اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة التتار قرار الجهاد للشيخ : راغب السرجاني
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فهذه هي المحاضرة التاسعة من محاضرات قصة التتار: من البداية إلى عين جالوت.
في المحاضرة السابقة تحدثنا عن صعود قطز رحمه الله إلى كرسي الحكم في مصر، وعن خطواته في إعادة بناء الأمة وتأهيلها ليوم اللقاء مع التتار، وكيف أنه اهتم رحمه الله بالاستقرار الداخلي، ووحد هدف الأمة، وعفا عن المماليك البحرية، ووحد بينهم وبين المماليك المعزية، وراسل أمراء الشام، وحاول قدر الاستطاعة ضمهم إلى قواته، وانظم إليه بالفعل جيش الناصر الأيوبي وأمير حماة، وزادت بذلك قوة جيشه بشكل كبير.
وتحدثنا أيضاً عن شعب مصر في ذلك الوقت، وكيف أنه كان يعاني من أزمة اقتصادية ومشاكل اجتماعية، ومع ذلك كان الشعب يعظم العلماء ويجلهم، ويحب الدين ويحترمه، ويعرف قيمة الجهاد في سبيل الله ولا يستغربه أبداً، بل يعتقد أنه حل أساسي، وأحياناً يعتبره حلاً وحيداً في كثير من الأزمات التي تمر بالأمة.
وبينما قطز رحمه الله في إعداده وتجهيزه جاءته أربعة من رسل التتار برسالة عجيبة من هولاكو يعلن فيها الحرب عليه إن فكر في أي مقاومة، وكانت الرسالة تحمل تهديداً ووعيداً وإرهاباً، يقول فيها هولاكو :
(باسم إله السماء الذي ملكنا أرضه وسلطنا على خلقه)، وهو في بداية الرسالة كأنه يعترف بأن الله عز وجل هو الذي ملكه على الخلق، وأنه يطيع الله عز وجل.
ثم يقول: (الذي يعلم به الملك المظفر الذي هو من جنس المماليك)، فهو يريد أن يحقر من شأن قطز رحمه الله، فهو يقول له: إنه من جنس المماليك، (الذي يعلم به الملك المظفر الذي هو من جنس المماليك، صاحب مصر وأعمالها وسائر أمرائها وجندها وكتابها وعمالها وباديها وحاضرها وأكابرها وأصاغرها)، يعني: قطز الذي يملك كل شيء في مصر يجب أن يعلم ذلك.
ثم يقول: (أنا جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غيظه، فلكم بجميع الأمصار معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم، وسلموا إلينا أمركم، فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرق لمن اشتكى، فتحنا البلاد وطهرنا الأرض من الفساد، فعليكم بالهرب وعلينا بالطلب، فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من أيدينا مناص، فخيولنا سوابق، وسيوفنا صواعق، ورماحنا خوارق، وسهامنا لواحق، وقلوبنا كالجبال، وعديدنا كالرمال، فالحصون لدينا لا تمنع، والجيوش لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يسمع ). ولا ندري من أين أتى بهذه الكلمة: ودعاؤكم علينا لا يسمع.
ثم يقول: (لأنكم أكلتم الحرام، وتعاظمتم عن رب السلام، وخنتم الأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان، فأبشروا بالمذلة والهوان، فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20]، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227]. فهو يستشهد بآيات من كتاب الله عز وجل، وكأنه يؤمن به.
وكان الذي يكتب له هذه الرسائل الأدباء المسلمون الذين اشتراهم هولاكو عليه لعنة الله بالمال، وباعوا دينهم وأوطانهم بهذا المال، وكتبوا مثل هذه الرسائل المرعبة.
ثم يقول هولاكو : ( فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا برد الجواب قبل أن تضرم الحرب نارها، وتوري شرارها، فلا تجدون منا جاهاً ولا عزاً، ولا كتاباً ولا حرزاً، إذ أزتكم رماحنا أزاً، وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، وعلى عروشها خاوية، فقد أنصفناكم إذ أرسلنا إليكم، ومننا برسلنا عليكم ).
وانتهت الرسالة العجيبة، ولم تحمل أي نوع من أنواع الدبلوماسية، فقد كانت إعلاناً صريحاً بالحرب أو البديل الآخر وهو التسليم المذل، ولا بد أن يكون التسليم مذلاً، بمعنى: أن يكون دون فرض أي شروط، أو طلب أي حقوق.
لكن الأمراء الذين اجتمعوا معه لم يكونوا على نفس الدرجة العالية جداً من الفقه والفهم، صحيح أنهم كانت لديهم حمية دينية عالية جداً، وأنهم يحبون الإسلام حباً جماً، وعلى درجة راقية من الفروسية والمهارة القتالية، ولكن الاختبار صعب جداً.
وقد كانت الفجوة هائلة فعلاً بين إمكانيات التتار كدولة من كوريا شرقاً إلى بولندا غرباً، وبين إمكانيات مصر التي مهما زادت فهي محدودة، وبين أعداد التتار وأسلحتهم، وأعداد المصريين وأسلحتهم، هذا فوق السمعة الرهيبة لجيوش التتار، وفوق الملايين المسلمة التي ذبحت على أيدي التتار، بالإضافة إلى الجيوش الخوارزمية والأرمينية والكرجية والعباسية والأوروبية والشامية التي هزمت هزيمة ساحقة من جيوش التتار قبل ذلك.
