اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة فلسطين جريمة التقسيم للشيخ : راغب السرجاني
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، ربنا أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا، ربنا اجعلنا لك شكّارين، لك ذكّارين، لك رهّابين، لك مطواعين، إليك مخبتين أوّاهين منيبين، ربنا تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وأجب دعوتنا وثبت حجتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخائم قلوبنا. آمين آمين.
وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين.
أما بعد:
فمع المحاضرة السابعة من المحاضرات الخاصة بقضية فلسطين.
وتحدثنا في المحاضرات الثلاث السابقة عن المراحل التي قام اليهود بتنفيذها لإقامة دولتهم في فلسطين، وذكرنا منها ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: مرحلة الفكرة والخطة، وبدأت منذ مؤتمر بال أو قبله بقليل، واستمرت حتى وضعوا أيديهم في يد بريطانيا.
المرحلة الثانية: وهي مرحلة التأسيس، وفيها تعاونت بريطانيا مع اليهود في إسقاط الخلافة العثمانية عن طريق خلع السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله، وعن طريق حزب الاتحاد والترقي العلماني، ومصطفى كمال أتاتورك والشريف حسين وغير ذلك من الأمور، إلى أن دخلت إنجلترا إلى أرض فلسطين محتلة لها، وفارضة سيطرتها على كل أرجائها.
المرحلة الثالثة: هي مرحلة التهويد، وفيها سعى اليهود يعاونهم أصدقاؤهم من الإنجليز في تحويل فلسطين من دولة إسلامية إلى دولة يهودية، وذلك عن طريق أربعة محاور كما ذكرنا في المحاضرة السابقة:
أولاً: زيادة الهجرة اليهودية إلى فلسطين وحققوها بنجاح كبير.
ثانياً: محاولة شراء الأراضي الفلسطينية، وكان نجاحهم في ذلك نجاحاً طفيفاً محدوداً.
ثالثاً: السيطرة على الاقتصاد في فلسطين، وبرعوا في هذا المجال تحت رعاية الإنجليز.
رابعاً: الاهتمام بالتعليم اليهودي والعبري والإعلام الصهيوني، ونشر أفكار التمسك باليهودية والاعتزاز بها مع زرع الكراهية في قلوب الأطفال اليهود لأهل فلسطين.
لم يسكت الفلسطينيون على هذه العملية التهويدية الإحلالية البشعة، ولكن قاموا جميعاً يقاومون الطغاة من الإنجليز واليهود ابتداءً من سنة 1919م وإلى سنة 1948م حيث قامت دولة إسرائيل.
نستطيع أن نقسم مراحل المقاومة الفلسطينية إلى مرحلتين رئيسيتين:
المرحلة الأولى: وهي مرحلة المظاهرات والمسيرات والمؤتمرات.
واستمرت من سنة 1919م وإلى سنة 1935م أي: حوالي 16 سنة، قاد المقاومة في هذه الفترة المفتي الشيخ أمين الحسيني رحمه الله، وتلاه آخرون حتى سنة 1935م كانت هذه المرحلة الأولى.
وفي سنة 1935م انتقلت المقاومة الفلسطينية من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية، من مرحلة المظاهرات والخطابة إلى مرحلة الجهاد والشهادة.
المرحلة الثانية: مرحلة الجهاد والشهادة، وذلك تحت قيادة البطل الفذ الشيخ عز الدين القسام رحمه الله الذي كان فعلاً عزّاً للدين ونصراً له، والذي ربى جيلاً عظيماً من المجاهدين الواعين الفاهمين لقضيتهم والمتحركين لها، والمضحين في سبيلها بالغالي والثمين.
استشهد رحمه الله بعد قيامه بأيام، لكن أبداً ما ماتت الثورة بل زادت وتوهجت، وحمل الراية من بعده شيخ كبير طاعن في السن، لكنه يتحرك بعزيمة الشباب، الشيخ المجاهد فرحان السعدي والذي ما لبث أن أُعدم وهو في الثمانين من عمره، ثم تسلم الراية من بعدهم بطل جليل من أبطال فلسطين -وما أكثرهم- ذلك هو البطل عبد القادر الحسيني رحمه الله، والذي قاد حركة الجهاد المسلح في فلسطين ضد احتلال الإنجليز واليهود، وذلك بدءاً من سنة 1936م إلى سنة 1948م، أي: أنه ظل 12 عاماً رافعاً سلاحه معتزاً بجهاده، مضحياً بنفسه وماله وجهده ووقته، ما لانت له قناة، وما فترت له عزيمة، وما انحنى له رأس، وما انكسرت له شوكة، حتى لقي شهادة كريمة عظيمة في عام 1948م. صدق فيه وفيمن سبقه من رواد وفيمن تبعه من مجاهدين قول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، على من يغزوهم قاهرين، لا يضرهم من ناوأهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك. قيل: يا رسول الله! وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس).
وأعطيكم في هذه المحاضرة مثالاً واحداً لجهاد عبد القادر الحسيني رحمه الله ومن معه من أبطال فلسطين: ثورة عام 1937م و1938م و1939م ثلاث سنوات متصلة لم تنقطع فيها الثورة، واسمعوا معي هذه الأرقام:
في سنة 1937م قام المجاهدون من أهل فلسطين بـ (506) عملية فدائية، وفي سنة 1938م قام المجاهدون من أهل فلسطين بـ (5708) عملية فدائية، وفي سنة 1939م قام المجاهدون من أهل فلسطين بـ (3315) عملية فدائية.
سبحان الله! أرقام ضخمة جداً، فالعمليات الفدائية التي تمت في الانتفاضة الأخيرة في سنة 2000م على عظمها لم تبلغ بعد معشار ذلك، ما زال أمامنا الكثير، تاريخ طويل وجهاد عظيم، وكفاح مرير، وعيون ساهرة، وشعوب صابرة، ودماء طاهرة.
بلغت خسائر بريطانيا في هذه العمليات عشرة آلاف قتيل، ومن اليهود مثلهم، فبلغ عدد الشهداء اثنا عشر ألف شهيد، واعتقل خمسون ألف معتقل، وحكم بالإعدام على 146 رجلاً، ودمر 5000 منزل.
