيطان لا محالة، وتمر عليك السنوات دون حفظ القرآن الكريم.
القاعدة الثالثة: إدراك قيمة حفظ القرآن الكريم، وذكرنا في ذلك أحاديث كثيرة.
القاعدة الرابعة الهامة جداً: العمل بما تحفظ، وتذكر قول أنس بن مالك : رب تال للقرآن والقرآن يلعنه.
القاعدة الخامسة: ترك الذنوب، وتذكر أبيات الشعر للشافعي رحمه الله.
القاعدة السادسة: الدعاء اللحوح لله عز وجل أن يتم عليك حفظ القرآن الكريم.
القاعدة السابعة: الفهم الصحيح لمعاني كلمات القرآن الكريم، ولأسباب النزول، ولشرح القصص وآيات الأحكام قدر المستطاع.
القاعدة الثامنة: التجويد المتقن على يد متقن لقواعد أحكام تجويد القرآن الكريم.
القاعدة التاسعة: القراءة المستمرة من أجل أن يكون القرآن دائماً حاضراً في ذهنك، واجتهد أن تختم القرآن في شهر أو أقل من شهر.
القاعدة العاشرة: الصلاة الخاشعة بما تحفظ خاصة في قيام الليل.
والقواعد العشر المساعدة في حفظ القرآن هي:
أولاً: الخطة الواضحة، التي نحتاجها في كل أمورنا دائماً من أجل إنجاز عمل ناجح، والخطة يكون فيها الهدف المراد فعله، وهدفنا واضح وهو حفظ القرآن الكريم كاملاً، ومن مقومات نجاح الخطة الوسائل المتاحة عندك، وأهمها الوقت، فتضع خطة أنك ستحفظ القرآن الكريم في كذا من السنوات، ثلاث سنوات، أو أربع سنوات، أو خمس سنوات، أو عشر سنوات، وتمشي على هذه الخطة قدر المستطاع، أما الحفظ من غير خطة فسيعرضك إلى الإهمال واللامبالاة، اعمل خطة محددة ولو أكرمك الله بطاقة أكبر احفظ أكثر، والخطة المحددة لازم أن تكون بكل يوم وكل أسبوع وكل شهر خلال الخمس السنوات، وهذا أمر ليس صعباً، وممكن أن تفعل الخطة كلها في ساعة أو ساعتين، فتحفظ ربع حزب في أسبوع، فالقرآن الكريم مقسم إلى أجزاء، والأجزاء إلى أحزاب، والأحزاب إلى أرباع، فلو حفظت في الأسبوع ربع حزب فإنك ستحفظ ثمانية وأربعين ربعاً في ثمانية وأربعين أسبوعاً، وعدد أسابيع السنة اثنان وخمسون أسبوعاً، يعني أنك ستحفظ ثمانية وأربعين ربعاً في أحد عشر شهراً، ويبقى عندك شهر لمراجعة الثمانية والأربعين الربع التي حفظتها أثناء الأحد عشر شهراً السابقة، والجزء فيه ثمانية أرباع وهذا يعني أن ثمانية وأربعين ربع تساوي ستة أجزاء، أي: أنك حفظت في السنة الأولى خمس القرآن الكريم، ثم تأخذ شهراً لمراجعة هذا الخمس من القرآن الكريم، والأفضل أن يكون في شهر رمضان؛ لأن معظمنا يحاول في شهر رمضان أنه يفضي أوقاتاً كثيرة لقراءة القرآن الكريم ولمراجعته، فإن الشياطين مصفدة في هذا الشهر، فتكون عندك فرصة كبيرة أنك تستمتع بمراجعة القرآن الكريم، ثم تتم القرآن كله في خمس سنوات، فلو بدأت في هذه الخطة بجدية وبحزم وبعزم فستمر خمس سنوات وأنت من حملة القرآن الكريم.
القاعة الثانية: الارتباط بواحد أو مجموعة في عملية الحفظ، فلا تحفظ لوحدك فإن الفتور سيتسلل إليك حتماً، حاول أن تشترك مع واحد أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة في حفظ سورة من السور، وما دام أنك تعين على حفظ القرآن الكريم فإن لك إن شاء الله مثل أجره لا ينقص ذلك من أجره شيئاً، وهو أيضاً يعينك على حفظ القرآن الكريم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد)، ولما تجد عندك طاقة كبيرة ارتبط بأكثر من مجموعة، فاحفظ مع شخص سورة البقرة، ومع شخص آخر سورة هود، ومع شخص آخر سورة الأعراف وهكذا، وستجد أنك أكملت حفظ القرآن.
