اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , فلسطين لن تضيع.. كيف؟ للشيخ : راغب السرجاني
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بخير فوفّقه لكل خير، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فخذه أخذ عزيز مقتدر، واجعل تدبيره تدميره، واجعل كيده في نحره، ربنا أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسّر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا، آمين آمين.
وصل اللهم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والحمد لله رب العالمين.
ثم أما بعد:
فإنه قد طلب مني كثير من الإخوة الأفاضل الذين استمعوا إلى سلسلة المحاضرات المتعلقة بقضية فلسطين، والتي هي بعنوان: فلسطين حتى لا تكون أندلساً أخرى، طلب مني ملخصاً لهذه المحاضرة، تجمع رءوس العناوين في كل تلك المحاضرات السابقة.
فلقد وجدت هذا الأمر أصعب من إعداد المادة الأصلية للمحاضرات، وأصابتني حيرة كبيرة جداً لما أخذت في تلخيص هذه المحاضرات الكثيرة، فقد كان عددها اثنتي عشرة محاضرة، فتلخيصها في محاضرة واحدة شيء في منتهى الصعوبة، ومما يزيد من صعوبة الأمر الاثنتي عشرة محاضرة كانت تلخيصاً لأحداث كثيرة ولمواقف متعددة، لكن الله سبحانه وتعالى المستعان.
وقد تحدثنا في سلسلة المحاضرات المتعلقة بقضية فلسطين عن دور الأمة رجالاً ونساءً وأطفالاًً تجاه قضية فلسطين، وكيف نحقق صفة الإيجابية في إنقاذ هذا الوطن الجريح المحتل منذ أكثر من خمسين سنة من حفنة قليلة من اليهود أشد الناس عداوة للمسلمين.
قبل أن نتحدث عن أدوارنا في هذه القضية الخطيرة أود أن أذكّركم عن سبب تسميتها (فلسطين حتى لا تكون أندلساً أخرى)؛ فإن بلاد الأندلس سابقاً وأسبانيا والبرتغال الآن لا يسكنها من المسلمين إلا أعداد قليلة جداً لا تتناسب مطلقاً مع التاريخ المجيد الطويل للمسلمين في هذه البلاد، فقد عاش المسلمون في بلاد الأندلس أكثر من ثمانمائة عام، والآن لا يسكنها أكثر من مائة ألف مسلم فقط، ومعظمهم حديث العهد بهذه البلاد، ما تفسير ذلك؟ ولماذا احتلت كثير من البلاد الإسلامية الأخرى مثل مصر والجزائر وليبيا وسوريا وغيرها ومع ذلك ما زال جل السكان في هذه البلاد من المسلمين؟ وتفسير ذلك أن الاحتلال الأسباني للأندلس كان احتلالاً من نوع فريد، ما تكرر في العالم إلا قليلاً، كان الاحتلال الأسباني احتلالاً استيطانياً إحلالياً، كانوا إذا أغاروا على بلد من بلاد المسلمين قتلوا أهلها جميعاً أو هجّروهم خارجها، ثم يأتون بالأسبان من أمكان أخرى يوطّنونهم في تلك البلاد، وبذلك قاموا بعملية إحلال للشعب الإسلامي بالشعب الأسباني، حتى إذا انتهوا من آخر مدن الأندلس لم يبق في أرض الأندلس مسلم واحد.
ولما طرد المسلمون من الأندلس أو قتلوا بعد تعذيب وحشي تعلقت قلوب المسلمين في البلاد الإسلامية الأخرى بأرض الأندلس الإسلامية، وتاقت نفوس البعض إلى تحريرها، ولكن مرت السنة والسنتان والقرن والقرنان حتى صارت خمسة قرون، ونسي المسلمون قضية الأندلس، وما عادوا يذكرون الآن غير أسبانيا والبرتغال دولتان أوروبيتان تضمان في أرضهما عدداً مهولاً من الآثار والأبنية الإسلامية والمساجد التي حولت إلى كنائس ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كان هذا هو الاحتلال الأسباني الإحلالي الاستيطاني يستبدل بشعب شعباً آخر، ويحل شعباً مكان شعب، أما احتلال البلاد الإسلامية الأخرى لم يكن على هذه الشاكلة، فاحتلال مصر أو الجزائر أو ليبيا كان بالجيوش، واحتلال الجيوش لا بد وأن ينتهي، ولا بد أن تعود إلى بلادها مهما طال الزمان أو قصر.
والوضع في فلسطين الآن شديد الشبه بالأندلس، فاليهود يقومون بعملية إحلال منظمة للشعب الفلسطيني المسلم بالشعب اليهودي، ولو بقي الحال على ما هو عليه دون أن يتحرك المسلمون فسيأتي يوم تصبح فيه فلسطين أندلساً أخرى، وسيقبل المسلمون الآن بما لم يقبلوا به قديماً، سيقبلون بوجود دولة جديدة في المنطقة اسمها إسرائيل.
إذا تقادم العهد على الاحتلال فسيصبح هذا أمراً واقعاً، فالمسلمون على سبيل المثال منذ ثلاثين سنة كانوا لا يعترفون بالكيان الصهيوني مطلقاً، بل كانوا يصفون اليهود بأنهم مجموعة من اللصوص سطوا على أرض ليست أرضهم فنهبوها واستوطنوها، ثم مرت الأيام -وسبحان الله- وقبل الرافضون القدماء من العرب بوجود إسرائيل وعلى مساحة 78% من الأرض المحتلة، وهي كل أرض فلسطين خلا الضفة الغربية وغزة.
ثم سيقبلون بعد ذلك -وسترون- بأن تحتل إسرائيل مساحة 60% من الضفة الغربية وغزة بالإضافة إلى 78% الأصلية وذلك على هيئة مستوطنات يهودية داخل الضفة الغربية وغزة، ثم ستأتي مرحلة جديدة لا محالة يسعى فيها اليهود لإنهاء الوجود الفلسطيني بالكلية حينها قد يصرخ المسلمون يوماً أو يومين أو سنة أو سنتين أو قرناً أو قرنين ويتقادم العهد وتصبح فلسطين إسرائيل، ويرتبط المسلمون معها بما يرتبطون به الآن مع أسبانيا والبرتغال، وقد يأتي زمان على المسلمين يزورون فيه المسجد الأقصى بفيزة سياحة من السفارة الإسرائيلية، كما يزورون الآن أكبر مسجد في العالم وهو مسجد قرطبة بفيزة سياحة من السفارة الأسبانية.
قضية فلسطين يا إخوة من أخطر القضايا التي مرت بالمسلمين، ومن أخطر القضايا على الساحة الإسلامية بل لعلها الأخطر على الإطلاق، قضية فلسطين هي قضية أمة تذبح، وشعب يباد، وأرض تغتصب، وحرمات تنتهك، وكرامة تهان، ودين يضّيع، فماذا سنفعل كأمة وكأفراد حتى لا تصبح فلسطين أندلساً أخرى؟
أنا في هذه المحاضرة -يا إخوة- لا أخاطب الحكومات ولا الهيئات الرسمية، أنا أخاطب عموم المسلمين الغيورين على القضية، أخاطب الطبيب والمهندس والمحامي ورجل الأعمال، أخاطب النجار والحداد والعامل والفلاح، أخاطب أستاذ الجامعة كما أخاطب الطالب، أخاطب العلماء كما أخاطب الرجل البسيط الذي لا يحسن قراءة ولا كتابة ولكن فقط يتألم لفلسطين.
أنا أخاطب عموم المسلمين الذين ليس في أيديهم قرار تسيير الجيوش، ولا قطع العلاقات، ولا غلق السفارات، ولا وقف التطبيع، ولا محاكمة شارون ، ولا وحدة قادة المسلمين، يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].
نحن في هذه المحاضرة نحاول أن نضع أيدينا على هذا الوسع، أحد أصدقائي يقول لي: كلما أفتح التلفزيون وأتابع أحداث فلسطين أكاد أنهار أو أصاب بالذبحة، فقلت له: لا يا أخي نحن نحتاجك نحن لا نريدك أن تنهار، نحتاج جهدك ووقتك وطاقتك، نعم لا بد أن تحزن ولكن الحزن الذي يدفع إلى عمل، الحزن الإيجابي، الحزن الذي لا يقعد الإنسان ولا يحبط النفس ولا يصيب القلب بذبحة أو غيرها.
أنا أريد منك باختصار ستة واجبات إذا فعلتها على الوجه الأكمل كنت ممن أدى حق فلسطين، وكنت مساهماً في تحريرها إن شاء الله، وكنت مستنفداً لوسعك وطاقتك، ويوم القيامة تقول: يا رب! فعلت كذا وكذا لفلسطين وهذا ما كنت أملك.
مع العلم أنني في هذه المحاضرة لا أخاطب إخواننا المجاهدين المرابطين في أرض فلسطين فإن عليهم دوراً يسبق كل هذه الأدوار وهو الجهاد في سبيل الله، ولا شيء يعدل الجهاد ضد اليهود، نسأل الله لهم الثبات والإخلاص.
الواجب الأول هو: تحريك القضية وبأقصى سرعة وبالمفاهيم الصحيحة.
أي: لا يجب أن تموت القضية أبداً أو تنسى، احذر أن يمر عليك يوم أو يومان دون أن تذكر فلسطين أو تذكّر بها، احمل هم القضية، وتحرك لفلسطين في كل الدوائر والأماكن وفي كل الأوقات وتحت كل الظروف، تحدث عن فلسطين في دائرة بيتك مع أبيك وأمك، مع إخوانك وأخواتك، مع أولادك وأحفادك، تحدث عن فلسطين في دائرة الأقارب القريبين والبعيدين، وفي دائرة أصدقائك، وفي دائرة العمل، نترك في هذه الأيام العصيبة من الكلام كثيراً عن المباريات والدوري والكأس، والمسلسلات والأفلام، والقيل والقال، وفلان وعلان، لنتحدث يا إخوة عن فلسطين.
