اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة فلسطين الدعاء للشيخ : راغب السرجاني
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
واجعلنا شاكرين لنعمك مثنين بها عليك قابلين لها، وأتممها علينا.
اللهم إنا نسألك خير المسألة وخير الدعاء وخير النجاح، وخير العمل وخير الثواب، وخير الحياة وخير الممات، وثبّتنا وثقل موازيننا، وحقق إيماننا وارفع درجاتنا وتقبل صلاتنا واغفر خطايانا، ونسألك الدرجات العلى من الجنة، اللهم إنا نسألك فواتح الخير وخواتمه، وجوامعه وأوله، وظاهره وباطنه، والدرجات العلى من الجنة. آمين.
اللهم إنا نسألك خير ما نأتي وخير ما نفعل، وخير ما نعمل، وخير ما بطن وخير ما ظهر، والدرجات العلى من الجنة. آمين.
اللهم إنا نسألك أن ترفع ذكرنا وتضع أوزارنا، وتصلح أمورنا، وتطهر قلوبنا، وتحصن فروجنا، وتنور قلوبنا، وتغفر لنا ذنوبنا، ونسألك الدرجات العلى من الجنة. آمين.
اللهم إنا نسألك أن تبارك لنا في نفوسنا وفي أسماعنا وفي أبصارنا، وفي أرواحنا، وفي خلقنا، وفي خُلُقنا، وفي أهلنا، وفي محيانا وفي مماتنا، وفي عملنا، فتقبل حسناتنا، ونسألك الدرجات العلى من الجنة. آمين.. آمين.
وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
والحمد لله رب العالمين.
أما بعد:
فمع المحاضرة الثانية عشرة والأخيرة في مجموعة المحاضرات الخاصة بقضية فلسطين.
وتحدثنا في المحاضرات السابقة عن بعض الوسائل الإيجابية في حل قضية فلسطين وذكرنا منها أربعاً: الفهم، والأمل، والبذل، والمقاطعة.
واليوم نتحدث عن وسيلة خامسة مهمة جداً في هذه القضية، بل هي مهمة في كل قضايا المسلمين، سواء على المستوى الفردي أو المستوى الجماعي، أعني: أنها وسيلة مهمة جداً في قضايانا الشخصية، وكذلك هي مهمة في قضايا الأمة بأسرها.
هذه الوسيلة العظيمة ما تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم في دقيقة واحدة من دقائق حياته الكريمة، كان يستخدمها دوماً، ويعلم أصحابه أن يستخدموها دوماً، لم يتركها صلى الله عليه وسلم مع تبدل أحواله وظروفه، لا في صحته ولا في مرضه، لا في حله ولا ترحاله، لا في حربه ولا في سلمه، لم يتركها في لحظات الشدة ولا في أوقات الرخاء، داوم عليها في السعادة والحزن، داوم عليها في الغنى والفقر، داوم عليها في النهار والليل، هذه الوسيلة هي منة من الله على عباده، وفضل من الخالق على مخلوقاته، هذه الوسيلة هي عطاء فيّاض من الله عز وجل، وراحة قلب دائمة للمؤمنين؛ ولكونها عظيمة ولفهمه صلى الله عليه وسلم لقيمتها ودرجتها وفضلها فقد أطلق عليها أنها هي العبادة.
تلك الوسيلة هي الدعاء لله عز وجل، وطلب العون منه سبحانه وتعالى.
الدعاء ليس شيئاً سلبياً، فكثير من الناس يظنون أن الدعاء أمر مقابل للأخذ بالأسباب، يظنون أنه إما أن تأخذ بالأسباب وإما أن تدعو، وهذا خطأ كبير وسوء فهم عظيم، فالأعمال بصفة عامة لا يُبارك فيها إلا إذا كنت متوكلاً على الله سبحانه وتعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]والتوكل على الله يقتضي الاعتقاد الجازم بقدرته وقوته وسلطانه سبحانه وتعالى، وأن الأمور لا تتم إلا بإرادته سبحانه، وذلك مع الأخذ بكامل الأسباب دون الاعتقاد في قدرة الأسباب بذاتها، قال بعض الناس لـأنس بن مالك رضي الله عنه: ادع الله لنا، قال: الدعاء يرفعه العمل الصالح، أي: لا بد من عمل مع الدعاء وإلا يصبح تواكلاً منبوذاً.
نعطي مثالاً حتى نقرب الصورة: المريض مثلاً لا بد أن يأخذ الدواء؛ لأنه يأخذ بالأسباب، ولا بد أيضاً أن يسأل الله الشفاء، ولا بد مع هذا أن يعتقد أن الدواء لن يفيد إلا إذا أراد الله سبحانه وتعالى.
إذاً: الدعاء لم يمنع من أخذ الدواء، والدواء لم يمنع من الاستعانة بالدعاء.
إذاً: الدعاء ليس أمراً جانبياً في قضية فلسطين أو في غيرها من القضايا، ليس أمراً اختياراً إن شئت فعلته وإن شئت تركته أبداً، الدعاء ركن أساس من أركان النص، وسبب أكيد من أسباب رفعة المسلمين.
أيضاً يخطئ كثير من الناس بأن يلجئوا في الدعاء إذا فشلت الأسباب، ولا يطرقون باب الله سبحانه وتعالى إلا بعد طرق كل أبواب البشر، ورأينا في تاريخ فلسطين أن بعض المسلمين يطرقون أبواب من لا يجوز لهم أن يطرقوا أبوابهم، وذلك قبل أن يتّجهوا إلى من بيده ملكوت السماوات والأرض، وهذا جهل عظيم وفساد كبير، ولو طرقوا بابه سبحانه وتعالى لاستجاب لهم، وما أيسر الدعاء كي تصل به إلى السماء.
سُئل زين العابدين رحمه الله: كم بين عرش الرحمن وتراب الأرض؟
قال: دعوة مستجابة.. سبحان الله!! أسرع الوسائل إلى عرش الرحمن دعوة مستجابة.
فالدعاء يا إخوة! ليس شيئاً اختيارياً، انظر إلى قوله سبحانه وتعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60].
يقول ابن كثير رحمه الله: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي [غافر:60] أي: عن دعائي وتوحيدي، فترك الدعاء استكبار، وسماه الله عبادة، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً عبادة.
روى الإمام أحمد وأصحاب السنن -وقال الترمذي: حسن صحيح- عن النعمان بن بشير رضي الله عنه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدعاء هو العبادة، ثم قرأ: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60]).
والرجل العظيم والسلطان الكبير والمتمكن من صنعته والبارع في مهنته قد يشعر أنه قد امتلك الأسباب، فلا حاجة له في الدعاء، وهنا تكون الهزيمة تلو الهزيمة، والانتكاسة تلو الانتكاسة، ناهيك عن حساب الآخرة.
روى الإمام مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105]).
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أحواله ما ترك الدعاء أبداً، وما يئس منه قط مهما تأخرت الإجابة، ومهما طال الطريق، وكان أشد ما يكون دعاءً ورجاءً وخشوعاً وابتهالاً عند مواقف الضيق والشدة، يفزع إلى ربه ويحتمي بحماه، ويطلب عونه، ويرجو مدده وتأييده، كما هو حالنا اليوم على أرض فلسطين وغيرها من أراضي المسلمين التي تحتاج إلى دعاء لا يتوقف.
انظر إليه صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وقد اشتد الضيق بالمسلمين. يقول صلى الله عليه وسلم: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تُعبد) وبالغ في الابتهال صلى الله عليه وسلم حتى سقط رداءه عن منكبيه، وأشفق عليه الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فأتى إليه يقول: حسبك يا رسول الله! ألححت على ربك.
وفي غزوة الخندق والصحابة منهمكون في حفر الخندق كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو لهم ويقول: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة).
