اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة الصديق يوم السقيفة للشيخ : راغب السرجاني
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
ثم أما بعد:
فمع الدرس السابع من دروس الصديق رضي الله عنه وأرضاه، في الحلقة السابقة تحدثنا عن المصيبة الكبرى والبلية العظمى التي عصفت بالمدينة المنورة، وكادت أن تطيش بعقول الصحابة لولا أن الله عز وجل من على المسلمين بـالصديق رضي الله عنه وأرضاه، تلك المصيبة هي وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. وفصلنا في الفتن المتعددة التي مرت بالمسلمين بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وكانت هلكة المدينة محققة إذا لم ينتخب خليفة لها في أسرع وقت.
وذكرنا إسراع الأنصار رضي الله عنهم أجمعين بالذهاب إلى سقيفة بني ساعدة لاختيار الخليفة اعتقاداً منهم أن هذا حق لهم لا ينازعهم فيه أحد، وذكرنا مبرراتهم في ذلك، ثم ختمنا الحلقة السابقة بوصول نبأ اجتماع الأنصار في السقيفة إلى أبي بكر وعمر وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم وأرضاهم فذهب ثلاثتهم إلى السقيفة.
في هذه الأثناء وقبل وصول المهاجرين إلى السقيفة كان الأنصار قد خطوا خطوات هامة في عملية اختيار الخليفة، فاجتمع الأنصار أوسهم وخزرجهم على اختيار الصحابي الجليل سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه زعيماً للمسلمين وخليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسعد بن عبادة هو زعيم الخزرج، ومع ذلك أيده كل الأوس، وهذه لا شك فضيلة إيمانية عالية.
فمنذ سنوات قليلة وقبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كانت الحروب على أشدها بين الأوس والخزرج وآخرها يوم بعاث، والذي حدثت فيه مقتلة عظيمة جداً بين الطرفين: الأوس والخزرج، لكن الآن تغيرت النفوس وتركت حظوظها، وما عادت تفكر إلا في مصلحة هذا الدين، ولم يجد الأوس حرجاً في أن يقدموا زعيم الخزرج للخلافة، وأن يقفوا جميعاً وراءه، ولم يطرحوا اسماً أوسياً بديلاً، بل قبلوا به دونما أدنى جدل.
إذاً: الرجل المرشح الأول للخلافة في نظر الأنصار هو سعد بن عبادة ، وسعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه أهل لكل خير، ولو كان الخليفة من الأنصار فسيكون اختيار سعد بن عبادة اختياراً موفقاً لا ريب فيه.
وتعالوا نتعرف على المرشح الأول للخلافة من قبل الأنصار سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه.
للأسف كثير منا لا يعرف سعد بن عبادة أو يعرفه بصورة مشوهة، فمن هو سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه؟
إنه الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه سيد الخزرج، وأحد النقباء يوم العقبة الثانية، ففي يوم العقبة الثانية وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأنصار اثني عشر نقيباً كان منهم سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، وكان شريفاً في قومه، وكان يجير للمطعم بن عدي قوافله المارة بالمدينة، وذلك قبل الإسلام، فهو عريق في الشرف رضي الله عنه وأضاه.
وكان ممن شهد المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله مواقف مشهورة في الغزوات ولا سيما في الخندق حيث رفض إعطاء غطفان ثمار المدينة، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأيه في ذلك.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجله ويقدره ويكثر من زيارته؛ وذلك لمكانته بين الأنصار رضي الله عنهم. يروي قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زارهم في بيتهم فقال: السلام عليكم ورحمة الله، قال قيس : فرد أبي رداً خفياً) يعني: أن سعد بن عبادة رد السلام لكن بصوت منخفض فقال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بصوت لا يسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال قيس : فقلت لأبي: ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: اتركه حتى يكثر علينا من السلام.
فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (السلام عليكم ورحمة الله) وسيدنا سعد بن عبادة يريد أن يسمع (السلام عليكم) كثيراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (اتركه حتى يكثر علينا من السلام، فقال صلى الله عليه وسلم: السلام عليكم ورحمة الله، فظن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه لا أحد بالبيت فرجع، فتبعه سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه فقال: يا رسول الله! إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك رداً خفياً؛ لتكثر علينا من السلام، فانصرف معه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته، وأمر له سعد بغسل فاغتسل صلى الله عليه وسلم، ثم ناوله ملحفة مصبوغة بزعفران فاشتمل بها صلى الله عليه وسلم، ثم رفع يديه صلى الله عليه وسلم وهو يقول: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد).
وكان سعد بن عبادة رضي الله عنه جواداً واسع الكرم والسخاء، وكان الرجل من الأنصار ينطلق بالرجل من فقراء الصفة فيطعمه، وينطلق الرجل من الأنصار بالرجلين، وينطلق الرجل من الأنصار بخمسة رجال، أما سعد بن عبادة فكان ينطلق بالثمانين منهم. وتخيلوا ثمانين واحداً يأخذهم ليطعمهم في بيته رضي الله عنه وأرضاه.
وروى مسلم عن أبي أسيد الأنصاري رضي الله عنه أنه يشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خير دور الأنصار بنو النجار) وبنو النجار هؤلاء هم من الخزرج.
قال: (ثم بنو عبد الأشهل) وبنو عبد الأشهل من الأوس الذين منهم سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه.
قال: (ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة) فالرسول عليه الصلاة والسلام رتب دور الأنصار أربع مراتب: المرتبة الأولى: بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحارث، ثم بنو ساعدة.