وكذلك في الدوائر السطحية التي تلتقي فيها قدراً ودون ترتيب تحدث عن فلسطين، سواء كنت منتظراً في عيادة طبيب، أو راكباً في سيارة أجرة أو باص أو تاكسي، وبعد ذلك فكر أن توسع دوائر التحريك: مقال في جريدة، خطاب إلى بريد إحدى الصحف، مقال في مجلة حائط في مدرسة أو جامعة، كلمة بسيطة وسريعة في مسجد لمدة دقيقتين أو ثلاث، إخبار عن عملية استشهادية، أو سؤال الدعاء لأهل فلسطين، خطبة جمعة على من كان خطيباً أو حتى تنصح الخطيب بهذا الأمر، اعمل اجتماعاً ثقافياً في بيتك، وادع أصحابك لمناقشة القضية، ولا مانع أن تدعو إلى اللقاء متحدثاً يدرك أبعاد القضية يحاورهم ويشرح لهم، ابعث رسائل على الإنترنت لكل من تعرف من الأفراد والهيئات في كل بقاع العالم، ابعث للمسلمين ولغير المسلمين، اشرح القضية، وضح فضائح اليهود، اعمل رأي عام عالمياً مضاداً للإعلام اليهودي.
والمظاهرات السلمية تعتبر تحريكاً للقضية لكن لا بد أن تكون بالضوابط الشرعية الإسلامية، ليس فيها تكفير ولا سباب ولا إفساد للمحلات الأمريكية وغيرها، لأنها في عهدنا، والمسلمون لا ينقضون العهود، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس المؤمن بالطعان، ولا باللعان، ولا بالفاحش، ولا بالبذيء)، ليس فيها اختلاط مخل بالآداب الإسلامية، وليس فيها شعارات ضالة تؤخر القضية بدلاً من تقديمها.
هذا التحرك لا بد أن يكون بسرعة، فإنه لا يوجد وقت، فمرور الوقت دون عمل ليس في مصلحة القضية، ومع مرور الوقت يزداد عدد الشهداء وتفقد الأمة أفرادها الواحد تلو الآخر، وتهدّم المنازل، وتجرّف الأراضي، ويشتت الناس، ويتزايد عدد من لا مأوى لهم، وكل هذا يكثّر من أوراق الضغط اليهودي، ومع مرور الوقت تزداد المستوطنات وتزداد الهجرة اليهودية للأراضي الفلسطينية، ويزداد الإحلال اليهودي للشعب الفلسطيني، ويتناقص الغذاء والكساء والدواء لغلق كل المعابر والحدود، وتتزايد الجرأة اليهودية على المسلمين، نحن نسمع عن أشياء جديدة وبكميات كبيرة، نسمع عن عمليات اغتيال لأشخاص بعينهم، وعمليات اختطاف لأفراد من عقر دارهم، وعن قصف بالمروحيات والأباتشي، وعن اجتياح بالدبابات والجرافات وحصار ومذابح جماعية وإبادة، ونشاهد سكوتاً عالمياً مخزياً!
ومع مرور الوقت يحدث شيء خطير أسميه: إلف المأساة، حيث يتعود المسلمون على منظر الدماء والجرحى بالمئات والآلاف، وعلى منظر الأمهات الثكالى، والأطفال الباكية المشردة، وعلى مناظر الهدم والتجريف والظلم والإبادة، وعلى كل ذلك فلا تتحرك القلوب كما كانت تتحرك، ولا تُذرف الدموع كما كانت تُذرف، ولا تتأثر المشاعر كما كانت تتأثر.
ثم إلى متى سنعيش؟! الموت يأتي بغتة، ومن مات قامت قيامته، ولا شك أننا سنسأل عن هؤلاء الذي يقتّلون صباح مساء على بعد أميال منا، ولا داعي أن نأخذ الموضوع ببساطة، ولكي تشعر بالمشكلة ضع نفسك مكانهم، وليس ببعيد أن يبدّل الله الأدوار عما قريب، فلو أنك تسير في الشارع ومعك ابنك وعمره 8 سنوات أو 10 سنوات فجاء يهودي وأطلق رصاصة استقرت في قلبه أو في رأسه فسقط بين يديك، وأنت لا تملك له علاجًا، فمات أمام عينيك, فإذا بأكثر من مليار مسلم يشاهدون ولا يتحركون ماذا تفعل؟! ألا ترفع يدك إلى السماء وتدعو على من شاهد ولم يتحرك؟ أو سمع ولم يعقل؟
ألا تخشى من دعوة هؤلاء المظلومين على إخوان لهم في الدين شاهدوا الأرواح تزهق، والأرض تسرق، والشعب يشتت فتأسفوا قليلاً ثم سارت حياتهم بصورة طبيعية كما كانت تسير من قبل؟
تحريك القضية وبسرعة واجب حتمي يحفظ القضية من الموت أو النسيان ولكن لابد أن يكون التحريك بالمفاهيم الصحيحة، فإن تحريك القضية بمفاهيم خاطئة قد يضر بها ويعطل سيرها بل وقد يعجّل بموتها، ولابد من تفريغ الوقت لفهم القضية فهماً صحيحًا وتفهيمها لغيرنا.
إن أعداء الإسلام يدبّرون مؤامرات كثيرة لا حصر لها لهدم الإسلام وإبادة أهله، فهم لا يهدءون ولا يكلّون، وعلى قدر هذا النشاط من أعدائنا يجب أن تكون حركتنا أو يزيد:
فهناك مؤامرات سياسية عن طريق المفاوضات والسفارات والهيئات والأحلاف.
ومؤامرات عسكرية عن طريق الجيوش والصواريخ والطائرات والبوارج.
ومؤامرات اقتصادية عن طريق الحصار والقيود الاقتصادية والديون والعولمة.
ومؤامرات تفريقية للتفريق بين الشعوب الإسلامية وبين أفراد الشعب الواحد بل وبين أفراد الأسرة الواحدة.
ومؤامرات أخلاقية عن طريق إفساد أخلاق المسلمين بالإعلام والدش والإنترنت والتليفزيون والصحف الصفراء والبيضاء وغير ذلك.
ثم مؤامرات فكرية عن طريق تغيير أفكار المسلمين وتبديل المعايير الصحيحة وقلب الموازين العادلة.
كل هذه المؤامرات خطيرة وفتّاكة وقاتلة، لكن أشدها خطراً المؤامرة الفكرية التي تقلب الحق باطلاً والباطل حقاً، فهي أشد خطراً من المؤامرة الأخلاقية على خطرها.
تخيّل أن رجالاً عاشوا طويلاً, وكافحوا وتعبوا وسهروا وبذلوا من أجل أفكار ضالة مضلة, وعقائد منحرفة, وأهداف تافهة، كل ذلك وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، فهذه كارثة! فالمؤامرة الفكرية تقتلع الأمم من جذورها، فلا أمل في النجاة إن انحرفت أفكار الناس، ومن انحرف ولو درجة واحدة فلا يرجى له وصول.
كثيرٌ ممن يكافح من أجل فلسطين للدفاع عن أفكارٍ منحرفة, ومفاهيم خاطئة ولذا فهم يؤخرون أو يضيّعون القضية، فتحريك القضية بالمفاهيم الصحيحة من أقوى الأسلحة في حرب التحرير، ومن هذه المفاهيم ما يلي:
المفهوم الأول: لماذا نحرر فلسطين؟ وما هي الدوافع وراء الحركة وبذل المال والجهد والوقت والنفس؟ لماذا نحن متحمسون لفلسطين؟ فالناس في هذا الأمر ترفع شعارات مختلفة، فهناك من يقول: نحن نحرر فلسطين لأنها عربية، ونحن عرب وبدافع القومية العربية لا بد أن نحررها! وهناك من يقول: نحن نحررها من أجل أن بها القدس المدينة المباركة! وهناك من يقول: نحن نحررها من أجل الأقصى مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولى القبلتين وثالث الحرمين! وهناك من يقول: لحل مشكلة اللاجئين المشردين في بقاع الأرض! وهناك من يقول: لأنها إسلامية! وهناك من يقول: لأجل كل ما سبق، يعني: لأنها عربية وإسلامية؛ ولأجل القدس والأقصى واللاجئين.
نعم، فقد يكون لأجل كل ذلك نتحرك، لكن إن لم تحدد وجهة واحدة من كل هذه الأمور فقد تضل الطريق وتنحرف عن الهدف، لا تفرّق عليك الهموم، ضع النقاط فوق الحروف، اختر هدفاً واحداً من كل هذه الأهداف ولا ترض عنه بديلاً.
فالدافع لأجل تحرير فلسطين هو لأن فلسطين إسلامية، ففي شرع الإسلام إذا حكم المسلمون بلداً فتحاً أو صلحاً أصبحت هذه البلاد ملكاً للمسلمين حكماً أبدياً إلى يوم القيامة، والأرض التي غنمها المسلمون يوماً من الأيام صارت أرضاً إسلامية، وعلى هذا اجتمع فقهاء المسلمين.
فأرض فلسطين فتحت بالإسلام سنة 13هـ، واكتمل الفتح سنة 18هـ وبذلك أصبحت الأرض بكاملها أرضاً إسلامية، وحق المسلمين في أرض فلسطين بدأ منذ هذا التاريخ، نحن لا نتمسك بتوراة محرفة كاليهود، نحن نتمسك بشرع محكم: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، والأرض بكاملها إسلامية من البحر الأبيض إلى نهر الأردن، ومن لبنان إلى رفح، فهذا هو شرع الإسلام، والتفريط في شبر من فلسطين تفريط في الدين.
