اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح صحيح مسلم - كتاب الإيمان - حديث جبريل عليه السلام يعلم الصحابة دينهم للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح صحيح مسلم - كتاب الإيمان - حديث جبريل عليه السلام يعلم الصحابة دينهم للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري
وبعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد:
قال المصنف رحمه الله: [قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر -وفي رواية: لا نرى عليه أثر السفر- ولا يعرفه منا أحد) ]. وهذا الذي دعا عمر بن الخطاب إلى أن يستنكر الأمر، لأن هذا الرجل ليس معروفاً عندهم في المدينة، فهو ليس من أهل المدينة ولا مما جاورها، وهو لا تبدو عليه علامات المسافر، فإن المسافر يكون في الغالب أشعث أغبر متسخ الملابس، وهذا الرجل الذي دخل عليهم كان شديد سواد الشعر، أي: ليس على شعره تراب، بل مرجل الشعر، وشديد بياض الثياب، ومعلوم أن المسافر يكون على غير هذه الهيئة والصفة.
قال: [ (ووضع كفيه على فخذيه) ]. والضمير هنا يعود على جبريل نفسه، أي: أنه وضع يديه على فخذيه هو، وليس على فخذي النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا لكان وضعاً من أوضاع سوء الأدب بين التلميذ وشيخه، فهذا جبريل عليه السلام جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمحاذاته وقبالة وجهه، ثم وضع يديه على فخذي نفسه على هيئة جلسة المتعلم بين يدي شيخه وأستاذه.
قال: [ (فقال صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت -أي: صدقت يا محمد!- فقال عمر بن الخطاب : فعجبنا له يسأله ويصدقه) ]؛ لأن هذا أمر مثير للعجب؛ لأن السائل من شأنه أنه يسأل ليتعلم، ولا يسأل لأجل أن يصدق على كلام المجيب.
قال: [ (ثم قال الرجل: أخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره) ].
أولاً: بيان ماهية الإيمان والإسلام.
ثانياً: الفرق بين مطلق الإسلام ومطلق الإيمان.
ثالثاً: هل الإيمان يزيد وينقص أم لا؟
رابعاً: هل الأعمال داخلة في مسمى الإيمان أم لا؟
خامساً: بم يدخل الكافر في الإسلام؟
سادساً: الاستثناء في الإيمان وكذا في الكفر.
سابعاً: حكم مرتكب الكبيرة، وهل هو من أهل القبلة أم لا؟
وهذه المباحث السبعة ذكرها الإمام النووي في شرحه لمقدمة هذا الحديث عند ذكر الإسلام والإيمان، ولكنه داخل بين كل مبحث من هذه المباحث مع بقية المباحث، ونحن نلتزم ترتيبه، ونبين كلامه ونشرحه، وعلى الله التكلان.
يقول الإمام النووي عليه رحمة الله: (أهم ما يذكر في الباب اختلاف العلماء في الإيمان والإسلام وعمومهما وخصوصهما -أي: عموم الإيمان والإسلام وخصوص الإيمان والإسلام- وأن الإيمان يزيد وينقص أم لا؟ وأن الأعمال من الإيمان أم لا؟
وقد أكثر العلماء رحمهم الله تعالى من المتقدمين والمتأخرين القول في كل ما ذكرناه).
ثم يقول: (وأنا أقتصر على نقل أطراف من متفرقات كلامهم يحصل منها مقصود ما ذكرته مع زيادات كثيرة). هنا يذكر الإمام النووي كلام الأئمة الذين تقدموا عليه وسبقوه، وعادة النووي في شرحه للصحيح أنه يعتمد النقل عن غيره، وقلما يتكلم من عند نفسه.
قال: (قال الإمام أبو سليمان -وهو الإمام الخطابي أبو سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البستي الفقيه الأديب الشافعي المحقق رحمه الله تعالى- في كتابه معالم السنن: ما أكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة -أي: مسألة الإيمان والإسلام- فأما الزهري فقال: الإسلام الكلمة، والإيمان العمل ] والزهري من فحول كبار أهل السنة والجماعة وفحولهم، ولم يخالف أهل السنة ولو في خردلة، إلا هذا القول فيه مخالفة لأهل السنة، ولم يثبت عن الزهري قط، بل له كلام في الإيمان والإسلام والإحسان يخالف ما نقله النووي عن الخطابي أنه قال: الإسلام الكلمة، والإيمان العمل. وقوله: الإسلام الكلمة، أي: أن تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. والإيمان العمل، أي: أن الأعمال هي حقيقة الإيمان، وليس الأمر كذلك، وهذا لم يثبت عن الزهري ؛ لأنه قد ثبت عنه خلافه، وهذا النقل إما أن فيه تصحيفاً وتحريفاً عليه ويكون المعنى: قال الزهري : الإسلام: الكلمة والإيمان والعمل، وحذف الواو هنا أدى إلى هذا المعنى المختلف، فقد فرق بين الإسلام والإيمان، فأصبح النقل: الإسلام: الكلمة، والإيمان: العمل، ولكن النقل الصحيح الذي يوافق ما ثبت عنه في مناسبات أخرى وفي كتب أخرى: أن الإسلام هو كالإيمان من حيث الكلمة ومن حيث العمل.