ومع ذلك يا إخوة! ما زلنا في بداية الطريق، لا علم بغير عمل، ولا جهاد بغير تضحية، ولا نصر بغير صبر، ولا ليل بغير نهار.
هل سكتت إنجلترا عن هذه الصولات والجولات؟ ماذا تفعل إنجلترا أمام الصدور المفتوحة للرصاص المتمنية للموت المشتاقة إلى الجنة. ماذا تفعل؟
سبحان الله!!
ما زال في جعبتها أسلحة. تلك الماكرة: وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم:46] استخدمت إنجلترا أسلوباً تقليدياً، لكنه فعّال، أسلوباً قديماً حديثاً، أسلوباً بسيطاً معقّداً، ما أسهل استخدامه وما أصعب مقاومته، أسلوب فرّق تسد، ماذا فعلت؟
انتبه واسمع واعتبر: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الرعد:3]، شجّعت بريطانيا بعض الفصائل الفلسطينية الموالية لها على تكوين ما يُعرف بفصائل السلام، بزعامة رجل اسمه فخري النشاشيبي . نتيجة الانتفاضة الكبيرة ونتيجة فشل الإنجليز واليهود في قمعها، فكّروا في إنشاء فصائل السلام، مهمتها تسكين الشعب بوعده بالسلام مع بريطانيا واليهود، مهمتها وقف نزيف الدماء اليهودية والإنجليزية قبل الفلسطينية، مهمتها تمثيل الشعب في المحافل والمؤتمرات، مهمتها تعقب المجاهدين ودل البريطانيين عليهم، مهمتها جر المجاهدين إلى معارك جانبية، مهمتها وقف الانتفاضة والوعد بحكم تحت رعاية إنجليزية.
هكذا قامت فصائل السلام تدعو للسلام، وسبحان الله! نتحدث عن التاريخ وكأنا نراه رأي العين، ترى ماذا كانت حجتهم أولئك الذين حملوا السلاح باسم السلام، وضربوه في صدور إخوانهم، أو وضعوا أيديهم في يد عدوهم يدلونهم على المجاهدين؟ أتراهم يعتقدون أن خير فلسطين في موالاة عدوها؟ أم تراهم يعلمون الحق ويتبعون غيره؟
إن كنت لا تدري فتلك مصيبةوإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
تسارعوا إلى نصرة أعدائهم ظناً أنه لا طاقة لهم بهم: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:52]، والمؤمنون المجاهدون الصابرون الصادقون يتعجبون من هذه الأفعال، يتعجبون من الذين يرفعون سلاحهم في صدور إخوانهم ويعتقلونهم، ثم هم يعلنون بكل صفاقة أنهم معهم يدافعون عن الأرض المقدسة: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ [المائدة:53]، وقام صراع وقتال وعراك بين الإخوة والأحباب، أخّر -ولكن بفضل الله لم يوقف- حركة الجهاد لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ [يوسف:111].
نعم يا إخوة! التاريخ فيه تفصيل لكل نقطة، كل قضية سوف تواجه المسلمين إلى يوم القيامة، وهذا القرآن والسنة المطهرة فيها تفصيل كل شيء: وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف:111].
في أواخر هذه المرحلة التي نحن بصدد الحديث عنها أعني مرحلة التهويد ابتلي العالم بأزمة مروعة عمت الأرض كلها، تلك هي الحرب العالمية الثانية، والتي بدأت في سنة 1939م واستمرت إلى سنة 1945م ست سنوات كاملة من الصراع بين معسكرين كبيرين في العالم:
المعسكر الأول: هو معسكر الحلفاء، ويضم إنجلترا وفرنسا وأمريكا وروسيا.
المعسكر الثاني: هو معسكر دول المحور، ويضم ألمانيا وإيطاليا ثم اليابان.
وكانت حرباً دامية حقاً، فقد العالم فيها خمسين مليوناً من البشر في واحدة من أشد حروب العالم ضراوة، كانت للحرب تداعيات خطيرة على كل بلاد العالم، ليس المجال هنا أن نذكرها بالتفصيل، ولكن ما يهمنا هو انعكاسات هذه الحرب الضروس على الموقف في فلسطين، ترى كيف كان موقف اليهود؟ وكيف كان موقف العرب؟ وما أثر ذلك على قيام دولة إسرائيل داخل فلسطين الحبيبة؟
والحق أقول: إن اليهود أداروا أزمة الحرب العالمية الثانية كأحسن ما تدار الأزمات، حتى المصائب التي نزلت على اليهود أثناء الحرب استطاعوا أن يوظفوها لصالحهم، بينما لم يكن العرب على المستوى المطلوب في إدارة هذه الأزمة الطاغية، وأنا أقول: العرب ولا أقول: المسلمين؛ لأنه بانتهاء الخلافة العثمانية سقطت كل صبغة إسلامية للقضية على مستوى العالم الإسلامي أجمع، ولم يبق من ينادي بإسلامية القضية إلا أفراد معدودون وجماعات قليلة داخل وخارج فلسطين.
ترى كيف تعامل اليهود مع الحدث؟
أولاً: أعلنوا الانضمام فوراً إلى المعسكر البريطاني، وتبعاً لذلك بدءوا التدريب بشدة في معسكرات الإنجليز سواء في فلسطين أو خارج فلسطين، بل وطالبوا بإنشاء مصانع للسلاح داخل فلسطين؛ ليكونوا درعاً للإنجليز في المنطقة، وفعلاً أنشأت مصانع السلاح الحديثة داخل فلسطين، وكانت بعد ذلك نواة لتسليح إسرائيل بعد القيام في سنة 1948م، فقد طلبوا جلب كميات كبيرة من الأسلحة الثقيلة وتحولت العصابات اليهودية إلى جيش مدرب يعلم كيف يتعامل مع الدبابات والمدرعات والصواريخ والطائرات، وهذا كله ولاشك أفاد في حرب 1948م القادمة.
ثانياً: زيادة التهجير إلى فلسطين، فنظراً لواقع أوروبا المر، ولكثرة المشردين والمهددين بالقتل؛ فُتح باب الهجرة إلى فلسطين، وتزايد اليهود القادمون من كل مكان في أوروبا، وبالذات من ألمانيا وأوروبا الشرقية.