فكم من المكافحين من أجل القضية يفهم هذا الأمر؟ وكم من يكافح من أجل إقامة دولة فلسطينية فقط على الضفة الغربية وغزة ويترك 78% من الأرض الإسلامية لليهود؟ وكم من سيترك جزءاً من الدين من أجل التعايش السلمي مع اللص الذي سرق الأرض، فهذه مشكلة فكرية خطيرة.
أنا لا أعتقد أن أي عالم إسلامي يستطيع أن يتجرأ على الفتوى بأن مدينة يافا مدينة إسرائيلية ليست إسلامية كما يقولون، فالحي الشمالي منها اسمه تل أبيب، ولا أعتقد أنه يستطيع أن يتجرأ على الفتوى بأن مدينة حيفا لم تعد مدينة إسلامية، أو مدينة عكا الثغر الإسلامي القديم لم تعد ملكاً للمسلمين، فمثل هذه الفتوى يعتبر قصوراً في الفهم، وانحرافاً في الفكر، فقد أصدر الأزهر الشريف فتوى في 1 يناير سنة 1956م بأنه لا يجوز التفريط في شبر واحد من الأرض الفلسطينية، ثم ما لبثت الأيام أن دارت حتى اعترف المسلمون لليهود بـ 78% من الأرض أو يزيد والبقية تأتي.
وهذا يذكرني بالشخص الذي لم يصم رمضان مدة من السنين، ثم ذهب إلى شيخ علم فقال له: أريد أن أصوم فماذا أعمل؟ فقال له: السنة التي ستأتي تصوم ثلاثة أيام في رمضان كمرحلة انتقالية، ودرب نفسك على هذا بضع سنين، ولما تستقر على هذا الأمر زد يوماً، وهكذا.
فاليهود استمروا في تعبئة أذهاننا بأن فلسطين ليست ملكنا، ونحن نقول: بل هي ملكنا، وبعد ذلك مللنا، فقلنا: أعطونا خمس الأرض والباقي لكم، المهم أن يكون هنالك علم ومطار وبعد ذلك ليس مهم كم تكون مساحة الأرض؟
ففي شرع الله أن الأرض بكاملها إسلامية، والذي يغير في هذا الحكم كالذي يغير في أحكام الصلاة والصيام والحج وغير ذلك من أمور الإسلام، ويترتب على هذا الفهم حكم فقهي هام وهو أن الأرض المسلمة المحتلة يتعين على أهلها الجهاد من أجل تحريرها، ويفرض عليهم كالصلاة المفروضة، وكصيام رمضان، ومن لم يجاهد من أهلها لتحريرها بكاملها أثم، ولا خلاف بين العلماء في ذلك، فيجب على أهل فلسطين أن يجاهدوا حتى يحرروا فلسطين بكاملها، فإن لم يستطيع أهل فلسطين تعين الجهاد على البلدان الإسلامية المجاورة وهكذا، وإن شمل ذلك كل مسلمي الأرض، فهذه قضية في منتهى الخطورة ليست قضية هامشية في حياتنا أبداً.
يقول بعض الناس: إن الجهاد من أجل تحرير فلسطين يتعارض مع الشرعية الدولية، وقوانين الأمم المتحدة، وحدود الدولة المعترف بها، ومنها حدود دولة إسرائيل، فهل الشرعية الدولية شيء يحفظ للناس حقوقها أو يضمن للقوي الاستمرار فيما يريد وإن كان ظلماً؟
الشرعية الدولية ما هي إلا شعار يختفي وراءه كثير من مجرمي الحرب، والشياطين، الذين يظلمون ويقتلون ويشردون وفق أهواء منحرفة، ومصالح ذاتية، الشرعية الدولية سمحت بموت نصف مليون طفل عراقي بسبب نقص التطعيمات والألبان، هل هؤلاء الذين يحكمون باسم الشرعية الدولية بشر؟ وهل يتعاملون وفق مشاعر البشر؟ وهل يقبل بشر بوفاة طفل واحد أمامه لنقص الغذاء أو الدواء وهو يشاهد بل ويستمتع؟ فما بالك بوفاة نصف مليون طفل؟
ماذا فعلت الشرعية الدولية في أفغانستان وكشمير والسودان والبوسنة والصومال ولبنان؟ وماذا فعلت ضد إسرائيل في تعدياتها الصارخة في فلسطين، غير القرارات والتنديدات والشجب فقط ولا حراك؟
إذاً: الشرعية الدولية ليست قانوناً عادلاً، بل هي قانون لا يعرف إلا القوة، ولأن الله عز وجل يعلم الظلم الشديد الذي سينتهجه كثير من البشر؛ ويعلم أن الحق المجرد لا يقنع الكثيرين من الخلق؛ وأن الحق لا بد أن يحمى بقوة، من أجل كل ذلك شرع الجهاد للدفاع عن الحقوق، قال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:39-40].
إذاً: فلسطين بكاملها إسلامية، ولن يرضى بذلك اليهود ولا أعوانهم ولا الشرعية الدولية، ولن يقتنع الأقوياء الظالمون إلا بقوة إسلامية عادلة، المهم هو أن تعرف حقاً، وأن تعرف السبيل الصحيح لاسترداده.
أما كيف ننتصر على أعدائنا؟ فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إنكم لا تنصرون على عدوكم بالعدد والعدة، وإنما تنصرون بطاعتكم لربكم، وبمعصيتهم له، فإن تساويتم في المعصية كانت لهم الغلبة عليكم بقوة العدة والعتاد.
فنحن المسلمين لا ننتصر إلا بتأييد الله لنا، وكل زعيم مسلم على مر التاريخ حاول أن يعتز بغير الإسلام فلم يذقه الله إلا الذل، وكل جيش مسلم حاول أن ينتصر بغير الإسلام هزمه الله، وعلى النقيض تماماً فإن كل زعيم أو جيش تمسك بالإسلام انتصر ولو كان قليلاً ضعيفاً، فهذه قواعد شرعية واضحة، قال تعالى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249]، إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160]، هل هي أمريكا أو روسيا أو الاتحاد الأوربي أو الأمم المتحدة أو الشرعية الدولية؟! لا أحد ينصرنا من دون الله، فلهذا قال تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50].
إن فهم القضية في ضوء شرع الله يضع النقاط فوق الحروف، ففلسطين بكاملها إسلامية، والتفريط في شبر منها تفريط في الدين، فلا مجال لقول: إن الضفة الغربية وغزة مرحلة أولى ثم يعقبها تحرير كامل، فبإقرارك لعدوك على 78% من الأرض يزداد قوة وتزداد ضعفاً، يزداد تمسكاً وتزداد تفريطاً، فالحقوق لا تتجزأ.
فنحن قد تعاملنا مع اليهود فعرفناهم وعرفنا أعوانهم وعرفنا طريقتهم، فلا يكن حالنا كحال رجل اشترى ثلاث تفاحات فقطع الأولى فوجد فيها دودة فرماها، ثم قطع الثانية فوجد فيها أيضاً دودة فرماها، فأطفأ النور وأكل الثالثة، فكلما رجعنا خطوة وضع اليهود أرجلهم فيها، فقد قسمت لهم الأمم المتحدة 56% من الأرض سنة 1947م ظلماً وعدواناً في قرار التسليم الجائر الظالم برقم: 181، فهاج العرب وماجوا لكن بدون اعتراض، وفي سنة 1948م احتل اليهود 78% من الأرض، أي: بزيادة 22% عن الأرض التي قسمتها لهم الأمم المتحدة الظالمة أصلاً، فهاج العرب وماجوا لكن لا اعتراض، ثم قالوا: نتمنى أن نعود لحدود الأمم المتحدة، لكن اليهود كانوا قد وضعوا أقدامهم فيها واستولوا عليها.
وفي الخامس من يونيو سنة 1967م احتلت الضفة الغربية وغزة فهاج العرب وماجوا، وقالوا: نتمنى أنكم تأخذون 78% من الأرض ولا حول ولا وقوة إلا بالله.
أما الآن فإنهم يطالبون بعودة إسرائيل إلى حدود 27 سبتمبر سنة 2000م أي: قبل الانتفاضة، وهكذا، وفي النهاية لا اعتراض.
ففلسطين بكاملها إسلامية مهما تقادم الزمان على احتلالها، من أجل ذلك لا ندعو بتحرير فلسطين لأجل القدس فهذا تجزيء واضح للقضية، فاليهود سيعظمون جداً من شأن القدس ويتمسكون بها فيلتهي المسلمون بقضية القدس وينسون بقية الأرض، ولا نقول: نريد دولة فلسطينية في الضفة وغزة عاصمتها القدس، أو خذوا القدس وأعطونا 78% من الأرض.
وقد يقول قائل: ليس من المعقول أن تأخذوا القدس كلها، بل خذوا القدس الشرقية ونحن سنأخذ القدس الغربية، فهذا هو العدل! فيبتسم بعض العرب في بلاهة ويقولون: نعم والله لديك حق، لا تفريط في القدس الشرقية!
من أجل هذا انتبه أن تكون حملاتك الدفاعية عن فلسطين تحت شعار القدس، فلتكن دائماً واضحة تحت شعار: فلسطين إسلامية، ولا تقول: القدس إسلامية، أو تقول: فلسطين لنا ولا تقول: القدس لنا، أو تقول: لا تفريط في فلسطين ولا تقول: لا تفريط في القدس، وهكذا.