قال: (وذهب غيره -أي: غير الزهري - إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد). وهذا الغير قد يقصد به أهل السنة، فأهل السنة عندهم أن الإسلام والإيمان شيء واحد عند الإفراد والتفرق لا عند الاقتران، وأما عند الاقتران فلكل منهما معنى ومسمى مغاير لمعنى الآخر ومسماه.
ثم قال: (واحتج بقوله تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35-36].
قال الخطابي -أي: بعد نقله لكلام الزهري -: وقد تكلم في هذا الباب رجلان من كبراء أهل العلم، وصار كل واحد منهما إلى قول من هذين -أي: إلى قول من هذين القولين السابقين- ورد الآخر منهما على الأول، وصنف عليه كتاباً يبلغ عدد أوراقه المئين -يعني: عدة مئات-.
قال الخطابي : والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام في هذا)، يعني: إذا أردنا أن نعرف ماهية الإسلام والإيمان واختصاص كل واحد منهما بأمر لا يندرج تحت المسمى الآخر فينبغي أن يقيد الكلام، ولا يطلق في تحديد ماهية الإسلام وماهية الإيمان.
قال: (وذلك أن المسلم قد يكون مؤمناً في بعض الأحوال، ولا يكون مؤمناً في بعضها)، يعني: أن المسلم إذا حافظ على طاعة الله عز وجل، ولم يرتكب كبيرة ولم يصر على صغيرة فلا شك أنه في هذه الحالة مسلم ومؤمن، وإذا ارتكب كبيرة أو أصر على صغيرة فإنه يبقى على إسلامه وينتفي عنه الإيمان، أو يقال: إنه مؤمن عاص، أو مؤمن فاسق، ولا غضاضة في الجمع بين الاثنين، أي: في الجمع بين الإيمان والفسق.
قال: (والمؤمن مسلم في جميع الأحوال -حتى وإن ارتكب المعاصي- فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً)، يعني: بينهما عموم وخصوص، فكل مؤمن يلزم منه أن يكون مسلماً، ولا يلزم من كونه مسلماً أن يكون مؤمناً، أي: لا يلزم من ثبوت الإسلام للمرء ثبوت الإيمان له؛ لأن الإيمان درجة أعلى، فإذا ثبت له الأدنى لم يلزم من ذلك ثبوت الأعلى، وإذا ثبت الأعلى يلزم منه ثبوت الأدنى.
قال: (وإذا حملت الأمر على هذا استقام لك تأويل الآيات، واعتدل القول فيها، ولم يختلف شيء منها).
ثم قال -الخطابي -: (أصل الإيمان: التصديق، وأصل الإسلام الاستسلام والانقياد -أي: في اللغة- فقد يكون المرء مستسلماً في الظاهر -في أعمال الجوارح- غير منقاد في الباطن -وهذا نسميه مسلماً- وقد يكون صادقاً في الباطن غير منقاد في الظاهر). وهذا نسميه مسلماً عاصياً، فهذا مؤمن من داخله ولكنه غير منقاد، يعني: أنه مسلم بكل ما قال الله وقاله رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكنه قائم على معصية الله عز وجل وغير منقاد في الظاهر، ويأتي بجوارحه ما يغضب الله عز وجل، فمثل هذا يقال عنه: مسلم عاص.
فمعنى الإسلام في اللغة: الاستسلام والانقياد، ومعنى الإيمان في اللغة: التصديق، أو الإقرار على مذهب.
وفي هذا الحديث -حديث عمر بن الخطاب- اجتمع الإسلام والإيمان، فقد سأله عن الإسلام ثم سأله عن الإيمان، وقد أجاب النبي عليه الصلاة والسلام بمدلول لمعنى الإسلام وفرائضه، وأجاب بمدلول آخر لمعنى الإيمان وفرائضه، ولذلك يقول أهل العلم: الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا، وإذا افتقرا اجتمعا، يعني: إذا اجتمع مصطلح الإسلام والإيمان دلا على أن كل واحد منهما له مدلول يختلف عن المدلول الآخر، وأما إذا انفرد أحدهما عن الآخر فإن كل واحد منهما يشمل الآخر في طياته.
قال: (والاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلها)، يعني: لو أن رجلاً أتى بجميع هذه الشعب فإننا نسميه مؤمناً، ولو أن رجلاً أماط الأذى عن الطريق لقلنا: هذا رجل مؤمن؛ لأنه أتى بشعبة من شعب الإيمان، فالاسم يتعلق بالجزء كما يتعلق بالكل، ولكن الحقيقة لا تثبت إلا لمن أتى بالكل، ولا يثبت الإيمان المطلق إلا لمن أتى بجميع شعب الإيمان وفرائضه. وهناك فرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان، فالإيمان المطلق هو الإيمان الكامل، وهذا لا يثبت إلا لمن أتى بجميع شعب الإيمان وفرائضه، وأما مطلق الإيمان فهو أصل الإيمان الذي هو التصديق والإقرار.
وكذلك الإيمان، يثبت ولو بشعبة واحدة من شعب الإيمان، أي: يثبت أصله للمسلم إذا أتى ولو بشعبة واحدة، وأما كماله وتمامه فلا يثبت إلا بالإتيان بجميع أجزاء وشعب الإيمان، وهو الذي يعبر عنه أهل العلم بحقيقة الإيمان، أي: الإتيان بجميع الشعب.
ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (الحياء شعبة من الإيمان).
قال: (وجعل الإيمان اسماً لما بطن من الاعتقاد)؛ لأنه قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره). وكل هذا إنما هو من أعمال القلب لا من أعمال الجوارح.
قال: (وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، والتصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد، وجماعها الدين، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ذاك جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) ). فسمى هنا الدين بالأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، فالدين هو اسم يشتمل على الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، وليس معنى ذلك أن ما يطلق عليه الإسلام لا يطلق عليه الإيمان، أو أن ما يطلق عليه الإيمان لا يطلق عليه الإسلام، بل كلاهما عند الافتراق يطلق على مسمى ومدلول الاسم الآخر، فإن فرائض الإسلام وأركانه يطلق عليها الإيمان، وكذلك الإيمان يطلق على مسمى الإسلام، والكل يسمى ديناً.
وكذلك قول الله تعالى: ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ [الانفطار:18]. فيوم الدين هنا بمعنى الجزاء.
وقد ورد أيضاً الدين بمعنى العمل، كما في قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]. فالدين هنا بمعنى العمل بالإيمان والعمل بالإسلام.
وقال الله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا [آل عمران:85]، أي: عملاً يتقرب به إلى الله تعالى، فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]. فقوله: وَمَنْ يَبْتَغِ أي: ومن يتحرى غير الإسلام عملاً لم يأمر به الله عز وجل ولا رسوله صلى الله عليه وسلم يتقرب به إلى الله عز وجل فقد دخل في حد البدعة، ولن يقبله الله تعالى منه.
وقال تعالى: وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، أي: عملاً تتقربون به إلى الله عز وجل، فأخبر سبحانه وتعالى أن الدين الذي يرضاه ويقبله من عباده هو الإسلام، ولا يكون الدين في محل القبول والرضا إلا بانضمام التصديق إلى العمل؛ لأننا لو قلنا في معنى قول الله عز وجل: وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ، وقوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ ، وقوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ : إن الدين هنا بمعنى العمل لاستلزم ذلك أن الله تعالى لا يقبل العمل هذا إذا لم يكن نابعاً من تصديق قلبي، وهذا يدل على أن الإسلام في هذه الآيات يشمل العمل الظاهر والباطن، والعمل الظاهر هو الذي ورد في الحديث في مراتب وفرائض الإسلام، والإيمان ورد في مراتب وفرائض الإيمان الباطنة المتعلقة بالقلب.
يقول: (لأن التصديق ليس شيئاً يتجزأ حتى يتصور كماله مرة ونقصه أخرى). ونقول: صحيح أنه لا يلزم منه أن يتجزأ، ولكن يلزم منه الكمال وغير الكمال، ويلزم منه الأدنى والأعلى، وأنت تمر بهذا في حياتك اليومية، فإذا حدثك رجل ثقة عندك بخبر من الأخبار فإنك تصدقه، فإن أتاك آخر وشهد بهذا الخبر عندك ازداد تصديقك، فإن أتاك جماعة كبيرة بلغ عندك درجة اليقين، ولذلك هناك علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، وهذه مسائل معلومة، فالتصديق أيضاً على مراتب، فإن الرجل الذي آمن بالله رباً، وآمن بأن في يده الجزاء والعقاب، والثواب والحسنات، وأراد الإقدام على معصية ثم استشعر وجود الله عز وجل ومراقبته فإن ذلك يمنعه من اقتراف المعصية، والرجل الذي هو مصدق بوجود الله وبالإيمان به عز وجل وغير ذلك ولكنه غافل فإنه يقدم على المعصية. فالإيمان إذا كان بمعنى التصديق فإنه أيضاً يزيد وينقص.
وإبراهيم عليه السلام قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى [البقرة:260] وقد كان مصدقاً بالله عز وجل، وبأن الله تعالى يبعث الميت بعد أن يموت، وكان مؤمناً بالله عز وجل حق الإيمان، ولكنه أراد مزيداً على ما عنده من الإيمان.
وهذا أيضاً مما يستدل به على زيادة الإيمان سواء في حقيقته الشرعية أو في أصله اللغوي.
فقال له ربه: قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ [البقرة:260]، أي: أولم تصدق بوعدي؟ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]. ومعنى: لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أي: بزيادة الإيمان لا بأصل الإيمان، ولو قلنا: إن الإيمان ليس إلا مرتبة واحدة لكان هذا طعناً في إبراهيم عليه السلام، وحاشاه أن يشك في ربه عز وجل.
قال: (والإيمان في لسان الشرع: هو التصديق بالقلب والعمل بالأركان، وإذا فسر بهذا تطرق إليه الزيادة والنقصان)؛ لأن الأعمال هنا تدخل في مسمى الإيمان، فإذا ازداد المرء من الأعمال الصالحة وأعمال الطاعات زاد إيمانه، وإذا نقص منها نقص إيمانه.
قال: (وهذا مذهب أهل السنة).
قال: (والمختار عندنا: أنه لا يسمى به). والصواب أنه يسمى به، ويثبت له مطلق الإيمان.