ثالثاً: قضية النازية، عندما أعلن اليهود انضمامهم إلى معسكر الحلفاء قام هتلر بمطاردة اليهود في فرنسا وألمانيا، وكما ذكرنا من قبل فإن اليهود في هذا الوقت الحرج لم يضيعوا الفرصة، بل إنهم كانوا يرشدون هتلر إلى أماكن اليهود المختبئين في نظير ترحيل اليهود المرموقين إلى فلسطين، غير أن اليهود استفادوا من قصة النازية وهتلر أكثر من ذلك، فضخموا في العالم جداً أرقام المذبوحين في سجون هتلر ، وفي معسكرات الاعتقال الألمانية المشهورة، والحق أن هتلر قتل عدداً ضخماً جداً من اليهود يصل إلى مليون يهودي، لكن اليهود لم يكتفوا بهذا الرقم فرفعوه كذباً وزوراً إلى ستة ملايين قتيل يهودي، وهم بذلك يلفتون أنظار العالم إلى المأساة الضخمة، فيتحدث العالم عنهم، ولا يتحدث عن غيرهم، فكثير من الدول فقد مليوناً، لكن ليس كل الدول يفقد ستة ملايين، ليس هذا فقط، بل أطلقوا على عملية إبادة اليهود اسماً معاني أخرى ذات مغزى، فسموها الهولوكست، يعني: التضحية الدينية أو المقدسة، والتي تتمثل في تقديم قربان للآلهة، وكأنها لحظة مقدسة قُدّم فيها اليهود قرباناً للآلهة افتداء لأهل الأرض، وبذلك يجذبون مشاعر الخلق ناحيتهم، ويحركون قلوبهم إلى جانب عقولهم، واليهود من أكثر الناس استغلالاً للأحداث وتزويراً للتاريخ، كيف لا وهم لم يترددوا في تزوير التوراة كتاب الله: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:75].
زرت في واشنطن متحفاً ضخماً هائلاً اسمه متحف الهولوكست، أقامه اليهود في العاصمة الأمريكية، يصورون فيه القصة المأساوية التي عاشها اليهود أيام النازية في ألمانيا وأوروبا الشرقية وفرنسا، ويمدونه بالصور والتماثيل والكتيبات والأفلام والوثائق، وكان دخول المتحف هذا مجاناً، مع كل ما أُنفق عليه من أموال، ومع أنه في أغلى وأرقى منطقة في واشنطن، إلا أنهم لا يريدون من الداخلين مالاً، بل يريدون أن يشجعوا العالمين على دخوله، وعندما يتعاطفون معهم بعد ذلك سيأتي الربح آنذاك وفيراً، وأسفت جداً أني لم أشاهد متحفاً ولو بسيطاً يصور ما يحدث في فلسطين من حقائق ولا أريد أكاذيب، أو يصور ما يحدث في البوسنة أو في كوسوفا أو في الشيشان أو في أي بقعة إسلامية تنزف. وما أكثرها!
إذاً: اليهود في الحرب العالمية الثانية استفادوا من الأزمة الأشياء التالية:
أولاً: بأنهم زودوا أنفسهم بالسلاح بعد انضمامهم إلى بريطانيا.
ثانياً: زادوا من التهجير اليهودي إلى فلسطين.
ثالثاً: استغلوا قصة تعذيب الألمان لهم في كسب ود العالم وعطفه.
رابعاً: إنشاء فيلق تحت إمرة الأمم المتحدة، وهذا أمر عجيب، فالأمم المتحدة تكون فيالق عسكرية للقيام بمهام مختلفة في أنحاء الأرض، فعرض اليهود تكوين فيلق عسكري تحت إمرة الأمم المتحدة، ومن العجب أن الأمم المتحدة وافقت وأصبح هناك فيلق يهودي معترف به من الأمم المتحدة، مع أن اليهود لم يكونوا دولة بعد، وليس لهم كيان مُعترف به رسمياً، مما يوحي أن وراء الأمور أمور، وأن خلف الستار لاعبون أخفياء، ولكن ليسوا أبداً بأتقياء.
خامساً: وهو أمر عجيب أيضاً يوضح مدى انتهاز اليهود للفرص، الحرب العالمية الثانية غيّرت كثيراً من الموازين في العالم، قامت أمم وسقطت أخرى، وتوارت عن الأنظار على استحياء أمم ثالثة..
على سبيل المثال: قامت أمريكا قوية فتية وظهرت على الساحة بوضوح، وعلم الجميع أنها تستعد لقيادة العالم، وخاصة بعد الأسلحة النووية الفتاكة التي ألقيت على هيروشيما وناجازاكي، وهذه وإن كانت في عرف الأخلاق فضائح، إلا أنها في عرف القوة مكارم وفضائل.
قام الاتحاد السوفييتي أيضاً بعد الحرب منتصراً فهو في معسكر الحلفاء الفائز، وأوقف زحف هتلر في أرضه، مع أنه على حساب سبعة عشر مليوناً من القتلى الروس لكنه انتصر في النهاية، ويبدو أنه سيكون قوة لا بأس بها في المستقبل.
بريطانيا الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس -كما كانوا يقولون- خرجت أيضاً منتصرة، ولكنها جريحة وجرحها عميق، فإن الأرض قد بدأت تتناقص عليهم من أطرافها، وبدأت الشعوب المستعمرة تفكر في التحرر، وخسائر الإنجليز كبيرة، ويبدو أنها لم تستطع أن تجاري العملاقين الجديدين أمريكا والاتحاد السوفييتي، فأخذت تنسحب من الساحة حتى توارت بالحجاب.
ألمانيا خرجت ممزقة من الحرب سقطت سقوطاً ذريعاً، وقُسّمت إلى دولتين وضُرب بينهما بسور على كلتا جنبتيه عذاب.
إن اليهود ينظرون إلى كل هذه الأحداث المتلاحقة والمتسارعة، والتاريخ لا يجد وقتاً للتسجيل، فجلسوا مع إبليس يفكرون، مع من نعمل وإلى أي المعسكرات ننضم؟
الاتحاد السوفييتي وإن كان قوياً وله مستقبل على الساحة العالمية إلا أن اليهود يعلمون نظمه وقوانينه، فهم الذين ابتدعوها على يد إبليسهم كارل ماركس ، وهم يعلمون أيضاً أن الشيوعية منهج، ولا تستقيم الحياة مع منهج يتعارض مع الفطرة، سواء من الناحية الاقتصادية أو من الناحية العقائدية، فاليهود يتوقعون له سقوطاً بعد حين، وقد يكون الحين قريباً، واليهود لا يريدون أن يسندوا ظهورهم إلى بناء قد يتهالك، ثم ماذا يريد اليهود من الاتحاد السوفييتي أكثر من ذلك؟ فهم بالفعل يديرونه من وراء الستار.
