اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة فلسطين أمة لن تموت للشيخ : راغب السرجاني
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا أعداءً ولا حاسدين، اللهم إنا نسألك من كل خير خزائنه بيدك، ونعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك، اللهم اغفر لنا خطيئتنا وجهلنا وإسرافنا في أمرنا، وما أنت أعلم به منا، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا. آمين آمين. وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين.
أما بعد:
فمع المحاضرة التاسعة من المحاضرات الخاصة بقضية فلسطين، وكنا قد ذكرنا في المحاضرة الأولى بعضاً من الوسائل الإيجابية والتي من الممكن أن نساعد بها إخواننا في فلسطين، ونسهم بها في رد كيد اليهود ومن عاونهم، تذكرون أن الوسيلة الأولى التي ذكرناها في هذا المضمار كانت: تحريك قضية فلسطين بالمفاهيم الصحيحة وبسرعة، وأفردنا لذلك ثمان محاضرات تحدثنا فيها عن بعض هذه المفاهيم.
واليوم نتحدث عن وسيلة أخرى من الوسائل الهامة جداً في حل قضية فلسطين وما شابهها، بل وفي حل قضية المسلمين في العالم أجمع، الناظر إلى بلاد المسلمين يجد أن كثيراً من أبناء المسلمين قد أصابهم الإحباط من واقع المسلمين، ويئسوا من أن تقوم لأمة الإسلام قائمة من جديد، وقنطوا من أن يواجهوا عدواً صارخ العداء مثل اليهود ومن معهم.
كثير من أبناء المسلمين يعتقدون أن سيادة المسلمين للعالم كانت تاريخاً، وأن المستقبل قد يكون للشرق أو للغرب، ولكن حتماً أو غالباً ليس للمسلمين، وأكثر هذه الطائفة تفاؤلاً يعتقد أنه لو كان الإسلام سيعود من جديد لصدارة الأمم فإن هذا سيكون بعد عمر مديد وأجل بعيد لا نراه نحن ولا أبناؤنا ولا حتى أحفادنا.
في هذا الجو من الإحباط واليأس يستحيل على المسلمين أن يفكروا في قضية فلسطين فضلاً عن أن يسهموا في حلها، ومن ثم فإن حديثنا اليوم يتناول الوسيلة الثانية من وسائل حل قضية فلسطين ألا وهي: قتل الانهزامية والإحباط في نفوس المسلمين.
وإنه لمن العجب حقاً أن تحبط أمة تملك كتاباً مثل القرآن! وسنة مثل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم! وإنه لمن العجب حقاً أن ييأس شعب له تاريخ مثل تاريخ المسلمين! وله رجال أمثال رجال المسلمين! وإنه لمن العجب حقاً أن قوماً يمتلكون مقدرات كمقدرات المسلمين! وكنوزاً مثل كنوز المسلمين! عجيب حقاً أن تقنط هذه الأمة، وقد قال ربها في كتابه: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56]، لكنها حقيقة مشاهدة وواقع لا ينكر، والواقع أن غياب الأمل وضياع الحلم وانحطاط الهدف كارثة مروّعة حلّت على المسلمين، ومصيبة مهولة لا يرجى في وجودها نجاة، لا بد أن الذي زرع اليأس في قلوب بعض المسلمين هو أمر تعاظم في النفوس الواهنة، وحدث أكبرته القلوب الضعيفة فخضعت حصول خضوعاً مذلاً، وركعت حين كان يرجى لها القيام.
لا بد أن نقف وقفات ووقفات لنحلل وندرس ونفقه لماذا صرنا إلى ما صرنا إليه؟ وكيف السبيل لقيام وسيادة وصدارة ومجد، أما لماذا صرنا إلى هذا الوضع؟ فهذا يرجع إلى عوامل عديدة وتراكمات مختلفة:
الواقع الذي يعيشه المسلمون من هزائم متكررة بدءاً من سقوط الخلافة العثمانية، ومن سقوط فلسطين وإعلان إسرائيل في (1948م)، ومن هزيمة مرة في عام (1956م) لولا أيزنهاور الأمريكي الذي جعل المسلمين يصورون الحدث وكأنه نصر، بل ويحتفلون به بعد ذلك.
ومروراً بعام (1967م) وتدمير الجيش المصري والسوري، وضرب كل المطارات حتى المطارات الداخلية جداً: المنيا الأقصر الغردقة كانت هزيمة كبيرة، حتى نصر أكتوبر عام (1973م) والذي كان نصراً مجيداً حقاً أتبع بثغرة مرة وبوقف لإطلاق النار، وبخسارة سريعة لمكاسب هائلة.
أما الواقع الذي يعيشه المسلمون من خيانات مستمرة شاهدنا طرفاً منها في تاريخ فلسطين، ونشاهد أطرافاً أخرى في أماكن متفرقة من العالم الإسلامي.
الواقع الذي يعيشه المسلمون من إباحية في وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية، ومن سرقات واحتيالات، ومن هروب بمليارات من أموال المسلمين بينما يتضور بعضهم جوعاً، ومن انهيار للاقتصاد وديون متراكمة وإفلاسات مشهورة.
الواقع الذي يعيشه المسلمون من فرقة وتناحر وتشاحن، بين المسلمين وأحياناً بين الملتزمين من المسلمين، هذا الواقع يورث في نفوس كثير من المسلمين إحباطاً ويأساً، يشعرون معه أن القيام من جديد إن لم يكن صعباً فهو من دروب المستحيل.
هؤلاء الذين قنطوا لم يدركوا طبيعة هذا الدين، ولم يدركوا طبيعة هذه الأمة، ولم يدركوا طبيعة سنن الله في الأرض، فالله سبحانه وتعالى شاءت حكمته أن يجعل الأيام دولاً بين الناس: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، فكما تعاني أمة المسلمين من القرح اليوم فقد كان هناك أيام عانى فيها الآخرون من القرح، بينما كانت أمة المسلمين في سلامة وعافية، كل الأمم تسود فترة وتتبع غيرها فترات، كل الأمم تقود زمناً وتنقاد لغيرها أزماناً، بل إن كل الأمم تعيش مرة وتموت وتندثر وتختفي مرات، إلا أمة واحدة قد تنقاد فترة من الفترات، وقد تتبع غيرها زماناً من الأزمان، لكنها لا تموت أبداً، تلك هي أمة الإسلام.