الأخطر من هذا الذي سبق أن نقول: نحن نحرر فلسطين من أجل الأقصى، فيأتي اليهود بعد جدال طويل وعقيم فيقولون: خذوا الأقصى واتركوا فلسطين، وفي مرحلة أخرى يقولون: خذوا الأقصى ما عدا حائط المبكى وبقايا الهيكل، وفي مرحلة أخرى إذا بحفريات تحت الأقصى بحثاً عن هيكل سليمان عليه السلام، وكل هذا حصل أمام أعيننا ورأيناه.
قال لي أحد أصدقائي: أنا لا أستبعد في المستقبل أن يقولوا لنا: خذوا أحجار المسجد الأقصى وابنوه في مصر أو ليبيا أو السنغال أو غيرها من البلدان، وإذا بنا نطالب بذلك غداً وبحمية.
فهل الأقصى كبناء أغلى من دماء المسلمين، روى ابن ماجة : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: (ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله ودمه وإن نظن به إلا خيراً).
من أجل هذا كان غريباً فعلاً أن الأمة تثور وتنتفض لزيارة شارون للأقصى وهو أمر قبيح ولا شك ولا تثور ثورة مماثلة أو أشد لذبح ثلاثة آلاف فلسطيني مسلم على يد اليهود في صبرا وشاتيلا، لا بد أن نعرف كيف نرتب أولوياتنا، فالإسلام ليس ديناً معقداً، الرسول صلى الله عليه وسلم تركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
فالأولوية الأولى: الأرض بكاملها؛ لأنها دين والتفريط فيها تفريط في الدين، ويضحى بكل شيء من أجل الدين.
الأولوية الثانية: الدماء، فدماء المسلمين لها حرمة عظيمة، لكن تبذل للدفاع عن الدين.
الأولوية الثالثة: المقدسات والمباني والديار والأموال وكل ذلك هام جداً لكن لا يضحى من أجله بالأرض أبداً.
أما البلاد الإسلامية التي ليس فيها حرم ولا قبلة ولا كعبة ولا أقصى، فلا يتركها المسلمون، فلماذا لا تغلي الدماء في عروقنا لنهب الشيشان أو كشمير أو البوسنة أو كوسوفو أو السودان؟ فالحذر الحذر من تمييع القضايا، وتفريعات اليهود! حدد الهدف وستصل إن شاء الله.
وأخطر من كل ما سبق: أن تقول نحن نحرر فلسطين لكونها عربية، فبهذا ضاعت أسباب النصر تماماً، فبدلاً من التمسك بكتاب الله وقانون الله وشرع الله نتمسك بما أسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوى الجاهلية، وذلك لما تقاتل بعض الصحابة تعصباً للنسب والقبيلة قال لهم: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وشرفكم به! دعوها فإنها منتنة).
أيترك المسلمون الدين المحكم ويرفعون شعار: أبي كان عربياً فأنا على طريقته مهما كان؟ إذا ضاعت النيات الصالحة أحبطت الأعمال وإن عظمت، فالمناداة بتحرير فلسطين لكونها عربية دعوى جاهلية، وحجتهم لذلك أن قبائل كنعان العربية الوثنية كانت تعيش فيها قبل اليهود، أتتشرف بالانتماء إلى قبائل كنعان الوثنية فقط لأنها عربية؟ أيهما أشرف الانتماء إلى أبي جهل وأبي لهب والوليد بن المغيرة وغيرهم من أشراف العرب القرشيين أم إلى بلال وسلمان وصهيب وصلاح الدين الأيوبي وطارق بن زياد وقطز ومحمد الفاتح الذين ليسوا عرباً؟
هل كانت جذور مصر عربية حتى تصبح دولة عربية؟ من هذا المنطلق الذي نتكلم فيه فإن مصر ليست دولة عربية، وكذلك ليبيا أو تونس أو الجزائر أو المغرب، وقد يكون أصل أحدنا عربياً أو بربرياً أو قبطياً أو يهودياً، فمن الممكن أن الجد الأكبر لنا كان يهودياً وأسلم، ليس مهم الأصول فهي لا تفرق شيئاً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملي فاطمة فإني لا أغني عنك من الله شيئاً).
فالرابط الواحد الصحيح للمسلمين هو عقيدة الإسلام، وإن ابتغوا العزة في غيره أذلهم الله.
وأيضاً: حكاية القومية العربية مسحت من حساباتك مليار مسلم قد يكونون أشد حماسة للدين وللإسلام من العرب أنفسهم، فهنالك مائتا مليون أندنوسي، ومائة مليون باكستاني، ومائة مليون بنغالي من بنغلادش، ومائة مليون نيجيري، ومائة مليون هندي، وخمسة ثمانون مليون صيني، وثمانون مليون تركي، وغيرهم، وسع مداركك -يا أخي- وانظر ماذا أراد الله لك وتبتغي غيره؟ تخيل أمة إسلامية كالجسد الواحد فيها تكنولوجيا ماليزيا واندونيسيا، وبترول الخليج والقوقاز، ومزارع السودان وتونس، ومناجم أفريقيا، ويورانيوم كازاخستان، ونووية باكستان، وصواريخ إيران، وقناة السويس وباب المندب، ومضيق هرمز، وطاقة بشرية هائلة، تخيل وحدة لهذه الأمة على أساس العقيدة، شرعها القرآن والسنة، وسبيلها الجهاد في سبيل الله، أمة مهولة عندما يفكر الغرب في ذلك يصيبهم الهلع والرعب والفزع، فيسرعون إلى وأد أي توجه إسلامي في أي قطر من الأرض صغيراً كان أو كبيراً غنياً كان أو فقيراً، يدركون قوة غفل عنها أهلها، ألا وهي قوة العقيدة، وقوة الاعتزاز بمنهج الله الحكيم.
الرجل الذي كنا نظنه معتدلاً، في مؤتمر انتخابي كان يقول: لا يمكن أن يتحقق السلام في المنطقة ما دام الإسلام شاهراً سيفه، ولن نطمئن على مستقبلنا حتى يغمد الإسلام سيفه، هكذا يقول بمنتهى الوضوح.
إذاً: خلاصة هذا المفهوم الذي يجب أن نتحرك به سريعاً وسط الأمة أن فلسطين بكاملها إسلامية، فلا نرضى بحلول جزئية كالضفة الغربية وغزة مثلاً، ولو أخذنا القدس والأقصى، كما أننا لا نحرر فلسطين لكونها عربية، فانتماؤنا للعقيدة أقوى وأشد من انتمائنا لآبائنا وقبائلنا.
وهنا مفهوم آخر في غاية الأهمية: هل تحرر فلسطين بالانتفاضة وفقد هذا الكم الهائل من الدماء أو بالمفاوضات والطرق الدبلوماسية والأمم المتحدة وغير ذلك؟
وأريد أن أرسخ مفهوم وجوب استمرار الانتفاضة المباركة لام يلي:
أولاً: الانتفاضة هي الطريق الشرعي الوحيد لتحرير فلسطين في مثل هذا الموقف، فلا تحرر الشعوب إلا بالدماء والتضحيات والبذل والعطاء، فمن المستحيل أن يأخذ المظلومون حقوقهم من الجبابرة والطواغيت عبر طاولة مفاوضات، لو قعد الليبيون ألف سنة مع الإيطاليين حول طاولة مفاوضات ما خرج الطليان من أرضهم، ولو قعد الجزائريون كذلك ألف سنة مع الفرنسيين حول طاولة مفاوضات ما خرج الفرنسيون من أرضهم، ولو قعد الفيتناميون ألف سنة مع الأمريكان حول طاولة مفاوضات ما خرج الأمريكان من أرضهم، فلماذا ستشذ فلسطين عن القاعدة؟ هل اليهود أعظم أمانة وأوفى عهداً من الطليان والفرنسيين والأمريكان؟ ولذلك نعلق الأمل كثيراً على زعمائهم، فليس معنى هذا أننا ضد السلام أبداً، ولقد روج بعض العلماء لمباحثات السلام والتي كان من جرائها الاعتراف بـ 78% من أرض فلسطين لليهود بالآية الكريمة: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [الأنفال:61]، ونسوا الآية التي قبلها: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [الأنفال:60]، كما نسوا أيضاً أن بعد هذه الآية بثلاث آيات فقط قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ [الأنفال:65]، فلا أدري كيف انتزعوها انتزاعاً من المصحف على طريقة لا تقربوا الصلاة.
يا إخوة السلام! الذي نريده هو السلام المبني على رد كامل الحقوق إلى أصحابها، سلام الأقوياء الشرفاء، لا نعطي سلاماً مقابل جزءاً من الأرض، وكأنهم يتفضلون به علينا، نعطي السلام بعد أن نأخذ الأرض بكاملها، ونعطيه لمن عاش معنا على أرضنا موصياً بعهده ومرتبطاً بقانوننا.
لا نعاهد اليهود إلا إذا كنا أقوى منهم؛ لأنهم حتماً سيخالفون وسينقضون العهد ولن تردهم إلا القوة، قال تعالى: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:100]، والعلماء المروجون لمباحثات السلام يحتجون أحياناً بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود، فإذا كانوا قد نقضوا عهدهم مع نبي أفلا ينقضون عهدهم معنا؟ ولما نقضوا عهده أجلاهم من بني قينقاع وبني النضير وذبحهم في بني قريظة، وهزمهم ودك حصونهم في خيبر، فإذا كنت تملك وسيلة العقاب عند المخالفة فعاهد على حذر، وإن كنت لا تملك ذلك فلا معنى للمعاهدة، فما هي إلا تسكين للشعوب إلى مرحلة جديدة ينقض فيها العهد لا محالة.