ونحن ندعو لأهل فلسطين أن يغفر الله لهم وهم منهمكون في حرب عدوهم وعدونا: اللهم اغفر لنا ولأهل فلسطين.
وفي الأحزاب أيضاً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين؛ لأنهم أضاعوا عليهم صلاة العصر؛ وذلك لانشغال المسلمين بالدفاع عن الخندق، فقال صلى الله عليه وسلم: (ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس)، ونحن أيضاً ندعو على اليهود أن يملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً كما فعلوا في أبنائنا وإخواننا وأمهاتنا وبناتنا في فلسطين ما فعلوا، فقد أحالوا بيوتهم وشوارعهم إلى نار موقدة لعنهم الله.
بل انظر إليه صلى الله عليه وسلم كيف كان يدعو الله في كل أحواله حتى بعد فجيعة أحد، انظر إليه كيف كان شاكراً حامداً راضياً مطمئناً حتى بعد كارثة استشهاد 70 من أجلاء الصحابة، اسمع وتدبر جيداً وهو يبدأ دعاءه صلى الله عليه وسلم بشيء عجيب. يقول: (اللهم لك الحمد كله) يبدأ بالحمد، وذلك حتى لا يظن ظان أنه ساخط، أو أنه معترض على قضاء الله، (اللهم لك الحمد كله) ويعلم الله كم من النعم والأفضال في أرض فلسطين الآن، مع كل ما نراه من آلام، والتي يجب أن يُحمد عليها سبحانه وتعالى، يكفي قوله سبحانه وتعالى: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:140-141] فضائل عظيمة، فتمييز المؤمنين من المنافقين الذين لا يريدون جهاداً هذه فضيلة، واتخاذ شهداء هذه فضيلة، وتمحيص المؤمنين -أي: تطهيرهم من الذنوب- هذه فضيلة، محق الكافرين -أي: إهلاكهم واستئصالهم- هذه فضيلة، هذه كلها نعم تستوجب حمد الله سبحانه وتعالى.
جاء في مسند الإمام أحمد والطبراني ، ورواه أيضاً البخاري في الأدب المفرد: (إنه لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استووا حتى أثني على ربي، فصاروا خلفه صفوفاً فقال: اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولما مبعّد لما قرّبت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك العون يوم العيلة والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا، وشر ما منعتنا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذّبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك إله الحق!)، لا يفتر عن دعاء صلى الله عليه وسلم في بدر كان أو في أحد، في نصر كان أو في هزيمة، في فرح كان أو في هم صلى الله عليه وسلم.
على نفس الدرب سار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان من التابعين والصالحين والمجاهدين، دعاء طويل، وابتهال عميق، وتضرع في خشوع، ونداء في خضوع.
هذا سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه يوم الأحزاب يناجي ربه، وكان سعد رضي الله عنه قد أصيب إصابة كبيرة يقول: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلي أن أجاهدهم فيك من قوم كذّبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم. كان سعد بن معاذ رضي الله عنه يظن أن الحرب قد انتهت، وأن المسلمين قد انتصروا وكفى، فيقول رضي الله عنه: اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك، أي: أنه لا يريد أن يموت في هذا الوقت، ولكنه يريد أن يستمر في الجهاد في سبيل الله إن كان للحرب بقية، ثم يُكمل فيقول: وإن كنت وضعت الحرب فافجرها -أي: افجر الإصابة حتى أموت- واجعل موتتي فيها، وذلك حتى يموت شهيداً رضي الله عنه وأرضاه، ثم يُكمل: ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة.
وانظر كيف فعل الله سبحانه وتعالى بدعائه وكيف استجاب له؟
كانت الإصابة سبباً لشهادته في سبيل الله؛ لأن الحرب كانت قد وضعت فعلاً في الأحزاب، وأقر الله عينه من بني قريظة قبل أن يموت.. سبحان الله!
اتصال مباشر مع رب العالمين، واستجابة كاملة منه سبحانه وتعالى لدعاء العبد الصالح سعد بن معاذ رضي الله عنه.
دعاء البراء بن مالك يوم تُستر، تذكرون عندما تحدثنا عن موقعة تستر في فتوح فارس، تلك الموقعة العجيبة التي استمر حصار المسلمين فيها للفرس مدة سنة كاملة ونصف، وفي آخر هذه المدة الطويلة جداً يدعو البراء بن مالك رضي الله عنه دعاء قصيراً لكنه عجيب، يقول: اللهم امنحنا أكتافهم وألحقني بنبيك، يطلب النصر ويطلب الشهادة، فإذا بالجيش ينتصر، وإذا بحصن تُستر يُفتح، وإذا بـالبراء يفوز بالشهادة ويلحق بنبي الله صلى الله عليه وسلم كما أراد، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث حسن رواه الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: (رُب أشعث أغبر ذي طمرين) والطمر: هو الثوب البالي الرث، يعني: رجل بسيط الهيئة (رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك).
ويروي الإمام مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (رُب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره).
فالاستجابة ليست بعظم المركز أو بقوة السلطان، ولكن الاستجابة تكون بطهارة القلب، ونقاء القصد، وجمال الطلب، وإلحاح الطالب.
وهذا النعمان بن مقرن رضي الله عنه وأرضاه، يدعو في نهاوند فيقول: اللهم إني أسألك أن تُقر عيني بفتح يكون فيه عز للإسلام وذُل يُذل به الكفار، ثم اقبضني بعد ذلك على الشهادة، واجعل النعمان أول شهيد.
الموت عندهم كان غاية وهدفاً ومطمحاً، فهذا النعمان بن مقرن يدعو أن يكون أول شهداء المسلمين، وانتهى من دعائه رضي الله عنه فكان النصر للمسلمين، وكان النعمان أول مُصاب، ثم لا يستشهد إلا بعد أن يقر الله عينه بالنصر، وذلك كما فصّلنا لكم من قبل في فتح نهاوند.
استجابات عجيبة، وكرامات من الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين.
وهذا موقف عجيب من حروب الردة، إذ نزل العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه قائد الجيش السابع من جيوش حروب الردة منزلاً ليلاً، وكانوا في صحراء قاحلة، وما إن استقر الناس على الأرض حتى نفرت الإبل بما عليها من زاد الجيش والخيام والشراب، ولم يقدروا منها على بعير واحد، فكانت كارثة وقعت في صحراء قاحلة ويفقدون الزاد والماء!!
وركب الناس من الهم والغم ما لا يوصف، فنادى العلاء عليهم، ثم قال في ثبات عجيب: أيها الناس! ألستم المسلمين؟ ألستم في سبيل الله؟ ألستم أنصار الله؟ قالوا: بلى، قال: فأبشروا، فوالله لا يخذل الله من كان في مثل حالكم. انظروا إلى اليقين وإلى أسباب عدم الخذلان في سبيل الله، فهم أنصار الله فكيف يخذلهم الله؟
وبعد صلاة الفجر جثا العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه وأرضاه على ركبتيه وجثا الناس، ونصب في الدعاء ورفع يديه، وفعل الناس مثله حتى طلعت الشمس وهم مجتهدون في الدعاء، حتى إذا فرغوا من دعائهم وجدوا بجوارهم شيئاً عجباً، وجدوا في عمق الصحراء غديراً عظيماً -جدول مياه- جعل الله فيه ماء عذباً فراتاً، فمشى الناس إليه وشربوا واغتسلوا، ثم ما هي إلا لحظات، حتى أقبلت الإبل من كل فج بما عليها لم يفقد الناس من أمتعتهم شيئاً، آية من آيات الله، وما هي من المؤمنين ببعيد.