أين حضارة الرومان؟ لم يبق منها إلا أطلال وأبنية، أين حضارة الإغريق؟ لم يبق منها إلا فلسفة فارغة ومعابد وثنية، أين حضارة الفرس؟ ماتت ولم تترك ميراثاً، أين حضارة الفراعنة؟ بقيت منها جمادات وديار كديار عاد وثمود، وبقيت جثث محنطة وأوراق بالية، لكن أين الفراعنة؟ إما في بطون القبور، أو في جوف البحر حيث ينتظر جنود فرعون الساعة، أين التتار وجيوشهم؟ أين الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس؟ إنجلترا الآن تابع ذليل، أين الإمبراطورية الروسية القيصرية ثم الشيوعية؟ سقوط مروع وسيأخذ غيرهم دورات ثم يسقطون، وسيعلو نجمهم فترة ثم يحبطون: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ [الدخان:29].
إلا أمة واحدة ما سقطت إلا وكان بعد السقوط قيام، وما ضعفت إلا وكان بعد الضعف قوة، وما ذلت إلا وكان بعد الذل عزاً، تلك هي أمة الإسلام.
طبيعة هذه الأمة أنها أمة شاهدة على غيرها من الأمم: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]، حتى الأمم الغابرة قبل أمة الإسلام نشهد عليها بما جاء في كتابنا القرآن، والأمم المعاصرة نشهد عليها بما رأيناه بأعيننا، وقومناه بمنهجنا وأحكامنا وشرعنا، وسنظل نشهد على الأمم إلى يوم القيامة، فنحن باقون ما دامت الحياة، وغيرنا لا شك مندثر وذاهب.
طبيعة هذه الأمة أنها تحمل الرسالة الخاتمة والكلمة الأخيرة من الله إلى خلقه، وليس هناك رسول بعد رسولنا صلى الله عليه وسلم، وليست هناك رسالة بعد الإسلام، فلا بد أن يحفظ الله المسلمين لأجل أهل الأرض جميعاً.
طبيعة هذه الأمة أنها الأمة الوحيدة التي كان من همها أن تعلم غيرها دون ثمن ولا أجر، بل قد يدفع المعلمون المسلمون مالاً ويبذلون جهداً وعرقاً ووقتاً بل ونفساً حتى يعلموا غيرهم، هل من الأمم من يفعل ذلك غير أمة الإسلام؟ ألم تكن الشعوب تغير على الشعوب لتأخذ خيرها، وتنهب أرضها وتقتل أهلها؟ بينما كان المسلمون يضحون بأرواحهم؛ ليستنقذوا الناس من جحيم الكفر والضلال إلى جنة الإيمان والهدى.
ألم يقل ربعي بن عامر قولاً ما تكرر في التاريخ على ألسنة المتحضرين من الأمم غير أمة الإسلام يوضح فيه الرسالة الإسلامية بإيجاز فيقول: لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة؟
لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [الإنسان:9] هذه طبيعة الأمة الإسلامية، بقاؤها هو خير الأرض، وذهابها فناء الأرض: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
إذا كانت هذه هي طبيعة الأمة الإسلامية فلماذا الإحباط واليأس؟! يبدو لي أنه ليس الواقع فقط هو المسئول عن هذه الحالة من الإحباط، ولكن يبدو أن وراء الأمور أمور، يبدو أن هناك من يدبّر ويخطط ويكيد، حتى يزرع بذور اليأس في قلوب المسلمين، جزء من المؤامرة الفكرية التي تحدثنا عنها في أول محاضرة، من هم المتآمرون؟ وما هي وسائلهم؟ الحق أن هذه المؤامرة اشترك فيها الكثيرون، اشترك فيها المستشرقون: وهم طائفة من العلماء الأوربيين، أكل الغل قلوب معظمهم، وحرق الحقد صدور غالبيتهم، وأعمى الحسد بصائر جلهم، فجاءوا يتعلمون الإسلام ويدرسون تاريخه ورجاله ومناهجه لا ليهتدوا بهداه؛ ولكن ليطعنوا فيه وليلبسوا على المسلمين دينهم، انتشرت كتبهم وعمت أفكارهم وطغى تحليلهم، وباتوا شوكة حامية في حلق المسلمين.
تبع هؤلاء المستشرقين طائفة أخرى يحلو لي أن أسميها طائفة المستغربين: وهم من أبناء المسلمين الذين فتنوا بالغرب وتاقت نفوسهم إليهم، واستغل الغرب الفرصة، ومدوا إليهم أيديهم وصنعوهم على أعينهم، ودسوا في عقولهم أفكارهم، ثم أعادوهم إلى أوطانهم يحبطون أبناءهم ويشككونهم في دينهم، ويقنطونهم من القيام إلا باتباع الغرب، حتى إن بعضهم كان يقول: إن بلادنا لن تتقدم إلا إذا نقلت ما في لندن وباريس بحلوه ومره، وبحسنه وسيئه وبمعروفه ومنكره، هكذا هو، عالم ويلبس لباس العلماء، ثم يطعن في الدين طعناً.
ألم يذهب أحدهم -وهو من أبناء الأزهر الحافظين للقرآن- إلى فرنسا فتعلم هناك، ثم عاد إلى بلاد المسلمين يعلم تلامذته أن ينقدوا القرآن الكريم، فهذه آية قوية وهذه آية ضعيفة؟! كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [الكهف:5]، وكان يقول لتلامذته: ليس معنى أن القرآن ذكر وجود إبراهيم وإسماعيل أن هذا أمراً حقيقياً، لا بد من برهان مادي. وكان يقول لتلامذته: إن الآيات المدنية أكثر نضجاً من المكية، وكأن هذا من تراكم الخبرة تعالى الله عما يصفون، وكان يكتب كتباً عن الصحابة وبالذات في زمن الفتنة، فيطعن في كل من استطاع بلا خجل ولا تورع، ثم إذا به يترقى في المناصب حتى يصبح وزيراً للتعليم يربي ويعلم ملايين التلاميذ، وهكذا أصبح الشيخ الأزهري من دعاة العلمانية والإحباط، والأزهر منه براء.
اشترك أيضاً في مؤامرة الإحباط المستعمرون الذين جثموا على صدر الأمة عشرات السنين، أذاقوها من العذاب ألواناً، في مصر وفلسطين وسوريا ولبنان وليبيا والجزائر وتونس والمغرب واليمن والسودان والعراق والكويت.
واشترك في المؤامرة أيضاً بعض الحكام الذين أقنعوا شعوبهم أنهم لا طاقة لهم اليوم بجالوت وجنوده.