إذاً: الانتفاضة لا بد أن تستمر وتؤيد بكل وسائل التأييد؛ لأنها السبيل الوحيد للتحرير.
ثانياً: أتحزنون على دماء الشهداء؟ أتعتقدون أنهم لو رضوا بالذل والهوان والاستكانة والبيع لعاشوا أطول؟ يقول تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]، هل لو مكث محمد الدرة في بيته ولم يخرج أكان حياً بين أظهرنا الآن؟ بل كان سيموت لا محالة، وكان سيحزن عليه أبواه وإخوته وأقاربه وأصحابه فقط على أقصى تقدير، أما باستشهاده فقد أحيا أمة كبيرة من إندونيسيا إلى المغرب.
ورزق الشهادة، روى مسلم وأحمد : عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرها أن ترجع إلى الدنيا إلا الشهيد فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى؛ مما يرى من فضل الشهادة).
ثالثاً: سقط من الشهداء في فلسطين منذ بدأت الانتفاضة منذ عام ونصف ما يقرب من ألفين شهيد، فهذا الرقم لا يمثل شيئاً في مقاييس تغيير الأمم، وفي مذبحة صبرا وشاتيلا قتل من المسلمين ثلاثة آلاف أو يزيد في يوم واحد، وفي ثورة عز الدين القسام البطل الإسلامي المشهور، وعبد القادر الحسيني المجاهد الفلسطيني المعروف، والتي استمرت من سنة 1935م إلى سنة 1939م استشهد فيها من الفلسطينيين اثنا عشر ألف بطل، وحكم بالإعدام على مائة وستة وأربعين من الرجال، واعتقل خمسون ألفاً، وهدم خمسة آلاف منزل.
والجزائر دفعت مليون شهيد للتحرر من فرنسا، وأفغانستان دفعت مليون شهيد للتحرر من روسيا، وأهل فيتنام وهم ما بين بوذي وشيوعي لا يرجون جنة ولا يرغبون في أجر ولا يؤمنون بآخرة دفعوا أربعة ملايين قتيل ليتحرروا من العدوان الأمريكي، فثمن الحرية غالٍ وعظيم، فما بالك بالجنة؟
فهؤلاء ماتوا من أجل الجنة أو من أجل الحرية، وهنالك الأعداد التي تموت في غير هدف: فهنالك مائة ألف قتيل في زلزال الهند، وثمانون ألف قتيل مدني في هيروشيما ومثلهم في نجازاكي، ونصف مليون قتيل في التصارع على الحكم في أنغولا، واثنين مليون ماتوا في السودان من سنة 1983م إلى سنة 2001م بسبب الحروب الأهلية والمجاعة والفيضانات و22 مليون قتيل بسبب الإيدز غير 37 مليون الذين يحملون المرض وينتظرون الوفاة، مع أن عمر الإيدز في الأرض كلها عشرين سنة فقط.
فإذا كان هؤلاء يموتون بلا هدف، وقد يكون موتهم بسبب مصائب أخلاقية كشذوذ أو تصارع على سلطة، أفلا يموت الفلسطينيون شهداء؟ ثم أليس للانتفاضة حسنات أخرى غير التحرير، فحسنات الانتفاضة لا تقدر بثمن، فمن ذلك:
أولاً: الأبعاد التربوية للانتفاضة، فقد كسرت حاجز الخوف عند الفلسطينيين، وأنتجت جيلاً لا يهاب الموت، وهي خطوة من أروع الخطوات في سبيل التحرير، وفي سبيل سيادة العالم، فمن ذا الذي يستطيع أن يقاتل شاباً في مقتبل العمر يحمل حزاماً ناسفاً حول وسطه يحب الموت كما يحب أعداؤه الحياة؟ فالشعب أصبح قادراً على التضحية بسهولة، وعلى الجهاد بتلقائية، فقد تعيش الشعوب مئات السنين ولا تصل إلى ما وصل إليه أهل فلسطين من تضحية وجهاد.
ثانياً: الانتفاضة أوضحت الرؤية لدى عامة الفلسطينيين بل ولدى عامة المسلمين أن استجداء كرسي للتفاوض لا يقدم شيئاً بل يؤخر الكثير، وبات جميع المخلصين يدركون أن السلام ليس هو الخيار المناسب للطرح مع اليهود وأعوانهم.
ثالثاً: توحيد الفصائل الفلسطينية المختلفة تحت راية واحدة، وهذه نعمة لا تقدر، وثمرة من ثمرات الانتفاضة، فقد اجتمعت فصائل شتى واتجاهات مختلفة على هدف واحد وهو إخراج الصهاينة عن طريق المقاومة، ومن كل الاتجاهات نجد رجالاً يقاتلون ويستشهدون، فهذا الاتحاد سبيل واضح للنصر، نسأل الله أن يحفظ وحدتهم وأن يبارك فيهم.
رابعاً: توحيد العالم الإسلامي بأسره تحت راية واحدة، فقد شاهدنا التحاماً في المشاعر بين المسلمين في أندونيسيا وماليزيا ومصر والمغرب والسودان وكل بلاد المسلمين، شاهدناهم في العراق كما شاهدناهم في الكويت، فقضية فلسطين من القضايا المجمعة لهذه الأمة.
خامساً: ظهر السفور الأمريكي في تأييد إسرائيل، فقد أصبحت أمريكا لا تخفي عاطفتها ولا تجمل سياستها، وهي رسالة لكل المسلمين، وهكذا فإن الانتفاضة كشفت المستور، وهو مكشوف منذ زمن لكن البعض يحتاج إلى زيادة إيضاح.
ثم أليس للانتفاضة آثار على المجتمع الصهيوني؟ قد يظن البعض أن الآلة العسكرية الهائلة والأموال اليهودية الغزيرة لن تتأثر بالأحجار والبنادق القديمة والأحزمة الناسفة، فإن تداعيات الانتفاضة على المستوى اليهودي في منتهى الخطورة، قال تعالى: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104]، ومن ذلك ما يلي:
أولاً: حالة مروعة من الرعب وعدم الأمن عند كل اليهود بما فيهم كبار رجال الدولة، فقد نقل التلفزيون الإسرائيلي لقاءً بين شارون وأحد وزرائه، وكان الوزير يبكي؛ لأنه يخاف أن يخرج من بيته فكيف بعامة المحتلين؟!
ثانياً: الهجرة المعاكسة من إسرائيل إلى خارجها تزايدت جداً.
ثالثاً: الاضطرابات الخطيرة في الجيش الإسرائيلي، فقد رفض الكثير من الجنود الامتثال لأوامر قادتهم خوفاً على حياتهم.
رابعاً: الخسارة اليهودية الاقتصادية الفادحة، فقد خسروا أكثر من مائة وأربعين مليار دولار في السنة الأولى، فالسياحة ضربت تماماً، ونسبة الأشغال في الفنادق لا تجاوز 2% فقط، و50% من دور السينما أغلقت أبوابها تماماً، وكثير من المصانع اليهودية المعتمدة على العمال الفلسطينيين أغلقت أبوابها كذلك.
خامساً: الخسارة الاقتصادية لم تقتصر على اليهود في حيز الأرض المحتلة فقط، بل الشركات اليهودية العالمية قوطعت من قبل كثير من المسلمين، حتى الدول الإسلامية التي ما زالت تحتفظ بعلاقات تطبيع مع إسرائيل فقد قلصت من حجم تعاملاتها مع اليهود، وهذا لا شك سيؤثر سلباً على إسرائيل.
سادساً: وارد أن تقطع الدول العربية التي تطبع علاقاتها بإسرائيل في هذا الجو المشحون والغضب الجماهيري المتزايد، وإن حدث ذلك فلا شك أنه سيخنق اليهود.
سابعاً: العزلة اليهودية عن العالم بأسره، فإن فرق الرياضة تخشى الذهاب إلى إسرائيل، وكذلك فرق المسارح والفن، والوفود الدبلوماسية والاقتصادية والاجتماعية قد قلصت من زياراتها للمنطقة.
ثامناً: الانتفاضة فضحت جرائم اليهود على شاشات الفضائيات والإنترنت في العالم أجمع، وقامت بالإعلام المضاد ضد الإعلام الصهيوني المضلل، ونتج عن ذلك إجماع العالم على إدانة إسرائيل في الأمم المتحدة لولا فيتو أمريكا، واجتماع العالم على اتهام إسرائيل بالعنصرية لولا انسحاب أمريكا أيضاً.
إذاً: الشرع والعقل والتاريخ والواقع كلها تؤكد أن الانتفاضة لا بد أن تستمر، وأنها الطريق الشرعي الوحيد لرد الحقوق إلى أصحابها.
ومن المفاهيم الهامة التي يجب أن تحرك وتثار وسط جموع المسلمين مفهوم إسرائيل الكبرى، وهو مشروع صهيوني حقيقي لا تخفيه إسرائيل بل تعلنه بسفور، والشواهد تدل على سعيهم لتطبيقه، ويشمل: فلسطين بكاملها، بالإضافة إلى الأردن، ولبنان، وسوريا، والعراق حتى دجلة والفرات، وجنوب تركيا، ومصر حتى الفرع الغربي من النيل فرع رشيد، وشمال السعودية حتى المدينة المنورة، وفي بعض الخرائط حتى 112كيلو متر تقريباً جنوب المدينة المنورة، خيّب الله ظنونهم وأفشل خططهم، ,يستند هذا المشروع إلى توراتهم المحرفة حيث يقولون: إن الرب قال ليعقوب عليه السلام: وهبتك يا إسرائيل ما بين دجلة والنيل، وقد أعلن هذا المشروع بن غوريون أول رئيس إسرائيلي عند إعلان دولة إسرائيل سنة 1948م، وذكره تيودور هرتزل في مذكراته وهو المؤسس الحقيقي لدولة إسرائيل، وقاله موشي دايان لما احتل اليهود القدس سنة 1967م قال: الآن أصبح الطريق مفتوحاً إلى يثرب وإلى بابل خيّب الله ظنه، ولما احتل سيناء قال: الآن حررنا سيناء، وخريطة إسرائيل الكبرى على باب الكنيست، وعلى عملتهم الشيكل، فهذه أمور ليست مخيفة.
