اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة فلسطين المؤامرة للشيخ : راغب السرجاني
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإنه في يوم 2/ربيع الأول/ 897هـ الموافق 2/1/1492م، وقع أبو عبد الله محمد الصغير آخر ملوك الأندلس من المسلمين معاهدة الاستسلام، وذلك بعد قتل انتفاضة المسلمين التي قامت في ربوع غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس، وخرج أبو عبد الله الصغير من مدينة غرناطة، ووقف على تل من التلال القريبة من قصر الحمراء -قصر الحكم في غرناطة- وهو يبكي وينتحب، قالت له أمه عائشة الحرة: أجل! فلتبك كالنساء ملكاً لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال.
وخرج المسلمون بذلك خروجاً نهائياً من الأندلس بعد أن حكمت بالإسلام ثمانية قرون، غير أن الأيام تحمل معها مفاجآت كثيرة، فتلك البلاد التي حكمت بالإسلام هذه المدة الطويلة لا يعيش فيها الآن من المسلمين إلا حوالي مائة ألف مسلم فقط، وهي بذلك تكون من أقل دول العالم احتضاناً للمسلمين، وهو درس لا بد أن يفقهه المسلمون.
وكأني ألحظ في وجوه الحاضرين دهشة وتساؤلات، أشعر أن الزملاء يقولون: يا دكتور! أنت نسيت مجموعة المحاضرات الخاصة بفلسطين وإلا ماذا؟ ما هي حكاية الكلام عن الأندلس؟
أبداً والله لم أنس، ولن أنسى قضية فلسطين، ولكن العلاقة وثيقة جداً بين قضية فلسطين الحالية وبين الأندلس الماضية.
من جديد ألحظ دهشة في العيون تظهر -سبحان الله- مع تباعد الزمان، وتباعد المكان، فإن العلاقة وثيقة بين الأندلس وبين فلسطين!! نعم، وثيقة وسنرى الرباط بينهما بعد قليل.
ملحوظة في غاية الأهمية لتاريخ الأندلس، لماذا لم يعد للإسلام ذكر في هذه البلاد إلا من آثار قديمة، وبعض المساجد التي حولت إلى كنائس، بينما احتلت بلاد إسلامية كثيرة غير بلاد الأندلس، ومع ذلك لم يخرج منها الإسلام، احتلت مصر والجزائر وسوريا والسودان وليبيا والعراق، ومعظم بلاد العالم الإسلامي، لكن البلاد ما زالت مسلمة بعد الاحتلال الطويل، أما أسبانيا فالوضع فيها مختلف، لماذا؟
ذلك أن الاحتلال الأسباني للممالك الإسلامية في الأندلس كان احتلالاً استيطانياً إحلالياً سرطانياً، بمعنى: أن الأسبان ما كانوا يدخلون مدينة إسلامية إلا ويقتلون أهلها جميعاً، مذابح جماعية في كل مكان، أو يطردونهم خارج البلاد، وهكذا مع الوقت يتحول سكان البلد المسلمون إلى شهداء أو لاجئين، ثم يأتون بالأسبان من كل مكان يستوطنون هذه البلاد، وهكذا مع مرور الوقت أصبح سكان الأندلس كلهم من الأسبان، وليسوا من المسلمين، واختفى المسلمون بالكلية من ساحة الأندلس.
يا ترى كيف كان حال المسلمين حول بلاد الأندلس في البلاد المجاورة في تونس، في الجزائر، في المغرب، في مصر، في الشام؟ كيف كان حال المسلمين وقت سقوط الأندلس؟ كان المسلمون في فرقة شديدة وضعف، ولاشك أنهم فكروا مع هذا الضعف في استعادة بلاد الأندلس، ولكنهم لم يستطيعوا هذا؛ لضعف قوتهم، ومن المؤكد أن اللاجئين الذين خرجوا من بلاد الأندلس بعد السقوط فكروا يوماً ما في العودة، ولكن لم يستطيعوا؛ لضعف إمكانياتهم وقلة حيلتهم، وهكذا مر شهر وشهران، وعام وعامان، وقرن وقرنان، بل خمسة قرون، وضاعت الأندلس -أسبانيا والبرتغال- من ذاكرة المسلمين.
من من المسلمين الآن يفكر في استعادة بلاد الأندلس؟
الأندلس الآن عبارة عن دولتين، تربطهما مع كل بلاد المسلمين علاقات حميمة، كان المؤرخون قديماً عندما يتحدثون عن الأندلس بعد سقوطها يقولون: أعادها الله للمسلمين، كما يتحدث مؤرخ فيقول: فتح طارق بن زياد رحمه الله بلاد الأندلس -أعادها الله للمسلمين- في سنة 92هـ؛ ذلك لأنها كانت دائماً في الذاكرة، أما مع تقادم العهد فقد اختفت كلمة: أعادها الله للمسلمين، اختفت من أفواه المؤرخين.
انظروا إلى زيارة قام بها سفير مغربي للأندلس بعد سقوطها بأكثر من مائة عام، هذا السفير اسمه الغزال الفاسي رحمه الله، سفير سلطان المغرب إلى ملك أسبانيا كارلوس الثالث ، زار في هذه السفارة مسجد قرطبة الجامع العظيم، فقال عنه: وهو من أعظم مساجد الدنيا في الطول والعرض والعلو، ومنذ عبرنا هذا المسجد لم تفتر لنا عبرة مما شهدنا من عظمته، وتذكرنا ما كان عليه في عهد الإسلام، وما قرئ فيه من العلوم وتليت فيه من الآيات، وأقيمت به من الصلوات، وقد تخيل في الفكر أن حيطان المسجد وسواريه تسلم علينا، وتهش إلينا من شدة ما وجدنا من الأسى، حتى صرنا نخاطب الجمادات، ونعانق كل سارية، ونقبل سواري المسجد وجدرانه.