قال: (قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن).. الحديث؛ لأنه لم يعمل بموجب الإيمان، فيستحق هذا الإطلاق. هذا آخر كلام صاحب التحرير).
قال ابن بطال : فإيمان من لم تحصل له الزيادة ناقص -لأنه إن لم يزدد في إيمانه فلابد أن يستلزم ذلك النقصان- قال: (فإن قيل: الإيمان في اللغة: التصديق؟ فالجواب: أن التصديق يكمل بالطاعات كلها، فإذا ازداد المؤمن من أعمال البر كان إيمانه أكمل، وبهذه الجملة يزيد الإيمان وبنقصانها ينقص). وهذا كلام في غاية المتانة والجودة، فالإيمان عند أهل السنة قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهذا الكلام ينبغي حفظه والعض عليه بالنواجذ.
قال: (فمتى نقصت أعمال البر نقص كمال الإيمان). ولم يقل: ينقص أصل الإيمان؛ لأن الأعمال هي المنسوب الذي به يزيد الإيمان وينقص، وكأن الأعمال لا علاقة لها بأصل الإيمان؛ لأن الأصل هو عقد القلب على الإقرار والتصديق، وأما الأعمال فإنما تأثيرها في الزيادة والنقصان.
قال: (ومتى زادت زاد الإيمان كمالاً، هذا توسط القول في الإيمان.
وأما التصديق بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا ينقص)، يعني: إن التصديق نفسه لا يزيد ولا ينقص، وقد قدمنا أنه يزيد وينقص حتى في أصل التصديق على المذهب الراجح.
قال: (ولذلك توقف مالك رحمه الله تعالى في بعض الروايات عن القول بالنقصان؛ إذ لا يجوز نقصان التصديق). فهم قد تأولوا كلام الإمام مالك هكذا، والإمام مالك لم يتكلم عن نقصان التصديق أو زيادته حتى لا يشتبه قوله بقول الخوارج.
قال: (إنما توقف مالك عن القول بنقصان الإيمان خشية أن يتأول عليه موافقة الخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي من المؤمنين بالذنوب، وقد قال مالك بنقصان الإيمان مثل قول جماعة أهل السنة.
قال عبد الرزاق : سمعت من أدركت من شيوخنا وأصحابنا سفيان الثوري ومالك بن أنس وعبيد الله بن عمر والأوزاعي ومعمر بن راشد وابن جريج وسفيان بن عيينة يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وهذا قول ابن مسعود وحذيفة والنخعي والحسن البصري وعطاء وطاوس ومجاهد وعبد الله بن المبارك ، فالمعنى الذي يستحق به العبد المدح والولاية من المؤمنين هو إتيانه بهذه الأمور الثلاثة، التصديق بالقلب، ثم الإقرار باللسان، والعمل بالجوارح). فلا بد من اجتماع هذه الثلاثة، التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالجوارح والأركان، وعمل الجوارح والأركان سماه النبي صلى الله عليه وسلم إسلاماً، والإقرار باللسان أيضاً داخل في مسمى الإسلام، ثم التصديق بالإيمان في القلب هو الذي يسمى الإيمان، والإيمان يزيد وينقص، فيزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
قال: (وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أنه لو أقر وعمل -أي: لو صدق وعمل- على غير علم منه ومعرفة بربه لا يستحق اسم مؤمن.
ولو عرفه وعمل وجحد بلسانه وكذب ما عرف من التوحيد لا يستحق اسم مؤمن، وكذلك إذا أقر بالله تعالى وبرسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ولم يعمل بالفرائض لا يسمى مؤمناً بالإطلاق، وإن كان في كلام العرب يسمى مؤمناً بالتصديق). وكأن الإمام النووي أراد أن يقول: لابد من اجتماع هذه الثلاثة حتى يسمى الرجل مسلماً مؤمناً.
قال: (فذلك غير مستحق في كلام الله تعالى؛ لقوله عز وجل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [الأنفال:2-3] ]. فهو هنا يتكلم عن صفات المؤمنين، وأدخل عمل الجوارح في مسمى الإسلام.
قال: [ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:3-4]. فأخبرنا سبحانه وتعالى أن المؤمن من كانت هذه صفته.
ثم قال ابن بطال في باب من قال: الإيمان: هو العمل، فإن قيل: قد قدمتم أن الإيمان هو التصديق، قيل: التصديق هو أول منازل الإيمان -ثم بعد ذلك يرتفع الإيمان بقدر ما يأتي العبد من طاعات- ويوجب للمصدق الدخول فيه، ولا يوجب له استكمال منازله)، أي: أن من التزم أول مرتبة من مراتب الإيمان وهي التصديق، فهي كافية في نسبة العبد إلى الإيمان، فيثبت له أنه مؤمن، ولكنه في أول مرتبة من مراتب الإيمان، ولا نثبت له كمال الإيمان إلا إذا أتى بجميع شعب الإيمان.
فالتصديق بمفرده كفيل بإدخال المصدق في مسمى الإيمان، ولكنه لا يثبت له كمال الإيمان وتمامه.
قال: (ولا يسمى مؤمناً مطلقاً -أي: لا نثبت له الإيمان المطلق، وإنما نثبت له مطلق الإيمان- وهذا مذهب جماعة أهل السنة، أن الإيمان قول وعمل.