وحرب 67 ما كانت إلا حلقة في هذا المشروع، وكذلك اجتياح لبنان في سنة 82، ولا شك أن حرب الخليج وتمركز القوات الأمريكية في هذه المنطقة من العوامل التي تسهل على تطبيق المشروع على أرض الواقع، والصداقة اللصيقة بين تركيا وإسرائيل وتدمير القوة العسكرية العراقية محطات لا تخفى على عاقل، والمسلمون لا يفيقون إلا على الكوارث، ودول المنطقة جميعاً توقع على معاهدة حضر أسلحة الدمار الشامل بما فيها السلاح النووي، بينما إسرائيل تمتلك أعداداً ضخمة من الرءوس النووية، ومع ذلك لا توقع على معاهدة حضر أسلحة الدمار الشامل.
فكيف نشعر بالأمن ونفترض وفاء اليهود مع كل هذه الملابسات؟ فمن الواجب الديني وأخوة الإسلام ومن الاستراتيجية على البلاد الإسلامية المحيطة بفلسطين أن تؤيد الانتفاضة بكل ما تستطيعه وبسرعة.
أهل فلسطين هم خط الدفاع الأول لنا، والدرع البشري الواقي للدول المحيطة، فإذا سقط هذا الخط الأول فسيأتي الدور لا محالة على غيرهم، وسيقول الضحايا: أكلنا يوم أكل الثور الأبيض، ومن شك في مشروع إسرائيل الكبرى، واستبعد أن تحتل إسرائيل كل هذه البلاد فعليه أن يراجع تاريخ نشأة إسرائيل داخل فلسطين، فقد قامت من لا شيء، فإذا كانوا قد أنشئوا دولة من لا شيء فهم على التوسع أقدر، وراجعوا التاريخ، ولكم في حرب 67 عبرة.
ومفهوم آخر في غاية الأهمية: من المستحيل أن تفهم القضية فهماً صحيحاً، وأن تحركها تحريكاً إيجابياً، وأن تقوم للمسلمين قائمة بغير دراسة التاريخ والاعتبار به، فدراسة تاريخ نشأة إسرائيل داخل فلسطين الحبيبة تعتبر أمراً حتمياً لمن أراد أن يساهم مساهمة حقيقية في حل هذه القضية، وذلك فيما يلي:
أولاً: التاريخ الإسلامي زور لنا بعناية، فقد شوهت صور الأبطال، وعظمت صور الخائنين، والتزوير كان عن طريق التعليم والإعلام أساساً، ولا بد أن ينتبه المسلمون، ففلسطين لم تباع إلا بعد إسقاط الخليفة العثماني الجبل السلطان: عبد الحميد الثاني رحمه الله، والذي شوه كثيراً في التاريخ، فإلغاء الخلافة العثمانية التي كانت تحمي فلسطين كانت سبباً رئيسياً في احتلال فلسطين، ومع ذلك فإن التعليم والإعلام صور لنا الخلافة العثمانية الإسلامية على أنها احتلال تركي للأراضي العربية.
ثانياً: ومما زور أيضاً أن الفلسطينيين باعوا أرضهم لليهود، فهم يستحقون ما جرى لهم.
فاليهود عند بدء حرب 48 كانوا يملكون 5.7% فقط من أرض فلسطين، 2% أخذوها من الحكومة العلمانية في حزب الاتحاد والترقي التي قامت بعد الخلافة العثمانية عن طريق الرشوة من العميل مصطفى كمال أتاتورك وأتباعه، 1.2% أخذوها إهداء من حكومة الانتداب البريطاني بلا ثمن، 1.5% أخوذها من عائلات سورية ولبنانية كعائلات سرسق والمطران وتيان كانت تعيش في فلسطين ومن ثم عادت إلى بلادها سوريا ولبنان وباعت أرضها لليهود، و1% فقط من الأرض هو الذي باعه الفلسطينيون فعلاً لليهود، وقد اعتبرهم فقهاء فلسطين -مثل المفتى: أمين الحسيني رحمه الله- خائنين وأصدروا بذلك فتاوى كثيرة منذ عام 1922م.
إذاً: 1% من الأرض هو الذي ابتاع، أما بقية الأرض فقد احتلت في عام 48 بالدبابات والآليات العسكرية وبالخيانة العربية المعروفة في ذلك الوقت، إذا كان الأمر كذلك فلماذا انتشرت هذه الإشاعة المفتراه؟ فالصهاينة سعداء لنشرها ومستفيدون من أنها تثبت لهم حقاً في الأرض، لكن المشكلة الكبرى أن العرب أيضاً كانوا سعداء بهذه الإشاعة فقد روجوا لها وما زال بعضهم يروج لها إلى الآن؛ ذلك لأمر واضح وهو إسكات الضمير وتسكين النفس وتطمين القلب، فيحصل تساهل في القضية ، والفلسطينيون أو غيرهم لا يملكون حق حكم الله للأرض فيبيعوه، قال تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:57].
ثالثاً: إنه لم يكن السبب الوحيد لوضع أقدام اليهود في أرض فلسطين ضعف الزعامات الإسلامية في ذلك الزمن، بل كانت الشعوب الإسلامية نفسها مغيبة، كان الحكام المفرطون إفرازاً طبيعياً للشعوب، ليس من سنة الله أن يتولى حكم الصالحين رجل فاسد، أو يتولى حكم الفاسدين رجل صالح، كما تكونون يولى عليكم، فإذا ربي الشعب على الفهم الصحيح للإسلام بشموله وكماله فإنه يفرز زعيماً صالحاً مثل الفترة التي عمل فيها القسام وجماعته على تربية الشعب فأنتجت ثورة عظيمة وقادة عمالقة أمثال عبد القادر الحسيني ، أما الشعب الذي ربي على الدعة والخنوع والميوعة والخلاعة فإنه لا يتمعر وجهه في سبيل الله، فقد بدل أتاتورك الدين وحرف فيه تحريفاً خطيراً ومع ذلك لم يعترض عليه شعبه إما جهلاً وإما كسلاً وإما خوفاً وإما طمعاً والنتيجة انهيار مروع في الخلافة العثمانية الإسلامية.
رابعاً: ملاحظة أن الوسيلة الرئيسية التي أسقطت الأمة الإسلامية في براثن الاستعمار الإنجليزي والفرنسي واليهودي كانت التفرقة بين المسلمين على أساس العنصر أي: القوميات، لأجل فرّق تسد، فيقال: هذا عربي قومية عربية، وهذا تركي قومية تركية، وهذا كردي قومية كرديه، وهذا بربري قومية بربرية، وهكذا فعلى دعاة القومية أن ينتبهوا.
الواجب الثاني نحو القضية: قتل الانهزامية وعلاج الإحباط الذي دخل في نفوس المسلمين, أو رفع الروح المعنوية وبث الأمل في القيام من جديد، فهذا واجب من أعظم الواجبات, ليس فقط ناحية قضية فلسطين ولكن ناحية أمة الإسلام بأسرها، وقد يعجب المرء أن تُحبط أمةٌ تملك شرعًا مثلَ شرع الإسلام, وتاريخًا مثل تاريخ الإسلام, ورجالاً مثل رجال الإسلام لكنَّها حقيقةٌ مشاهدة وواقعٌ لا ينكر.
هنالك أمورٌ كثيرة تفاعلت فأورثت هذا الإحباط في نفوس المسلمين، فمن ذلك:
الواقع الذي عاشه المسلمون من هزائم كثيرة وانتصاراتٍ قليلة في خلال القرن العشرين بدءًا من سقوط الخلافة العثمانية وهزيمة 48 و56 مع أنها صُورت على أنها نصر، وهزيمة 67، واجتياح لبنان في 82.
والواقع الذي نعيشه من مذابح بشعة في فلسطين وكوسوفو والبوسنة وكشمير والشيشان والعراق والصومال وغيرها.
والواقع الذي نعيشه من ظلم، وفسادٍ وإباحية، وانهيار للاقتصاد، واختلاسٍ بالمليارات، وديون متراكمة، وإفلاسات مشهرة وفرقة وتناحر وتشاحن وبغضاء.
هذا الواقع المر بالإضافة إلى تزوير التاريخ أخرج إلينا مسخاً مشوهاً يستحي منه الكثير ويتناساه الأكثر، بالإضافة إلى تزوير الواقع وتشويه صورة الإسلام, وإلصاق كل الجرائم بالمتمسكين بدينهم, ونفي كل مظهر من مظاهر الحضارة والرقي عنهم، وتعظيم الغرب وتفخيمه حتى أصبح منتهى أحلام الشباب أن يلقوا بأوطانهم وأهلهم وراء ظهورهم وينطلقوا إلى الجنة: أمريكا وأوروبا كما يقولون!
ويجب علينا أن ندرك عشر حقائق:
الحقيقة الأولى: لله سنن في الأرض لا تتغير ولا تتبدل؛ منها: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، فكما تعاني أمة الإسلام اليوم فقد كان هناك أيام عانى فيها الآخرون بينما كانت أمة الإسلام في سلامة وعافية، وستأتي أيام أخرى لا محالة تعود فيها الدولة للمسلمين، فهذه سنة ثابتة.