سبحان الله!! ما أشبه اليوم بالبارحة، الأندلس تتكرر من جديد، أين؟ في فلسطين نعم، بنفس طريقة الاحتلال الأسباني، قتل أو طرد للمسلمين، تحويل الشعب إلى لاجئ وشهيد، هدم للمباني والديار، وإقامة للمستوطنات اليهودية في كل مكان، عملية إحلال منظمة للشعب الفلسطيني بالشعب اليهودي، وإن ترك الأمر على حاله في تراخ ودعة من المسلمين فإن مصير فلسطين نفس مصير الأندلس.
إذا تقادم العهد على عملية الاستيطان والإحلال سيصبح المكان مع مرور الزمان اسمه إسرائيل، كما أصبحت الأندلس بعد مرور الزمان اسمها أسبانيا والبرتغال.
إذا تقادم العهد على احتلال فلسطين فقد يأتي زمان يزور فيه المسلمون المسجد الأقصى كما كانوا يزورون مسجد قرطبة يقبلون السواري والجدران، ويسمعون بآذانهم شكوى المجد لهم يقول: أين المسلمون؟
يا إخوة! قضية فلسطين قضية من أخطر قضايا أمة الإسلام، بل لعلها الأخطر على الإطلاق، قضية فلسطين أخطر بكثير من كل القضايا الداخلية والخارجية لكل أقطار الإسلام، وهي بالتبعية أخطر من كل قضايا الأفراد الشخصية، قضية فلسطين هي قضية أمة تذبح، وشعب يباد، وأرض تغتصب، وحرمات تنتهك، وكرامة تهان، ودين يضيع، يراها البعض قضية معقدة أشد تعقيد، وهي بالنسبة لآخرين واضحة كالشمس في وسط النهار، والفارق بين الناس هو المنظور الذي ينظر به إلى القضية.
أضرب لكم مثلاً مشهوراً: ثلاثة مكفوفين أمسكوا بفيل كي يصفوه، أمسك الأول بذيل الفيل وقال: إن الفيل طويل ورفيع، وأمسك الثاني بخرطوم الفيل وقال: بل طويل وثخين، وأمسك الثالث بأذن الفيل وقال: بل عريض ومفلطح، وصدقوا فيما يصفون على قدر علمهم، لكن هل وصفوا الفيل حقاً؟ يختلف الأمر كثيراً حسب الزاوية التي ينظر منها إلى الموضوع.
يذكرني أيضاً برجل يريد إصلاح جهاز التلفزيون مثلاً، فذهب وأتى بكتاب الإرشادات الخاص بالمدفأة، وحاول الإصلاح وبالطبع فشل، ثم ذهب وأتى بكتاب المروحة، وحاول إصلاح التلفزيون وبالطبع فشل، فذهب وجاء بكتاب السخان وهكذا..وهو يتعجب من صعوبة القضية، وسبحان الله!! لو أمسك كتابه الخاص به لهان الأمر كثيراً، هكذا بدأ المسلمون يحلون ألغاز قضية فلسطين، فوجدوها في غاية الصعوبة، مرة يتمسكون بكتاب الاشتراكية والمعسكر الشرقي، ومرة يتمسكون بكتاب الرأسمالية والمعسكر الغربي، ومرة يبحثون عن كتاب المجتمع الدولي والأمم المتحدة، ومرة يتمسكون بكتاب القومية العربية، ومرة يتمسكون بكتاب مجلس الاتحاد الأوربي، ولم يتمسكوا بالكتاب الصحيح لقضية فلسطين القرآن الكريم والسنة المطهرة: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي)، (إنه من يعش منكم سيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ).
لذلك لما بعد الناس عن كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم تخبطوا كثيراً وتاهوا وتشتتوا، حتى من في قلبه حماسة للقضية، ورغبة في الإصلاح، وأمل في التغيير، لم يدر ماذا يفعل حتى يؤدي ما عليه؛ لأنه لا يمسك بالكتاب الصحيح.
ترى ما هو دور الشعوب في حل قضية فلسطين حلاً صحيحاً عادلاً مستقيماً على كتاب الله وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟
عندما تسأل المفكرين من أبناء الأمة المخلصين، أو تسأل عموم الناس، تكون الإجابات متباينة ومختلفة، وكثير منها جميل ورائع.
هناك من يقول: إن الجهاد هو الحل الوحيد، وعلى الفلسطينيين أن يستمروا في مقاومتهم، وعلى الحكومات الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها أن تفتح الأبواب لجهاد اليهود.
وهناك من يقول: على العرب أن يتحدوا جميعاً في كلمتهم، ويقفوا أمام اليهود وقفة واحدة في مفاوضة واحدة، بدلاً من التشرذم في لقاءات متفرقة.
وهناك من يقول: على السلطة الفلسطينية أن تضع يدها في يد الفصائل المختلفة داخل فلسطين، وأن يتعاونوا على طرد اليهود بدلاً من تركيز السلطة على تحجيم قوة المقاومين للاحتلال.
هناك من يقول: لا بد من وقف التطبيع، وقطع العلاقات مع اليهود سواء كانت علاقات سياسية أو اقتصادية أو أمنية أو ثقافية أو غيرها من العلاقات.
هناك من يقول: لا بد من الضغط على مصالح الدول الغربية، وتوحيد الكلمة في اجتماعات الأمم المتحدة، والمحافل الدولية وغير ذلك.
هناك من يقول: لا بد من تمويل المقاومة الفلسطينية بالسلاح الحقيقي، بدلاً من الحجارة؛ ليستكملوا جهدهم بصورة أكبر وأشد.
هناك من يقول: لا بد من السعي لمحاكمة شارون كمجرم حرب، وفتح ملفات صبرا وشاتيلا، وهذا جميل، ولكن هذا يوحي بأن من كان قبله كانوا من الملائكة، سواء باراك أو نتنياهو أو رابين أو بيجن أو جلدا مائير أو غيرهم، كما نسي الناس أن شارون انتخب من عموم اليهود بأعلى نسبة إجماع من سنوات.