وليس هذا والله يا إخوة! في زمان الصحابة فقط، بل تعال وتدبر في دعاء يوسف بن تاشفين رحمه الله زعيم دولة المرابطين العظيم، بعد أكثر من أربعة قرون من الصحابة، وذلك عندما ركب السفن لعبور مضيق جبل طارق إلى بلاد الأندلس؛ ليحارب الصليبيين هناك في موقعة فاصلة، فهاج البحر، وثارت الرياح، وارتفعت الأمواج، وكادت السفن أن تهلك، ماذا فعل يوسف بن تاشفين رحمه الله؟
وقف في تضرع وخشوع ناصباً قدمه رافعاً يده، مستحضراً قلبه وعقله، يقول: اللهم إن كنت تعلم أن في عبورنا هذا البحر خيراً للمسلمين فسهّل علينا عبوره، وإن كنت تعلم غير ذلك فصعّبه حتى لا نعبره، فإذا بالريح تسكن وإذا بالبحر يهدأ، وإذا بالجيش يعبر، وإذا بالنصر يتم.
هذا والله قليل من كثير، وقلما تجد موقعة أو أزمة إلا وتجد الصالحين قد رفعوا أيديهم في خشوع يطلبون من الله العون والتوفيق، فهو المجيب للدعاء القادر على كل شيء سبحانه.
إخواني في الله! تأخُّر النصر قد يورث في قلوب البعض يأساً، ويتبع ذلك اليأس فتور في الدعاء، قد يقول قائل أو يعلق معلق أو يزعم زاعم أنه كثيراً ما دعونا الله أن ينصر أهل فلسطين، ومع ذلك ما زال الفلسطينيون يقتلون ويشردون ويُظلمون، إن لم يقل ذلك بلسانه فقد ينطق به حاله، وهذا أمر خطير، يحتاج منا إلى وقفة ونظر، ولي عليه ثلاث تعليقات:
التعليق الأول: لعل الداعي الذي يدعو الله لم يراع أموراً كانت سبباً في تعطيل الإجابة وتأخير النصر.
بمعنى: أن هناك أشياء إن فعلتها كانت إجابة دعائك أقرب، وتلبية ندائك أرجى، ومن أخطر هذه الأشياء الحرص على الحلال في المطعم والمشرب والملبس، وغير ذلك من الأمور.
روى ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن سعد بن أبي وقاص قام يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: (ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال صلى الله عليه وسلم: يا سعد ! أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوماً، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به) والسحت: أي الحرام.
ومن المعلوم طبعاً أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه طيب المطعم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رحمته يريد أن يعلم أمته جميعاً طريقة يستجاب بها دعاؤهم وينقذون بها من النار، يعلمنا صلى الله عليه وسلم أن نحرص على الحلال في كل أمورنا، هذا الحديث وإن كان البعض قد ضعّفه إلا أن معناه يشهد له الحديث الذي رواه الإمام مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! فأنى يستجاب لذلك) فالرجل قد استكمل كثيراً من الأمور التي يستجاب لأجلها الدعاء، فهو مسافر وليس مسافراً فقط بل يطيل السفر، ثم هو يرفع يديه تضرعاً إلى الله، ثم هو يلح في الدعاء: يا رب! يا رب! ولكنه يعاني من مرض خطير، مرض أكل الحرام.
إذاً: من أهم موجبات إجابة الدعاء تحري الحلال، فإن كنت للحلال متحرياً فهناك أمور أخرى لو فعلتها كنت إلى الإجابة أقرب، منها مثلاً: تحري الأوقات الفاضلة كيوم عرفة، وشهر رمضان، ويوم الجمعة، والثلث الأخير من الليل، والعشر الأوائل من ذي الحجة، وغير ذلك من الأوقات الفاضلة.
أيضاً تحري الأحوال الشريفة وهي أحوال شريفة متاحة طوال العام، أثناء السجود، ودبر الصلوات، وبين الأذان والإقامة، وعند نزول الغيث، وعند التقاء الجيوش، وعند الخوف والوجل، وعند رقة القلب، وفي السفر، أشياء كثيرة جداً ومهمة جداً، فلا بد أن يتحراها المؤمن حتى يستجاب لدعائه كاملاً.
أيضاً من موجبات إجابة الدعاء: أن يكون القلب حاضراً غير لاه ولا غافل، فإنه ليس من المعقول أن تكون أنت المحتاج وترفع طلبك إلى الخالق، وذهنك منشغل عنه مصروف إلى غيره.
أيضاً من موجبات إجابة الدعاء: أن تلح في الدعاء وتصر عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرر الدعاء في المرة الواحدة ثلاث مرات، ويكرره كثيراً في كل يوم، وطوال الشهر والسنة، بل وطوال العمر، وقد ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الله بتغيير القبلة ولم يستجب الله له، إلا بعد 17 شهراً كاملة.
وتحري رقة القلب، فإذا لاحظت في قلبك رقة فادع الله سبحانه وتعالى، سيستجيب إن شاء الله.
يقول ثابت بن أسلم البناني رحمه الله: وإني أعلم حين يستجيب لي.
فعجبوا من قوله وقالوا: تعلم حين يستجيب لك ربك؟
قال: نعم.
قالوا: كيف تعلم ذلك؟
قال: إذا وجل قلبي، واقشعر جلدي، وفاضت عيناي، وفُتح لي الدعاء فثم هناك أعلم أن قد استُجيب لي.
إذاً: هذا هو التعليق الأول على سؤال من قال: إنه كثيراً ما دعونا ولا يستجاب لنا.
التعليق الثاني: أنه حتى لو استكملت صفات الدعاء المستجاب لا يجب أبداً أن يتعجل الإنسان الإجابة؛ لأن الله بحكمته يختار الوقت الأنسب للإجابة.
روى الإمام مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي) أمر خطير، أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف دعا دعاء مستفيضاً، وهو شديد الحزن بعد خروجه من الطائف، وقد آذاه أهلها وسفهاؤها، وانظر إليه في دعائه يسطّر قاعدة مهمة للمسلمين يقول: (إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي).
فميعاد النصر تختاره أنت يا ربنا! لكن الذي يهمنا هو ألا نرتكب ما يغضبك، ثم استجاب الله لدعائه بعدها بأيام عندما أسلم ستة من الخزرج، ثم بعد أكثر من عامين تأتي الهجرة والنصرة المتدرجة المتأنية، ثم بعد الهجرة بسنتين تأتي بدر ويتم النصر الكبير، من الذي كان يدعو بعد الطائف؟ كان الذي يدعو هو أحب الخلق إلى الله عز وجل محمد صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فلكل حدث ميعاد لن يتبدل هذا الميعاد ولن يتغير، يختاره الله سبحانه وتعالى بحكمته وقدرته وهو دائماً في صالح المؤمنين: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
ثم إنك يا أخي الحبيب! مستفيد على كل الأحوال، سواء عُجّل بالإجابة أم لم يُعجَّل، واستمع إلى حبيبنا ومعلمنا صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه: (ما من مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجّل له دعوته، وإما أن يدّخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها).
يقول ابن الجوزي رحمه الله: اعلم أن دعاء المؤمن لا يُرد، غير أنه قد يكون الأولى تأخير الإجابة، أو يعوض بما هو أولى عاجلاً أو آجلاً، فينبغي للمؤمن ألا يترك الطلب من ربه، فإنه متعبّد بالدعاء كما هو متعبّد بالتسليم والتفويض.
التعليق الثالث: هو ما ذكرناه في أول المحاضرة من أنه إذا اجتهدت في الدعاء ولم تأخذ بالأسباب الصحيحة فإنك لا تكون أهلاً للإجابة، فالتوكل هو حسن العمل مع شدة التعلق بالله عز وجل، والاعتقاد في قدرته وطلب المعونة منه سبحانه وتعالى.