ماذا فعلت هذه الطوائف المختلفة من المتآمرين؟ فعلوا جرائم عدة:
أولاً: جريمة تزوير التاريخ، وهي جريمة بشعة لا يتسع المجال للخوض في تفصيلاتها، وسأفرد لها إن شاء الله محاضرة خاصة، كذبوا وزوروا والتقطوا الضعيف والموضوع، وأعرضوا عن الصحيح والحسن، ونقبوا عن المصائب، ولا بد أن في تاريخ كل أمة مصائب، وتركوا الأمجاد والفضائل، وركزوا على الجوانب السياسية لمشكلاتها، وأغفلوا الجوانب الأخلاقية والعلمية والمعمارية والعسكرية والاقتصادية والفكرية والأدبية، أساءوا التأويل عن عمد، وطعنوا في الشرفاء عن قصد، فخرج التاريخ إلينا ممسوحاً مشوهاً يستحي منه الكثير، ويتناساه الأكثر، واقتنع معظم المسلمين بأنه إذا كان السابقون الأولون على هذه الشاكلة فكيف يرجى خير ممن لحق؟!
إن جريمة تزوير التاريخ جريمة كبرى، وهناك جريمة أخرى ألا وهي تشويه الواقع، فكما طمسوا تاريخ المسلمين المشرق فليطمسوا واقعهم وحاضرهم، فليشترك المربون والإعلاميون من المستغربين في تغييب الأمة، وتحبيط الشعب، وليساعد الإعلام الغربي في هذه المهمة، فيسمي الأشياء بغير أسمائها، فليكن الالتزام بالإسلام مرادفاً للإرهاب، وليكن الحجاب مرادفاً للتزمت، وليكن تطبيق الشرع مرادفاً للرجعية والجمود والتخلف.
إذا أجرم مسلم في الغرب قالوا: أجرم مسلم، وإذا أجرم نصراني ذكروه باسمه لا بدينه، كما في حادث تفجير أوكلاهوما المشهور في أمريكا قالوا: فعلها المسلمون، فلما تبيّن أن الذي فعلها نصراني قالوا: فعلها فلان باسمه.
إذا أساء مسلم قالوا: أساء مسلم، وإذا نبغ مسلم في علمه قالوا: نبغ مصري أو سوري أو باكستاني ووصفوه بقوميته.
وآه من تصوير الملتزمين بالإسلام في وسائل الإعلام، كم من المرات يأتون بالشيخ أو (المأذون) في صورة هزلية مضحكة، كم من المرات يأتون بالمسلمين في الأفلام التي يطلقون عليها إسلامية في صورة عجيبة، ينظرون نظرات حالمة وأبصارهم معلقة في السماء، ويبتسمون في بلاهة ويتحركون ببطء شديد، سبحان الله! وكأن الإنسان إذا أسلم لا بد أن يتخلف عقلياً بهذه الصورة، كم من المرات يأتون بمن التزم طريق الإسلام ينقلب من الحديث بالعامية إلى الحديث بالعربية الفصحى ولكن في تنطع وتقعر شديدين، ومن حوله من الناس لا يفهمونه وينظرون إليه مستنكرين، سبحان الله! مع أن اللغة العربية هي أرقى لغات العالم أجمع. جريمة كبرى إلى جانب جريمة تزوير التاريخ، تلك هي جريمة تشويه الواقع.
جريمة ثالثة: تعظيم الغرب، فبعد أن كسر رموزك الإسلامية في التاريخ والواقع؛ رفع لك من قيمة الغرب حتى لا يبقى أمامك خيار إلا الاتباع الذليل والتقليد الأعمى، عظموا سلاح الغرب، ومدنية الغرب، وأخلاق الغرب، وعقل الغرب، وأدب الغرب، وفن الغرب، بل وعظّموا لغة الغرب حتى افتتن المسلمون، وأصبح الرجل يحرص على تعليم الإنجليزية لابنه أكثر من حرصه على العربية، وحتى ابتلينا بما أطلقوا عليه مدارس إسلامية للغات بحجة أننا يجب أن نعلم أبناءنا لغة الغرب لندعوهم إلى الإسلام، أتتعلمها على حساب لغتك؟ وبحجة أن الأعمال المرموقة لا بد لها من لغة أجنبيه جيدة، هل على حساب لغة القرآن؟! وحتى لو أتيت لابنك بمعلم للعربية في البيت سيظل الطفل معظماً للغة الأولى في مدرسته.
ففي فرنسا لو خاطبت رجلاً بالإنجليزية ما رد عليك إلا متأسفاً لاعتزازه بلغته، في ألمانيا كذلك إذا أردت أن تعيش هناك فلا حديث إلا بالألمانية، ولقد ذهبت إلى المركز الثقافي الأسباني أبحث عن بعض الصور الخاصة بتاريخ المسلمين في الأندلس فما وجدت عندهم كتاباً واحداً بالإنجليزية فضلاً عن العربية، وعندما قلت لهم: إن اللغة الأسبانية محدودة جداً في مصر فعليهم أن يأتوا بكتب مترجمة حتى نفهمها، قالوا: من أراد أن يعرف عنا شيئاً فليتعلم لغتنا، هكذا يعتزون بلغتهم المحدودة، جريمة تعظيم الغرب أدت إلى صد الطموح عند الشباب، وضعف الهمم وهوان العزم، فيصبح أمل الشاب المسلم في الحياة أن يلقي بوطنه وأهله وراء ظهره، وينطلق إلى بلاد الغرب إلى أمريكا وأوروبا؛ ليعيش في جنة الله في أرضه.
نتيجة هذه الجرائم والمؤامرات أحبط كثير من المسلمين إحباطاً شديداً ورضخوا للواقع، وقنعوا بالسير في ذيل الحضارة الغربية.
مع ضخامة المؤامرة وبشاعة الكيد فإني أعود من جديد وأتعجب: كيف يمكن أن تحبط أمة تمسك في يديها بكتاب القرآن؟!
ألم تسمعوا إلى قوله سبحانه وتعالى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]، يا إخوتي وأحبابي! كل ما ذكرناه من جرائم ومكائد ومؤامرات وتزوير وتشويه وخيانات وعمالات ونفاق وكذب، كل هذا يدخل تحت كلمة: ويمكرون ، خذ الجانب الآخر من المقابلة: وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]، فالله يا إخوة! يقابل مكرهم بمكره: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67].