حلول كثيرة جداً يذكرها المفكرون، ويشعر بها عموم الناس، لكن سبحان الله!! جميع هذه الحلول تتفق في شيء واحد، تتفق في أنه ليس في مقدور الشعوب أن تقوم بها، أنا لا أخاطب الحكومات والهيئات الرسمية في هذه المجموعة من المحاضرات، أنا أخاطب عموم المسلمين الغيورين على القضية، أخاطب الدكتور، والمهندس، والمحامي، ورجل الأعمال، أخاطب النجار، والحداد، والسواق، والحلاق، وأستاذ الجامعة، كما أخاطب الرجل البسيط الذي لا يحسن القراءة والكتابة، ولكن يتألم لفلسطين، أخاطب عموم الناس الذين ليس في أيديهم قرار تسيير الجيوش، ولا قطع العلاقات، ولا غلق السفارات، ولا وقف التطبيع، ولا محاكمة شارون ، ولا وحدة قادة المسلمين.
الرجل البسيط العادي الذي لا ينتمي إلى حزب من الأحزاب ولا إلى هيئة من الهيئات، ماذا يفعل لفلسطين؟ بمعنى مختصر ما هو دوري ودورك في قضية فلسطين؟ فمن أجل أن تنام في الليل مستريحاً تقول: يا رب! تألمت لما يحدث هناك، ففعلت ما في وسعي، ترى ما هو وسعك؟ وما هي طاقتك؟ هذا ما نحاول الإجابة عليه في هذه السلسلة من المحاضرات إن شاء الله.
مع ملاحظة أن الخطاب لأهل فلسطين سيكون مختلفاً بالكلية هذا الخطاب الذي أتحدث به الآن هو لمن لا يملك أن يجاهد في هذه الأراضي المقدسة، وإلا فلا شيء يعدل الجهاد ضد اليهود.
إذا أردنا أن نتحدث عن دور المسلمين عموماً في حل قضية فلسطين حلاً على سنة الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا بد من دراسة المؤامرة الضخمة الكبيرة المرتبة والخطيرة التي تدبر للإسلام وأهله، وتدبر بالتبعية لفلسطين، مؤامرة ذات جذور قديمة وطرق عديدة، وهي ذات المؤامرة التي حيكت للمسلمين على مدار العصور، منذ بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الآن وحتى يوم القيامة، وعلى المسلمين أن ينتبهوا قبل أن أشير إلى هذه المؤامرة، أود فقط أن أشير إلى أنه ليس كل ما يصيب المسلمين يكون ناتجاً بالإجمال عن مؤامرة، فكثيراً ما يصاب المسلمون نتيجة تقصيرهم وإهمالهم لواجباتهم، فهي أشياء تكون مدبرة، لكن لضعف المسلمين تفلح هذه التدبيرات في إتيان مفعولها.
مثلاً رجل يضيع صلاة الفجر كل يوم، نعم هناك جزء من المؤامرة أن يسهر حتى الساعة الثانية أو الثالثة، ثم ينام قرب الفجر فيضيع صلاة الفجر، فهو ولا شك في ذلك مخطئ، وعليه جانب كبير من التقصير، لكن ليست هي المؤامرة وحدها، مع أنني أعتقد أنه من الصعب جداً أن تفلح مؤامرة في دحر المسلمين أو هزيمتهم، إلا إذا كان المسلمون ضعفاء، نعم، لا ينصر الكافرون على المسلمين إلا بضعف المسلمين، وسيأتي إن شاء الله تفصيل لذلك في نهاية المحاضرات، لكن هذا لا يمنع من دراسة المؤامرة التي دبرها أعداء المسلمين بعناية، ولا بد للمسلمين أن يحذروا، هذه المؤامرة متنوعة ومتعددة، مؤامرة في كل المجالات، وهي مع ذلك متزامنة.
مؤامرة على سبيل المثال سياسية عن طريق المفاوضات، والسفارات، والأحلاف، والهيئات، والقرارات، هناك مؤامرة عسكرية عن طريق الجيوش والصواريخ والطائرات والبوارج وإف16 وأباتشي وغيرها، مؤامرة اقتصادية عن طريق الحصار الاقتصادي وفرض القيود الاقتصادية، وتحديد سلع معينة للإنتاج، وتبوير الأراضي، مؤامرة تفريقية يفرقون فيها بين أقطار المسلمين عن طريق مؤامرات بين الشعوب، فلا تجد بلداً إلا وتختلف مع جارتها على الحدود والأفكار، مؤامرة أخلاقية عن طريق تمييع أخلاق المسلمين بالإعلام والدش والإنترنت والتلفزيون والصحف الصفراء والخضراء والبيضاء، كل أنواع الصحف، مؤامرة فكرية عن طريق تغيير أفكار المسلمين، وتبديل المعايير الصحيحة، وقلب الموازين العادلة، كل هذه المؤامرات مجتمعة وتجري في وقت واحد متزامن، وكل هذه المؤامرات خطيرة وقاتلة.
يا ترى ما هي أخطر مؤامرة في هذه المؤامرات جميعاً؟ الواحد قد يقول: إذا لم يكن كل هذه المؤامرات خطيرة، فلماذا تحديد أي المؤامرات أخطر أو أقل خطورة مادمنا سندافع عنها جميعاً؟ لكن انظر، إذا همشت مؤامرة من المؤامرات، وقللت من قيمتها؛ ضاعت الأولويات عند المسلمين، فيصرفون الأوقات الكثيرة في رد كيد المؤامرات الضعيفة، ويتركون ما هو أشد؛ ولذلك يجب أن يبحث المسلمون عن أخطر المؤامرات، ويوجهوا إليها طاقتهم مع عدم إغفال الرد على المؤامرات الأخرى.