قال: (وفي كل دور الأنصار خير) والظاهر أن أحد الحضور قد شكك في كلام أبي أسيد رضي الله عنه وأرضاه، وأبو أسيد من بني ساعدة، فقال أبو أسيد : (أتهم أنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لو كنت كاذباً لبدأت بقومي بني ساعدة) لأنه ذكر بني ساعدة في المرتبة الرابعة وليست الأولى، وبلغ ذلك سعد بن عبادة فوجد في نفسه، وسعد بن عبادة من بني ساعدة، وهو سيد الخزرج، فوجد في نفسه حزن وقال: (خلفنا فكنا آخر الأربعة، أسرجوا لي حماري آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: يريد أن يستوثق ويستفسر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه ابن أخيه سهل فقال: (أتذهب لترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم؟ أوليس حسبك أن تكون رابع أربعة؟ فرجع سعد بن عبادة وقال: الله ورسوله أعلم، وأمر بحماره فحل عنه).
هكذا ببساطة رضي أن يكون رابع القبائل في الخيرية، وقد سبقه بنو عبد الأشهل وهم من الأوس، هذا مع كون سعد بن عبادة سيد الخزرج رضي الله عنه وأرضاه، لكنه كان وقافاً عند كتاب الله وعند كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاكتفى بقوله: الله ورسوله أعلم.
وتعالوا نرجع إلى سقيفة بني ساعدة: اختار الأنصار سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه وكان مريضاً رضي الله عنه وأرضاه وجلس وهو مزمل بثوبه، يعني: متغطياً بثوبه، ولا يكاد يسمع صوته، فأراد أن يتكلم بعد اختياره؛ لأنهم فعلاً اختاروه، ولكن لا زالت البيعة لم تتم، فلم يقدر على إسماع القوم جميعاً فكان يبلغ عنه ابنه الكلام ويتحدث ابنه إلى الناس، فقال سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه بعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله: يا معشر الأنصار!
ونلاحظ في كلمته أن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة لا زالوا لم يدخلوا، ولا أحد من المهاجرين موجود في السقيفة في هذه الخطبة.
قال: يا معشر الأنصار! لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب.
ونلاحظ هنا أنه يرفع من شأن الأنصار فوق كل القبائل العربية بما فيها قبائل مكة وقريش.
ثم فسر سبب ذلك في خطبته فقال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم لبث بضع عشر سنة في قومه -يعني: أنه قعد ثلاث عشرة سنة في مكة يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأنداد والأوثان- فما آمن به من قومه إلا رجال قليل، ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أن يعزوا دينه، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيماً عموا به، حتى إذا أراد الله بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة.
وانظر إلى كلام سيدنا سعد بن عبادة كم هو لطيف.
يقول: حتى إذا أراد الله بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة، وهنا ينسب سعد بن عبادة الفضل إلى الله عز وجل، ثم يكمل ويقول: وخصكم بالنعمة، فرزقكم الله الإيمان به وبرسوله والمنع له ولأصحابه والإعزاز له ولدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشد الناس على عدوه وأثقلهم على عدوه من غيركم.
وطبعاً! كلام سعد بن عبادة كلام صحيح وكلام حقيقي، فالمهاجرون في بدر كانوا اثنين وثمانين أو ثلاثة وثمانين، لكن الأنصار كانوا مائتين وواحداً وثلاثين، وهكذا في كل المشاهد كان الأنصار دائماً أعدادهم أكثر بكثير من أعداد المهاجرين.
ثم يكمل سعد بن عبادة خطبته فيقول: حتى استقامت العرب لأمر الله طوعاً وكرهاً، وأعطى البعيد المقادة صاغراً داخراً. يعني: أن العرب جميعاً سلموا القيادة للمسلمين بفضل الأنصار.
قال: حتى أثخن الله عز وجل لرسوله بكم الأرض ودانت له بأسيافكم العرب. وهنا سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه كأنه يشير إلى اعتقاده الراسخ أن العرب ستستهدف الأنصار بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأنصار هم الذين أرغموا العرب على الاتباع.
ثم ختم سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه خطبته بكلمة جميلة فقال: ثم توفى الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم وهو عنكم راض وبكم قرير العين.
ومع قصر الخطبة في كلماتها إلا أنها كانت تحمل معاني عميقة كثيرة، ويمكن القول إجمالاً: إن سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه ذكر مفاخر الأنصار وأفضالهم وحب الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ووضع الأنصار بالنسبة للعرب، ذكر كل ذلك لهدفين رئيسين فيما يبدو لي:
الهدف الأول: رفع الحالة المعنوية للأنصار، فهناك مصاب فادح وهو أنه لا يزال الرسول عليه الصلاة والسلام لم يدفن بعد، فنفى رضي الله عنه وأرضاه عنهم الإحباط واليأس، ودعاهم لاستمرار المسيرة كما بدءوها والثبات على أمر هذا الدين.
الهدف الثاني الواضح: التدليل على أحقية الأنصار في الخلافة فيما يبدو لهم؛ من حيث إنهم هم الذين نصروا وآووا وقاتلوا العرب ومكنوا للدين. هكذا، هذه كانت خطبة سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه في أول اجتماع السقيفة.
وإجمالاً: الخطبة تعبر عن حكمة الصحابي الجليل سعد بن عبادة رضي الله عنه، ورضي الله عن الأنصار والمهاجرين وسائر الصحابة أجمعين.