أمريكا دولة واعدة على الساحة العالمية تتميز عن الاتحاد السوفييتي بأنها مفتوحة ومتحررة ورأسمالية، والمال اليهودي الغزير سيجد هناك أرضاً خصبة، هذه البلاد الرأسمالية تعبد المال، والمال مع اليهود، فستعبد أمريكا اليهود، وستكون أمريكا تابعاً لا متبوعاً، وستكون أمريكا أيضاً في حسابات اليهود أطول عمراً من الاتحاد السوفييتي؛ لأن فيها ديمقراطية والديمقراطية أكثر عدلاً من الشيوعية، وإن كان في كليهما أخطاء جسيمة.
إذاً: أمريكا اختيار مناسب، لكن تبقى مشكلة كبيرة، وهي إنجلترا ماذا يفعل اليهود معها، وهم يعلمون أنه لولا إنجلترا ما كان اليهود؟ إنجلترا هي التي ساعدت وأيدت ودبرت، هي التي زرعت اليهود في فلسطين، هي التي أسقطت الخلافة العثمانية، هي التي أمدت بالسلاح، هي التي درّبت في المعسكرات، اليهود يسبحون في عطايا إنجلترا، واذكروا كيف كان تيودور هرتزل وحيداً يطلب مستعمرة في القدس، والآن هم ستمائة ألف بعد أن وضعوا أيديهم في أيدي الإنجليز، ماذا يفعل اليهود مع إنجلترا؟ أتظنون أن اليهود يحفظون الجميل لإنجلترا؟ ما عهدنا ذلك في اليهود، اليهود لا يعرفون إلا المصلحة، اليهود باعوا اليهود إخوانهم وأبناءهم وعشيرتهم في أوروبا، باعوهم لـهتلر في نظير مصلحتهم أفلا يبيعون إنجلترا؟ فلتذهب إنجلترا كما يقولون إلى الجحيم، ثم إن أمريكا هي وريثة إنجلترا وهي الامتداد الطبيعي لها، وبينهما روابط العرق والدين واللغة والفكر، ويبدو أن إنجلترا ستكون في المستقبل التابعة الذليلة لأمريكا، فلن تغضب إنجلترا كثيراً إذا استبدلت بسيدتها أمريكا.
أسرع اليهود وأداروا دفتهم إلى أمريكا، لقاءات ومفاوضات وتحالفات وقسم بالأيمان المغلظة بالوفاء المطلق والتعاون المستديم، وفي سرعة وخفة نقلوا مؤتمرهم السنوي الذي يُعقد في أوروبا -منذ سنة 1897م- وللمرة الأولى في تاريخهم إلى نيويورك في سنة 1942م يتزلّفون إلى الزعيم الجديد ومستقبلاً سيقودونه، أمريكا وجدتها فرصة جيدة جداً، فاليهود سيكونون الذراع الطولى لها في الشرق الأوسط، والدرع البشري الواقي في هذه المنطقة الملتهبة، وسيكون اليهود قاعدة متقدمة لأمريكا، ويبدو أنهم ولحداثتهم في القيادة لا يدركون أن من يربي الثعابين لا بد وأن يُلدغ منها، وستدور الأيام وسيركب اليهود على أكتاف أمريكا، يدلدلون أقدامهم، ويضعون أيديهم على أعين الأمريكان، ويسيرونهم أينما شاءوا وكيفما شاءوا، والأمريكان لا يعترضون، فهم قد فقدوا نعمة الإبصار، المهم أن المصالح تلاقت، وأُبرم العقد بين الطرفين وتصالحا على اغتيال فلسطين، وتصالحا أيضاً تصالحاً غير مُعلن على إلقاء بريطانيا جانباً، أو توضع في دار للمسنين فليس هناك متسع لها.
لاحظت هذا إنجلترا، لكنها غضت الطرف فالأيام دول، ومن الحكمة أن تتصرف بحجمها الجديد؛ لئلا تفقد سيداً من الأسياد قد لا يعوض.
اليهود ما اعتادوا على الرحمة وبدءوا يعاملون إنجلترا بصلف وغرور، فقد أسندوا ظهورهم إلى حائط جديد، واعترضت إنجلترا باستحياء، إذ قام اليهود بما لم يتخيله الإنجليز، قاموا بعدة اغتيالات للقيادات الإنجليزية في فلسطين، يعجّلون خروجهم بقتلهم سبحان الله!! أي خلق هؤلاء؟ طراز قبيح ما مر في التاريخ مثله، ولن يتكرر في التاريخ مثله، هؤلاء هم اليهود مع أصدقائهم، فكيف بهم مع أعدائهم؟
كان هذا هو موقف اليهود أيام الحرب العالمية الثانية، استفادوا أكبر استفادة ممكنة مع أن الناظر نظرة سطحية قد يشعر أنهم قد خسروا الضحايا في ألمانيا وأوروبا، لكنهم خرجوا من الحرب العالمية الثانية بكل ما سبق ذكره وألخصه فيما يلي:
1-سلاح ضخم جداً ليس فقط سلاح العصابات، ولكن سلاح الدول.
2-أعداد كبيرة من المهاجرين.
3-تعاطف عالمي بعد تفخيم الهولوكست في ألمانيا.
4-فيلق في الأمم المتحدة تمهيداً للاعتراف بدولة إسرائيل.
5-خرجوا بأمريكا وأداروا ظهرهم لإنجلترا.
ماذا كان موقف العرب في الحرب العالمية الثانية؟
اتجهوا إلى الدولة الصديقة إنجلترا، وساعدوها بمدها بالأفراد المتطوعين في حرب لا ناقة للمسلمين فيها ولا جمل، بل إنهم ضاعفوا من إنتاجهم الزراعي لكفاية جيوش الحلفاء، بل إن هؤلاء الحكام أتوا بعلماء أفتوا بأن الحرب مع الإنجليز ضد ألمانيا هو نوع من الجهاد في سبيل الله.