نرجع هكذا مرة أخرى، وكل واحد يحاول أن يختبر نفسه، أي المؤامرات أشد على المسلمين؟ أتراها المؤامرة السياسية، أم العسكرية، أم الاقتصادية، أم التفريقية بين الشعوب والأفراد، أم الأخلاقية، أم الفكرية؟ كثير من الناس من الممكن أن يختار المؤامرة العسكرية؛ لأنها تبيد أعداداً كبيرة من البشر في وقت سريع، كلنا نجعل في بالنا قصف الأباتشي، وقتل العشرات أو المئات رقم يلفت الأنظار.
وبعض الناس قد يختار المؤامرة السياسية التي تضيع الحقوق، وتضحك على الشعوب، وتقنع الشعوب أنها أخذت حقها وقد ضاع منها كل شيء.
وقد يختارون المؤامرة الاقتصادية التي تجوع الأمم وتقتل الأفراد، لكن مع خطورة هذه المؤامرات جميعاً فإن أخطرها على الإطلاق هي المؤامرة الفكرية متبوعة بالمؤامرة الأخلاقية، وأنا أعلم أن الجميع يعلم خطورة المؤامرة الأخلاقية على الأمة الإسلامية، إلا أن المؤامرة الفكرية أشد وأنكى في المسلمين، يا ترى ما هو الفرق بين المؤامرة الفكرية والمؤامرة الأخلاقية؟ وما هو الذي يجعل المؤامرة الفكرية أشد، مع كون المؤامرة الأخلاقية من أبشع الأشياء أو المؤامرات التي يمكن أن توجه إلى قلب الأمة الإسلامية؟
سأعطيكم أمثلة على ذلك: السيدة التي تخرج بلا حجاب، وعلتها في ذلك أنها ترى نفسها أجمل بدون حجاب، أو تسعى للزواج، أو لا تجد القدرة على التغيير، أو مكسوفة من صديقتها، هذه المرأة تعاني من مشكلة أخلاقية، فهي تعلم أين الحق وتتبع غيره لضعف في نفسها، بينما السيدة التي تخرج بلا حجاب؛ لأنها ترى أن الحجاب موضة قديمة كما يقولون، ولباسه رجعية وتخلف وجمود، هذه المرأة تعاني من مشكلة فكرية.
أي المشكلتين أخطر: الرجل الذي يأخذ رشوة، ويقول: آخذها لأن ظروفي صعبة، ولولا الظروف الصعبة لم أفعل ذلك. اللهم سامحني؟ هذا الرجل يعاني من مشكلة أخلاقية، بينما الرجل الذي يقول: لا، هذه ليست رشوة، هذه إكرامية، أو هذا حق مكتسب نتيجة مجهود معين فعلته، ويبدأ في تقنين الرشوة، هذه مشكلة فكرية.
كذلك في أمور العبادات، الرجل الذي لا يصوم ويقول: والله أنا أجوع بسرعة، أو أنا لا أعرف أن أركز وأنا صائم، أو لا أستطيع أن أترك السجائر، أو أن أصحابي كلهم ليسوا بصائمين؟ فهذا رجل طبعاً عنده مشكلة أخلاقية خطيرة، لكن الرجل الذي يقول: إن الصيام هذا يقلل الإنتاج، أو إن الصيام فعل خطأ قد يؤخرنا إلى الوراء. تستغربون هذا الكلام، لكن هذا الكلام حصل، وقاله زعيم أمة عربية، زعيم توفاه الله، كان يقول: إن الصيام يقلل الإنتاج، ويضعف من الطاقة؛ ولذلك ينصح شعبه ألا يصوم، إي والله كان يقول ذلك. أو يقول: إن الصيام شرع لأجل الشعور بالفقراء وأنا أشعر بهم، فلماذا الصيام؟! هذا الرجل وأمثاله يعانون من مشكلة فكرية خطيرة جداً، حتى الفقهاء يقولون: إنه من ترك الصيام وهو يقدر عليه تكاسلاً فهو فاسق، أما من تركه إنكاراً له فهو كافر.
أيضاً في قضية فلسطين قد يقول شخص: أنا أعرف كل الذي يحصل في فلسطين، وبودي أن أساعد، لكنني أرى كذا وكذا من الأمور، فلن أساعدهم، وربنا غفور رحيم، هذا الرجل له دور، لكنه لا يريد أن يقوم بهذا الدور، فهذه مشكلة أخلاقية، فهو رجل لا يوجد فيه نخوة، ولا يوجد فيه شهامة أو حمية لهذا الدين، لكن هناك رجل ثانٍ يقول: ما لنا ولفلسطين، نحن نعيش في بلد وفلسطين بلد ثانٍ، فهذا الرجل الأخير يعاني من مشكلة فكرية.
إذاً المؤامرة الفكرية أعمق وأخطر من المؤامرة الأخلاقية وكلاهما خطير، المؤامرة الفكرية تقلب الباطل حقاً، وتقلب الحق باطلاً، فقد يقاتل المرء حتى الموت من أجل قضية خاطئة، ولو عبث العابثون بفكرك لضاعت حياتك وراء أهداف باطلة لا تساوي في ميزان الله ولا في ميزان الإسلام شيئاً، انظر إلى قول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103-104]، سبحان الله! وشخص ينشر فساداً وإباحية وفسقاً ومجوناً ويشجع أفلام العري، ويسمح بظهور النساء شبه عاريات، ثم يظن أنه يقاتل من أجل تنوير الشعوب وتحرير الفكر، ومن أجل توسيع المدارك، بل قد يضحي من أجل ذلك بوقته، وصحته، ومجهوده وماله، هؤلاء هم الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:104].
هذه مشكلة فكرية خطيرة جداً، انظر إلى قوله سبحانه وتعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [فاطر:8].
انظر إلى أبي جهل أو الوليد بن المغيرة أو أمية بن خلف ، انظر إلى صناديد الكفر بمكة، كيف زين لهم حرب الإسلام حتى ظنوه أمراً حسناً، ثم انظر العاقبة بعد ذلك، قتلوا جميعاً في بدر، بل انظر إلى أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يموت على فراشه بعد نصرة كبيرة للدعوة، لكن مازال على دين الأجداد وعبادة الأصنام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرجو منه أن يسلم حتى يشفع له عند ربه، فيقول أبو طالب : على دين عبد المطلب . مشكلة فكرية خطيرة جداً، خسر فيها آخرته وخلد في جهنم.