القاعدة الثالثة: احمل -دائماً- مصحفاً صغيراً في جيبك؛ لأن في حياتك فراغات بينية كثيرة فاستغلها بحفظ القرآن، فإنك ستجد وقتاً كثيراً في حياتك يحتاج أن تستغله بالحفظ، ولو لم يكن معك مصحف لن تستطيع استغلاله، ولن تجد في كل مكان تذهب إليه مصحفاً تراجع فيه.
القاعدة الرابعة: احرص على متابعة الإمام في الصلوات الجهرية، كصلاة الفجر، والمغرب والعشاء، فليس معقولاً أنك لا تصلي بالجامع صلاة الجماعة وتريد أن تحفظ القرآن الكريم، إذا كنت هكذا فالموازين عندك قد اختلت؛ لأن صلاة الجماعة مقدمة بالفعل على حفظ القرآن الكريم، حاول أن تحافظ على صلاة الجماعة في مسجد يكون الإمام فيه قارئاً وحافظاً ومتقناً للتجويد، يتجول بين آيات الله عز وجل الكثيرة، لا يكون إماماً حافظاً لجزء عم أو جزء تبارك فقط، وكل يوم يقرأ نفس السور، وأحياناً يكون عنده أخطاء في القراءة، فهذا لن يساعدك على الحفظ.
القاعدة الخامسة: ابدأ بالأجزاء السهلة والسور المحفوظة وإن لم تكن متتابعة، فاحفظ أولاً الجزء الثلاثين، ثم الجزء التاسع والعشرين، ثم السور السهلة كسورة البقرة وآل عمران فإنهما من أسهل السور في الحفظ، وابدأ بالسور التي فيها تحفيز خاص من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كسورة الكهف؛ فإن من السنة قراءتها يوم الجمعة، فلو أنت حافظ لها سيصبح سهلاً عليك قراءتها، وكذلك سورة الملك -سورة تبارك- لأن المسلم لو قرأها كل ليلة فإنها تقيه من عذاب القبر، وسورة ق، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحياناًيقرأ سورة ق فقط في خطبة الجمعة، وكذلك السور التي فيها قصص كسورة يوسف عليه السلام، وسورة الأعراف وهكذا، ليس المهم أن يكون الحفظ بالترتيب الأول فالأول، فلو تحفظ القرآن بهذه الطريقة ستكون لديك حصيلة جيدة في بادئ الأمر، وستدفعك لإكمال القرآن.
القاعدة السادسة: حافظ على رسم واحد للمصحف، سواء كان مصحفاً صغيراً أو كبيراً، فهناك مصاحف اثنا عشر سطراً، أو ثلاثة عشر سطراً، أو أربعة عشر، أو خمسة عشر، أو ستة عشر، أو سبعة عشر، وكل مصحف له شكل، وله طريقة خاصة لكتابته، فقد تجد الآية موجودة في مكان معين في الصفحة وفي مصحف آخر تجدها في مكان آخر، فلا تستطيع عيانك أن تستقر إلا على رسم واحد، والإنسان يحفظ بأذنه، وبعينيه، وبلسانه، فضروري أن تساعد هذه الجوارح في تثبيت الحفظ، ليكن عندك مصحف صغير، ومتوسط، وكبير، بنفس الرسم من أجل أن تراجع القرآن بنفس الرسم، واجعل مصحفاً في السيارة بنفس الرسم من أجل إذا سافرت إلى مكان ما يكون معك، وفي مكان شغلك، سواء كان مكتبك، أو مكان شغل في أي مكان، وفي بيتك، وهكذا.. بحيث إنه في كل مكان تصبح عندك فرصة لمراجعة وحفظ القرآن الكريم، والأفضل أن تكون المراجعة من مصحف المدينة المنورة لعدة أسباب:
أولاً: الكتابة فيه واضحة، والحروف واضحة ومكتوبة بسهولة.