قال أبو عبيد : وهو قول مالك والثوري والأوزاعي ومن بعدهم من أرباب العلم والسنة الذين كانوا مصابيح الهدى وأئمة الدين من أهل الحجاز والعراق والشام وغيرهم.
وقال ابن بطال : وهذا المعنى أراد البخاري رحمه الله تعالى إثباته في كتاب الإيمان، وعليه بوب أبوابه كلها.
فقال: باب أمور الإيمان، باب الصلاة من الإيمان، باب الزكاة من الإيمان -أي: أنه عدد شرائع الإسلام وفرائضه وأدخلها في مسمى الإيمان- باب الصلاة من الإيمان، باب الزكاة من الإيمان، باب الجهاد من الإيمان، وسائر أبوابه).
قال: (ثم قال ابن بطال في باب آخر: قال المهلب : الإسلام على الحقيقة هو الإيمان). يعني: الإيمان والإسلام في حقيقة الأمر اسمان لمعنى واحد ومسمى واحد، وهو الدين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما سأله جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان وأشراط الساعة وأجابه قال: (أتاكم يعلمكم دينكم).
قال: (الذي هو عقد قلب المصدق لإقرار اللسان الذي لا ينفع عند الله تعالى غيره.
وقالت الكرامية وبعض المرجئة: إن الإيمان هو الإقرار باللسان دون عقد القلب). يعني: لو قال شخص: أنا مؤمن بالملائكة، أو أنا مؤمن بالله فإنهم يقولون: هو مؤمن، حتى وإن لم يكن ذلك في حقيقة قلبه، ويقولون: إن هذا هو الإيمان، فهم يقولون: ليس الإيمان هو التصديق، وإنما هو الإقرار باللسان، فمن أقر بلسانه كان مؤمناً حقاً، وهذا قول باطل، ولو كان كلامهم صحيحاً فليس على وجه الأرض كافر، واليهود الذين حاربوا النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة كانوا يعترفون ويقرون في أنفسهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم مرسل من عند ربه.
قال: (ومن أقوى ما يرد به عليهم إجماع الأمة على إكفار المنافقين). فالمنافقين في حقيقتهم بينهم وبين الله تعالى كفار، ولكنهم معصومو الدم؛ لأنهم أقروا بألسنتهم، فلهم حكم في الدنيا وحكم في الآخرة، فنحن نعاملهم على أنهم مسلمون، وهم عند الله تعالى كفار، ونمتنع من مقاتلهم؛ لأنهم يقرون بألسنتهم بأنهم مسلمون. فهو هنا يقول: الرد على المرجئة وعلى الكرامية بأن الإقرار باللسان لا يكفي لإثبات حقيقة الإيمان، وإجماع أهل السنة والجماعة أن المنافقين ليسوا مؤمنين.
قال: (وإن كانوا قد أظهروا الشهادتين، قال الله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة:84] -فسمى المنافقين كفاراً- إلى قوله تعالى: وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55]. هذا آخر كلام ابن بطال).
وحكم الإسلام في الظاهر ثبت بالشهادتين، وإنما أضاف إليهما الصلاة والزكاة والحج والصوم لكونها أظهر شعائر الإسلام وأعظمها، وبقيامه بها يتم استسلامه وانقياده، وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده أو اختلاله)، يعني: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما ذكر الإسلام والإيمان، ذكر شعب وفرائض وأركان كل منهما؛ ليدل على أن أصل الإسلام هو الاستسلام والانقياد، على أن أصل الإيمان هو التصديق في الباطن، وأما بقية هذه الشعب أو الأركان أو الفرائض فمن لوازم الإسلام أو الإيمان وأنه بانخرام واحدة ينخرم الأصل الذي عنده، والحقيقة أنه ينخرم الكمال، ولا ينخرم الأصل الموجود لديه.
فالعلاقة وثيقة جداً بين مسمى الإيمان والإسلام، الذي هو عمل الباطن وعمل الظاهر، وأنت لن يبدو عليك ظاهر الإسلام إلا إذا كان هذا منبثقاً عن حسن اعتقادك في الله، وحسن ما تبطن تجاه الله عز وجل من إقرارك وعقد قلبك وتصديقك بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وغير ذلك من فرائض الإيمان، وأنت لا تؤمن بهذا إلا إذا دفعك إلى حسن العمل في الظاهر، فالعلاقة وثيقة جداً بين الإيمان وبين الإسلام.