بعد انتهاء هذه الخطبة الموجزة دخل الصديق أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه ومعه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما، ورآهم الأنصار، ويبدو أنهم كانوا لا يتوقعون ظهور المهاجرين الآن، وظهور المهاجرين في هذا الوقت قد يعطل البيعة، فالأنصار استقروا على سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه لكنه لم يبايع بعد، والأمر عرضة للنقاش الجديد والجدل، والذين دخلوا من المهاجرين ليسوا رجالاً عاديين، فقد دخل الصديق أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه الوزير الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم وثاني اثنين والصاحب القريب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه عمر بن الخطاب الوزير الثاني لرسول صلى الله عليه وسلم والملهم المحدث الفاروق، ومعه أيضاً أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ، وإن صح القول فهو في مقام الوزير الثالث لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان كثير الاستشارة له والاعتماد عليه في أمور كثيرة، فالسيدة عائشة -كما جاء في صحيح مسلم - عندما سئلت: (من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلف؟ فقالت: أبو بكر . قيل لها: ثم من بعد أبي بكر ؟ قالت: عمر . قيل لها: ثم من بعد عمر ؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح).
و أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه مات في سنة ثمانية عشر هجرية، ولا شك أنه لو كان حياً لكان من الذين اختارهم عمر بن الخطاب ليختاروا من بينهم خليفة للمسلمين بعد وفاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
إذاً: الثلاثة الذين دخلوا على الأنصار هم أصحاب الرأي والمشورة من الصحابة، ولا شك أنهم يمثلون الآن رأي المهاجرين.
إذاً: هنا في هذا الوقت من الممكن أن تحدث مواجهة، فالأنصار يريدون سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه والمهاجرون لم يفصحوا بعد عن رأيهم، لكن لعل لهم رأياً آخر، وهنا حدثت لحظة هدوء وترقب، فيا ترى ماذا سيقول المهاجرون؟ أيقرون بخلافة سعد بن عبادة الأنصاري أم يرشحون خليفة غيره؟
أترك لكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يصور لكم الموقف كما جاء في صحيح البخاري ومسلم .
يقول عمر : فانطلقنا حتى إذا أتيناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم فقلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة. يعني: أنهم قد وضعوه في مكان في صدر المجلس فلفت نظر ابن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ولعله أدرك أنه قد رشح بالفعل للخلافة.
يقول عمر : قلت: ما له؟ قالوا: يوعك. وفي رواية: وجع يوعك، يعني: مريض. فلما جلسنا قليلاً قام خطيبهم. يعني: خطيب الأنصار، وهنا حدثت لحظة أكيد من الصمت، ثم أدرك الأنصار أن وجود هؤلاء المهاجرين الثلاثة قد يغير من الأمور ويحدث ما لا يريدونه، فقام خطيب الأنصار يريد أن ينهي المسألة قبل أن يتكلم المهاجرون، وخطيب الأنصار هذا لا نعرف اسمه، ولم يشر إلى اسمه في الروايات الصحيحة، وإن كان ابن حجر العسقلاني يقول في فتح الباري: إنه من المحتمل أن يكون ثابت بن قيس رضي الله عنه وأرضاه، فهو الذي كان يطلق عليه خطيب الأنصار، والله أعلم بحقيقة الأمر.
المهم أنه وقف خطيب الأنصار وأراد أن يتكلم كلاماً فصلاً كما في رواية البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: أنه تشهد وأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد: فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم معشر المهاجرين رهط. وفي رواية: رهط منا. وهذه بوادر مشكلة، فالخطيب الأنصاري يذكر أن الأنصار هم كتيبة الإسلام وأنصار الله بينما المهاجرون رهط، أي: عدد قليل. وفي رواية: رهط منا، أي: عدد قليل بالنسبة لنا، وكأنه توقع أن المهاجرين سيريدون الخلافة، فأسرع يبطل حجة المهاجرين بأنهم أعداد قليلة بالنسبة للأنصار.
وطبعاً الأنصاري يقصد المهاجرين قبل فتح مكة الذين هاجروا إلى المدينة المنورة والذين يعيشون في المدينة الآن، وإلا فلو اعتبر أعداد القرشيين في مكة والذين أسلموا بعد الفتح فسيكونون أضعاف أضعاف الأنصار.
المهم أن الخطيب الأنصاري ذكر هذا الكلام كتلميح إلى أن الخلافة يجب أن تكون في العدد الأكبر الذي نصر الإسلام في كل المشاهد والمواقع بنسبة دائماً ما تكون أكبر من المهاجرين. هذا كان من باب التلميح، ثم إنه بعد ذلك صرح الخطيب الأنصاري بعد ذلك وقال: وقد دفت دافة من قومكم -يعني: جاءت مجموعة قليلة من المهاجرين- فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، أي: يستثنونا من الخلافة في بلادنا، ثم سكت الأنصاري.
وهنا الأنصاري صرح بشيء لابد أن يحدث بعده جدال طويل، فهو قال صراحة: إنكم أيها المهاجرون -ويقصد أبا بكر وعمر وأبا عبيدة - قد جئتم لتخرجونا من الأمر، فهو يرى أنه حق للأنصار.
وهنا جاء موقف قد يقول فيه المسلمون: نحن الأنصار، وآخرون: نحن المهاجرون، وهذا أمر خطير، ورسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك تماماً ونهى عن دعوى الجاهلية والقبلية، ونهى عن فساد ذات البين، ولابد من الحكمة الشديدة والحرص البالغ في معالجة الموقف وهو ما زال في أوله.
ولاحظوا أن كل هذا الموقف يحدث في نفس اليوم الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدفن بعد.
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: فلما سكت - أي: الخطيب الأنصاري - أردت أن أتكلم، وكنت قد زورت مقالة أعجبتني. أي: هيأت وحسنت مقالة، أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر ، قال: فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر : على رسلك، أي: على مهلك؛ يعني: أنه يريد أن يتكلم هو رضي الله عنه وأرضاه.