حتى في داخل أرض فلسطين من الممكن أن المشكلة الفكرية تصيب الأفراد الذين يقاتلون، سبحان الله! انظر إلى عظم المؤامرة الفكرية كيف تصل بالناس إلى الهلكة، فانتبه يا من تمسك حجارة في فلسطين؛ من أجل حمية لأخيك الذي مات، أو تمسكها فقط لأنك شجاع لا تخاف الموت، أو فقط حتى لا يقال: هذا قاعد والشباب كلهم يحاربون، مع أن معاني الحمية والشجاعة والحياء من الآخرين معانٍ جميلة، إلا أن الإسلام يسمو فوق هذه المعاني الفردية، ويرتفع بك أعلى من ذلك، انظر إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعةً ويقاتل حميةً ويقاتل رياءً، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)، أعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل الدوافع السابقة، وقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).
لابد أن تفهم قضية فلسطين فهماً صحيحاً دقيقاً حتى تقاتل على أصل صحيح، فلو تآمر أعداء الإسلام على المسلمين سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، ونفذوا مخططاتهم في هذا المجال، لكن بقيت أفكار الشعب صحيحة وسليمة فإن الأمل في الإصلاح يكون كبيراً، لكن لو تغيرت أفكار الشعوب فرئي الحق باطلاً والباطل حقاً فإنه لا يمكن أن تقوم حتى وإن كانت قويةً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، نعم، كل المؤامرات خطيرة، نعم، يجب أن نساعد الفلسطينيين وغيرهم من المسلمين من الناحية العسكرية والسياسة والاقتصادية، لكن الحذر كل الحذر أن يلتفت المسلمون إلى هذه المؤامرات ويتهاونون عن تصحيح أفكارهم، أو يقاتلون من أجل قضايا خاطئة، أو يفرطون في أخلاقهم، فتلك قضايا لو تهاون فيها المسلمون ما قاموا أبداً.
إذاً: علمنا أن المؤامرات كثيرة، وأخطرها هي المؤامرة الفكرية ثم الأخلاقية، وكل المؤامرات خطيرة.
نطرح هذا الأمر جانباً، ونعرض سؤالاً ذكرناه من قبل: ما هو دور الأمة كأفراد في قضية فلسطين؟ أول شيء يخطر على الذهن هو التبرع بالمال، والحق أن التبرع بالمال هام جداً، وهو يسهم بالقدر الأكبر في مجابهة المؤامرة الاقتصادية والعسكرية، وهذا شيء طيب جداً، لكن الحق أيضاً أن المال على أهميته ليس هو أهم الأشياء التي يحتاجها أهل فلسطين، بل يحتاجون أشياء كثيرة غيره وقبله، والآن سأقول هذه الأشياء مجملة ثم نفصل فيها تدريجياً إن شاء الله.
الأمر الأول: الذي تحتاجه القضية الفلسطينية هو تحريك القضية بالمفاهيم الصحيحة وبسرعة، بمعنى الدفاع ضد المؤامرة الفكرية.
الأمر الثاني: الدعاء لأهل فلسطين بالثبات والنصر، والدعاء على من ظلمهم بالهلكة والاستئصال، طبعاً بعض الناس قد يستغربون لماذا قدمت فهم القضية على الدعاء؟ أليس من الممكن أن تدعو بشيء لا يرضى عنه الله سبحانه وتعالى، أو تدعو بشيء ليس في مصلحة القضية؟ ألم تسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، فقال رجل من القوم: إذاً: نكثر الدعاء -أي: نكثر من الدعاء- قال صلى الله عليه وسلم: الله أكثر)، هذا الحديث رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
فنحن قد ندعو بشيء فيه إثم يخص قضية فلسطين، مثلاً رجل يذهب ليبيع أرضه فتدعو له بالتوفيق، طبعاً هذا لا يستقيم، رجل يذهب ليقضي على من يجاهد في سبيل الله فتدعو له بالتوفيق، أيضاً هذا لا يستقيم، ذكرني هذا بحديث جاء في الصحيفة مع راقصة تقول: والله أنا بعد كل رقصة أدعو الله أن يوفقني في الرقصة الجديدة، فهي كذا تدعو الله، لكن الله سبحانه وتعالى لا يستجيب لهذا الإثم وهذه المعصية.
أو كالذي يأخذ رشوة ويخاف أن يراه أحد، فيقول: اللهم استر، فهو يدعو الله سبحانه وتعالى أن يستره وهو يأخذ الرشوة ويرتكب المنكر ويفعل الفاحشة، إذاً: لا بد أن نفهم القضية أولاً ثم ندعو بالدعاء المناسب.
إذاً: نرجع نحصي وسائل المساعدة إجمالاً ثم نفصل:
أولاً: تحريك القضية بالمفاهيم الصحيحة وبسرعة.
ثانياً: الدعاء لأهل فلسطين، وعلى اليهود ومن عاونهم.
ثالثاً: قتل الانهزامية في نفوس المسلمين.
كثير من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يعتقدون أنه من المستحيل أن يهزم المسلمون اليهود، أو أن يستطيعوا أن يتحركوا قيد أنملة في القضية في هذه الآونة، فهذا إحباط شديد ويأس عند كثير من المسلمين، فدورنا في هذه الفترة أن نقتل هذه الانهزامية وأن نعلي من همة المسلمين وبأسهم.
رابعاً: التبرع بالمال، وسيأتي حديث طويل عنه إن شاء الله.
خامساً: المقاطعة الاقتصادية لكل ما هو يهودي أو من دولة تساعد اليهود.
سادساً: إصلاح النفس والمجتمع.