قال: (لكونها ثمرات للتصديق الباطن الذي هو أصل الإيمان ومقويات ومتممات وحافظات له، ولهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث وفد عبد القيس). فلما أتى وفد عبد القيس إلى النبي عليه الصلاة والسلام قالوا: (يا رسول الله! إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإنا لا نأتيك إلا في شهر الله الحرام، فمرنا بأمر نعمل به ونلزم به من بعدنا أو من خلفنا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع).. والحديث سيأتي في صحيح مسلم ، وهو عند البخاري أيضاً قال: (آمركم بالإيمان، أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: الإيمان أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن تقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتصوموا رمضان، وتحجوا البيت). فهنا عرف الإيمان بالإسلام؛ لأنه لم يتكلم عن الإسلام وإنما تكلم عن الإيمان فقط، فعرف الإيمان بشعائر الإسلام، ولو أنهم سألوه عن الإسلام أو أمرهم بالإسلام لعرفهم على مسمى الإيمان والإسلام معاً، ولا يفهم من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد أن يخبرهم بشعائر الإسلام دون شعائر الإيمان ومراتبه، وإنما إذا ذكر الإسلام وحده شمل معه الإيمان، وإذا ذكر الإيمان وحده شمل معه الإسلام، وإذا ذكرا معاً كان لكل واحد منهما مدلوله، كما هو الحال والشأن في الحديث الذي بين أيدينا حديث عمر بن الخطاب .
قال: (كما ورد في حديث وفد عبد القيس بالشهادتين والصلاة والزكاة وصوم رمضان وإعطاء الخمس من المغنم، ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة أو بدل فريضة) -فلا نثبت له الإيمان المطلق، وإنما نثبت له مطلق الإيمان، وهو أصل الإيمان- لأن اسم الشيء مطلقاً يقع على الكامل منه، ولا يستعمل في الناقص ظاهراً إلا بقيد، ولذلك جاز إطلاق نفيه عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) ). وكلمة حين أي: وقت ارتكاب المعصية، فدل ذلك على أن الإيمان يثبت له قبل ذلك وبعد ذلك، وأما وقت ارتكاب المعصية فلا يثبت له مطلق الإيمان، أي: لا يثبت له كمال الإيمان وتمامه، وإنما يثبت له أصل الإيمان.
قال: واسم الإسلام يتناول أيضاً ما هو أصل الإيمان، وهو التصديق الباطن، ويتناول أصل الطاعات، فإن ذلك كله استسلام لله عز وجل.
قال: فخرج مما ذكرناه وحققنا: أن الإيمان والإسلام يجتمعان ويفترقان). بمعنى: إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، أي: إذا ذكر كل واحد منهما على حدة فإنما يشمل الآخر، وإذا ذكرا معاً كان لكل منهما مدلوله.
قال: (وأن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً. قال: وهذا تحقيق وافر بالتوفيق بين متفرقات نصوص الكتاب والسنة الواردة في الإيمان والإسلام، التي طالما غلط فيها الخائضون، وما حققناه من ذلك موافق لجماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم.
هذا آخر كلام الشيخ أبي عمرو بن الصلاح عليه رحمة الله تبارك وتعالى).
وإذا سمعت في شرح صحيح مسلم قال أبو عمرو بن الصلاح أو قال القاضي عياض فانتبه جيداً، وخاصة لكلام القاضي عياض في غير كتاب الإيمان؛ لأن كلامه كالمسمار في الصاج، فهو كلام متين في غاية المتانة، وأبو عمرو بن الصلاح من أعاظم وفحول المحققين، وكان أستاذ التأويل والجمع بين الروايات والأقوال، وعندما يتكلم النووي عن مسألة ويذكر فيها عشرة أقوال فإنك تتحير أمام هذه الأقوال أيها الراجح وأيها المرجوح، فإذا قال لك: وقال أبو عمرو بن الصلاح فاعلم أنك قد أصبحت في بر الأمان مباشرة.
فـأبو عمرو بن الصلاح لا يستهان به، ولا بأقواله قط، وكذلك القاضي عياض في غير التأويل، والإمام النووي كان يعتمد على القاضي عياض ، وكان عنده أشعرية، عليه رحمة الله تبارك وتعالى.
قال: (فإذا تقرر ما ذكرناه من مذاهب السلف وأئمة الخلف فهي متظاهرة متطابقة على كون الإيمان يزيد وينقص، وهذا مذهب السلف والمحدثين وجماعة من المتكلمين).
وهم عندما يقولون: إن الإيمان إذا قبل النقص صار شكاً، إنما يتكلمون عن أصل الإيمان وهو التصديق بالله عز وجل وبفرائض الإيمان، ونحن إن وافقناهم على أن أصل الإيمان والمرتبة الأولى هي التصديق إلا أنا نقول: إنها تزيد وتنقص، ونقصان التصديق لا يلزم منه وقوع الشك؛ لأن التصديق نفسه مراتب، ولا يلزم من نزول الشخص من مرتبة إلى مرتبة في داخل المنزلة الأولى من منازل الإيمان -وهي التصديق- أن يكون شاكاً في الله عز وجل، ولو قلنا: إن نقصان التصديق يستلزم الشك لقلنا: إن إبراهيم كان شاكاً في الله عز وجل، وهذا محال.
فالرد عليهم: أن الإيمان يزيد وينقص، حتى وإن كانت هذه الزيادة والنقصان في أصل الإيمان والمنزلة الأولى منه، وهي التصديق، وذلك لا يستلزم شكاً؛ لأن هذه المنزلة الأولى على مراتب أيضاً عند أهل السنة والجماعة، فليس إيمان النبيين كإيمان الصديقين، ولا كإيمان الشهداء، فكل له مرتبة ومنزلة.