أيها المسلمون! إن كان أصابكم شيء من الإحباط؛ فلكونكم لم تفهموا المعركة على حقيقتها، ولم تدركوا الصدام بكامل أبعاده، هي ليست حرباً بين المسلمين والكافرين وإن كان ظاهرها كذلك، إنما هي في حقيقتها حرب بين الله وبين من مرق عن طريقه وكفر بعبادته، وارتضى غيره حكماً وقبل غير كتابه شرعاً، هي حرب بين الله وبين طرف صغير حقير من مخلوقاته سبحانه، لكن الله من رحمته بالمؤمنين ومن كرمه عليهم منّ عليهم بأن جعلهم جنده وحزبه وأولياءه، فالمؤمنون يقفون أمام الكافرين ملتزمين بمنهج ربهم في وقوفهم، وكما أمرهم يفعلون لا يترددون ولا يفرون، واثقين بوعده راغبين في جنته، راهبين لناره، مخلصين له، معتمدين عليه، لاجئين إليه، إن فعلوا ذلك كان هو سبحانه جلت قدرته وتعاظمت أسماؤه المدافع عنهم، الحامي لهم المؤيد لقوتهم، الناصر لجيشهم، الناشر لفكرتهم، المنتقم من عدوهم.
واسمعوا وأنصتوا لقوله سبحانه وتعالى حتى تفهموا حقيقة المعركة: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17]، إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق:15-16]، سبحانه وتعالى: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [النمل:50-51].
أيها المسلمون المعتزون بإسلامهم! هل تعلمون لمن تعملون؟ وإلى أي ركن تأوون؟ إنكم تعملون لله، وتأوون إلى ركن شديد سبحانه، إذا جلس المتآمرون في جنح الظلام يدبرون ويخططون هل هم بعيدون عن عينه سبحانه؟ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان:16]، أو إذا أطلق المتآمرون صاروخاً أو رصاصة أتسقط بغير علمه سبحانه؟! إذا كان يعلم بسقوط أوراق الشجر عبر الزمان والمكان فكيف بسقوط الصواريخ؟! وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ * قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ * قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأنعام:59-67].
أيها المسلمون المعتزون بربهم! هذا الإله العظيم الجليل الكبير، هذا الإله الرحيم الكريم الودود يبشركم في كتابه، يقول صاحب العزة والجبروت: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، هكذا بهذه الصياغة العجيبة المعجزة: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، والله لو لم تنزل من آيات البشرى غيرها لكفت، هذا الإله القادر المقتدر يتعهد بنصر المؤمنين ويجعله حقاً عليه سبحانه، وحتى لا يشط الخيال بأحدنا، فيظن أن هذا نصر في الآخرة فقط بدخول الجنة، أما الدنيا فليسدها الكافرون، قال سبحانه: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]، هكذا الوعد نصر في الدارين في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، إن وجد المؤمنون فلا بد لهم من نصر، هكذا وعد، وهو سبحانه لا يخلف الميعاد.
استمعوا إلى قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55]، فإذا توفر الإيمان والعمل الصالح والعبادة الخالصة دون الشرك به سبحانه؛ كان الاستخلاف في الأرض، وكان التمكين للدين، وكان الأمن بعد الخوف، من الذي وعد بذلك؟ إنه جبار السماوات والأرض مالك الملك ذو الجلال والإكرام سبحانه.
انظروا إلى هذه الصورة الرائعة الجلية في غزوة بني النضير، يقول سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا [الحشر:2]، أنتم أيها المؤمنون المقاتلون المجاهدون! لما رأيتم مناعة الحصون وبأسها ظننتم أن اليهود لن يهزموا: مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا [الحشر:2]، أي: اليهود، أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ [الحشر:2]، ماذا حدث؟ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ [الحشر:2]، ثم ما هي الغاية؟ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2]، الغاية من القصة أن نعتبر، القرآن ليس تأريخاً لما سبق، القرآن كتاب عظيم ينبض بالحياة ويهدي إلى صراط مستقيم.
أيها المسلمون المعتزون برسولهم صلى الله عليه وسلم! ألم تسمعوا إلى قول رسولكم وحبيبكم محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يقول في الحديث الذي رواه الإمام مسلم رحمه الله: عن ثوبان رضي الله عنه: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)؟ نعم يا إخوة! سيبلغ ملك المسلمين مشارق الأرض ومغاربها بكل ما تحمله الكلمة من معاني.
ألم تسمعوا إلى قول مرشدكم وقدوتكم محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يقول في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والطبراني وابن حبان وصححه الألباني : عن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليبلغن هذا الأمر - يعني: الإسلام - ما بلغ الليل والنهار) ، أي: كل الأرض؟ وأي جزء في الأرض لا يبلغه الليل والنهار؟ (ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين)، والمدر: الحجر أي: بيوت المدن، والوبر: هو الشعر أي: بيوت البادية، فكل بيوت الأرض مدناً وباديةً سيدخلها الإسلام: (إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر) ، وعود من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].
بل اسمع وتأمل: روى الإمام أحمد وصححه الألباني : عن أبي قبيل رحمه الله قال: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وسئل: أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية؟ فدعا عبد الله بصندوق له حلق. قال: فأخرج منه كتاباً. قال: فقال عبد الله : (بينما نحن حول رسول الله نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولاً قسطنطينية أو رومية؟ فقال: مدينة هرقل) ، أي: قسطنطينية تفتح أولاً، والقسطنطينية: هي عاصمة الدولة الرومانية الشرقية آنذاك وهي اسطنبول الآن، ورومية هي روما، وكانت عاصمة الدولة الرومانية الغربية، وكانت هاتان المدينتان معاقل النصرانية في العالم.
ويفهم من الحديث: أن الصحابة كانوا يعلمون منه صلى الله عليه وسلم أن كلتا المدينتين ستفتحان، لكن يسألون أي المدينتين تفتح أولاً، فبشر صلى الله عليه وسلم بفتح القسطنطينية أولاً وقد كان، وتحققت البشارة النبوية بعد أكثر من 800 سنة، وبالضبط في 20 جمادى الأولى سنة (857هـ) على يد الفتى العثماني المجاهد: محمد الفاتح رحمه الله، وستحدث البشارة الثانية لا محالة، وسيدخل الإسلام روما عاصمة إيطاليا.
ولي على هذا الأمر تعليقان:
التعليق الأول: إن بعض العلماء يعتقد أن فتح رومية -أو روما- سيكون بالدعوة إلى الإسلام وبإنشاء المراكز الإسلامية والمساجد فقط، والحق أن الحديث لم يشر إلى ذلك، وأرى أن قصر تفسير فتح رومية على الدعوة دون الجهاد هو نوع من الهزيمة النفسية، إذ هو لا يتخيل أنه بالإمكان أن يحرك المسلمون جيشاً لإيطاليا، فلتكن الدعوة إذاً هي التفسير للحديث، لكن سياق الحديث يوحي بأن الفتح سيكون جهاداً، وسياق الواقع كذلك يوحي بذلك، فقد فتحت القسطنطينية بعد حلقات متتالية من الجهاد المضني المستمر، وقد تفتح رومية بطريقة مشابهة؛ ولذلك جمعت مع القسطنطينية في حديث واحد: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص:88].