فالخمسة الأمور الأولى هي لحل القضية في هذا الوقت الراهن، والأمر السادس إصلاح النفس والمجتمع هو إصلاح القضية على المدى البعيد، إصلاح الأصل الذي بسببه هزم المسلمون، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه في وصيته الجامعة لـسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه: إنكم لا تنصرون على عدوكم بقوة العدة والعتاد، ولكن تنصرون عليه بطاعتكم لربكم، ومعصيتهم له، فإن تساويتم في المعصية كانت لهم الغلبة عليكم بقوة العدة والعتاد.
نعم الأصل الذي أدى إلى كل هذا الانهيار في مقاومة المسلمين، وأدى إلى انتصار ثلاثة ملايين أو أربعة ملايين، أو خمسة ملايين من اليهود في فلسطين على مليار وثلث مليار في أرض واسعة وبقاع مترامية الأطراف هو ضعف العلاقة مع الله سبحانه وتعالى، وبعد الناس عن الطاعة وعن الكتاب الكريم والسنة المطهرة.
فهذه وسائل ستة -وغيرها كثير- نفصل فيها إن شاء الله الواحدة تلو الأخرى في هذه المجموعة من المحاضرات.
أولاً: تحريك القضية بالمفاهيم الصحيحة وبسرعة.
هذه الجملة تشتمل على ثلاثة مقاطع، تحريك القضية المقطع الأول، بالمفاهيم الصحيحة المقطع الثاني، وبسرعة المقطع الثالث.
تحريك القضية سبحان الله!! الله سبحانه وتعالى حركها لنا، تذكرون أن قضية فلسطين قد خمدت فترة من الزمان بعد معاهدة أوسلو حوالي سبع سنوات كاملة، لكن الله حركها بزيارة شارون للمسجد الأقصى في 28/9/2000م، وهو حدث مع عظمه أهون من أحداث سابقة كثيرة، هناك أحداث كثيرة جداً غير زيارة شارون لم يتحرك لها المسلمون هذا التحرك، هناك قتل للمسلمين وتدمير وتشريد، هناك مذابح مثل مذبحة صبرا وشاتيلا لم يتحرك لها المسلمون مثلما تحركوا لزيارة شارون وهي أهون من قتل المسلمين، لما زار شارون المسجد الأقصى، هذه الحركة للقضية فَعَّلها سبحانه وتعالى، ولابد أن نشكر هذه النعمة، نعمة تحريك القضية، وشكر النعمة يكون باستمرار تحريك القضية.
فدورك أنت عندما تقابل شخصاً تكلمه عن قضية فلسطين، تتحدث في كل الدوائر المتاحة: دائرة البيت، دائرة الأهل والأقارب، دائرة الأصدقاء، دائرة العمل، كذلك بعض الدوائر السطحية التي تلتقي بها قدراً دون ترتيب، كأن تكون منتظراً في عيادة الطبيب، أو تكون جالساً فتتحدث مع الناس العاديين عن هذا الموضوع، أو راكباً (تاكسي) وتتحدث مع سائق التاكسي في هذا الموضوع، أو راكباً قطاراً أو حافلة، فتتحدث مع جارك في المقعد في هذا الموضوع.
وبعض الناس لهم دوائر أوسع، فمن الممكن أن تكتب مقالاً في جريدة أو حتى خطاباً إلى بريد إحدى الصحف، أو تكتب مقالاً في مجلة حائط في مدرسة أو جامعة، أو تخطب خطبة في مسجد إن تيسر لك هذا الأمر، أو على الأقل توعز لخطيب بخطبة عن فلسطين، يذكر الناس فيها بالمفاهيم الصحيحة لقضية فلسطين، ومن الممكن أن تنظم ندوة، أو تشكل صالوناً ثقافياً، وتأتي بشخص يتكلم فيه عن القضية.
وقد تكلمنا من قبل في السيرة عن دور أسعد بن زرارة رضي الله عنه وأرضاه لما ذهب إلى مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه، وكان ذلك في المدينة، فقد كان مصعب بن عمير هو القارئ الذي يعلم الناس، وأسعد بن زرارة رضي الله عنه كان يتعلم من مصعب بن عمير ، ولا يملك القدرة على الخطابة التي يملكها مصعب بن عمير ، فكان أسعد بن زرارة يهيئ المجالس لـمصعب بن عمير ويدله على الرجال الذين يتوسم فيهم الخير، ولو سمعوا الدعوة لآمنوا بها واتبعوها، ولاتبع الدعوة بإيمانهم أفراد كثر، وهكذا كان لـأسعد بن زرارة دور كبير مع أنه لم يكن يتكلم هو بذاته كما يتكلم مصعب بن عمير رضي الله عنهم أجمعين.
هناك وسائل أخرى لتحريك القضية كالمظاهرات السلمية، إذ تعتبر وسيلة من وسائل التحريك، ولابد أن يكون لها سمت مختلف عن سمت البلاد الغربية الفاسدة التي ليس لها ضوابط من الأخلاق والشرع، فليس من اللائق أن تشكل مظاهرة من أجل تحريك قضية فلسطين، فتقوم بتكسير المحلات والإفساد في الأرض، أو بسباب لا يليق بالمسلم: (ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء)، لكن بوسائل متعددة في إطار الأخلاق الإسلامية الشريفة لتحريك قضية فلسطين.
المقطع الثاني في الجملة: هو المفاهيم الصحيحة، أؤجله لأنه سيطول بنا.
المقطع الثالث: وبسرعة. نقول: تحريك القضية بالمفاهيم الصحيحة وبسرعة، ماذا نقصد بقولنا: بسرعة؟ هناك أناس اشتهرت على ألسنتهم كلمة فيها نوع من الهروب. يقولون: الزمن جزء من العلاج، يعني: مع مرور الوقت ستحل القضية، وهذا يا إخوة! مخالف تماماً للواقع، فالوقت ليس في صالحنا كأفراد في الكيان الإسلامي الواسع المترامي الأطراف، وليس في صالح القضية الفلسطينية.