قال: (قال المحققون من أصحابنا المتكلمين -أي: الشافعية- نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص -وعندنا أن نفس التصديق يزيد وينقص- والإيمان الشرعي يزيد وينقص -فهو يتكلم هنا عن الإيمان الشرعي باعتبار العمل يزيد وينقص- بزيادة ثمراته -أي: بزيادة أعمال الطاعات والبر ونقصانها- قالوا: وفى هذا توفيق بين ظواهر النصوص التي جاءت بالزيادة وأقاويل السلف، وبين أصل وضعه في اللغة وما عليه المتكلمون، وهذا الذي قاله هؤلاء وإن كان ظاهره حسناً إلا أن الأظهر والله تعالى أعلم أن نفس التصديق -والكلام للإمام النووي- يزيد بكثرة النظر وتظاهر الأدلة -أي: يزيد بكثرة النظر والتفكر في آلاء الله عز وجل، وتظاهر الأدلة- ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم؛ بحيث لا تعتريهم الشبه). ولو جلست مع رجل من أهل البدع وألقى عليك شبهة فإنك ستتزعزع، مع أن عندك شيئاً من أصل التصديق، فالتصديق نفسه يزيد وينقص.
قال: (ولا يتزلزل إيمانهم بعارض، بل لا تزال قلوبهم منشرحة نيرة، وإن اختلفت عليهم الأحوال.
وأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم ونحوهم فليسوا كذلك -وإن كان مسمى الإيمان يشمل الجميع- فهذا مما لا يمكن إنكاره، ولا يتشكك عاقل في أن نفس تصديق أبي بكر الصديق رضي الله عنه لا يساويه تصديق آحاد الناس، ولهذا قال البخاري في صحيحه: قال ابن أبي مليكة : أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل).
قال: (ودلائله في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تشهر، قال الله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143]). وإجماع المفسرين على أن هذه الآية نزلت لما وجل الصحابة من تغيير القبلة، فخافوا على صلاتهم السابقة هل قبلت أم لا؟ فأنزل الله عز وجل لما سألوا نبيه عن ذلك، قال: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ، أي: صلاتكم السابقة محسوبة لكم عند الله تعالى يجازيكم بها خيراً، فسمى هنا العمل إيماناً. فالصلاة عمل، وقد سماها الله تعالى إيماناً؛ لأنها من لوازم الإيمان الباطن، وبين الإسلام والإيمان علاقة وثيقة جداً، فإذا ذكر أحدهما دل على الآخر، وإذا افترقا افترقا في المدلول. وقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم تارة الإيمان بالإسلام، وعرف الإسلام بالإيمان، وكذلك ورد في غير ما آية من كتاب الله عز وجل تعريف الإيمان بالإسلام، وتعريف الإسلام بالإيمان، كما أن الله تعالى أثبت أن الأعمال هي الإيمان أو من ثمرات الإيمان، كما قال: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ، أي: صلاتكم وأعمالكم.
قال: (وأما الأحاديث فستمر بك في هذا الكتاب كثيرة).
قال: (ونطق بالشهادتين).
قال: (فإن اقتصر على إحداهما لم يكن من أهل القبلة أصلاً)، يعني: لو قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ولم يقل: وأشهد أن محمداً رسول الله لم يكن من أهل القبلة من الأصل، أي: لا يدخل بهذا في الإسلام.
قال: (إلا إذا عجز عن النطق لخلل في لسانه، أو لعدم التمكن منه لمعاجلة المنية). يعني: لو قال: أشهد أن لا إله إلا الله ثم مات، فهذا يحكم له بالإسلام، أو على الأقل نتوقف فيه، والراجح أنه يحكم له بالإسلام، ولو قال رجل: أشهد أن لا إله إلا الله فأصابه الخرس بعد أن نطق بها، ولم يستطع أن ينطق بالشهادة الثانية حكمنا له بالإسلام في الظاهر وأمره إلى الله، وإن لم يعترضه عارض وعلة تمنعه من النطق بالشهادتين حكم عليه بالكفر.
قال: (إلا إذا كان من الكفار الذين يعتقدون اختصاص رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى العرب خاصة). فإذا كان يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أرسل إلى العرب على جهة الخصوص كما كان كل نبي من قبل يرسل إلى قومه فقط وجب عليه أن يقول: وأنا بريء من كل دين يخالف دين الإسلام. هذا رأي. والراجح لمطلق النصوص وظاهرها أنه يكفيه للحكم عليه بالإسلام أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
قال: (وأما إذا اقتصر على قوله: لا إله إلا الله، ولم يقل: محمد رسول الله، فالمشهور من مذهبنا ومذاهب العلماء أنه لا يكون مسلماً، ومن أصحابنا من قال: يكون مسلماً ويطالب بالشهادة الأخرى، فإن أبى جعل مرتداً، ويحتج لهذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا اله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم) )، أي: باعتبار أن هذا الحديث لم يذكر الشهادة الثانية، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بإحدى الشهادتين عن ذكر الأخرى؛ لأنها من لوازمها، فليس في هذا حجة، ولا يثبت إيمان المرء إلا بالإتيان بالشهادتين على السواء.
وإن أتى بالشهادتين وترك العمل فقد اختلف أهل العلم في تكفيره بترك الأعمال أو عدم تكفيره.