التعليق الثاني: إن محمد الفاتح رحمه الله كان يعد العدة ويجهز الجيوش فعلاً لفتح رومية؛ وذلك لاستكمال تحقيق البشارة النبوية، لكنه لم يوفق لذلك، وقد تعجبون مني حين أقول: إنني قد سعدت وحمدت الله على أنه لم يتم له فتح رومية؛ وذلك حتى تبقى بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعث الأمل في نفوسنا؛ وحتى يبقى لنا شيء نفتحه، وإلا فأين دورنا؟ أم ليس لنا دور غير التصفيق لأجدادنا الفاتحين؟ أبداً نحن إن شاء الله على دربك يا رسول الله! سائرون، ولما بقي يا محمد الفاتح ! إن شاء الله فاتحون، وليس وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمدينتين فقط، فقد وعد كما ذكرنا بفتح الأرض جميعاً، ووعد ربنا بنصر المؤمنين، ولقد رأينا ذلك في صفحات تاريخنا، لا أقول: أياماً أو شهوراً أو سنوات، بل رأيناه قروناً عديدة، وكان المسلمون دائماً أقل عدداً وعدة.
رأينا المسلمين ينصرون على عدوهم في بدر مع فارق العدد والعدة، انظروا إلى وصفه سبحانه وتصويره: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:123]، رأينا المسلمين ينصرون في اليمامة بـ 12.000 ضد 40.000 من المرتدين، رأينا خالد بن الوليد يفتح العراق بـ 18.000 ألفاً من الرجال، فيدك حصون الفرس في 15 موقعة متتالية دون هزيمة، وكانت أقل جيوش الفرس 60.000 ، رأينا المسلمين في القادسية ينصرون بـ 32.000 من الرجال على 240.000 ألفاً من الفرس، رأينا المسلمين في نهاوند ينصرون بـ 30.000 على 150.000 من الفرس، رأينا المسلمين في تستر ينصرون بـ 30.000 على 150.000 من الفرس، حدث ذلك في موقعة تستر 80 مرة دون هزيمة، يلتقي المسلمون فيها مع الفرس فيهزمونهم، رأينا المسلمين ينصرون في اليرموك بـ 39.000 على 200.000 من الروم، رأينا المسلمين ينصرون في وادي .... في فتح الأندلس بـ 12.000 على 100.000 قوطي أسباني، رأينا ذلك وأمثاله مئات بل الآلاف من المرات.
اقرءوا التاريخ يا إخوة! والله الذي لا إله إلا هو لا يوجد تاريخ في الأرض مثل تاريخ المسلمين، ولا يوجد دين مثل دين المسلمين، ولا يوجد رجال مثل رجال المسلمين، حتى السقطات التي كانت في تاريخ المسلمين أتبعت بقيام أقوى وأشد.
وتعالوا نقلب صفحات قلائل، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ارتد الجزيرة العربية بكاملها إلا ثلاث مدن وقرية: المدينة ومكة والطائف وقرية هجر بالبحرين، ولم تكن الردة كما يعتقد البعض بمنع الزكاة فقط، بل ارتد كثيرون عن الإسلام بالكلية، ومنهم من فتن المسلمين في دينهم، ومنهم من قتل المسلمين، بل إن منهم من ادعى النبوة وليسوا بالقليلين، وعم الكفر جزيرة العرب، وأيس بعض الصحابة، فكان الموقف أشد مما نحن فيه الآن ألف مرة، حتى قال بعضهم: يا خليفة رسول الله! لا طاقة لنا بحرب العرب جميعاً. الزم بيتك وأغلق بابك واعبد ربك حتى يأتيك اليقين. ظنوا أنه لا أمل في القيام، لكن الله منّ على المسلمين بـأبي بكر الصديق رضي الله عنه الذي قام كالأسد الهصور يردد قولة لو قالها المسلمون لسادوا الدنيا جميعاً، قال: أينقص الدين وأنا حي؟! أينقص الدين وأنا حي؟! أقاتلهم وحدي حتى تنفرد سالفتي، وقام وقام معه المسلمون. فما هو إلا عام من الجهاد والقتال والنزال، حتى أشرقت الأرض من جديد بنور ربها، وأسلمت الجزيرة العربية بكاملها، بل وأخذ أبو بكر الصديق قرارً أحسب أنه أعجب القرارات في التاريخ وهو: إخراج جيشين من جزيرة العرب جيش لفتح بلاد فارس، وجيش لفتح بلاد الروم، عجباً عجباً لك أيها الجبل! دولتان تقتسمان العالم ودولة صغيرة خارجة من حرب أهلية مدمرة! لكنه يا إخوة! موعود صادق: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، ويفتح الله له الدولتين، وتكون انتصارات بلا هزائم، وتمكين بلا ضعف، وأمن بلا خوف.