وسيدنا أبو بكر خشي أن يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه كلاماً شديداً يعقد الموقف، يقول عمر بن الخطاب : فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر. وعمر رضي الله عنه وكذا كل الصحابة كانوا يجلون أبا بكر إجلالاً كبيراً، وكان إذا تكلم رضي الله عنه أنصتوا له.
يقول عمر : فوالله! ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري -يعني: في تهييئي وتحسيني للكلام- إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها.
فماذا قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه؟ تعالوا كلنا نرى أحكم الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم ماذا يقول في خطبته، قسم الصديق رضي الله عنه وأرضاه مقالته إلى ثلاثة أقسام أو ثلاث مراحل في غاية الحكمة:
أولاً: يقول عمر : فلم يدع الصديق شيئاً أنزل في الأنصار أو ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ذكره. يعني: ذكر كل المديح الذي جاء في الأنصار، ثم قال: لقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو سلك الناس وادياً وسلك الأنصار وادياً لسلكت وادي الأنصار، وما ذكرت فيكم من خير فأنتم أهله، وإنا والله! يا معشر الأنصار! ما ننكر فضلكم ولا بلاءكم في الإسلام ولا حقكم الواجب علينا).
وسبحان الله! بهذه المقدمة اللطيفة احتوى الصديق رضي الله عنه وأرضاه الأنصار، وأشاع جواً من السكينة في السقيفة، ووسع جداً في صدر الأنصار، وأعطى لكل ذي قدر قدره. هذا كله دون كذب ولا نفاق، إنما ذكر الحق الذي ذكره الله عز وجل وذكره رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم. فهذه كانت أول مرحلة أو أول خطوة في كلام الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
ثانياً: أما وقد سكنت النفوس فليذكر الحق الذي لابد منه، قال الصديق رضي الله عنه: ولكن العرب لا تعرف هذا الأمر -أي: الخلافة- إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب داراً ونسباً.
و الصديق هنا يحاول أن يوضح بهدوء للأنصار أن الحكمة تقتضي أن تكون الخلافة في قريش؛ لأن العرب لن تسمع ولن تطيع إلا لقريش، فمنهم النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أوسط العرب نسباً وأكثر العرب قرباً لقلوب العرب لمكانة مكة الدينية القديمة في قلوب الناس.
فإذا كان الخليفة من قريش اجتمع العرب عليه مهما اختلفت قبائلهم، وإن كان من غيرهم لم يقبلوا به مهما كان هذا الخليفة رجلاً صالحاً عادلاً تقياً.
إذاً: ليست القضية تقليلاً أو تهميشاً للأنصار، فإنهم فعلاً أهل الفضل وأنصار الإسلام، وليست القضية هي حكم المدينة المنورة فقط حتى نختار حاكماً من أهلها عليها، لكن يجب أن يوسع الأنصار مداركهم ليفقهوا أن هذا الخليفة المنتخب يجب أن يسمع له ويطيع كل العرب ثم كل الأرض بعد ذلك.
وحتى لو أن الأنصار اختارت رجلاً هو أتقى وأفضل من رجل المهاجرين أليس من الحكمة أن يتولى الأصلح الذي يجتمع عليه الناس جميعاً؟
ليس هذا أبداً من باب القبلية والعنصرية، ولكنه من باب فقه الواقع، فالواقع يملي شروطه، والخليفة يجب أن يكون من قريش وبالذات في ذلك الزمن، ثم أليس في المهاجرين من يساوي في الفضل أو يفوق سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه وعن الصحابة أجمعين؟ لا شك أن طائفة المهاجرين ملأى بأصحاب الفضل والرأي والحكمة والتقوى.
إذاً: هذا طرح جديد يقدمه الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وهو أن يكون الخليفة من قريش، وهو رأي منطقي ومعقول وله أبعاده العميقة.
ثالثاً: يكمل الصديق الكلمة بالمحور الثالث فألقى جملة رائعة، قال الصديق : وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيد عمر بن الخطاب وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بينهما رضي الله عنهم أجمعين. يعني: أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه يقصد أنه ما طرح فكرة أن يكون الخليفة من قريش طمعاً في الخلافة، ومع كونه أفضل المهاجرين بل أفضل الصحابة بل أفضل المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه يقدم أحد الرجلين: عمر أو أبا عبيدة بن الجراح ؛ زهداً في الخلافة وبعداً عن الدنيا.
و الصديق لا يقول هذا الكلام من باب السياسة أو الحكمة أبداً، ففي ضوء سيرة الصديق يتبين أنه كان صادقاً تماماً في عرضه هذا، وأنه ما رغب في الإمارة ولا سعى لها، ولما بويع الصديق بعد ذلك قام خطيباً ذات يوم فقال: إني وليت هذا الأمر وأنا له كاره، والله! لوددت أن بعضكم كفانيه، إلا وإنكم إن كلفتموني أن أعمل فيكم بمثل عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أقم به، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عبداً أكرمه الله بالوحي وعصمه به، ألا وإنما أنا بشر، ولست بخير من أحدكم، فراعوني، فإن رأيتموني استقمت فاتبعوني، وإن رأيتموني زغت فقوموني.
هذا الكلام يخرج فعلاً من قلب الصديق ، وعندما تولى إمارة المسلمين ما ظهر عليه ما يشير إلى رغبته فيها، كان عابداً زاهداً مجاهداً، كان كثير التفكير، كثير السهر، كثير العمل، ولم يستمتع بدنيا ولا بسلطة ولا بقيادة.
إذاً: الصديق كان صادقاً في عرضه في أن يبايع أحد الرجلين: عمر أو أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم أجمعين.