وأما الاستثناء فباعتبار الخاتمة والعاقبة، يعني: باعتبار أنه لا يعلم ما سيختم له به، فالاستثناء هنا جائز، ولا يجوز الاستثناء في الإيمان إلا بهذا الاعتبار، أي: باعتبار الخاتمة والعاقبة؛ لأنه لا يدري ما يختم له به.
قال: (وأما الكافر ففيه خلاف غريب لأصحابنا، منهم من قال: يقال: هو كافر، ولا يقال: إن شاء الله، ومنهم من قال: هو في التقييد كالمسلم على ما تقدم، فيقال على قول التقييد: هو كافر إن شاء الله؛ نظراً إلى الخاتمة وأنها مجهولة. وهذا القول اختاره بعض المحققين). والمذهب الراجح أن الكافر لا يستثنى فيه، فالكافر يقال: إنه كافر، حتى وإن أسلم بينه وبين نفسه إن لم يظهر هذا الإسلام، فيجوز للمسلمين أن يطلقوا عليه لفظ الكفر، مادام قد أخفى إيمانه، وأخفى الأعمال التي تدل على إسلامه أو إيمانه. ويجوز للمسلم أن يطلق عليه لفظ الكفر ولا يستثني في ذلك، فيكون كافراً عند الناس، ويكون عند الله تعالى مؤمناً. وهذه الشبهة دخلت على بعض المحققين من الاستثناء في إطلاق الكفر، أي: هل نقول للكافر في الظاهر: أنت كافر، أو نقول له: أنت كافر إن شاء الله؟ فقالوا: نحن لا ندري ما حقيقة أمره بينه وبين الله، ولا ما الخاتمة التي يختم له بها، ولذلك اختار بعض المحققين أن يقال: هو كافر إن شاء الله، وهذا قول مرجوح، والراجح أن الكافر إذا لم يعلن إسلامه وإيمانه أنه يقال فيه: كافر دون استثناء، وأما عاقبته فبينه وبين الله عز وجل.
قال: (ولا يكفر أهل الأهواء والبدع -أي: أهل السنة لا يكفرون أهل الأهواء والبدع إلا ببدعة يكفرون بها- وأن من جحد ما يعلم من دين الإسلام بالضرورة حكم بردته وكفره، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة ونحوه ممن يخفى عليه فيعرف ذلك). يعني: لو جاء أعرابي من البادية لا يعرف أي شيء عن فرائض الإسلام، حتى الصلاة فيعرف بذلك، وهذه المسألة ليست بعيدة، وهناك أناس في جنوب أفريقيا إلى الآن لا يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل ولا أن اسمه محمد، وقد حدثني أحدهم في مكة العام الماضي أنه مصري، ولقي رجلاً من مصر دعاه إلى التوحيد وإلى الإيمان وإلى الإسلام، قال: وهذه أول مرة أسمع أن هناك نبياً أو رسولاً اسمه محمد، فإذا أسلم هذا الرجل فلا شك أنه لا يعرف في أول الأمر أركان الإيمان والإسلام، وشرائع الإيمان والإسلام، فمثل هذا الرجل لابد وأن يعلم أولاً، ولا يبادر بتكفيره، ولا بتفسيقه، فإن تعلم ما هو معلوم من الدين بالضرورة، ثم أنكر بعد قيام الحجة الرسالية عليه فإنه يكون مرتداً كافراً خارجاً عن ملة الإسلام.
قال: (فإن استمر حكم بكفره، وكذا حكم من استحل الزنا)؛ لأنه لا يخفى على مسلم أن الزنا حرام، وهذا معلوم من دين الله بالضرورة، فمن استحل ما حرم الله فهو كافر بعد أن يعلم، ومن حرم ما أحل الله فهو أيضاً كافر إذا كان هذا أمراً معلوماً بالضرورة، فالذي يحرم ما أحل الله، أو يحرم ما أحل الله خارج عن دائرة الإسلام إذا كان أمراً معلوماً بيناً عنده.
قال: (فهذه جمل من المسائل المتعلقة بالإيمان قدمتها في صدر الكتاب تمهيداً لكونها مما يكثر الاحتياج إليه، ولكثرة تكرارها وتردادها في الأحاديث، فقدمتها لأحيل عليها إذا مررت بما يخرج عليها.
والله أعلم بالصواب).
فأهل السنة لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب إلا ذنباً يكفر به، معنى ذلك: فالزاني لا يكفر عندهم، ولا يلزم من حديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، أن يكون كافراً، بل إنه يكون في لحظة هذا الفعل وارتكاب هذا الإثم على إسلامه وعلى أصل التصديق، وينفى عنه زيادة الإيمان وكماله وتمامه.
فأهل السنة لا يكفرون أحداً بذنب من أهل القبلة، وإنما يثبتون له الإسلام وأصل الإيمان، ولا يكفرون إلا من استحل ما حرم الله، أو حرم ما أحل الله بعد قيام الحجة عليه.
وأما إذا لم يقم عليه الحد، ولم يتب من هذا الذنب، وكان مصراً عليه ومات على هذا الإصرار، وهو يعلم أنه مذنب فهو هنا تحت مشيئة الله.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح صحيح مسلم - كتاب الإيمان - حديث جبريل عليه السلام يعلم الصحابة دينهم للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري
https://audio.islamweb.net