أسمعتم يا إخوتي! عن ملوك الطوائف؟ أرأيتم كيف قسمت بلاد الأندلس إلى أكثر من عشرين دويلة صغيرة متناحرة مع أختها؟ أرأيتم العمالة والخيانة والخزي والعار؟ أرأيتم السفه والمجون؟ ثم أرأيتم ما شابه ذلك في بلاد المغرب والجزائر والسنغال وموريتانيا في قبائل البربر؟ أرأيتم الزنا كيف فشا؟ والخمور كيف انتشرت؟ أرأيتم السلب والنهب كيف طغى على الأرض؟ ثم جاء رجل واحد يدعى الشيخ: عبد الله بن ياسين يدعو إلى الله على بصيرة، ويربي ويعلم ويجاهد ويصابر، فإذا الرجل رجلان، والرجلان أربعة، والأربعة ألف وألفان وعشرة آلاف، وإذا البلاد تفتح والإسلام ينتشر ودولة المرابطين تقوم، وإذا رجلين وكأنهما ملكان يوسف بن تاشفين وأبو بكر بن عمر يعلمان ويربيان ويجاهدان ويصابران، فإذا بالدولة تتسع، والخير يعم، ويدخل في الإسلام ثلث أفريقيا، ويصبح الجيش 100.000 فارس في الشمال، و500.000 جندي في الجنوب، وإذا بالجيوش تعبر إلى الأندلس فتعيد البسمة إلى شفاه المسلمين، وتشفي صدور قوم مؤمنين وتذهب غيظ قلوبهم، وتذل الشرك وأهله، وتعز الإسلام وحزبه، وتنصر في الزلاّقة بـ 30.000، يهلكون 60.000 من القوط الأسبان، أرأيتم كيف تكون طاقة الإسلام؟ أرأيتم كيف يكون رجال الإسلام؟ أرأيتم كيف يكون شرع الإسلام؟
ولماذا نذهب بعيداً؟ هل أتاكم نبأ فلسطين؟ لماذا الجزع من احتلال دام 50 سنة؟ ألم تسمعوا عن حملات الصليبيين التسع البشعة؟ ألم تعلموا أنهم مكثوا في أرض فلسطين محتلين لها مائتين من السنين، وفي بيت المقدس 92 سنة، ألم تقرءوا أنهم قتلوا في بيت المقدس 70.000 من المسلمين؟ وكانوا يسيرون في دماء المسلمين إلى ركبهم، ثم ألم تر كيف فعل ربك بالصليبيين؟ دارت دورتهم في التاريخ وانتهت دولتهم البشعة القذرة، وقام رجال متوضئون متطهرون، قارئون لكتابهم، خاشعون في صلاتهم، حاملون لسيوفهم معتمدون على ربهم، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، قام رجال أمثال: عماد الدين زنكي ونور الدين محمود الشهيد وصلاح الدين الأيوبي ، قاموا يحرصون على الموت فوهبت لهم الحياة، قاموا يتزينون للجنة، فتزينت الجنة لهم، قاموا مع الله فكان الله معهم، صدقهم الله وعده، ونصر عباده، وأعز جنوده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا هو سبحانه فكانت حطين وكان ما بعد حطين، وكانت أياماً تشرف التاريخ بتدوينها.
ولماذا نقلب في التاريخ فقط؟ أليس في واقعنا ما يشهد لوعد ربنا بالتحقيق؟ نعم. والله1 رأينا وسمعنا ونحن على ذلك من الشاهدين، واعقدوا معي مقارنة بين واقعنا الآن وواقعنا منذ أربعين سنة، وهي ليست في عمر الأمم بشيء، أرأيتم الصلاة في المساجد؟ أرأيتم زوّار المساجد وعمارها من هم؟ وكيف أعدادهم؟ كنا في القديم لا نشاهد إلا أرباب المعاشات وقليل ما هم، أما الآن فالمساجد أكثر من أن تحصى، وعمارها كذلك جلهم من الشباب والأطفال، ألا ينبئ ذلك بمستقبل لهذا الدين؟ أرأيتم الحج والعمرة؟ ملايين! من المسلمين في كل عام من كل حدب وصوب؟ أعلمتم أنه أصبح من المستحيل أن تجد الكعبة خالية من الزوار والطوّاف، أرأيتم اشتياق الرجال والنساء والشيوخ والشباب إلى الحج والعمرة؟ أرأيتم الحجاب وانتشاره؟ في الستينات في الجامعة المصرية لم يكن هناك إلا فتاة واحدة محجبة فقط، ثم دارت الأيام فإذا دخلتم الجامعة الآن ونظرتم إلى النصف المملوء من الكوب بروح التفاؤل وجدتم الآلاف من الفتيات مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات، أما إذا نظرتم إلى نصف الكوب الفارغ فسيدخل في روعكم ما نحن بصدد دفعه، أرأيتم إلى الانتخابات في النقابات والاتحادات وغيرها؟ ألم تلمسوا تعاطفاً وحباً وتضامناً مع من رفع الإسلام شعاراً واتخذه منهجاً وإماماً؟ ألم تشاهدوا بأعينكم كيف يختار المسلمون المسلمين دون أن يعرفوا أشخاصهم لا لشيء إلا لأنهم فقط يعتزون بإسلامهم؟ أرأيتم معارض الكتاب؟ ألم تلحظوا أن أكثر الكتب مبيعاً هي الكتب الإسلامية؟ وأن أشد الأجنحة زحاماً هي الأجنحة الإسلامية؟ وأن أكبر الدور إنتاجاً هي الدور الإسلامية؟ بل أرأيتم كيف أن كل الفئات على اختلاف توجهاتها تحاول الآن أن تلعب بورقة الإسلام حتى وإن كانوا لا يرغبونه؟ وذلك لعلمهم بأن هوى الناس وميلهم أصبح للشرع والإسلام.
نعم. والله! رأينا.. رأينا أحزاباً علمانية تعلن في برامجها أطروحات إسلامية، رأينا بنوكاً ربوية تفتح فروعاً للمعاملات الإسلامية، رأينا محلات لتصفيف الشعر للنساء تفتح أقساماً للمحجبات، رأينا برامج تلفزيونية ما كانت تحادث إلا فنانين وفنانات، وراقصين وراقصات، بدأت تروّج لبرامجها باستضافة علماء المسلمين، رأينا كل ذلك وغيره، وسوف تحمل الأيام المزيد.
ثم تعال يا أخي! ندقق النظرة ونوسع المدارك ونخرج للساحة العالمية! ألم تسمع إلى نصر الأفغان على الروس: فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:4-6]؟
إياك إياك أن تظن أن الروس هزموا لجبال أفغانستان الوعرة، بل هزموا لأن الله هزمهم، وردوا لأن الله ردهم عندما رأى من أهلها رجالاً أمثال الجبال أو أقوى من الجبال.
ألم تشاهدوا جنود إسرائيل يرقصون طرباً ويهللون فرحاً؛ لأنهم فروا كالجرذان وهربوا كالقطيع بمقاومة شعبية قادها حزب الله في بلد صغير كلبنان خرج من حروب أهلية إلى أزمات اقتصادية؟ ألم تشاهدوا كيف احتلت جمهوريات إسلامية بقيصرية روسية ثم بشيوعية بلشفية ما يزيد على 300 عام، قهر وتعذيب وتشريد وتذبيح، حمل المصحف جريمة يعاقب عليها القانون، الإيمان بالله ينكرونه، والإيمان برسوله يجحدونه، ثم تمر السنوات ويولي الليل وتشرق الشمس، فإذا بشعوب ما زالت مسلمة، وبقلوب ما زالت مؤمنة، وبأيد ما زالت متوضئة، وجباه ما زالت ساجدة، فعل من هذا؟ إنه فعل الله الذي وعد: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47].