الصديق خرج حظ نفسه من نفسه، وعلى عظم مكانته كان يقدر عمر ويقدر أبا عبيدة ويحفظ لهما قدرهما، ولكن على الجانب الآخر كان الصحابة جميعاً يحفظون للصديق مكانته ووضعه، ولما رشح الصديق عمر أو أبا عبيدة للخلافة ماذا كان رد فعلهما؟
يعلق عمر بن الخطاب على كلام الصديق بترشيحه فيقول: فلم أكره مما قال غيرها، والله! لئن أقدم فتضرب عنقي لا يكون في ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر هكذا كان ابن الخطاب دائماً يعرف للصديق فضله، ويتمنى صادقاً أن يموت في غير معصية ولا أن يقدم على الصديق . سبحان الله! أي مجتمع عظيم هذا الذي يهرب فيه مرشحون للرئاسة من الرئاسة؟!
الآن أصبح هناك رأيان: رأي يؤيد مرشحاً من الأنصار ويقف وراءه معظم رءوس الأنصار في المدينة، ورأي يؤيد مرشحاً من قريش ويقف وراءه ثلاثة فقط من المهاجرين، وكل له حجته ومنطقه. وهذا ليس خلافاً بسيطاً عابراً، هذا خلاف على ملك ورئاسة وسلطان، فلننظر إلى الجيل القدوة كيف يتعامل مع اختلاف وجهات النظر.
قام الحباب بن المنذر الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، والحباب بن المنذر هذا هو الذي أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بموقع المعركة في بدر بعد أن نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزل آخر، فوافقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرة ثانية أشار عليه في خيبر في المكان الذي ينزل فيه المسلمون كذلك، لهذا كان يعرف بين الصحابة: بذي الرأي.
قام الحباب بن المنذر رضي الله عنه وأرضاه يعرض رأياً رأى أنه رأي متوسط بين الرأيين، كما يقولون: حل يرضي جميع الأطراف، فقال: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، وهذه كلمة كان العرب كثيراً ما يذكرونها لمن يحتكون به كثيراً برأيه ومشورته.
وأحد رواة الحديث سأل الإمام مالك عن معناها فقال له: كأنه يقول: أنا داهية.
ثم قال الحباب بن المنذر رضي الله عنه وأرضاه: منا أمير ومنكم أمير، يعني: يريد اختيار أميرين، أميراً من الأنصار على الأنصار وأميراً من المهاجرين على المهاجرين، أو يختار أميرين تكون لهما القيادة على دولة الإسلام سوياً.
وهنا فيه أكثر من ملاحظة على رأي الحباب بن المنذر رضي الله عنه وأرضاه:
أولاً: هذا تنازل سريع من الأنصار عن موقفهم من اختيار الخليفة منهم، منذ قليل كان الخليفة المختار سعد بن عبادة ، وكان سيختار خليفة على كامل الدولة الإسلامية ثم هاهم بكلمات قلائل من الصديق يتنازلون عن نصف الخلافة، وهي محاولة صادقة لتقريب وجهات النظر والالتقاء في منتصف الطريق.
الملاحظة الثانية على كلام الحباب بن المنذر : أنه بعد أن قال: منا أمير ومنكم أمير، أضاف قولاً آخر أخرجه ابن سعد بسند صحيح كما قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري، أضاف الحباب : فإنا والله! ما ننفس عليكم هذا الأمر، ولكنا نخاف أن يليها أقوام قتلنا آباءهم وإخوتهم. يعني: يقصد أن الأنصار في الغزوات قتلوا عدداً كبيراً من أهل مكة من القرشيين، وسيترك ذلك ثأراً في قلوب قريش، فإن تولى القرشيون انتقموا من الأنصار. وهذا يضيف عاملاً آخر إلى جوار العوامل التي وضعها الأنصار في حساباتهم عند اجتماعهم لاختيار الخليفة من بينهم كما ذكرنا في الدرس السابق.
ويعلق الخطابي رحمه الله على ذلك فيقول: إن العرب لم تكن تقر بالسيادة لأحد على قوم إلا لمن يكون منهم، فالأنصار يستغربون كعامة العرب أن يكون عليهم أمير من غيرهم، وهذا صحيح لمن يعرف أحوال العرب قبل الإسلام، فمهما صغرت القبيلة فإن رئيسها يكون منها، وقبل الجميع برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان نبياً، وكانت القبلية معوقاً رئيسياً لكثير من الناس في دخول الإسلام.
فجاء الإسلام وألغى القبلية، لكن هذه كانت قواعد إدارة البلاد لمدة سنوات كثيرة، ولم يبتعدوا عن هذه القواعد إلا منذ سنوات معدودات، ولا ننسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات إلا منذ سويعات قلائل.
إذاً: الملاحظة الثانية: أن ما جعل الحباب يقول هذا الكلام ليس الحقد على المهاجرين، ولكن خوفهم من نظام جديد قد تكون فيه خطورة على حياتهم جميعاً.
الملاحظة الثالثة على كلام الحباب بصرف النظر عن الخلفيات من وراء كلام الحباب رضي الله عنه وأرضاه، أمن الحكمة أن يتولى الخلافة رجلان؟ في المثل: السفينة التي فيها رئيسان تغرق. فمن المستحيل أن تدار بلد بخليفتين، بل إن هذا أمر منهي عنه في الشرع، وفي منتهى الوضوح وفي منتهى الصرامة.
روى الإمام مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر) هكذا في منتهى الوضوح.