الحقيقة الثانية: أمة الإسلام له طبيعة فريدة تميزها عن بقية الأمم، فهي أمة باقية لا تموت، فقد تنقاد لغيرها أو تضعف لكنها أبداً لا تموت، هي ليست كأمم الفرس والرومان والفراعنة والإنجليز وحتى الأمريكان، لا بد أن تبقى؛ لأنها تحمل الكلمة الأخيرة من الله إلى خلقه، من يقيم حجة الله على خلقه إذا ماتت أمة الإسلام؟ من يشهد على أهل الأرض إذا ذهب أهل الإسلام؟ من يعلم الناس الشرع والأخلاق إذا اندثرت هذه الأمة؟ من يعرف الناس بربهم إذا فني رجال الإسلام؟
فطبيعة هذه الأمة أنها باقية، فبقاؤها هو خير الأرض، وذهابها فناء الأرض.
الحقيقة الثالثة: حقيقة المعركة بين المؤمنين والكافرين، هي في حقيقتها بين الله عز وجل وبين من مرق عن دينه وشرعه من عباده الضعفاء، فالمعركة بين الله وبين اليهود، وكل من حارب دينه: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق:15-16]، وقال تعالى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ [الأنفال:30]، وقال أيضاً: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17]، وما على المؤمنين إلا أن يتبعوا منهج الله عز وجل ويثبتوا وسيتولى الله عز وجل الدفاع عنهم: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38]، إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7].
وعلى قدر عظمة الله وجلال الله وقدرة الله وجبروت الله في قلوب المؤمنين يكون قدر المعركة: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67].
الحقيقة الرابعة: حقيقة البشرى في الكتاب والسنة: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، فلو لم تنزل من آيات البشرى سواها لكفت، وقال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51].
روى الإمام مسلم : عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)، أي: سيبلغ ملك المسلمين ما زوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مشارق الأرض ومغاربها.
ويكفي البشرى بفتح القسطنطينية ورومية، فقد فتحت القسطنطينية وستفتح رومية أي: روما عاصمة إيطاليا لا محالة، قال تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].
الحقيقة الخامسة: ما نصرنا في تاريخنا إلا بأعداد قليلة كبدر واليمامة والقادسية واليرموك ونهاوند وتستر وفتح الأندلس وغير ذلك كثير، وما سقطنا إلا وكان لنا قيام، سقوط مروع بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وردة في الجزيرة العربية بكاملها ثم قيام مبهر وعودة للدولة أقوى مما كانت، بل وفتح لفارس والروم وكسر لشوكتي كسرى وقيصر.
وسقوط في عهد ملوك الطوائف في الأندلس ثم قيام عظيم بدولة المرابطين المجاهدة.
وسقوط على يد الصليبيين واحتلال لبيت المقدس أكثر من تسعين سنة ليس خمسة وخمسين سنة أو اثنين وخمسين سنة، ثم قيام رائع للمسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبي ومن معه من الأبطال فكانت حطين.
وسقوط في يد التتار ثم قيام على يد المماليك وقطز .
بل سقوط كامل للأندلس ثم قيام جليل للخلافة العثمانية فما غربت شمس الإسلام عن غرب أوروبا إلا وأشرقت على شرقها وهكذا، فليس هناك سقوط للمسلمين إلا ومتبوع بقيام.
الحقيقة السادسة: حقيقة الواقع، فالواقع ليس هزائم فقط، ففي الأربعين السنة الأخيرة نلاحظ المساجد وكثرتها وزوراها وشبابها، والحج والعمرة، والحجاب، ومعارض الكتاب الإسلامي، ونصر الأفغان على الروس في بضع سنين، وفرار اليهود من لبنان، وتحرر الجمهوريات الإسلامية في روسيا بعد احتلال دام أكثر من ثلاثمائة عام، وجاليات مسلمة تتزايد في كل بلاد العالم وفي كل قارات العالم، فهذا واقع نراه فلا بد من إبرازه وإيضاحه.
الحقيقة السابعة: النصر لا يأتي إلا بعد أشد لحظات المجاهدة، إذا كنت ترى أن الظلم والاضطهاد قد تفاقم فاعلم أن النصر قد اقترب، قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة:214]، في هذه اللحظة المديدة التي بلغ فيها الألم إلى أقصاه، والصبر إلى نهايته يقول الله عز وجل: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
الحقيقة الثامنة: لا تستعجل النصر فرب حكمة لا تدركها، واعلم أن الأدب مع الله يقتضي عدم استعجاله، وأن حكمة الله البالغة تقتضي أن يختبر عباده المؤمنين، وأن النصر يأتي في وقت يعلم الله فيه أن خير المؤمنين أصبح في النصر وليس في انتظار النصر.
الحقيقة التاسعة: النصر لا يأتي إلا بيقين لا يساوره شك ولا تخالطه ريبة، قال تعالى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ [الحج:15].
الحقيقة العاشرة: الأجر لا يرتبط بالنصر ولكن بالعمل، فكلما حسن عملك كلما عظم أجرك، وكلما زاد جهدك كلما كمل ثوابك، واعلم أنك إن لم تر النصر بعينيك فسيراه أبناؤك وأحفادك.
فهذه حقائق عشر لو تدبرتها زال الإحباط من قلبك، واستبدل بأمل في قيام وطموح في سيادة.
الواجب الإيجابي الثالث نحو القضية هو التبرع بالمال.
فما أحوج أهل فلسطين للمال في هذه الأوقات! فهم في حصار اقتصادي رهيب، وطرد من الأعمال، وإغلاق للمعابر، وتجريف للأراضي، وهدم للديار، ونقص في الغذاء والدواء والكساء والسلاح، واستشهاد للشباب, وعائلات لا حصر لها تفقد عائلها.
فإن كنت تريد جهاداً في سبيل الله وقد حيل بينك وبينه, فأثبت صدقك لله بجهاد المال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من جهّز غازياً فقد غزا)، فلا تسوف بل سارع، يقول تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، أول صفة لهم: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران:134].
وقال تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:10-11].
فكّر يا أخي! جنيه واحد لفلسطين يساوي عند الله سبعمائة جنيه أو يزيد، وألف جنيه لفلسطين يساوي عند الله سبعمائة ألف جنيه أو يزيد، فلا تتردد، وكن على يقين أنك ستعوّض، قال تعالى: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سبأ:39].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثًا فاحفظوه: ما نقص مال عبد من صدقة).
أخي في الله! اهزم الشيطان، يقول تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268]، فهذه مقارنة في منتهى الوضوح.
فستمر الأيام, وستذهب أنت, ويذهب المال, ويذهب أهل فلسطين، ولا يبقى شيء إلا ما عند الله, فآثروا ما يبقى ويدوم, على ما يفنى وينعدم.
اجعل التبرع لفلسطين قضيةً ثابتةً في حياتك، اقتطع نسبة ثابتة من دخلك الشهري أو اليومي أو الموسمي، لا تنتظر حتى تتراكم الأموال فتكبر النسبة في عينيك فتمتنع عن الإنفاق، حفز الآخرين على التبرع، ربّ أولادك على الإنفاق وإن كان قليلاً، اشرح لهم بأسلوب مبسط أحوال أطفال فلسطين.
زكاة المال جائزة على أهل فلسطين بل هي محمودة؛ ففيهم الفقير والمسكين والغارم والمجاهد في سبيل الله.
لا تمن بعطيتك ولا تتكبر بها، ولا ترائي, ولا تستقللن تبرعًا, فرب درهمٍ سبق ألف درهم، واعلم أن الله عز وجل قسّم الأعمال بين عباده وكان نصيبك النصيب الأيسر، عليهم في فلسطين أن يدفعوا أرواحهم، وعليك أنت في بيتك الآمن أن تدفع مالك، فارض بما قسم الله لك من العمل، يرفع عنك من البلاء ما لا تطيق.
الواجب الإيجابي الرابع نحو قضية فلسطين: هو المقاطعة لكل ما هو يهودي أو أمريكي أو إنجليزي أو لأي أحد يعاون اليهود, وهو واجب وهامٌ جداً، ومؤثر إلى أبعد درجات التأثير، وله من الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والتربوية ما لا يمكن حصره في هذه المساحة الضيقة.
وللمقاطعة عشر فوائد، سواء على المستوى المحلي أو الإسلامي أو العالمي أو اليهودي، فمنها: أنها لا محالة ستؤثر على الشركات التي يصفونها بأنها متعددة الجنسية، وقد ذكرنا ضوابطنا الشرعية في المقاطعة والفرق بين مقاطعتنا لمنتجاتهم وحصارهم لبلادنا، وعلقنا على كثير من الشبهات التي تجول في أذهان الناس فمنها: إن الأيدي العاملة في هذه المصانع والشركات وطنية مائة بالمائة, وسيؤدي ذلك إلى تشريد الآلاف، وسيخسر رأس المال الوطني، وسنعمل على كراهية الشعب الأمريكي لنا، وأن الشركات الأمريكية ستنعش الاقتصاد الوطني، وأننا لا نستطيع أن نستغني عنهم, أو لا أستطيع أن استغني عن كذا أو كذا، شبهات كثيرة جدًا تعرضنا لها وفصلّنا في الرد عليها, فأرجو أن تعودوا إلى شريط المقاطعة.
الواجب الإيجابي الخامس: هو الدعاء لأهل فلسطين بالثبات والنصر, والدعاء على اليهود وأعوانهم بالهلكة والاستئصال.