ثانياً: شائع جداً، فهو موجود بكثرة في أنحاء العالم الإسلامي.
ثالثاً: حسن في الترتيب، فإن ترتيبه لطيف حيث تنتهي الصفحة بنهاية الآية، فيساعدك أكثر على الحفظ.
القاعدة السابعة: لا تجاوز مقرر الحفظ في كل أسبوع إلا بعد أن تتقنه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)، ففي بعض الأحيان تكون عندك حماسة شديدة فتريد أن تكمل القرآن بسرعة، فتحفظ الربع بدون إتقان، ثم تريد أن تحفظ الذي بعده وإذا بالذي حفظته سيذهب منك بسهولة، فلا بد أنك تتأكد قبل ما تنتقل من ربع إلى ربع آخر أنك قد حفظت الربع السابق حفظاً جيداً متقناً.
القاعدة الثامنة: أن تربط أول السورة بآخرها قبل أن تنتقل منها إلى غيرها، فتقسم السورة إلى أكثر من جزء حتى تستطيع أن تحفظها، إلى أن تنتهي من السورة بكاملها، ثم تراجع السورة كلها من جديد، فلابد من جعل السورة كلها كوحدة واحدة في الذاكرة، فلا تنتقل من سورة إلى سورة إلا بعد ما تجعلها كلها وحدة متصلة في الذاكرة.
القاعدة التاسعة: الاعتناء بالمتشابهات من الآيات والكلمات، فهنالك آيات متشابهة مع اختلاف حرف واحد وأحياناً لا يوجد اختلاف، فقد تتكرر من سورة إلى سورة، فحاول أن تهتم بهذه الآيات لأنك لو غلطت غلطة بسيطة في حرف واحد أو كلمة واحدة فقد تنتقل إلى سورة أخرى، وصعب عليك جداً أن ترجع للحفظ الذي كنت تراجعه، فمثلاً في سورة الأنعام، يقول الله عز وجل: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:151]، وفي سورة الإسراء يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [الإسراء:31].
ففي سورة الأنعام قال: مِنْ إِمْلاقٍ [الأنعام:151]، وفي الإسراء: خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء:31]، وفي الأنعام: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:151]، والإسراء: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [الإسراء:31].
وهناك نصيحة أخرى وهي: لا تعتني بهذه المتشابهات في أوائل الحفظ من أجل لا تخبط نفسك، حاول أنك لا تحفظ السور المتشابهة في الأول، فلا تحفظ سورة هود ثم سورة الأعراف ثم سورة الشعراء من أجل لا تخبط، فبعد ما تتقن أولاً سورة هود بعد ذلك تحفظ سورة الأعراف أو العكس.
القاعدة العشرة: الاشتراك في مسابقات حفظ القرآن الكريم مع استشعار الإخلاص لله عز وجل، فالمسابقات تعطيك دفعاً للحفظ لأن المسابقات يكون لها وقت محدد وفيها تنافس، يقول تعالى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، فاحرص على الالتزام بالمدة الزمنية المقررة، ولو تنجح في المسابقة، فأنت كسبت حفظ السورة أو قربت من حفظ السورة.
وفي آخر الدرس نذكر أربع أمنيات:
الأمنية الأولى: مراجعة ما تم كتابة في الدرس أو مراجعة التسجيل، وكتابة القواعد العشرين في ورقة، وتعلق الورقة في مكتبك وكل يوم تراجعها وتطبقها مجتمعة.
الأمنية الثانية: أن تبدأ بالحفظ بعد سماع الدرس مباشرة فلا تؤجل عمل اليوم إلى الغد.
الأمنية الثالثة: أن تنشر ما تعلمته إلى غيرك، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.
الأمنية الرابعة: إذا وفقكم الله عز وجل للحفظ فلا تنسوني من دعوة بظهر الغيب، فالملك سيدعو ويقول لك: ولك مثله، أسأل الله عز وجل أن يغفر لي ولك ولعامة المسلمين، وأن يجعل القرآن العظيم حجة لنا لا علينا، وأن يجعله شفيعاً لنا يوم القيامة، وأن يجعلني وإياكم رفقاء النبي محمد صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:55].
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].
وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , كيف تحفظ القرآن؟ للشيخ : راغب السرجاني
https://audio.islamweb.net