أما إذا دعا الإنسان ربه دون عمل صحيح موافق للسنة فإن هذا يسمى تواكلاً، وهو ليس من الإسلام في شيء.
ولذلك فلعل العاملين لقضية فلسطين قد ضلوا الطريق سنوات وسنوات؛ ولذلك لم يستجب الله دعاءهم، ولو استجاب لهم لكان في ذلك هلكتهم، كالذي يدعو الله أن يوفق المفاوضين للضغط على اليهود حتى يأخذ المسلمون خمس الأرض يقيمون عليها دولة بلا سيادة، هذا لا يستجيب الله سبحانه وتعالى له؛ لأنه خالف الشرع وخالف ما يريده الله سبحانه وتعالى.
ثم يا أخي! ما أدراك قد تتحقق الإجابة وأنت لا تعلم.
ما أدراك أن طائرة تقصف فيُصد قصفها بدعاء رجل بسيط في غرفة منعزلة في قرية صغيرة في طرف من أطراف العالم!
ما أدراك أن مخططاً يهودياً شيطانياً يدبر في الظلام، فإذا به يُحبط بدعاء امرأة عجوز أو طفل صغير في بلد قريب أو بعيد من فلسطين!
ما أدراك أن حجارة تطلق من يد شاب مجاهد فتُحمل إلى رأس يهودي مسلح فتقتله كما قتل داود جالوت ! وذلك بدعاء جماعة من المسلمين في قنوتهم، يدعون للمسلمين المجاهدين بالتوفيق، ويدعون على اليهود بالهلكة والزلزلة والتدمير!
لا تستهينوا أبداً يا إخوة! بالدعاء، فإنه والله من أمضى الأسلحة.
روى البزار والطبراني والحاكم وقال: صحيح الإسناد، عن السيدة عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يُغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء إلى يوم القيامة) أي: يتصارعان إلى يوم القيامة.
ثم إنه بدعائك لأهل فلسطين يتحقق لك ما دعوت به لهم، فإن دعوت لهم بالتوفيق وفقك الله، وإن دعوت لهم بالمغفرة غفر الله لك، وإن دعوت لهم بالسلامة سلّمك الله، وإن دعوت لهم بالثبات ثبّتك الله، وإن دعوت على عدوهم بالهلكة أهلك الله عدوك.
فكما جاء في صحيح مسلم عن أم الدرداء رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين. ولك بمثل)، فهكذا كلما دعوت لأخيك هناك في فلسطين تحقق لك ما تدعو له به.
ولا تنسوا يا إخواني في دعائكم لأهل فلسطين أن تدعوا على من ظلمهم من اليهود، ومن عاونهم وساندهم ورضي بأفعالهم وكان على شاكلتهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت أربعين يوماً يدعو على من قتل قراء المسلمين في مأساة بئر معونة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً يقول في بعض أيامه التي لقي فيها العدو كما جاء في البخاري ومسلم عن عبد الله بن أوفى رضي الله عنه: (اللهم منزل الكتاب! ومجري السحاب! وهازم الأحزاب! اهزمهم وانصرنا عليهم)، وفي راوية: (اللهم اهزمهم وزلزلهم).
وروى أبو داود والنسائي بسند صحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوماً قال: (اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم).
اللهم إنا نجعلك في نحور اليهود، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلك في نحور من ساعد اليهود ورضي بأفعالهم، ونعوذ بك من شرورهم جميعاً.
إليك يا أخي! صورة الدعاء:
يفضّل أن تبدأ الدعاء بحمد الله والثناء عليه وتمجيده، ثم الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الدعاء لنا ولأهل فلسطين ولعامة المجاهدين ولعامة المسلمين بالثبات والسلامة والمغفرة والرحمة، ثم تدعو على من ظلم المسلمين من اليهود وغيرهم، ثم تختم بعد ذلك بالصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبحمده سبحانه وتعالى على فضيلة تمكيننا من الدعاء، تفعل ذلك وأنت موقن بالإجابة، وإن كنت قد لاحظت أن الكرب قد اشتد بنا فعليك بدعاء الكرب.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم) هذا هو دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الكرب.
أخي الحبيب! اعلم أن الله إذا أطلق لسانك بالدعاء فهو يريد أن يعطيك فأكثر، وإذا ألهمك أن تُعطي في سبيله فهو يريد أن يكافئك فأكثر، وإذا يسّر لك طاعة فهو يريد أن يجتبيك ويقربك فأكثر.
أخي الحبيب! لو تريد فعلاً أن تسهم بشيء إيجابي حاسم لفلسطين استيقظ الليلة قبل الفجر بساعة أو بساعة ونصف، وادع الله لهم بالثبات، وادع على عدوهم بالهلكة.
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟) يا رب! تعاظم كرمك وتسامى جودك وتعالى فضلك.
يا أخي الحبيب!
أليست لك دعوة لهذا الإله الكريم تشتاق إلى إجابتها؟
أليست لك حاجة لهذا الإله الجواد تتمنى أن يعطيها لك؟
أليس لك ذنب في حق هذا الإله الغفّار تتمنى أن يغفره لك؟
إن كانت لك دعوة أو حاجة أو ذنب فاستيقظ الليلة والحذر الحذر، فلو مرت الليلة فإنها لن تعود إلى يوم القيامة.
في هذه المجموعة من المحاضرات تحدثنا عن خمسة من الوسائل الإيجابية لنصرة فلسطين، هذه الوسائل يجمعها أنها في مقدور عموم الأمة الإسلامية، في مقدور العامل والزارع والطبيب والمهندس، في مقدور رجل الأعمال، وفي مقدور الطالب والتلميذ، وفي مقدور الشيخ الكبير والشاب الصغير، وفي مقدور الرجل والمرأة، ليس لأحد منا عذر، ولا يستثنى أحد.
هذه الوسائل الخمسة هي:
1- فهم القضية فهماً صحيحاً، وتحريكها بسرعة.
2- قتل الهزيمة النفسية في قلوب المسلمين، وبث الأمل في عودة اليقظة للأمة الإسلامية.
3- بذل المال قدر المستطاع، وتحفيز الناس عليه.
4- المقاطعة الاقتصادية الشاملة والكاملة لكل ما هو يهودي أو من دولة تساعد اليهود بسفور.
5- وأخيراً الدعاء المستفيض اللحوح لله عز وجل ليثبت المؤمنين في فلسطين وغيرها، ويزلزل الكافرين في فلسطين وأيضاً في غيرها.
كانت هذه وسائل خمسة، ولا شك أن في أذهان بعضكم وسائل أخرى، والأمر على إطلاقه بين المسلمين كل يدلي بدلوه، وكل يبدع في مساعدته لأهلنا هناك.
يبقى سؤال لا شك أنه يداعب أذهانكم ويتردد في نفوسكم، هذا السؤال هو: لماذا هذه المشكلة من الأساس؟ لماذا هذا الوضع المتدهور لأمة تعودت أن تسود؟ لماذا هذا الاحتلال البغيض لحفنة من اليهود الخبثاء لا يتجاوزون بضعة ملايين في وجود أمة كثيرة تعدادها مليار وثلث مليار من المسلمين؟ لماذا هذا الاجتماع والتوافق بين أمم الأرض على أمة المسلمين؟ لماذا عدم الاكتراث في تعليقات وتصرفات اليهود ومن معهم عند الحديث عن المسلمين، فتجد هذا يصرّح بأن حضارة الغرب كانت دائماً أعلى من حضارة المسلمين وكذب، وتجد هذا يُعلن أنها حرب صليبية على المسلمين وصدق، وتجد آخر يصرّح بالتهديد بقتل زعماء المسلمين، وذاك يهدد بضرب منشآت حيوية كالسد العالي وغيره، لماذا هذه الجرأة على المسلمين؟ ولماذا هذا التفاعل المتراخي من قبل المسلمين لأشياء ما كان السابقون يسكتون على معشارها؟
هذه أمور أدت في النهاية إلى احتلال فلسطين وتبجّح اليهود وتسلط الغرب، باتت هناك مشكلة وأصبحنا نبحث عن حل.