ومن ثم فـالحباب بن المنذر رضي الله عنه وأرضاه إما لم يصله الحكم ولا يعرفه، وإما أنه أراد أن ينسحب الأنصار من الخلافة ولكن بأسلوب متدرج؛ منعاً لإحراج كبيرهم سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، لكن هذا لم يكن ليمر دون تعليق من الصحابة، فإن كان الحكم قد خفي على أحدهم فلابد أن آخرين قد أدركوا الصواب.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: إنه لا يصلح سيفان في غمد واحد. يعني: لا يصلح خليفتان في البلد. فقال خطيب الأنصار - ولعله كما ذكرنا من قبل ثابت بن قيس رضي الله عنه وأرضاه -: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استعمل رجلاً منكم قرنه برجل منا فتبايعوا على ذلك. يعني: أن خطيب الأنصار يحاول أن يؤيد رأي الحباب بن المنذر ولكن بتنازل أكبر، أي: أنه يقبل بخليفة من المهاجرين مقروناً معه بمساعد من الأنصار، لكن يبدو أيضاً من كلامه أنه لا يقصد نائباً للخليفة بل هو أيضاً خليفة ولكن في درجة لاحقة للخليفة الأول، وهذا أيضاً -كما هو واضح- ليس بمنطقي.
وهنا عمر بن الخطاب أيضاً تكلم مرة ثانية وقال: هيهات هيهات لا يجتمع اثنان في قرن، والله! لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم، ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين، ثم قال عمر : من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة.
ولاحظ هنا أن عمر بن الخطاب بدأ يحتج، ومن المؤكد أن صوته قد ارتفع ولو قليلاً، والكلام الذي قاله يحتمل معاني كثيرة، فهو يقول: إنه لا أحد من العرب يستطيع أن ينازع عشيرة محمد صلى الله عليه وسلم الإمارة، والأنصار من العرب وهي داخلة في الكلمة العامة التي قالها الفاروق عمر رضي الله عنه وأرضاه، وإذا أصرت على الخلافة قد تورط نفسها في هلكة كما قال عمر رضي الله عنه وأرضاه.
وهنا تكلم أحد الأنصار، وبدأت تحصل مواجهة واضحة، ولم تذكر الروايات اسم هذا الأنصاري، جاء في مسند الإمام أحمد بسند صحيح أنه قال: إذاً: أولاً: نختار رجلاً من المهاجرين وإذا مات اخترنا رجلاً من الأنصار، فإذا مات اخترنا رجلاً من المهاجرين، وكذلك أبداً. ونلاحظ أن هذا الأنصاري الجديد -ولا نعرف من هو- يقدم تنازلاً جديداً، فهو يقدم بيعة المهاجرين، ثم هو يريد أن يدلل على كلامه ويؤكد فقال: فيكون أجدر أن يشفق القرشي إذا زاغ أن ينقض عليه الأنصاري، وكذلك الأنصاري يشفق إن زاغ أن ينقض عليه القرشي. يعني: يريد أن يكون الخليفة مرة من المهاجرين ومرة من الأنصار، ومرة من الأنصار، وهو يقدم أولاً المهاجرين، يعني: في هذا الوقت سنختار من المهاجرين، لكن بعده من الأنصار.
وهذا وإن كان ظاهره أنه سيحل الموقف الآن باختيار خليفة من المهاجرين إلا أنه سيؤجل الفتنة عدة سنوات أو شهور، لكنها ستحدث حتماً، فقد يدخل الشيطان بين الفريقين في تبادل السلطة، والأهم من ذلك أن العرب مستقبلاً بعد موت الخليفة الأول لن ترضى بالخليفة الأنصاري الجديد، ومن ثم فهذا الرأي أيضاً لا يقبل.
فوقف أيضاً هنا عمر بن الخطاب ، وكل قليل يرون عمر هو الذي يتقدم؛ لأنه كان شديداً في الحق حريصاً على الوضوح، بعيداً كل البعد عن تمييع الأمور أو دفن النار تحت الرماد، فقال في قوة وحدة وفي منتهى الشدة: لا والله! لا يخالفنا أحد إلا قتلناه، إنها كلمة شديدة، ومن المؤكد أن الجو اشتد في السقيفة، لكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يريد أن يوضح الأمور على حقيقتها، فإن كانت الخلافة فعلاً من حق قريش فالذي سينازعهم فيها لابد أن يقتل شرعاً، فإذا كانت العرب جميعاً ستبايع القرشيين ولن تبايع الأنصار فالاجتماع على القرشيين واجب، وهنا تكون مطالبة الأنصار بالإمارة مخالفة شرعية كأنها ستقود إلى الفرقة وإلى الفتنة، والفتنة أشد من القتل، لذلك شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل الخليفة الآخر إذا بويع للأول واجتمع الناس عليه وكان مقيماً لشرع الله غير مبدل ولا محرف.
لذلك والله! سمي الفاروق فاروقاً؛ لأنه فعلاً في كل مواقفه يكره اللون الرمادي غير الواضح، بل يحب أن يوضح الأمور على حقيقتها، وهذا وإن كان يغضب بعض الناس أو يظنون فيه الظنون إلا أنه على المدى البعيد يقمع الفتنة ويرسخ الطمأنينة، لكن من المؤكد أن هذه الحدة قد أثارت بعض الأنصار، فالنفس العربية بصفة عامة لا تقبل التهديد وبالذات لو كانت هذه النفس نفس فارس، فقام فارس الأنصار الحباب بن المنذر رضي الله عنه وأرضاه وأعاد وكرر: منا أمير ومنكم أمير، وكان قد أثارته كلمات الفاروق عمر رضي الله عنه وأرضاه، فلم يكتف بذلك، بل قال كلمة أحسبها أفلتت منه: وإن شئتم أعدناها جذعة، أي: أعدنا الحرب من جديد. فارتفعت الأصوات وكثر اللغط.