وأما الشعوب فقد اتجه هواها إلى ألمانيا على اعتقاد أن عدو عدو الأمة هو صديق للأمة، حتى إن بعض القيادات في فلسطين ذهبوا يطلبون مساعدة من ألمانيا لتحرير فلسطين، والواقع يا إخوة! أنه ليس من سنة الله أن ينصر المسلمون بالكافرين، ولو حدث نصر للمسلمين بجيش الكافرين فإنه يكون نصراً بلا شرف وفوزاً بلا عز، ولا بد أن الكافرين سيحصلون على ثمن، وقد يكون الثمن أغلى من النصر.
كان من المفروض ألا يضع العرب أيديهم في أيدي الإنجليز، فقد كانت فرصة طيبة لفرض الشروط ولتحرير البلاد ولجني أفضل الثمار في فلسطين، فإنجلترا مشغولة في الحرب مع الكبار، ولا تريد مشاكل في مناطق متعددة، لكن العرب كانوا قصيري النظر لا ينظرون إلا تحت أقدامهم لو كانوا ينظرون.
هذا ليس خللاً في الإسلام ولا في التشريع، فالعرب في هذا الوقت لم يكونوا يعرفون قرآناً ولا سنة، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان دائم الاطلاع على أحوال العالم في زمانه، كان القرآن يتنزّل في مكة أيام التعذيب والتشريد والاضطهاد، يحكي عن حرب الفرس مع الروم، عمالقة الزمان وقتئذ، يلفت أنظار المسلمين إلى ما يدور هناك، والمسلمون لا يستطيعون الصلاة إلا سراً، لكن لا بد أن يتابع المسلمون الأحداث العالمية وإن كانت في ظاهرها بعيدة، فقد تؤثر بشكل أو بآخر على المسلمين.
ولما زاد الاضطهاد بمكة كان صلى الله عليه وسلم يعلم ملوك الأرض وطبيعة الدول، أمر بالهجرة إلى الحبشة؛ لأنه يعلم أن هناك ملكاً لا يُظلم عنده أحد، ولم يرسلهم إلى فارس أو إلى الروم أو إلى الهند أو إلى السند؛ وذلك لأنه يعلم أن نظام الحكم ونوعية الحكام في هذه البلاد لا تصلح لإيواء المهاجرين، بينما في الحبشة تصلح. اطّلاع كامل على أحوال العصر وتحرك مديّ على دراسة.
وفي غزوة الأحزاب والرجل لا يأمن على قضاء حاجته، والأحزاب جاءت من فوق المسلمين ومن أسفل منهم، ومع ذلك يبشرهم في هذا الوقت العصيب بفتح فارس والشام واليمن، يطلق أبصارهم نحو المستقبل بدلاً من أن ينظروا تحت أقدامهم، فيصطدموا بواقع لا يعلمونه ولا يتوقعونه.
وبعد فتح مكة يرسل رسائل إلى كل ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام، قائد مطّلع على الأحداث، إيجابي في الأداء، عزيز في الطلب، يعلّم أمته أنها وجدت لا لتتبع الآخرين، بل لتُتّبع بالآخرين، لا لتنقاد للآخرين، بل لتقود الآخرين: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
أما من سار على غير الطريق المستقيم ومن انحرف ولو درجة فلا يُرجى له وصول: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
لكن الخلاصة على العموم: أن هذه الفترة العصيبة من تاريخ البشرية شهدت إعداداً مدروساً وعملاً حثيثاً، وجهداً مرتباً وممنهجاً من قِبل اليهود، بينما كان العرب يتخبطون في اتجاهات مختلفة دون هدف معروف أو غاية مطموحة، وانتهت الحرب العالمية الثانية، وبقيت سنوات معدودات؛ وتقام دولة إسرائيل في فلسطين، وفي كل عام من الأعوام المتبقية كانت هناك للمسلمين أحزان.
في سنة 1945م وهي أول سنة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تم إنشاء الجامعة العربية، أُنشئت بإيعاز من إنجلترا لـمصطفى النحاس باشا ، ولماذا تؤيد إنجلترا مثل هذا العمل التجميعي للعرب؟ إنجلترا تريد أن تترك لليهود دولة قبل أن ترحل من المنطقة وهي لا بد راحلة، فاليهود لن يقبلوا بوجودها، وأمريكا لن تقبل بوجودها، ومع ذلك فهي تريد أن تبقي على علاقاتها مع اليهود وأمريكا؛ لأن المصلحة تقتضي ذلك، لكن ما علاقة إنشاء الجامعة العربية بإقامة دولة اليهود؟ كان من المفروض أن يتبادر إلى الذهن أن الجامعة العربية ستكون معوّقة لدولة اليهود، فماذا كانت تريد إنجلترا؟
أولاً: كانت تريد جمع كل دول المنطقة في بوتقة واحدة تؤثر عليها من خلال أصدقائها المقربين، وبالذات ملك الأردن وملك مصر، فإذا نظرت إلى الدول المؤسسة للجامعة العربية تجدها جميعاً محيطة بفلسطين، بل إن هذه الدول المجموعة في الجامعة العربية هي الدول الداخلة في مخطط إسرائيل الكبرى باستثناء اليمن، كانت الدول المؤسسة للجامعة العربية مصر والأردن وسوريا ولبنان والعراق والسعودية بالإضافة إلى اليمن، سبع دول محيطة بالدولة التي يرجى إنشاؤها بعد ذلك.
ثانياً: تريد إنجلترا قبل أن تغادر المنطقة أن تلغي من أذهان المسلمين تماماً فكرة التجمع على أساس الإسلام كما كان يفكر السلطان عبد الحميد الثاني في إنشاء الجامعة الإسلامية، فأرادت تجميعهم على هدف ورباط قومي هو العروبة في مقابل الدولة اليهودية، التي ستُعلن كما أشرنا من قبل اسماً قومياً هو إسرائيل، بدلاً من اسم ديني كدولة اليهود، وبذلك يظل الصراع صراع قوميات لا صراع ديانات. وشتان!