إذا ادلهمت بك الخطوب، وتعددت أمامك السبل، وشعرت أنك تائه حيران فعليك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله لقد وجدت حديثاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصف الأحداث وكأنه صلى الله عليه وسلم يراها رأي العين.
وهذا الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود رحمهما الله عن ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واللفظ هنا لـأبي داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك الأمم أن تُداعي عليكم) تُداعي: بضم التاء وكسر العين، تعني كما جاء في عون المعبود لشرح سنن أبي داود :أن يدعو بعضهم بعضاً على أمة المسلمين (يوشك الأمم أن تُداعي عليكم كما تُداعي الأكلة إلى قصعتها) أي: كما يدعو بعضكم بعضاً إلى الطعام، فإن الأمم تدعو بعضها البعض كي يأتوا ويأكلوا طرفاً من أمة المسلمين، والتصوير عجيب! وفيه إيحاءات عميقة:
فأولاً: الأكلة كبيرة جداً، فهي أمة بمفردها تكفي لإشباع الأمم، فيدعون بعضهم البعض على أمة المسلمين.
ثانياً: يعتبرها الآخرون ملكاً خاصاً لهم، لا يأكلون فقط، بل ويدعون أيضاً أصحابهم إليها، شيء عجيب جداً!!
ثالثاً: مع ضخامة الأكلة إلا أن الأكل لا يقاوم آكله.
الأمة أصبحت في حالة سلبية تماماً، تؤكل دون حراك وتُنهش دون اعتراض، حتى جاء في شرح ذلك في عون المعبد أن المعنى: أنهم يأخذون ما في أيديكم بلا تعب ينالهم، أو ضرر يلحقهم، أو بأس يمنعهم، والتصوير مُرعب ومخوف وهائل لدرجة أرعبت الصحابة، فتسارع أحدهم يسأل فقال: (ومن قلة نحن يومئذ؟) أي: أن العدد سيكون قليلاً؟ هذا هو التفسير المنطقي الذي قد يخطر على الذهن، أننا قلة بسيطة مستضعفة، أما هم فأعداد لا تُحصى وأرقام لا تقدر؛ ولذلك تمكنوا منا، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفاجئ سامعيه بقوله: (بل أنتم يومئذ كثير) إذاً: ما هي المشكلة؟ فنحن لسنا قليل بل كثير، تعدادنا مليار وثلث مليار، ثم يكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرعة فيقول: (ولكنكم غثاء كغثاء السيل) ما هو الغثاء؟
جاء في عون المعبود: أن الغثاء: هو ما يحمله السيل من زبد ووسخ.
سبحان الله! هكذا أصبح المسلمون غثاء كغثاء السيل؟
ومع تداعيات ذلك انظر إلى بقية كلام الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ليس فقط غثاء كغثاء السيل، ولكنه يُكمل فيقول: (ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم).
عدوك الذي وصف بالجبن في كتاب الله أكثر من مرة، هؤلاء الذين لا يقاتلون إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر، هؤلاء الذين يحرصون على الحياة تُنزع من صدورهم المهابة منكم فلا يأبهون بكم، من الذي نزع المهابة لنا من صدور عدونا؟ إنه الله عز وجل، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم) فالله هو الذي ينزع المهابة، وذلك لما خالف المسلمون المنهج سلّط عليهم من هو شر منهم حتى يعودوا إلى ربهم.
هل هذا وكفى؟ بل انظر إلى ما بقي من الحديث: (ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن) هل الله هو الذي يقذف الوهن في قلوب المسلمين؟ نعم. أيضاً هو الله الذي يقذف الوهن، والضعف، والخور، والجبن، وقلة الحيلة في قلوب المسلمين، لماذا؟ عقاباً لهم على أمر خطير وشيء عظيم، فقد تسارع الصحابة يسألون عن هذا الوهن أو يسألون عن سببه فقال قائل: (يا رسول الله! وما الوهن؟ قال صلى الله عليه وسلم: حب الدنيا، وكراهية الموت) وهما كما جاء في عون المعبود: أمران متلازمان فكأنهما شيء واحد، يدعوهم إلى إعطاء الدنية في الدين، ونسأل الله العافية.
إذاً: يا إخوة الأمر واضح وجلي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم تركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، موطن الداء هو حب الدنيا وكراهية الموت.
مصيبة الأمة الآن هي تعاظم حب الدنيا في قلوب المسلمين، ومن أجل الدنيا يرضى المسلمون بالدنية في دينهم، ولو هانت عليهم الدنيا لقويت شوكتهم وعز سلطانهم، ولأُلقيت المهابة للمسلمين في قلوب الأعداء بدلاً من أن تنزع من صدورهم، فالدنيا كلما تعاظمت في النفوس قلّت قيمة الآخرة عند الإنسان، فالدنيا وتعاظمها في النفوس كانت سبباً مباشراً لاحتلال فلسطين، ولاحتلال غيرها من بلاد المسلمين؛ ولهذا فإن الله عز وجل كثيراً ما حقّر من شأن الدنيا في كتابه سبحانه وتعالى؛ ولهذا السبب أيضاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم التقليل من قدر الدنيا، يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء:77]، ويقول: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]، ويضرب للدنيا مثلاً عجيباً، وهو ما جاء في قوله سبحانه: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس:24].
إخوتي في الله! مهما عملتم في حياتكم ومهما اكتسبتم في معاشكم، ومهما تمتعتم في دنياكم فالحياة في النهاية قصيرة وعابرة، يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [المؤمنون:112-114].
روى الإمام مسلم رحمه الله عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق داخلاً من بعض العالية -والعالية أرض في أعالي المدينة- والناس كنفيه، وفي رواية: كنفتيه -أي على جانبيه - فمر صلى الله عليه وسلم بجدي أسك ميت، فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال) والأسك: هو قصير الأذن، وهو عيب في الجدي يقلل من قيمته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمسك بأذنه ليلفت الأنظار إلى عيبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟) من يشتري هذا الجدي الميت الأسك بدرهم، فقالوا: (ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به؟).
فالجدي ميت، ومن طبيعة الناس أن ينفروا من الحيوان الميت لرائحته ومنظره، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عليهم شراءه، رد الصحابة الرد المنطقي وقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتركهم، بل قال: (أتحبون أنه لكم؟) هنا ظن الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرى عيوبه، فقالوا: والله لو كان حياً كان عيباً فيه أنه أسك فكيف وهو ميت؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرى عيوبه بوضوح، لكنه يريد أن يرسّخ معنى مهماً في عقول الصحابة وفي عقول أمته من بعدهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم) كل الدنيا أهون على الله من الجدي الأسك المعيوب الميت.
فوالله يا إخوة! من أجل ما هو أقل وأهون من الجدي المعيوب الميت يتصارع الناس ويتقاتلون، ومن أجل ما هو أقل وأهون من الجدي المعيوب الميت يرتكب الناس الذنوب ويخالفون المنهج، ومن أجل ما هو أقل وأهون من الجدي المعيوب الميت يزهد الناس في جنة عرضها السماوات والأرض.. سبحان لله!!