ثم تعال معي يا أخي! أبعد من ذلك. أرأيت أمريكا كيف كان بها بضعة آلاف مسلم في الستينات، ثم هم الآن 8.000.000 مسلم؟! والله يا إخوة! رأيت في مدينة شقة كانت تستخدم مسجداً في السبعينات فإذا بالأيام تمر فرأيت في المدينة عشرة مساجد، أرأيت الجاليات الإسلامية في الغرب؟ أسمعت عن مدارسها؟ عن مساجدها؟ عن مراكزها؟ عن جرائدها؟ عن مؤتمراتها؟ عن شركاتها؟ أعلمت يا أخي! أن دين الإسلام هو أسرع الأديان نمواً في العالم الآن؟ أعلمت أن موقعاً إسلامياً على الإنترنت يدخله يومياً مليونان من الزائرين، منهم مليون في أمريكا وحدها؟ أليس هذا فتحاً ونصراً وعزاً وأملاً؟
يا إخواني ويا أحبابي! من تقاتلون وأي الأقوام تحاربون؟ أليسوا اليهود ومن عاونهم؟ أليسوا الذين قال عنهم ربنا: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا [آل عمران:112]؟ أليسوا الذين قال عنهم ربنا: لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ [الحشر:14]؟ أليسوا الذين قال عنهم ربنا: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [البقرة:96]؟ هؤلاء هم اليهود: أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:13-15]، إن كان اليهود أو كانت الأرض جميعاً معهم أتخشونهم؟ أتخشون كثرتهم وأحزابهم وتجمعهم؟ ألم يخاطبهم الله وأمثالهم بقوله: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:19]؟ أتخشون عدتهم؟ ألم يقل ربنا: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:12]؟ أتخشون أموالهم؟ ألم يقل ربنا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36]؟ أتخشون عقولهم وجوارحهم؟ ألم يصفهم ربنا بقوله: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].
هل تظنون أيها الإخوة المسلمون! أن حياة هؤلاء نصر بلا هزيمة وعز بلا ذل؟ شاهدنا أمريكا المتكبرة تخرج مهرولة ومولولة من فيتنام التي لا ترى على الخارطة بـ 59.000 ألف قتيل.
وشاهدناها مرة ثانية ومرة ثالثة تخرج بنفس الهرولة والولولة من الصومال ولبنان، شاهدنا مفاعل تشرنوبل المحكم ينفجر ويلوث الآلاف من الأفدنة، شاهدنا صاروخاً أسموه تشالنجر أو المتحدي قالوا عنه: إنهم بلغوا فيه حد الكمال، تعالى الله عما يشركون: وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ [يونس:24]، انفجر الصاروخ الكامل بعد ثوان معدودات من إطلاقه وأمام أعينهم؛ ليزيد من حسرتهم.
شاهدنا فيضاناً يغرق مدينة في ساعتين، مدينة نيوأورليانز في أمريكا في مايو سنة (1995م): فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر:11-12]، شاهدنا عاصفة ثلجية تدفن السيارات تماماً وتغلق الشوارع وتوقف الحياة ثلاثة أيام متصلة في نيويورك المدينة العصرية الحديثة.
شاهدنا إعصاراً يحمل سيارات النقل الضخمة ويقذف بها فوق المنازل، شاهدنا ريحاً صرصراً في يوم نحس مستمر تقلع الشجر في الغابات، وتمحو الحياة في لحظات، شاهدنا ذلك ولكن يا للحسرة! لم نشاهد هناك مدّكراً، شاهدنا مجتمعاً مهلهلاً مفككاً منحطاً يعيش على الرذيلة ولا يهتم بالفضيحة، أهواؤه تسيره ورغباته تحركه وشهواته تسيطر عليه وتدمره.
انظروا معي إلى هذه الأرقام تصف حال المراهقين الأمريكان الذين لم يبلغوا بعد ثمانية عشر عاماً من العمر والذين سيحكمون بلادهم بعد عشر سنوات:
55% من هؤلاء الشباب ارتكبوا جريمة الزنا، ترتفع النسبة إلى 80% في المدن الكبرى، وتنخفض إلى 33% في المناطق الريفية، أي: أن أشرف مناطق أمريكا يرتكب فيها الزنا بنسبة 33%، هذا تحت الثامنة عشرة من العمر. فإذا صعدنا فوق ذلك قاربت النسبة 90%، 350.000 حالة حمل بدون زواج كل عام لبنات أصغر من ثمانية عشر عاماً، وهذا عدد أقل بكثير من الحقيقي، وذلك لكثرة الإجهاض.
24% من العائلات الأمريكية ليس فيها أب؛ إما لأن الأم لا تعرف الأب؛ لأنها ارتكبت الزنا مع أكثر من رجل؛ وإما بسبب الطلاق، و40% من الشباب المراهق يجربون المخدرات، أما الخمور فحدث ولا حرج، الرقم أكبر من أن يحصى، الجرائم زادت في مدينة دالاس الأمريكية بنسبة 70% في عام واحد.
السبب الثالث للوفاة في المراهقين هو الانتحار، الانتحار هو السبب الثالث للوفاة في المراهقين الذين سيحكمون أمريكا بعد ذلك، أمريكا وحدها تسجل 32.000 حالة انتحار كل عام.
المرض بالقمار الإجباري -أي: إدمان القمار- واحد من كل سبعة من المراهقين لا يستطيع أن يتخلى عن القمار.
العنصرية في أمريكا على أشد ما تكون في داخل أمريكا، والتفرقة بين السود والبيض تلمس يومياً، وشتان بين منازل وشوارع ومدارس ومحال البيض ومثيلاتها عند السود، أمريكا تعيش على بركان من العنصريات، واذكروا ثورة السود في كاليفورنيا قبل عدة سنوات، هذه هي أمريكا يا إخوة! من الداخل، هذا هو مجتمع أمريكا المهلهل الذي نخشاه.
أخي وحبيبي ورفيقي في طريق الله! أتشك في نصر على قوم كهؤلاء؟! أتشك في نصر على جيش غالبيته من الزناة والشواذ؟! أتشك في نصر على جيش أشرب في قلبه حب الخمور والمنكرات؟!
أخي وحبيبي ورفيقي في طريق الله! لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:196-197]، وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ [الأنفال:59].