ثالثاً: تريد إنجلترا أيضاً أن يقوم كيان في المنطقة تكون من مهمته التنفيس عن الشعوب، وتفريغ الشحنات الغاضبة عن طريق أخذ بعض القرارات العنترية التي لا يتبعها عادة عمل، وبذلك تهدأ عاصفة الشعوب الثائرة.
رابعاً: وهذه من أخطر النقاط، إذ إن إنجلترا أيضاً أوعزت إلى أصدقائها بأن يجعلوا من ميثاق هذه الجامعة ألا ينضم إليها إلا الدول المستقلة فقط، ولست أدري ما هو تعريف الاستقلال في نظرهم، لكنهم اعتبروا مصر دولة مستقلة مع وجود الإنجليز فيها، واعتبروا الأردن والعراق واليمن دولاً مستقلة مع وجود الإنجليز فيها، واعتبروا سوريا ولبنان دولاً مستقلة مع وجود فرنسا فيها، أما الدول غير المستقلة التي لا يجوز أن تنضم إلى الجامعة العربية فهي فلسطين، وبذلك بتروا فلسطين من الكيان العربي باعتراف الجامعة العربية؛ تمهيداً لإقامة الدولة اليهودية على أرضها.
وإذا اعتقد أحد أن هذه الأفكار لم تكن واردة بكاملها في أذهان إنجلترا والمؤسسين لهذه الجامعة فإن الأيام القريبة جداً قد أثبتت صدق هذا التحليل.
حدث آخر حدث في سنة 1945م بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وهو ما يسمى في التاريخ بمشروع روزفلت ، وروزفلت هو الرئيس الأمريكي المنتصر، قدّم مشروعاً للملك عبد العزيز ملك السعودية آنذاك، يضع له في هذا المشروع حلاً لقضية فلسطين، هذا المشروع وإن لم ير النور إلا أنه يثبت ما حللناه سابقاً من أن أمريكا بدأت تتسلم ميراث إنجلترا في المنطقة، وبدأت تحمل على أكتافها مهمة إنشاء الدولة اليهودية، ماذا قدّم الرئيس الأمريكي روزفلت للملك عبد العزيز ؟ عرض عليه أن يجعله زعيماً للعرب، يريد أن يكرر ما فعله الإنجليز مع الشريف حسين ، وليست الزعامة فقط، بل ويعطيه عشرين مليون جنيه إسترليني على أن يساعد في ترحيل كل عربي فلسطيني، وإعلان فلسطين بكاملها وطناً لليهود، وقال روزفلت : إن القضية إنسانية في المقام الأول، حيث تتعلق بإنقاذ اليهود الذين لاقوا أهوالاً لا توصف على يد الألمان.
ومن الواضح طبعاً أن الرئيس روزفلت يتصرف بحماقة وسذاجة لا تتفق مع منصبه، ولكن يبدو أنه كان حديث عهد بسيادة، فلا يُدرك حكمة القول والفعل، المهم ماذا كان رد الملك عبد العزيز على هذا العرض الوقح من روزفلت ؟ الحق أنه رد رداً قصيراً لطيفاً حكيماً مفحماً قال له: أعطوهم أملاك الألمان الذين اضطهدوهم.
وهذا في منتهى الذكاء إذا كانت فعلاً القضية إنسانية، وإذا كان فعلاً الألمان قد عذّبوا اليهود، وإذا كانت ألمانيا قد هُزمت وأُخذت كل أرضها لتوزع على الحلفاء، فلماذا لا تقتطعون قطعة من هذه الأرض الواسعة وتعطوها لليهود، أم أن وراء الأمور أمور، وانتهى مشروع روزفلت بذلك والحمد لله، لكنه أثبت أن أمريكا من سنة 1945م وهي تسعى إلى تحقيق دولة لليهود في فلسطين.
في سنة 1946م قامت أمريكا بالاشتراك مع إنجلترا بتكوين لجنة لبحث مشكلة فلسطين، وللتوفيق بين الأفكار المتعارضة والمتضاربة للفلسطينيين واليهود، على غرار لجنة ميتشل سنة 2001م وقامت هذه اللجنة الأنجلو أمريكية كما يسمونها بزيارة معسكرات اليهود الناجين من النازية في ألمانيا وتشيكوسلوفاكيا وبولونيا، ثم زارت بعد ذلك فلسطين وشاهدت الوضع هناك وسمعت من هذا ومن ذاك، ثم أخذت قرارات أطلقوا عليها أنها قرارات عادلة وهي:
1- تهجير مائة ألف يهودي على الفور من أوروبا إلى فلسطين، وإلا ستحدث كارثة إنسانية، وأهم شيء هو حقوق الإنسان.
2-طرح كل أرض فلسطين للبيع.
3-أن يكون حكم فلسطين دولياً يعني: للأمم المتحدة، أي: لأمريكا بمعنى: أنها لليهود، طبعاً كلام لا يستقيم ولا يُعقل ولا يقبل به أحد حتى اليهود، فقد اعترض اليهود وقالوا: لا نريد حكماً دولياً، بل نريد حكماً يهودياً سبحان الله! وهكذا لم تنسق قرارات هذه اللجنة إلا في جزئية تهجير اليهود، فقد بدأوا في تهجيرهم بالفعل إلى فلسطين تحت حماية الجيش الإنجليزي الذي ما زال مستقراً في فلسطين يسمع ويطيع لأوامر الأمريكان.
هذه اللجنة أثبتت بوضوح نوايا الأمريكان في قضية فلسطين، وسوف تحمل الأيام ظلماً أكبر وجوراً أعم من رائدة العدل والحرية في العالم أمريكا.
وتأتي سنة 1947م تحمل معها في أواخرها ظلماً جديداً خرج تحت عباءة الأمم المتحدة، ففي نوفمبر سنة 1947م مشروع تقدمت به أمريكا وإنجلترا للأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين اليهود والفلسطينيين، حلاً للمشكلة، إذ يُعطى اليهود جزءاً من الأرض يقيمون عليه دولة، ويُعطى الفلسطينيون جزءاً آخر، ولا أدري هل لو طالب المسلمون في أمريكا -وهم الآن حوالي ثمانية مليون- بأنه يُقطع لهم جزءاً من أمريكا ليُقام عليه دولة لهم، هل يسمع لهم أحد؟ هل لو حدث في أي مكان في العالم أن قمت بتهجير عدد كبير من البشر إلى مكان ما -تهجير الماليزيين مثلاً إلى أستراليا- أيحق لهم بعد فترة من الزمان 30 أو 40 سنة مثلاً أن يطلبوا قطعة من الأرض يقيمون عليها دولة؟ هذا ما حدث في فلسطين، هاجر إليها مجموعة من اليهود من شتات الأرض، وبعد سنوات معدودات طالبوا بدولة في هذا المكان، أيجوز في عرف المتحضرين هذا؟ هذا ما حدث في الأمم المتحدة، مشروع لتقسيم فلسطين بين اليهود وبين أهل فلسطين.