أمر عجيب، وفهم قاصر، وحقائق مغيبة، إن وجدت صراعاً بين الإخوة وتنافساً على أشياء كان من الواجب أن يتعاونوا عليها، إن وجدت موالاة لكافر على حساب مؤمن، إن وجدت خيانة لأمانة ونقضاً لعهد وحرباً لفضيلة، وإنكاراً لمعروف، إن وجدت الحبيب يترك حبيبه، والولد يهمل والديه، والحاكم يظلم شعبه، والرجل يكره وطنه، إن وجدت الأجساد هامدة والعقول خاملة والعزائم فاترة، والغايات تافهة منحطة منحدرة.. إن وجدت كل هذا فاعلم أنها الدنيا، واعلم أن ذلك متبوع بهلكة، والهلكة متبوعة باستبدال: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].
روى البخاري ومسلم عن عمرو بن عوف رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهذا جزء من حديث-: (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسط الدنيا عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم).
ولا شك أنه ليس المقصود من تقليل قيمة الدنيا أن نتركها بالكلية، وأن نعتكف في بيوتنا أو في مساجدنا تاركين أسباب القوة للكافرين، ليس هذا هو المقصود أبداً، إنما الزهد في الدنيا الذي نريده هو ألا نفرح بما في أيدينا فيلهينا عن شكر النعمة، ولا نحزن على فوات شيء يخرجنا عن الرضا بقضاء ربنا، الزهد الذي نريده هو ألا نخالف المنهج الرباني من أجل الدنيا ولو تعاظمت، الزهد الذي نريده هو ألا يتصارع الأخوان على شيء من حطام الدنيا، وألا تكون المنافسة بينهم إلا في أمور الآخرة: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].
الزهد الذي نريده هو أن نفرغ للآخرة أوقات كما فرغنا للدنيا أو يزيد، الزهد الذي نريده هو أن ننتصر على الشيطان فلا يوسوس لنا بأن الطريق الأمثل للجنة هو أعمال الدنيا فقط وأن العمل عبادة، فتجد الرجل يقضي معظم يومه منهمكاً في جمع الدنيا بحجة أنه في عبادة ولا يجد وقتاً لربه، ولا لنفسه، ولا لأبنائه وزوجته، ولا لوالديه، ولا لرحمه، ولا لمجتمعه، ولا لأمته.
الزهد الذي نريده أن نحصل على القوة فلا تطغينا، وأن نحصل على المال فلا يلهينا، الزهد الذي نريده أن نعطي الدنيا حجمها الصحيح ونُعطي الآخرة كذلك حجمها الصحيح.
روى الإمام مسلم رحمه الله عن المستورد بن شداد رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه -وأشار راو الحديث إلى السبابة- في اليم فلينظر أحدكم بم يرجع؟) هذا هو حجم الدنيا في الآخرة، ما يرجع أحدكم بأصبعه من اليم فقط.
فهذا الزهد الذي تحدثنا عنه لا يحرمنا من عمارة الأرض ومن سياستها، ولا يحرمنا من أموالنا وأملاكنا ومتاعنا، ولكن فقط يقننها وفق قانون الله، ويحدها بحدود الله، ويصرفها فيما يرضي الله، ويمنعها عما يُغضب الله، هذا ما نريده، ولا نريد اعتكافاً عن المجتمع ولا انعزالاً عن الحياة.
من هذا المنطلق لحجم الدنيا والآخرة نريد أن نعيد ترتيب أوراقنا وتنظيم حياتنا وتعديل أهدافنا، من هذا المنطلق لحجم الدنيا والآخرة نريد أن نصلح أنفسنا ونعدّل من سلوكنا، من هذا المنطلق لحجم الدنيا والآخرة نريد أن نبني مجتمعنا وأوطاننا، من هذا المنطلق لحجم الدنيا والآخرة نريد أن نصطلح مع ربنا.
نعم يا إخوة! يطول الفراق أحياناً بيننا وبين ربنا، وهو سبحانه وتعالى لا تضره معصية ولا تنفعه طاعة، أما نحن فيا ويلنا! إن عصيناه فيما زجر، ويا خسارتنا إن لم نطعه فيما أمر.
إن القضية ليست قضية فلسطين فقط، بل هي قضية الأمة بأسرها، لن يتغير حالنا من ذل إلى عزة ومن ضعف إلى قوة، ومن هوان إلى تمكين إلا إذا أصلحنا أنفسنا ومجتمعنا، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11] فالله لن يغير حالة الأمن والتمكين والسيادة التي كنا عليها إلا عندما غيّرنا حالنا معه سبحانه، ولن تعود الأمور إلى طبيعتها إلا إذا أصلحنا ما بيننا وبين الله، وما بيننا وبين أنفسنا، وما بيننا وبين مجتمعنا. يقول سبحانه وتعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112] في منتهى الوضوح، ويقول سبحانه وتعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]، وانظر إلى قوم سبأ في كتاب الله، وكما ذكرنا من قبل فكتاب الله ليس كتاباً للتاريخ يصف أحوال الأمم السابقة لمجرد العلم، بل هي للعبرة، انظر إلى قوم سبأ: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ:15] * فَأَعْرَضُوا ماذا حدث بعد الإعراض؟ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ:16-17].
من هذا المنظور يا إخوة! ستصبح حياتنا بأسرها منظمة متناغمة متناسقة، تهدف إلى شيء واحد وهو رضا الله سبحانه وتعالى، وتتخذ طريقاً واحداً هو الذي بينه الله عز وجل، وسار فيه الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، يصل الطريق إلى جائزة واحدة هي الجنة.
من هذا المنظور تصبح كل حركاتنا وكل سكناتنا، أو قل: تُصبح كل حياتنا حلاً لقضية فلسطين، وعوناً لأهلنا هناك ودعماً لجهود المجاهدين، من هذا المنظور سنعيش فترة بناء حقيقة، من هذا المنظور تصبح صلاتنا في جماعة دعماً لقضية فلسطين، وتُصبح قراءتنا للقرآن دعماً لقضية فلسطين، ويُصبح تسبيحنا، وتحميدنا، وتكبيرنا، وتهليلنا.. وجميع ذكرنا دعماً لقضية فلسطين، وكذلك يصبح بر الوالدين، وصلة الرحم، ورعاية الجار، وحفظ الطريق، وعون الملهوف، وإعانة المحتاج، وستر المسلم كل ذلك دعماً لفلسطين، وكذلك يصبح غض البصر، وحفظ الفرج، وصيانة اللسان، ووقاية السماع، وطاعة الجوارح دعماً لفلسطين، وكذلك يصبح الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعليم الناس الخير، ودعوة الآخرين إلى الفضيلة، يصبح كل ذلك دعماً لفلسطين، وكذلك يُصبح التواضع والكرم، والإخاء والمودة، والتسامح والتهادي، والاعتدال والإيثار دعماً لقضية فلسطين، وكذلك تصبح محاربة الربا، ومقاطعة الرشوة، ونبذ الفرقة، وترك المحرمات، والبعد عن الشبهات دعماً لقضية فلسطين، وكذلك يُصبح علمك ودراستك، وجدك وتفوقك دعماً لقضية فلسطين، وكذلك تُصبح أمانتك في مصنعك، وفي متجرك، وفي حقلك، وفي عيادتك، وفي شركتك.. كل هذا يُصبح دعماً لقضية فلسطين.
تتحول كل حياتنا يا إخوة! إلى دعم قضية فلسطين وقضية الشيشان وكشمير وأفغانستان والبوسنة وغيرها، بل تتحول حياتنا لدعم حياتنا.
فنحن أول من يستفيد من طاعتنا لربنا، يرفع الله عنا البلاء ويكشف الضراء، وتُشرق الأرض بنور ربها، كفانا صراعات بيننا وبين فطرتنا السليمة، كفانا بُعداً عن طريق قويم لا عوج له، كفانا سعياً وراء أناس ما عرفوا الله كما عرفناه.