فالدعاء من أقوى أسلحة المؤمنين في حربهم مع الكافرين، فهو ليس شيئاً سلبياً كما يعتقد بعض الناس، فإن كثيراً من الناس يعتقدون أن الدعاء أمرٌ مقابلٌ للأخذ بالأسباب، فالدعاء يرفعه العمل الصالح، فإن ترك المؤمن الأسباب واكتفى بالدعاء فهو متواكل ولا يرجى له إجابة، ولذلك جعلتُ الدعاء الوسيلة الخامسة حتى لا يعتمد المرء عليها وينسى بقية الواجبات.
والدعاء ليس أمرًا اختياريًا إن شئنا فعلناه وإن شئنا تركناه، بل الدعاء ركن أساس من أركان النصر، وسببٌ أكيد من أسباب التمكين.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترك الدعاء أبدًا, وما يئس منه قط مهما تأخرت الإجابة، وطال الطريق، وعظم الخطب، وكان أشد ما يفزع إلى ربه دعاءً ورجاءً وخشوعًا وابتهالاً عند مواقف الضيق والشد, ويطلب عونه, ويرجو مدده وتأييده، في بدر وأحد والأحزاب وفي كل أيامه صلى الله عليه وسلم.
وفلسطين تحتاج إلى دعاء لا ينقطع, ورجاءٍ لا يتوقف.
ما يدريك أن طائرة تقصف فيصد قصفها بدعائك!
أو أن مخططًا يهوديًا يدبّر في الظلام فيحبط بدعائك!
أو أن شابًا فلسطينيًا أطلق حجارةً أو رصاصة فأصابت هدفها بدعائك!
نريد دعاءً لحوحًا مستفيضًا متكررًا في كل يوم وليلة أكثر من مرة في القنوت والسجود، دعاء مع يقين في الإجابة، ليس فيه عجلة ولا يأس، فيه حضور للقلب، وتضرع وتذلل وانكسار لله عز وجل، دعاء من رجال يتحرون المال الحلال، والأوقات الفاضلة, والأحوال الشريفة، دعاء في جوف الليل وقبل الفجر، دعاء يجتمع فيه أهل البيت وأهل العمل وأهل المسجد.
أخي الحبيب! إن أردت أن تساعد المحصورين والمجاهدين والجوعى والجرحى فاستيقظ قبل الفجر بساعة أو بنصف ساعة وادع الله لهم أن يوحد صفَّهم, ويسدد رميتهم, ويقوي شوكتهم, ويثبّت أقدامهم, ويعلي راياتهم, وينصرهم على أعدائهم, ويمكن لهم في أرضهم, ويزلزل الأرض من تحت أقدام أعدائهم، فالله -لا محالة- سيستجيب فقد وعد، فقال: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].
فهذه خمس وسائل إيجابية لنصرة فلسطين، وهي:
الأولى: فهم القضية فهماً صحيحاً وتحريكها بين الناس بسرعة.
الثانية: قتل الهزيمة النفسية وبث الأمل في عودة اليقظة للأمة الإسلامية.
الثالثة: بذل المال قدر المستطاع وتحفيز الناس عليه.
الرابعة: المقاطعة الاقتصادية الشاملة والكاملة لكل ما هو يهودي أو أمريكي أو إنجليزي.
الخامسة: الدعاء المستفيض اللحوح لله عز وجل.
والوسيلة السادسة التي تشمل كل ما سبق، وتبقى دافعةً لكل ما سبق من وسائل، وإن لم تُفعل فليس هناك نجاحٌ لأيٍ من الوسائل السابقة، وهي: إصلاح النفس والمجتمع.
لابد أن نسأل أنفسنا لماذا هذا التدهور لهذه الأمة الإسلامية التي تعودت أن تسود؟
ولماذا يسيطر 5.2مليون يهودي على بلد مبارك مقدس كفلسطين, مخرجين ألسنتهم لمليار وثلث مليار مسلم في الأرض؟
ولماذا لا يكترث زعماء الشرق والغرب وزعماء اليهود بأعدادنا؟
ولماذا لا تتحرك الحمية في قلوب بعضنا وقد انتهكت الحرمات ودُنست المقدسات وسالت الدماء؟
لابد أن الأمة قد وقعت في خطأ فادحٍ مهّد الطريق لهذا الوضع، فأمة الإسلام لا تهزم بقوة الكافرين ولكن تهزم بضعفها، يلخص هذا الموقف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود : عن ثوبان رضي الله عنه، وفيه يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحداث وكأنه يراها رأي العين، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها - أي يدعو بعضها البعض ليأكلوا من أمة المسلمين - قال قائل: أو من قلةٍ نحن يومئذ؟ قال: بل أنت يومئذ كثير - سبحان الله مليار وثلث مليار - ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت).
فموطن الداء حب الدنيا وكراهية الموت، وهو الخطأ الفادح الذي وقع فيه المسلمون، فمصيبة الأمة الآن هي تعاظم حب الدنيا في قلوب المسلمين، ومن أجل الدنيا يرضى المسلمون بالدنية في دينهم، ولو هانت عليهم الدنيا لقويت شوكتهم وعز سلطانهم.
إذا تعاظمت الدنيا في النفوس قلت قيمة الآخرة عند الإنسان، فالدنيا كانت سبباً مباشراً لاحتلال فلسطين، ولن تحرر فلسطين إلا إذا خرجت الدنيا من القلوب، قال تعالى: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء:77].
إن وجدت صراعًا بين الإخوة وتنافساً على أشياء كان من الواجب أن يتعاونوا عليها، وإن وجدت موالاة لكافر على حساب مؤمن، وخيانة لأمانة، ونقضاً لعهد، وحرباً لفضيلة، ونشراً لإباحية، وإنكاراً لمعروف، وتقديماً لأهل الرذيلة، وعلواً لأهل الفسق والفجور، وتأخيراً للعلماء والفضلاء، وسجناً وتعذيباً للدعاة والمجاهدين، ووجدت الحبيب يترك حبيبه، والولد يهمل والديه، والحاكم يظلم شعبه، والرجل يكره وطنه، والأجساد هامدة، والعقول خاملة، والعزائم فاترة، والغايات تافهةً منحطة منحدرة، إن وجدت كل هذا فاعلم إنها الدنيا، واعلم أن ذلك متبوع بهلكة، والهلكة متبوعةٌ باستبدال، قال تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].
روى الإمام مسلم : عن المستورد بن شداد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه - وأشار راوي الحديث إلى السبابة - في اليم فلينظر أحدكم بم يرجع)، فهذا هو حجم الدنيا.
من هذا المنطلق لحجم الدنيا والآخرة نريد أن نعيد ترتيب أوراقنا وتنظيم حياتنا وتعديل أهدافنا، وإصلاح أنفسنا ومجتمعاتنا، وأن نصطلح مع ربنا، فإنه يطول الفراق أحياناً بيننا وبين ربنا، وهو سبحانه لا تضره معصية ولا تنفعه طاعة، نحن الذين نخسر أو نفوز.
القضية -يا إخوة- ليست قضية فلسطين فقط، بل قضية الأمة بأسرها، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، فهذه قاعدة لا تتبدل ولا تتغير.
والله والله والله! لن يتغير حالنا من ذلةٍ إلى عزة, ومن ضعف إلى قوة, ومن هوان إلى تمكين, إلا إذا اصطلحنا مع ربنا, وطبقنا شرعه, وأخرجنا الدنيا من قلوبنا, وتبنا من ذنوبنا, وعظمت الجنة في عقولنا، ساعتها ستصبح كل حركة وسكنة في حياتنا دعماً لقضية فلسطين، ومن هذا المنظور ستصبح صلاتنا في جماعة، وقراءتنا للقرآن، وذكرنا وصيامنا، وبر الوالدين، وصلة الرحم، ورعاية الجار، وحفظ الطريق، وعون الملهوف، وغض البصر، وحفظ الفرج، وصيانة اللسان، ووقاية السماع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الناس الخير ودعوة الآخرين إلى الفضيلة، ومحاربة الربا، ومقاطعة الرشوة، ونبذ الفرقة، وترك المحرمات، والبعد عن الشبهات دعماً لفلسطين، هكذا تتحول حياتنا كلها لدعم فلسطين وغير فلسطين من أقطار الإسلام الجريحة، يرفع الله عنا البلاء، ويكشف الضراء وتشرق الأرض بنور ربها.
إخواني في الله! لا يكفي الألم فقط لتحرير الشعوب، ولا تكفي الدموع، والأطفال يقتلون والمجاهدون يحاصرون، والأمهات يصرخن وينتحبن، فلابد من عمل.
وها قد عرضنا بعض الوسائل التي في مقدورنا جميعاً، لا تعتذر بأنك لا تملك قراراً ولا سلطة، ولا تقل لو كان في يدي لفعلت كذا وكذا، أنت تملك أسبابًا كثيرة ولابد أن تعرف ذلك.
لا تنظر إلى فلسطين على أنها عبء على كاهلك، وهمٌ في قلبك أبدًا، انظر إليها على أنها اختبار من الله عز وجل لعباده المؤمنين، كل يوم وكل ساعة وكل ثانية تمر عليك هي جزء مر من الامتحان، احذر أن ينتهي عمرك ولم تكمل الإجابة، لأن الموتى لا يعودون إلى يوم القيامة.
حاسب نفسك كل يوم: ماذا عملت اليوم لفلسطين؟ فإن وجدت خيراً فاحمد الله, وإن وجدت غير ذلك فأسرع بالعمل قبل أن يأتي يوم لا عمل فيه.
بهذه الرؤية -يا إخوة- لن تموت فلسطين، ولن تصبح فلسطين -إن شاء الله- أندلساً أخرى.
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً كثيراً.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , فلسطين لن تضيع.. كيف؟ للشيخ : راغب السرجاني
https://audio.islamweb.net