وليس هذا فقط، بل قد تجاوز الظلم الحدود، حيث جعل المشروع لليهود 56.5% من أرض فلسطين، وجعل للفلسطينيين أصحاب البلد 43% فقط من الأرض، وأُخرجت القدس من لعبة التقسيم، جُعل حكمها دولياً، وهي تمثل حوالي 00.5% من أرض فلسطين، أي أن المشروع الظالم جعل لليهود أكثر مما جعل لأهل البلد.
وليس هذا فقط، ما زال للظلم ألوان أخرى، فلو نظرت إلى خريطة التقسيم لوجدت فيها أموراً عجيبة، تقسيم الدولتين في منتهى الغرابة، لم يقسّموها مثلاً إلى شمال وجنوب أو إلى شرق وغرب، كل دولة قطعة واحدة، ولكنهم فعلوا شيئاً غريباً جداً، وهو أنهم جعلوا الجزء الفلسطيني عبارة عن منطقتين منفصلتين: منطقة في الشرق هي الضفة الغربية لنهر الأردن، وجزءاً في الغرب وهو قطاع غزة وما حوله من مناطق، أما الجزء اليهودي فهو كالحلقة يحيط بكل جزء من أجزاء الفلسطينيين، وذلك كما هو واضح تمهيداً لإحكام القبضة على أهل البلد، حتى يكمل اليهود احتلال البلد في مرحلة لاحقة.
وليس هذا فقط، لا يزال في جعبة أمريكا خطايا أخرى، وهي أن أمريكا عرضت المشروع الظالم وبدأت عملية التصويت، وكان لا بد أن يحصل المشروع على ثلثي أصوات المجلس حتى تتم الموافقة عليه، وتم التصويت، ولم يحصل المشروع على ثلثي الأصوات وبالتالي لم يُقبل، واعترضت أمريكا وطالبت أن يُعاد التصويت بعد أيام قليلة، ووافقت الأمم المتحدة على إعادة التصويت، وقرروا أن يُعاد بعد أيام قلائل، وفي هذه الأيام بحثت أمريكا في أسماء الدول المعترضة كانت تحتاج إلى ثلاث دول حتى تصل إلى نسبة الثلثين، ووجدت ضالتها في الفلبين وهاييتي وليبيريا، فقامت بالضغط عليهم عن طريق رجال السياسة ورجال الاقتصاد، فعلى سبيل المثال: الذي ضغط على ليبيريا هو المليونير الأمريكي المشهور هاردي فايرستون صاحب مزارع المطاط في ليبيريا، وصاحب مصانع الإطارات المشهورة فايرستون، وتم التصويت للمرة الثانية بعد أيام، ورضخت الدول الثلاث للتهديد وتحققت النسبة المطلوبة، ووافقت الأمم المتحدة على مشروع السرقة المعروف بقرار رقم 181 لسنة 1947م، ويعلق وزير الدفاع الأمريكي آنذاك جيمس فورستل في مذكراته على هذا الموضوع فيقول: إن الطرق المستخدمة للضغط ولإكراه الأمم الأخرى في نطاق الأمم المتحدة كانت فضيحة. وشهد شاهد من أهلها، وفوجئ العالم أجمع بما فيه العالم الإسلامي بالوجه القبيح لأمريكا، أما إنجلترا فيعرفون وجهها منذ زمن، واليهود معروفون بخسّتهم منذ أيام موسى عليه السلام، وأنا أرى أنه إن كان العالم قد فوجئ فإن العجب أن يفاجأ المسلمون، فإن الله قد نبّهنا إلى ذلك منذ مئات السنين فقال: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ [التوبة:10].
ترى ما هو الموقف في فلسطين بعد قرار التقسيم؟
تعالوا نحلل الأحداث ونستقي العبرة: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:176].
الشعوب العربية تغلي، والقرار ظالم، والحكم جائر، ولا بد من حركة أو رد فعل، ماذا نفعل؟ قامت الجامعة العربية الناشئة وأخذت قرارات توافقت مع رغبات الشعوب، قلنا: حمداً لله فقد تجمع المسلمون أخيراً، أو قل: تجمع العرب فالرابطة كانت قومية، أخذت الجامعة العربية القرارات الآتية:
أولاً: أصدروا مذكرات شديدة اللهجة إلى أمريكا وإنجلترا.
ثانياً: إقامة معسكرات لتدريب المتطوعين في قطن بالقرب من دمشق بسوريا يدربون الفلسطينيين فيه على القتال.
ثالثاً: تكوين جيش عربي أُطلق عليه جيش الإنقاذ، وضعوا عليه رجلاً اسمه فوزي القوقجي .
رابعاً: رصد مليون جنيه لأغراض الدفاع عن فلسطين.
وقد كانت قرارات قوية بحق، وبدءوا بالفعل في تدريب الفلسطينيين في قطن بسوريا، وبدءوا في تكوين جيش الإنقاذ، ولكن جاءت رسالة من بريطانيا إلى الجامعة العربية قالت فيها: إن بريطانيا تعتبر تسليح الفلسطينيين وتدريبهم في قطن عملاً غير ودي، فاجتمعت الجامعة العربية وتشاورت وتحاورت، ولعلها استخارت، ثم صدر قرار غلق معسكر قطن، وتسريح المتطوعين هناك، وسحب أسلحة المعسكر، والاكتفاء بتزويد جيش الإنقاذ، ولكن تحديد العدد، فاتفقوا على أن يكون قوامه (7700) جندي مع مده ببعض الأسلحة الرديئة، أما الأموال فقد جُمع شيء قليل منها، أو قل: وصل إلى فلسطين شيء قليل منها.