بذلك نُدرك أن حل قضية فلسطين بأيدينا وليست بأيدي غيرنا، وبذلك نُدرك أن قضية فلسطين ليست قضية هامشية في حياتنا؛ بل هي محور كل حياتنا، بذلك نُدرك أن عدونا ما هزمنا لقوته ولكن لضعفنا. فقوتنا في أيدينا، وأفكارنا في عقولنا، وإيماننا في قلوبنا لا يتسلط علينا أحد مهما بلغت قوته، ولو كان الشيطان نفسه، يقول سبحانه وتعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [الإسراء:64] كل هذا الاستفزاز والجلب بالخيل والرجال في الزمان الأول، والاستفزاز في هذا الزمان بالدبابات، والطائرات، والقاذفات، والغواصات، والبوارج، والتحالفات والعلاقات، والمشاركات في المال والأولاد، والوعود برفع الديون وإنعاش الاقتصاد، وإعطاء المنح والهدايا، وتمكين الحكم والسلطان، كل هذا وعد الشيطان: وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [الإسراء:64].
يقول تعالى في الآية التالية مباشرة: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء:65] وعد من الله، والله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد، وعد الله ألا يجعل للشيطان سبيلاً على عباده المؤمنين، وكذلك وعد الله ألا يجعل للكافرين سبيلاً على عباده المؤمنين، يقول سبحانه وتعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141] فلماذا الهلع والجزع والخوف؟
فأسباب قوتنا لم تُجعل في أيدي أعدائنا، بل أسباب قوتنا جُعلت بأيدينا، فما علينا إلا اتباع المنهج الإلهي ونبذ المناهج الأخرى، نحن الذين نختار.
إخواني في الله! إجمال لما سبق تفصيله، واختصار لما سبق الإسهاب فيه.
قضية فلسطين قضية من أخطر قضايا الأمة، بل لعلها الأخطر على الإطلاق، هي قضية أمة تُذبح، وشعب يُباد وأرض تُغتصب وحرمات تُنتهك، وكرامات تهان، ودين يُضيع.
قضية فلسطين لا تُحل إلا بمنهج سليم يخلو من الشوائب والمكدرات، هذا المنهج هو كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قضية فلسطين ليست قضية أهل فلسطين، ولكنها قضية الأمة الإسلامية بأسرها، قضية كل مسلم عاش على وجه الأرض، عاش في فلسطين أو في مصر أو في أندونيسيا أو في المغرب، أو عاش في أمريكا أو أوروبا أو أستراليا.
قضية فلسطين قضية سنُسأل عنها فرادى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران:30].
لأجل كل ما سبق طرحنا في مجموعتنا هذه عدداً من الوسائل الإيجابية لعموم الأمة؛ كي يساهموا في حل القضية من جانب، ويرفعوا من على كاهلهم اسم الترك والتخلي من جانب آخر.
الوسيلة الأولى: كانت الفهم الصحيح للقضية، وتحريك القضية بهذا الفهم وبسرعة.
وتحت هذا العنوان ناقشنا بعض القضايا والمفاهيم، ذكرنا سؤالاً مهماً: لماذا نحرر فلسطين؟ ما هي الغاية وما هو الهدف؟
وانتهينا إلى أن نحرر فلسطين لكونها أرضاً إسلامية، فُتحت بالإسلام وحُكمت بالإسلام منذ زمان الخليفتين الراشدين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهي بكاملها من هذا المنطلق واجبة التحرير والتطهير، ولا يتم هذا التحرير إلا بقوة، فلا بد للحق من قوة تحميه، ونحن لا نحرر فلسطين فقط لأن بها القدس أو المسجد الأقصى، مع شرف وقدر هذه الأماكن، بمعنى: أننا لا نرضى أن نُعطى هذه المقدسات ونترك بقية الأرض، وبمعنى أن حميتنا للبلاد الإسلامية التي لا يوجد بها بناء مقدس موجودة أيضاً، فنحن نتحرك للشيشان ولكشمير كما نتحرك لفلسطين، كل ما في الأمر أن الأقصى يزيد من حمية المسلمين، لكن لا ينشئ هذه الحمية ابتداءً.
ونحن لا نحرر فلسطين لكونها عربية، فنحن لا نعتز بقوميتنا على حساب ديننا، نحن أمة تربطها عقيدة ولا يربطها جنس ولا لون ولا عائلة، ومع ذلك فنحن نعتز ونفخر بلغتنا العربية؛ لأنها لغة مختارة من إله قدير حكيم، اختارها على سواها من اللغات لتكون لغة كتابه الأخير إلى خلقه.
ونحن لا نحرر فلسطين لحل مشكلة اللاجئين، فاستعادة أرضنا واجب لا يقبل التعويض بمال أو بأرض غيرها، كما أننا لا نقبل بعودة اللاجئين تحت حكم يهودي: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:57].
ونحن لا نحرر فلسطين لوقف نزيف الدماء؛ لأننا نعلم أنه من سنن الله في الأرض أن البلاد لا تُحرر إلا بتضحية وبذل ودماء، وأن ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة، ونعلم أيضاً أن الذين قُتلوا في سبيل ربهم أحياء لا يموتون، وأنهم نالوا أرفع المنازل وأعلى الدرجات، كما أنهم إن لم يُقتلوا ماتوا: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ [الأعراف:34].
وناقشنا أيضاً في هذه المجموعة فكرة إسرائيل الكبرى، وانتهينا إلى أنها حقيقة يسعى اليهود لتطبيقها، وكتدليل على إمكانية حدوثها استفضنا في شرح تاريخ نشأة الدولة الكريهة إسرائيل داخل فلسطين الحبيبة، وذكرنا أنهم إن كانوا أنشئوا دولة قوية من لا شيء، فهم على التوسع أقدر، وعلى المسلمين أن يحذروا ذلك.
وذكرنا في تاريخ نشأة إسرائيل كيف نشأت؟ وأن هذا كانت نتيجة تفاعل عوامل كثيرة من خيانات وعمالات عربية إلى تغييب وجهل للشعوب، إلى جهد وإعداد من اليهود.
لاحظنا خطوات اليهود المرتبة من فكرة وتأسيس وتهويد ثم إعلان للدولة، لاحظنا تأييداً مطلقاً من إنجلترا ثم من أمريكا، شاهدنا بوضوح نتائج الفرقة بين المسلمين كما شاهدنا نتائج التربية الجيدة والجهاد، فكما كان الضياع مصاحباً للفرقة كانت الثورة والعزة مصاحبة للتربية والجهاد.
ناقشنا أيضاً في هذه المجموعة مفهوم وجوب استمرار الانتفاضة، وأنها الطريق الشرعي الوحيد في هذه الظروف، وعددنا فوائدها وآثارها الإيجابية على أهل فلسطين وعلى عامة المسلمين، وذكرنا على الجانب الآخر آثارها السلبية على اليهود ومن عاونهم.
ناقشنا أيضاً في هذه المجموعة علاقة أمريكا بإسرائيل، وكيف أنها علاقة ذات ثلاثة أبعاد: بُعد المصالح المشتركة بين الطرفين، وبُعد الدين والارتباط بوعود في التوراة والإنجيل، وبُعد الضغط اليهودي على أمريكا؛ لتنفيذ رغبات اليهود، حتى على حساب مصلحة أمريكا، وهذا الضغط لو تذكرون كان عن طريق المال والإعلام والفضائح الأخلاقية، والانتخابات والتهديد بالموت وغيره.
ثم انتقلنا بعد ذلك للحديث عن الوسيلة الثانية لمساعدة قضية فلسطين، وكانت هذه الوسيلة هي: قتل الهزيمة النفسية، وبث الأمل في نفوس أبناء الأمة.
وذكرنا فيها أن الأيام دول بين الناس، وأن الدولة الأخيرة ستكون للمؤمنين، وأن أمة الإسلام أمة لا تموت، وستبقى ما بقيت حياة على الأرض.