ونلاحظ أنه مع كل هذا الحوار والجدل فإننا لم نسمع سعد بن عبادة رضي الله عنه ولا مرة، فمنذ دخل المهاجرون في أول اللقاء لم يتكلم ولا مرة، ولم يطلب لنفسه ولم يبرر ولم يقل: قد بايعني قومي.
ثم نلاحظ أن الأنصار مع كل هذا الحوار الطويل لم يذكروا ولو مرة واحدة مناً على المهاجرين ولا تفضلاً عليهم، فلم يقولوا مثلاً: جئتمونا مطردوين فآويناكم، فقراء فأغنيناكم، محتاجين فأعطيناكم. وهذا كله واقع وصحيح، ولكن أدب الأنصار وخلق الأنصار أغلق أبواب الشياطين.
ونلاحظ أيضاً أن المهاجرين لما طلبوا الإمارة فيهم لم يقولوا ولو مرة واحدة: إنهم أفضل من الأنصار، أو إن كفاءتهم القيادية أو الإدارية أو الأخلاقية أو الروحية أكبر من كفاءة الأنصار، أبداً، كل ما يريدون ترسيخه هو صدق الواقع، والواقع سواء كان حلواً أو مراً يقضي بأن العرب لن تطيع إلا لقريش، فالآن ستطيع قريشاً وبعد عشر سنين ستطيع قريشاً وبعد مائة سنة ستطيع قريشاً، وما دام الواقع لم يحل حراماً أو يحرم حلالاً فلابد من مراعاته.
وكما ذكرنا من قبل: لأن يجتمع المسلمون على رجل مرجوح أو أقل صلاحاً خير من أن يفترقوا على رجل راجح أو أكثر صلاحاً. هذه هي المعاني التي كان يدافع عنها المهاجرون الثلاثة.
ونلاحظ أيضاً في هذا الموقف في سقيفة بني ساعدة أن الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً بشر يجتهدون في الرأي، فيصيب بعضهم فله أجران، ويخطئ الآخر فله أجر، فكما لا نرضى أن يطعن المستشرقون وأتباعهم في صدق وأمانة وعدالة الصحابة لا نقبل من الناحية الأخرى أن نعتقد أن حياتهم كانت اتفاقاً بلا اختلاف، أو اجتماعاً في الرأي دون تفرق فيهم أبداً، فالخلاف بين المسلمين أمر حتمي، لابد أن يحدث، بل حدث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلف المسلمون في قضايا كثيرة في وجوده صلى الله عليه وسلم، بل اختلف صلى الله عليه وسلم مع الصحابة في بعض القضايا التي ليس فيها وحي، بل أحياناً كان يرجح رأي الصحابة كما في قصة أسارى بدر عندما رجح رأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه الرجل الموفق المحدث الملهم الذي نزل القرآن الكريم موافقاً لرأيه في أمور عدة. فالصحابة حصل بينهم خلاف في الآراء، لكن لابد من اجتماع القلوب مهما اختلفت الآراء.
وتعالوا نرجع ثانية لموقف الصحابة بعد الكلمات الأخيرة لـعمر بن الخطاب وللحباب بن المنذر رضي الله عنهما، هذا الموقف المتأزم كيف يحل؟ وهذا الصوت المرتفع كيف ينخفض؟ وهذا الصدر الضيق كيف ينشرح؟ تعالوا نرى.
إذا كان حديث العقل والحجة والبرهان يقسي القلب أحياناً فليكن حديث الوجدان والروح، فتكلم أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه الرجل الرصين الهادئ أمين الأمة، وقال جملة من سطر واحد نزلت بالسكينة على السقيفة في لحظة، وأول ما قالها الجو هدأ والناس ارتاحت والغضب راح والمناقشة مرت في طريق ثاني.
قال: يا معشر الأنصار! إنكم أول من نصر وآزر فلا تكونوا أول من بدل وغير. إنها كلمة في منتهى الغرابة، إنها كلمات قليلة لكن نزلت على الأنصار فزلزلت كيانهم وهزت مشاعرهم هزاً عنيفاً، أطلق الأمين أبو عبيدة سهماً استقر في قلوب الأنصار قلباً قلباً، الأنصار الذين آووا ونصروا، والذين قالوا: يا رسول الله! اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، والذين قال عز وجل فيهم: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9] الأنصار الذين قالوا: يا رسول الله! خذ لنفسك ولربك ما أحببت. وقالوا: يا رسول الله! نبايعك على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا وأثرة علينا وألا ننازع الأمر أهله.
إنها ذكريات رائعة خالدة، وهم الذين قالوا: (فما لنا بذلك يا رسول الله! إن نحن وفينا بذلك؟ قال: الجنة. قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه) أفاق الأنصار رضي الله عنهم أجمعين على حقيقتهم العجيبة: أن الله خلقهم ليعطوا ويعطوا ويعطوا، وهم أصحاب النسمة الرقيقة الحانية التي تأتي بالخير ولا تأخذ شيئاً.