أخي! يا من تظن أن النصر قد تأخر. اعلم أن النصر لا يأتي إلا بعد أشد لحظات المجاهدة، ألم تسمع إلى قوله تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا [يوسف:110]، أي: ظن أقوامهم الكفار أن الرسل قد كذبوا: جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف:110]، في هذه اللحظة التي ظن فيها الجميع الرسول وقومه أن الأمر قد وصل إلى نهايته في التكذيب والظلم والإعراض والشك، في هذه اللحظة التي وصل فيها الأذى للدعاة مداه، وقد ثبت الدعاة على مبادئهم، هنا في هذه اللحظة فقط جاءهم نصرنا، اسمع أيضاً إلى قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:214]، ماذا حدث للذين من قبلكم؟ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة:214]، في هذه اللحظة التي بلغ فيها السيل الزبى، وبلغ الصبر نهايته، في هذه اللحظة المجيدة يقول سبحانه: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
نعم. أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، ألم تلاحظ في السيرة النبوية أن أشد لحظات الابتلاء للمؤمنين كانت في غزوة الأحزاب حيث وصفها ربنا بقوله: وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب:10-11]، ألم تلحظ أنه بعد غزوة الأحزاب دخل المسلمون في فتح يتلوه فتح؟ بعد أشد لحظات المجاهدة جاءت الحديبية ثم مكة ثم الطائف ثم جزيرة العرب بكاملها، أمجاد تعقبها أمجاد، وأيام نصر وفرح وتمكين.
أخي! يا من تظن أن النصر قد تأخر. اعلم أن الأدب مع الله يقتضي عدم استعجاله، وأن حكمة الله البالغة اقتضت أن يختبر أحبابه وأصفياءه، وأن النصر يأتي في وقت يعلم الله فيه أن خير المؤمنين أصبح في النصر وليس في انتظار النصر.
يروي البخاري : عن خباب بن الأرت رضي الله عنه أنه قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟) ألم شديد وإيذاء عظيم، جلد وحرق وخنق وشنق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) ، سبحان الله! تستعجلون بعد كل هذا التعذيب في مكة، كان خباب بن الأرت يستعجل؟ نعم. ما زال هناك أشياء أخرى، ما زال هناك ترك للمال وترك للأهل وترك للديار، ما زال هناك صراع ونزال، ما زال هناك جهاد وشهادة.
أخي! يا من تظن أن النصر قد تأخر. اعلم أن النصر لا يأتي إلا بيقين لا يساوره شك ولا تخالطه ريبة: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ [الحج:15]، أرأيت صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كانوا في الأحزاب لا يأمنون على شيء؟ كيف كانوا محاصرين ومهددين؟ ثم هم يستمعون إلى بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمور تفوق الخيال، فإذا هم مصدقون وبالبشرى موقنون، انظروا كيف يحكي البراء رضي الله عنه: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يضرب الحجر ويقول: بسم الله، ثم ضرب ضربة وقال: الله أكبر! أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمراء الساعة، ثم ضرب الثانية فقطع آخر فقال: الله أكبر! أعطيت فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن، ثم ضرب الثالثة فقال: بسم الله، فقطع بقية الحجر فقال: الله أكبر! أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني) ، والصحابة في هذا الحصار يستمعون إلى بشرى فتح الشام وفارس واليمن، ويصدقون عن يقين، وكأنهم يرونه رأي العين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخي! يا من تظن أن النصر قد تأخر. اعلم أن الأجر غير مرتبط بالنصر، ولكن بالعمل: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97]، واعلم أنه كلما حسن عملك عظم أجرك، وكلما زاد جهدك كمل ثوابك، وأنك إن لم تر النصر بعينيك فسيراه أبناؤك وأحبابك.
إخواني وأحبابي! أحمل لكم آية عجيبة وكل آيات الله عجيب، كنز من كنوز المنّان وعطية من عطايا الرحمن: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، أتعلمون أيها الإخوة! متى نزلت هذه الآية؟ نزلت بعد أحد، هل كان نزولها بعد هزيمة؟ نعم. ليعلم الله المؤمنين أن العزة والعلو لا يتأثران بهزيمة مرحلية ولا يرتبطان بنصر مرئي، ولا يعتمدان على تمكين مشاهد؛ ليعلم الله المؤمنين أن الأيام دول، وأن للتاريخ دورات، فلهذا دورة ولهذا دورة، أما الدورة الأخيرة فللمؤمنين.
أيها المؤمنون عباد الله! أنتم الأعلون؛ لأن إلهكم الله الذي لا إله إلا هو سبحانه قال: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا [فاطر:44].
أنتم الأعلون؛ لأنكم أتباع النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم خير الخلق وسيد الرسل، والماحي الذي يمحي الله به الكفر، والحاشر الذي يحشر الناس على قدمه، والعاقب الذي ليس بعده نبي صلى الله عليه وسلم.
أنتم الأعلون؛ لأن كتابكم القرآن فيه نبأ من قبلكم ونبأ ما يأتي بعدكم، وحكم ما بينكم، من خالفه من الجبابرة قصمه الله عز وجل، ومن ابتغى العلم في غيره أضله الله عز وجل، وهو حبل الله المتين، ونوره المبين، وشفاؤه النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يعوجّ فيقوّم، ولا يزيغ فيستقيم، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق من كثرة الرد.
أيها المؤمنون! أنتم الأعلون؛ لأن شريعتكم الإسلام ديناً ودنيا، جسداً وروحاً، عقلاً وقلباً، ما ترك الله في شريعته من شيء إلا وضحه وبينه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].
أنتم الأعلون؛ لأنكم الأكمل أخلاقاً: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ، أنتم الأعلون؛ لأنكم الأقوى رابطة: لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:63]، أنتم الأعلون؛ لأن الملائكة تثبتكم: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:12]، أنتم الأعلون؛ لأن الطمأنينة في قلوبكم: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:126].
أيها المؤمنون! أنتم الأعلون؛ لأن الجنة موعدكم: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ [المؤمنون:109-111]، أنتم أيها المؤمنون! الفائزون.
وختاماً: أخي وحبيبي ورفيقي في طريق الله! يا مسلم يا عبد الله! يا من سيناديك الحجر والشجر بلسان الحال أو بلسان المقال بكليهما نؤمن ونصدق، يا مسلم يا عبد الله! جفّف دمعك، واجبر كسرك، وارفع رأسك، واعلم أن الأيام القادمة لك لا عليك، وأن المستقبل لدينك لا لدين غيرك، وأن العاقبة للمتقين، واعلم أيضاً أن مع الصبر نصراً، وأن مع العسر يسراً، وأن أنوار الفجر لا تأتي إلا بعد أحلك ساعات الليل، وأن الله ناصرك ما دمت ناصره، ومعك ما دمت معه، وهاديك إلى سبيله ما دمت مجاهداً في سبيله: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً كثيرا.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة فلسطين أمة لن تموت للشيخ : راغب السرجاني
https://audio.islamweb.net