وذكرنا لذلك أدلة من الشرع والتاريخ والواقع.
وذكرنا أن هذه الأمة هي الأعلى حتى في لحظات هزيمتها، الأعلى لارتباطها بربها ونبيها، الأعلى لتمسكها بشرع الله وبكتابه، الأعلى بأخلاقها وآدابها، الأعلى لارتباط أبنائها بأخوة لم تُسبق ولم تُلحق في التاريخ، والأعلى لأن موعدها الجنة.
الوسيلة الثالثة: بذل المال بسخاء.
فكم من الأمور هناك تحتاج إلى كثير مال، ونفوس المسلمين السخية تأبى أن ترى أهلها في فلسطين يحتاجون لمال، ثم تُمسك عن إعطاء المال، فهي تعطي المال لا تفضلاً ومنة بل واجباً ورحمة.
الوسيلة الرابعة: المقاطعة الاقتصادية لكل ما هو يهودي أو أمريكي أو انجليزي.
وذكرنا لذلك فوائد عشرة هي: تقليل الدخل اليهودي، وتغيير القرار السياسي الأمريكي، وإنعاش الاقتصاد المسلم الوطني، والاستعداد لحصار العدو لنا، وتذكر العدو بصفة مستمرة، وقطع الانبهار المستمر بالغرب، ورفع معنويات المسلمين برؤية نجاح المقاطعة، وإرعاب الأعداء بوحدة صفنا، وتربية النفس على حرمانها من شيء بغية تحقيق شيء أفضل، وفي النهاية الحصول على ثواب الله وحسناته، وهي أعلى وأغلى ما نستفيد.
وذكرنا شبهات والرد عليها، وطرائق للمقاطعة وتفصيلات يُرجى أن يُرجع إليها في مكانها.
ثم تحدثنا اليوم عن الوسيلة الخامسة الهامة جداً وهي: الدعاء لأهل فلسطين بالثبات، والدعاء على اليهود ومن عاونهم بالهلكة والاستئصال.
نسأله سبحانه أن يستجيب لنا ولعامة المسلمين.
كانت هذه وسائل خمسة: فهم، وأمل، وبذل، ومقاطعة، ودعاء.
إخواني في الله! إن كان الوضع الطارئ في فلسطين يحتاج إلى هذه الوسائل اليوم فإن هذا لا يعني أبداً أن هذا هو نهاية المطاف، فعلاج القضية علاجاً جذرياً يقتضي إصلاحاً شاملاً وكاملاً للنفس والمجتمع، كل بحسب طاقته وقدراته.
إصلاح النفس والمجتمع وإن اعتبرناها وسيلة سادسة لحل قضية فلسطين إلا أنها ليست أمراً مؤقتاً ينتهي بحل القضية.
إصلاح النفس والمجتمع هي قضية المسلم في حياته كلها، في كل دقيقة من دقائق عمره: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] هكذا بهذا المفهوم الشامل للإسلام، دين يحكم الدنيا، ليصل بنا إلى جنة الآخرة.
أخي في الله! بعد هذه الرحلة السريعة في ربوع فلسطين تاريخاً وواقعاً ومستقبلاً أقدم كلمة أخيرة أهمسها في أذنك.
دينك دينك لحمك دمك.
الله الله في إسلامك وشرعك.. الله الله في أهلك وأرضك، اغضب لدينك أشد من غضبك لنفسك، اذكر الله أشد من ذكرك لأبيك وقومك، احرص على أمتك أشد من حرصك على مالك وبيتك.
لا عُذر لك.. لا عُذر لك إن خَلُص لفلسطين وفيك قلب ينبض أو عين تطرف أو نفس يتردد، جهّز مجاهداً فإن هذا جهاد، اخلف مناضلاً في أهله فإن هذا نضال.
فلسطين ليست عبئاً على كاهلك.
فلسطين هدية من الله إليك فلا تردها.
فلسطين نعمة من الله عليك فلا تجحدها.
فلسطين وعد من الله لك فجهّز نفسك ليوم يتحقق فيه الوعد.
أخي في الله! أظهر لله من نفسك قوة وكن حيث أرادك، إياك إياك أن يطلبك في مكان فلا يجدك، أطع ربك بغير مجادلة، فإنما تطيع من تعاظمت حكمته وتناهت قدرته واستحالت معارضته، لا تعمل بمعصية الله وأنت في سبيله.
أخي المؤمن! جدد النية، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق، نق السريرة، فإن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، عظّم الغاية، فإنما هي حياة واحدة قبل أن تموت.
أخي المؤمن! لا تقولن: ليس لمثلي أن يعمل في سبيل الله، فقد خُضت رحلة طويلة في عالم المعاصي والآثام! إياك وهذا الظن، لا تهولنك كثرة الذنوب، فإن دمعة واحدة في جوف الليل تمحو الخطايا وتحرِّم الجسد على النار.
فلنبدأ اليوم من جديد وصفحتنا بيضاء إن شاء الله.
أخي المؤمن! ارفع الرأس فالمؤمن لا ينحني إلا لخالقه، واحمل الراية فإنما أُخرج المؤمن ليُقتدى به، وأسرع في الخطى، فلم يبق يا أخي! إلى الجنة إلا خطوات.
أخي في سبيل الله! لا تغرنك قوة جسدك، ولا كثرة مالك، ولا وفرة علمك، ولا طلاقة لسانك، ولا بأس ملك أو عز سلطان، لا يغرنك كل هذا، فهذا كله إلى فناء، ولا يبقى بعد ذلك إلا قلب وعمل.
أخي في سبيل الله! إن كثرت أمامك العوائق، وآثرت تعلّقاً بدنيا وظننت أن الطريق مستحيل، وأنه كما يقول بعضهم: لا فائدة! فلا تغفل عن قوله سبحانه: وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ [التوبة:46]، فاعلم أن المؤمن لا يُثبَّط، وأن الله إن وجد إعراضاً متكرراً من الرجل أعرض هو عنه وكرهه وثبّطه وعطّله، فاعلم أن صفة الكسل الدائم لا تكون إلا في المنافقين، فلا تكونن منهم وتحرك.
أخي في سبيل الله! طريقنا طويل، فلا بد لك من صبر فلا تعجل، فإن العجلة من الشيطان، ولا تفتر فرب فتور لا يُتبع بقيام، ولا تركن فإن الماء الراكد يأسن ويتعفّن.
أخي المؤمن! طريقنا طويل فلا تسيرن فيه بغير صحبة، وانتق من الناس من إذا رأيته ذكّرك بالله، واعلم أن الحسابات عند الله مختلفة، فواحد وواحد قد لا يساويان اثنين، فالمرء وأخوه قد يساويان عشرة، والمرء بدون أخيه قد لا يساوي شيئاً.
أخي في سبيل الله! لا تضيع وقتاً فهذا أثمن ما تمتلك، عمرك محدود ليس فيه زيادة ولا إمهال، ولحظات النهاية تقترب، لا تضيع وقتاً، اعمل حثيثاً قبل أن يأتي يوم لا عمل فيه، ابدأ الساعة فرُب نفس خرج ولا يعود، ورُب دقة قلب لا تُتبع بأخرى.
بهذه البداية لن تكون نهاية فلسطين.
بهذه البداية لن تُصبح فلسطين أندلساً أخرى.
اللهم ارحم عبداً أرشد العباد إليك، وطهّر قلباً حبب القلوب فيك، وزك نفساً شوّقت النفوس إلى الاعتماد عليك، آمين آمين.
وإلى مجموعة تاريخية قادمة إن شاء الله.
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وجزاكم الله خيراً كثيراً.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة فلسطين الدعاء للشيخ : راغب السرجاني
https://audio.islamweb.net