هو ليس في مصلحة القضية الفلسطينية؛ لأنه مع مرور الوقت يزداد الألم الفلسطيني، وتزداد القوة اليهودية، ويزداد التبجح اليهودي، ومع مرور الوقت يزيد عدد الشهداء وهذا في حد ذاته ليس خسارة حقيقة، كما سيأتي الحديث بالتفصيل إن شاء الله، لأنهم فازوا بالشهادة، ولكن الخسارة الحقيقة هي استمرار الظلم دون رادع،استمرار قتل الأبرياء دون رادع، ومع مرور الوقت تهدم المنازل الواحد تلو الآخر، وتجرف الأراضي، ويتزايد عدد من لا مأوى لهم، وبذلك تزيد أوراق الضغط اليهودية.
مع مرور الوقت يزداد تعذيب الأفراد بل الأطفال، واقرءوا مقالاً في جريدة الحياة اللندنية بتاريخ 19/7/2001م عن التقرير الذي أعدته المحامية السويدية برجيتا عن حجم الإرهاب الفظيع الذي تمارسه المحاكم الإسرائيلية بحق الأطفال الفلسطينيين، وعن الأعمال الوحشية التي لا تصدق في السجون الإسرائيلية، وبحكم القانون للضغط على أهالي الطفل، وذلك يشمل السجن لفترات طويلة، والجلد، والصعق بالكهرباء، والتقييد للأطفال، وما خفي كان أعظم.
مع مرور الوقت تزداد المستوطنات، وتزداد الهجرة اليهودية للأراضي الفلسطينية، ويزداد الإحلال اليهودي للشعب الفلسطيني.
مع مرور الوقت يتناقص الغذاء والدواء والكساء لغلق كل المعابر والحدود، وبذلك يموت الشعب جوعاً ومرضاً.
مع مرور الوقت يزداد عدد اللاجئين والمشردين والفاقدين للمأوى.
مع مرور الوقت يزداد التجرؤ اليهودي على المسلمين، فنسمع عن أشياء جديدة ما كنا نسمع عنها في القضية من قبل، نسمع عن حركات اغتيال متكررة لقادة بعينهم، نسمع عن عمليات اختطاف لأفراد بعينهم من عقر دارهم، نسمع عن ضرب للبيوت بالمروحيات والطائرات الأباتشي والأف16، بل نسمع عن حديث على الملأ يناقش: هل نقتل زعماء السلطة أم نتركهم هكذا؟
تبجح يهودي صارخ، ورعاية أمريكية وعالمية لهذا الإجرام، حتى إن نائب الرئيس الأمريكي شين يصرح بمنتهى الوقاحة بأنه لا يرى بأساً في عمليات الاغتيال ما دام هؤلاء الأفراد قنابل بشرية موقوتة.
مع مرور الوقت يحدث شيء خطير اسمه إلف المأساة. يتعود المسلمون على منظر دماء الشهداء، ومنظر الجرحى بالمئات والآلاف، ومنظر الأمهات الثكالى، ومنظر الأطفال الباكية المشردة، يتعودون على منظر الهدم والتجريف والظلم والإبادة، فلا تتحرك القلوب كما كانت تتحرك، ولا تذرف الدموع كما كانت تذرف، ولا تتأثر المشاعر كما كانت تتأثر، الناس لا تشعر بقيمة الشمس؛ لأنها ألفت أن تراها كل يوم، الناس لا تشعر بجريمة ترك الصلاة؛ لأنها ألفت تركها كل يوم وهكذا، نحن نريد للقضية أن تحل قبل أن تحدث كل هذه الأمور، وقبل أن نألف مأساة فلسطين.
إذاً: الوقت ليس علاجاً وليس مصلحة لقضية فلسطين، كما أن مرور الوقت ليس في صالحنا كأفراد، فالموت يا إخوة! يأتي بغتة، ومن مات قامت قيامته، وسيأتي والله يوم عسير نسأل فيه جميعاً ماذا فعلنا لفلسطين؟ يوم تقترب فيه الشمس من الرءوس، ويشتد فيه الزحام وتزل فيه الأقدام، ولا ينفعنا إلا العمل الصالح، سنسأل: ماذا فعلنا لهؤلاء الذين يقتلون صباح مساء على بعد أميال منك؟ ماذا فعلنا لأرض تغتصب، ودماء تراق، وحرمات تنتهك؟ ماذا فعلنا لتلك المساجد الطاهرة التي تشكو إلى ربها؟
يا ترى! ماذا سنعمل لو متنا في هذا الوقت، وسئلنا عن هذه الأشياء؟ أليس الأفضل أن نجهز إجابة لهذا الوقت وبسرعة؟
يا ترى! لو عرفت أن عصابة تدبر لقتل وسرقة جارك ألا تفعل شيئاً، ألا تتحرك، ألا تأخذك حمية؟ فما بالك لو كان تدبيراً لقتل أمة وسرقة شعب؟
يا ترى! إذا كنت ماشياً في الشارع، ومعك ابنك عمره 8 سنوات أو 10 سنوات، فجاء يهودي وأطلق رصاصة استقرت في قلبه أو في رأسه، فسقط بين يديك وسالت دماؤه وأنت لا تملك علاجاً حتى مات أمام عينيك، فترفع رأسك فتجد أكثر من مليار مسلم يشاهدون ولا يتحركون، ألا ترفع يدك إلى السماء تدعو على من شاهد ولم يتحرك، وتدعو على من سمع ولم يعقل، وتدعو على من قرأ ولم يفقه؟
يا ترى! لو وضعت أموالك كلها في بيت أثثته بتعب وكد وعرق وجهد، ثم جاءت دبابة فأضاعت جهد السنين، وهدمت أحلام المستقبل، فخرجت تحمل من بقي من أولادك مهرولاً؛ هرباً من حطام بيتك وقد اشتعلت به النيران، فإذا بك تعلم أن أكثر من مليار مسلم يشاهدون ولا يتحركون، ألا ترفع يدك إلى لسماء تشكو إلى خالقك ظلم القريب والبعيد، وتشكو ظلم العدو والصديق؟
يا أخي! ضع نفسك في مكانهم، أليس هؤلاء من المسلمين المشتركين معك في عقيدة واحدة؟ أليسوا من البشر الذين لهم أحلام كأحلامك، وآمال كآمالك، وآلام كآلامك، أم أننا لنومنا في بيوتنا آمنين، وأولادنا معنا، وأموالنا معنا، نقول: الدنيا بخير!!