إذاً: الجامعة العربية نفّست عن الشعوب المتحمسة بقرارات عنترية، ثم جاءت الأوامر الإنجليزية لتهدئ من روع المتحمسين، ولتلقي جالوناً من الماء البارد على الجامعة العربية؛ لتسكّن من حرارة الخطباء والمتكلمين.
ماذا كان الموقف في فلسطين؟
عاد المفتي أمين الحسيني رحمه الله من لبنان، وذكرنا من قبل أنه هرب إليها بعد مطاردة الإنجليز له، عاد إلى فلسطين وبدأ يقود الشعب إلى جهاد مسلح ضد اليهود، ومعه البطل عبد القادر الحسيني رحمه الله، واجتمع الناس على قيادة المفتي، وأراد المفتي أن يسعى إلى تأييد عربي، فأسرع إلى الكيان الجديد الجامعة العربية يعلن رغبته في تكوين حكومة فلسطينية وطنية تدعمها الجامعة العربية، ويكون المفتي على رأسها كما يريد الشعب هناك، وكان طلباً وجيهاً فلن تُحمى البلاد إلا بأهلها أساساً، لكن الجامعة العربية رفضت الطلب، ورفضت رئاسته دون تبرير واضح، بل إن الملك عبد الله ملك الأردن قال في لقاء مع ممثلة الوكالة اليهودية جولد مائير : إنه يعزم على أن يضم إلى مملكة الأردن الجزء المخصص للعرب في مشروع التقسيم، يعني: منطقة الضفة الغربية، ويعزم أيضاً على إقامة علاقات سلام وصداقة مع الدولة اليهودية، وختم كلامه بقوله: كلانا يواجه خصماً مشتركاً يقف عقبة في طريق خططنا، ذلك هو المفتي أمين الحسيني ، وهذا كلام في منتهى الخطورة.
إذاً: النية كانت مبيتة على الموافقة على قرار التقسيم، والنية كانت مبيتة على الاعتراف بدولة اليهود، والنية كانت مبيتة لهضم الضفة الغربية داخل الأردن، والنية كانت مبيتة على تحجيم قوة المفتي والفلسطينيين، ولا أجد في الواقع في ألفاظ اللغة ما يناسب ذلك الموقف.
اليهود كعادتهم لن يضيعوا وقتاً، استغاثات ونداءات لأمريكا وإنجلترا ودول أخرى كثيرة، وانهمرت سفن الأسلحة من أمريكا وإنجلترا وأوروبا الشرقية، وتسارع الضباط من أمريكا وروسيا وتشيكوسلوفاكيا لتدريب اليهود على الأسلحة الجديدة، واستعدت العصابات اليهودية للقتال، وهي في مجموعها تبلغ كما ذكرنا (70000) جندي مسلح مدرب.
ما هو موقف الشعب الفلسطيني؟
سار الشعب بقيادة المفتي أمين الحسيني ومعه عبد القادر الحسيني رحمهما الله، وحمل السلاح وظهرت دعوة الجهاد بوضوح وجلاء، أما جيش الإنقاذ العربي بقيادة فوزي القوقجي كان جيشاً ضعيفاً جداً، وسلاحه ضعيف، وعدده قليل، ورفض التعاون مع المفتي ورجاله، حتى إن الدكتور عبد الله عزام رحمه الله كان يقول في تاريخه لهذه الفترة: إن فوزي القوقجي هذا كان رجلاً تحوم حوله الشبهات.
إذاً: الشعب الفلسطيني تحرك للجهاد بسلاح بدائي لكن بروح عالية، وهذه الروح العالية دفعته لتحقيق انتصارات مبدئية، فانتصر في بعض المواقع مثل ظهر الحجة وعين باهل وشعفاص والدهيشة، وذلك بقيادة عبد القادر الحسيني غالباً، لكن فارق التسليح كان مهولاً بين اليهود والفلسطينيين، وكادت الكفة تميل في صف اليهود، لولا أن من الله على فلسطين بحدث جديد، فقد حرك الجهاد مشاعر كثيرة في قلوب أعداد عظيمة من المسلمين، في بلاد إسلامية محيطة بفلسطين، وبالذات في مصر وسوريا فسارع الشباب والشيوخ على حد سواء إلى طلب حمل السلاح، والعبور إلى أرض الشرف والكرامة والمجد أرض فلسطين، وظهرت نوعيات فريدة من الرجال، أسمى أمانيهم الموت في سبيل الله، يبتغون وجه ربنا سبحانه وتعالى، ويقتدون برسولنا صلى الله عليه وسلم، ويحتكمون إلى كتابنا القرآن، ويتخذون الجهاد سبيلاً لا عوض عنه ولا بديل له، تسارعوا مشتاقين للجهاد، لكن سبحان الله! رفضت الحكومات أن يذهبوا إلى هناك، وهنا تحرك الشعب وآه من حركة الشعوب، رضخت الحكومات الواهية، وخرجت الأسود من العرين بعد أن أُطلق لهم العنان، ودخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم، وهناك على أرض فلسطين سطّروا بدمائهم آيات يعجز اللسان عن وصفها، ويحتار البيان كيف يخلدها، وفرت قطعان اليهود من أمامهم، وأتى الله اليهود من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرُعب، وانتصر المجاهدون المسلمون في مواقع عدة في مستعمرات النقب، وفي بيت لحم، وفي الخليل، وفي كفار ديروم، وفي بئر السبع، حتى وصلوا في النهاية إلى درة القلب وثمرة الفؤاد القدس، وبها مائة ألف يهودي، فحاصروها حصاراً شديداً وتحصن اليهود بالمدينة، وكاد الجمع اليهودي أن يهلك.
تُرى ماذا حدث في القدس بعد هذه الأحداث؟ وماذا حدث في بقية فلسطين؟ وماذا فعل المجاهدون؟ وماذا فعل اليهود؟ وماذا فعلت الجامعة العربية؟ وماذا فعلت أمريكا؟ وكيف قامت إسرائيل على الأرض الحبيبة الغالية فلسطين؟
هذا ما نتناوله وغيره إن شاء الله في المحاضرات القادمة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً كثيراً.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة فلسطين جريمة التقسيم للشيخ : راغب السرجاني
https://audio.islamweb.net