فارتفع بهم أبو عبيدة بجملته الموفقة من مواقع البشر والأرض إلى مصاف الملائكة والسماء، وتذكروا البيعة الخالدة، وتذكروا الهجرة، وتذكروا النصرة، وتذكروا الجهاد والشهادة، وتذكروا إخواناً قدموا أرواحهم وسبقوا صادقين ما بدلوا وما غيروا، تذكروا سعد بن معاذ ، وتذكروا أسعد بن زرارة ، وتذكروا سعد بن الربيع ، وتذكروا أنصاراً عاشوا أنصاراً وماتوا أنصاراً، وتذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبيب الذي ما فارقوه إلا منذ قليل، الذي ما زال نائماً على سريره لم يدفن بعد، الذي ما زال حياً في قلوبهم وسيظل كذلك حتى يموتون، فانهمرت دموع الأنصار، وقام بشير بن سعد رضي الله عنه الأنصاري الخزرجي مسرعاً ملبياً لنداء أبي عبيدة وكان ممن شهد العقبة الثانية، وكان شيخاً كبيراً، قام فقال: يا معشر الأنصار! إنا والله! لئن كنا أولي فضيلة في جهاد المشركين وسابقة في هذا الدين ما أردنا به إلا رضاء ربنا وطاعة نبينا والفتح لأنفسنا، فما ينبغي أن نستطيل بذلك ولا نبتغي به من الدنيا عرضاً، فإن الله ولي النعمة وولي المنة علينا بذلك، ألا إن محمداً صلى الله عليه وسلم من قريش وقومه أحق به وأولى، ولا يراني الله أنازعهم في هذا الأمر أبداً، فاتقوا الله! ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم.
وسبحان الله! تغير خط الحوار في السقيفة بالكلية، وبدأت نفوس الجميع تهدأ، وظهر واضحاً أن حجة المهاجرين أصبحت أعلى، لكن ما كان الأنصار ليقتنعوا لولا أن قلوبهم مؤمنة، ولولا أن غايتهم الجنة.
ثم قام أسيد بن حضير رضي الله عنه زعيم الأوس ودعا إلى أن يترك الأنصار الأمر ويبايعوا المهاجرين، ولعله أراد أن يقوي حجة المهاجرين فقال: إنه يخشى أن يحدث الخلاف مستقبلاً بين الأوس والخزرج إن تولى أحد الفريقين الخلافة، ولذلك فهو يؤيد المهاجرين.
ولما رأى الصديق رضي الله عنه وأرضاه أن نفوس الناس قد بدأت تطيب باختيار الخليفة من المهاجرين أراد أن يضيف حجة تقوي من شأن هذا الاختيار وتزكيه، والحق أنها حجة تدل على ذكاء الصديق وسعة اطلاعه على كتاب الله عز وجل، فقال الصديق رضي الله عنه: إن الله سمانا الصادقين وسماكم المفلحين، وذلك إشارة لقوله عز وجل: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:8] هذا وصف المهاجرين في القرآن الكريم، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9] وهذا هو وصف الأنصار في القرآن الكريم.
ثم انظر إلى الاستنباط الذي قاله الصديق رضي الله عنه وأرضاه، قال: وقد أمركم الله سبحانه وتعالى أن تكونوا معنا حيثما كنا، فقال في سورة التوبة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] وفي الآية التي سبقت الصادقون هم المهاجرون.
إذاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] أي: كونوا مع المهاجرين، ثم استنبط أمراً آخر من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بالأنصار خيراً، وأوصى أن من تولى أمر المسلمين فعليه أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم) وذلك في إشارة واضحة أن الخليفة ليس من الأنصار؛ إذ كيف يوصيه عليهم إن كان منهم؟ وهكذا هدأت النفوس أكثر، وازداد توحد المسلمين في رأي واحد.
وكل هذا الذي حصل من أحداث حصل في تخيلي في أقل من ساعتين؛ لأن هذا اللقاء لم يقطع بصلاة، وكل هذه الأمور تمت وما زالت هناك أمور أخرى ستتم في غضون هذه الفترة القصيرة. فأنعم به من جيل!
ثم قام زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين، وإن الإمام إنما يكون من المهاجرين، ونحن أنصاره كما كنا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأضحى الناس جميعاً يتكلمون في هذا الاتجاه، لكن سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه لم ينطق بعد، وموقفه حرج جداً، فمنذ ساعة أو ساعتين كان مرشحاً للخلافة وكان ذلك في ظنه وظن الأنصار في حكم المؤكد والآن الوضع ينقلب كما يقال: (180) درجة، ولابد أنه الآن يفكر ويفكر ويعقد الموازنات ويقارن الحجج والأدلة ويشاور عقله وقلبه، لابد أن هناك صراعاً نفسياً كبيراً في داخله رضي الله عنه وأضاه، أتراهم فعلاً على حق في استنباط أن الخليفة من قريش؟ أم يكون الرأي الصائب هو رأي الأنصار الأول؟ أفكار متزاحمة، والرجل مريض ومرهق، ولابد أن في داخله حيرة.
و الصديق رضي الله عنه وأرضاه يرقب الموقف في ذكاء ويتابع الأحداث في فطنة لا تخلو من روية في هذا الوقت، وقد وضح أن الأنصار قد اقتنعوا عقلياً وقلبياً بأن المصلحة العليا للأمة تقتضي أن يكون الخليفة من المهاجرين وبالذات من قريش في هذا الوقت الذي قامت فيه الأدلة وتظاهرت على إقناع الأنصار، فقام الصديق رضي الله عنه فكشف الورقة الأخيرة في جعبته وألقى بالدليل الدامغ والحجة الظاهرة البينة التي ما تركت شكاً في قلب أحد ولا أبقت ريبة في نفس أنصاري أو مهاجري، إنها كلمات معدودات ولكنها أثقل من الذهب، ترى! ما هي هذه الكلمات التي قالها الصديق رضي الله عنه وأرضاه؟ وما هي هذه الحجة التي ذكرها وكانت أقوى الحجج على الإطلاق؟ ولماذا أخرها الصديق إلى آخر الحوار إن كانت قوية بهذه الصورة؟ وكيف تم اختيار الصديق من بين المهاجرين ليكون خليفة للمسلمين؟ هذه أسئلة قد تطول الإجابة عليها، أؤجلها إلى الدرس القادم.
سبحانك اللهم بحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة الصديق يوم السقيفة للشيخ : راغب السرجاني
https://audio.islamweb.net