أنا أريد يا إخوة! في هذه المحاضرات أن أرسخ في الذهن مفهوم الأمة الإسلامية، فالأمة الإسلامية ليست مجموعة من الدول، تربطها علاقات سياسية واقتصادية وثقافية طيبة، لا، الأمة الإسلامية شيء آخر، الأمة الإسلامية كيان واحد وجسد واحد وروح واحدة: (مثل المسلمين في توادهم، وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى).
تدبر قوله صلى الله عليه وسلم، يقول: (مثل المسلمين في توادهم) يقول: المسلمين لا يقول: المصريين، ولا السوريين، ولا الباكستانيين أبداً، الرابطة التي تجمعنا جميعاً هي الإسلام وليس محل الميلاد، هذا هو الرباط الحقيقي، هذا هو الرباط الاختياري، المرء يختار عقيدته ودينه، لا يختار محل ميلاده، فالأفغاني المسلم الملتزم بدينه وقواعد الإسلام والذي يعيش على بعد آلاف الأميال مني أقرب إلي من الجار في نفس المنزل إذا كان على غير المنهج الصحيح.
أترانا لو ربطنا علاقتنا على كوننا فقط ولدنا على أرض واحدة، أيكون هذا رباطاً صحيحاً؟ ألمجرد أنه ولد على أرض مجاورة أصبح أخاً لي تقياً كان أو عربيداً، مؤمناً كان أو فاسقاً، مسلماً كان أو يهودياً؟ المسلمون يا إخوة جسد واحد، جسد يده في السودان ومصر والجزائر والمغرب، ورجله في سوريا ونيجيريا وباكستان والعراق، كبده في السنغال ومالي واليمن وقطر، عينه في الشيشان وكشمير والأردن وأندونيسيا، أذنه في البوسنة وتركيا والكويت والنيجر، قلبه في مكة والمدينة والقدس، (حسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، ليس معقولاً أن يكون القلب مريضاً، وتكون العينان مشغولتين برؤية الأفلام والمسلسلات والمسرحيات، وفي لهو كامل عن القلب، ليس معقولاً أن يكون الكبد متهالكاً، وتكون الأذن مشغولة بسماع النكات والألحان والمباريات والمشاكل التافهة، ليس معقولاً أن تكون الرجل مقطوعة، وتكون اليدان مشغولتين بعد الأموال وكنز الذهب والفضة، (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً).
أعداء المسلمين يريدون أن يرسخوا في أذهاننا حدوداً ليست بين الأراضي فقط، ولكن بين القلوب والعقول أيضاً، سياسة استعمارية مشهورة جداً، فرق تسد، وهذه المؤامرة التفريقية التي تكلمنا عليها في بداية الدروس، فقد أدخلوا في روع المسلمين أن يعتز كل بلد بقوميته، حتى يعتز الجزائري بنفسه، ويعتبر نفسه غريباً عن المصري، ويعتز الأردني بنفسه ويعتبر نفسه غريباً عن التركي وهكذا.
أدخلوا الفرقة في قلوب المسلمين حتى أصبح المسلم في بلد إذا ساعد مسلماً في بلد آخر يعتبر ذلك تفضلاً منه ومنةً على الآخرين، أبداً يا إخوة! هذه والله حقوق وليست فضائل، كالذي يدفع زكاته للفقير هذا لا يجب أن يمن على الفقير بزكاته، فالزكاة حق مكتسب وشرعي للفقير، والله قسم الأرزاق، فجعل الناس بين غني يعطي، وبين فقير يأخذ، كذلك قسم الله الابتلاءات على بلاد المسلمين، هذا بلد ابتلي باليهودي فعليه أن يقاوم، وهذا بلد ابتلي بالأمن والمال والرخاء فعليه أن يساعد لا تفضلاً منه بل واجباً عليه وامتحاناً له.
وبهذا المفهوم مفهوم الجسد الواحد تستطيع أن تفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الطبراني : (لا يقفن أحدكم موقفاً يضرب فيه رجل ظلماً، فإن اللعنة على من حضره، حين لم يدفعوا عنه)، ونحن والله في هذا الوقت لا توجد عندنا حجة، نرى ضرب الفلسطينيين بالرصاص والصواريخ والقنابل على شاشات التلفاز والإنترنت والصحف، نراه حال وقوعه فلا عذر لنا، الوقت يا أخي! ليس في صالحنا، الموت يأتي بغتة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9-11].
ثم يا أخي! أنت لا تنصر إخوانك في فلسطين بدافع المسئولية فقط، إنه والله لأجر عظيم وثوابٌ جزيل، ولا أقول: جنة بل جنان: (من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة).
إذاً: على كل المسلمين عرباً كانوا أو غير عرب، قريبين من فلسطين أو بعيدين عنها، في بلد إسلامي أو في غيره من بلاد العالم غير المسلمة، عليهم جميعاً أن يحركوا قضية فلسطين وبسرعة، ولكن عليهم أن يحرصوا أن يحركوها بالمفاهيم الصحيحة، على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ترى ما هي هذه المفاهيم الصحيحة التي نريد أن ترسخ في أذهان المسلمين؟
هذا حديث قد يطول، أؤجله للقاء القادم.
أقول قول هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً كثيراً.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة فلسطين المؤامرة للشيخ : راغب السرجاني
https://audio.islamweb.net