وكان قد شاع في هذا الزمن مقولة ذكرناها قبل ذلك قالها العوام وقالها الخواص كذلك، فقد كانوا يقولون: إذا أخبرك أحد أن التتار يهزمون فلا تصدق. كل هذه التراكمات جعلت الأمراء يترددون في قبول ما رآه قطز رحمه الله أمراً واضحاً جداً لا تردد فيه، وظهر على معظم الأمراء الهلع والضعف والتثاقل إلى الأرض.
ولو أنه أرسل جيشاً وبقي هو في القاهرة لما لامه أحد، فهو قائد المسلمين، والآمال معقودة عليه، ولو مات فقد ينفرط عقد الأمة، ولكن قطز لم يجد وسيلة أفضل من هذه الوسيلة؛ لتحميس القلوب الخائفة، ولتثبيت الأفئدة المضطربة، كما أنه كان يشتاق إلى الجهاد وإلى الشهادة والجنة، وهو لن يموت قبل الموعد الذي حدده الله عز وجل له، فلقد فقه عملياً ما أدركه كل المسلمين نظرياً، وهو أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، ولكن مَنْ مِنَ المسلمين يعيش واقع حياته فعلاً بهذا المفهوم الذي عرفه نظرياً؟ فالناس عادة يتصارعون دائماً لأجل زيادة الرزق والعمر، ولكن الذي لا يعرفه كثير من الناس أن الشجاعة لا تقلل أبداً من الأرزاق، ولا تقصر مطلقاً من الأعمار، وأن الجبن لا يكثر من المال المقسوم للإنسان، ولا يخلده أبداً في الحياة.
فقه قطز رحمه الله هذه الحقيقة الرائعة، وفقه كذلك أن الحياة بعزة ولو ساعة خير من البقاء أبد الدهر في ذل وهوان، فلما رأى الأمراء قطز رحمه الله الأمير الممكن الذي يجلس على العرش يقول: أنا ألقى التتار بنفسي، تحركت الحمية في قلوبهم، وتحمسوا حماسة كبيرة جداً، وهذا هو فعل القدوة، فقد تحركت الحمية في قلوب الأمراء، وقاموا جميعاً يوافقون قطز رحمه الله على لقاء التتار.
والقائد مهما قام بجولات بين جنوده وقواده وشعبه يحمسهم ويشجعهم، وهم يعلمون أنه عند الضوائق والشدائد لن يخرج معهم، بل سيتركهم ويؤمن نفسه وأحبابه فقط، فإن هذه الجولات والخطب لا تؤثر شيئاً مطلقاً في الناس.
وقد تحدثنا قبل ذلك عن محمد بن خوارزم وعن ابنه جلال الدين بن خوارزم وغيرهما من الزعامات التافهة، وكيف كانوا يتكلمون ويخطبون ويتحمسون، ثم عند اللقاء هم أول من يفر.
إذاً: هذه كانت أول طريقة استخدمها قطز رحمه الله في تحفيز الناس وتحميسهم على القتال في سبيل الله، وهذه هي التربية بالقدوة.
وإذا عظم كل واحد منا أمر الإسلام في قلبه، فإنه سيستصغر أي تضحية في سبيل نصرة هذا الدين، وهذه من أبلغ وسائل التحميس والتحفيز، تعظيم الغاية والهدف إلى أقصى درجة، فيصبح جهادنا واستعدادنا وحركتنا نوعاً من العبادة لله رب العالمين فـقطز لم يحفزهم لاتباع شخص معين، ولم يحفزهم بقومية مصرية أو عربية أو غيرها، ولم يحفزهم حتى بحب البقاء في هذه الحياة، والدفاع عن النفس ضد الموت، بل إنه حفزهم على الموت.
وشتان يا إخواني! بين من يجاهد وهو حريص على أن يموت، ومن يجاهد وهو حريص على ألا يموت.
واسمعوا ما قال قطز للأمراء المسلمين في هذا الاجتماع الخطير، قال لهم في صراحة: (يا أمراء المسلمين! لكم زمان تأكلون من بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، وإن الله مطلع عليه).
أي: أنا لن أحاسبكم أو أراقبكم، إنما الذي سيراقبكم ويحاسبكم هو الله عز وجل.
ثم قال: وخطيئة حريم المسلمين -فهو يحرك في قلوبهم النخوة- في رقاب المتأخرين عن القتال).
وهذا كلام في منتهى الدقة والروعة، فالقضية بوضوح قضية إيمان، وإذا علمت أن الله عز وجل مراقب لك وخالفت، فإن وبال ذلك عليك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكره منافقاً على الخروج معه للقتال أبداً، بل كان يترك الأمر على السعة، فالذي يريد يخرج يخرج، والذي لا يريد أن يخرج لا يخرج، بل في غزوة تبوك ذكر له أن رجلاً تخلف، فقال: (دعوه، فإن يكن فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم منه). وهكذا فعل قطز رحمه الله، فمن أراد أن يخرج للجهاد في سبيل الله فليفعل، ومن أراد النكوص على عقبيه والركون إلى الدنيا، فليعلم أن الله مطلع عليه، وليعلم أن حرمات المسلمين والمسلمات التي تنتهك في رقبته.
وهنا شيء مهم جداً، ولا يخفى علينا الإشارة المهمة التي ذكرها قطز رحمه الله من أن هؤلاء الأمراء والوزراء قد عاشوا سنوات يأكلون من بيت مال المسلمين، بل ويكثرون من الأكل والجمع، حتى فقدت وظائفهم كل معنى، ولم يبق لها إلا معنى واحد، وهو استغلال المنصب إلى أقصى درجة لزيادة الثروة من الحلال وغير الحلال على السواء، ولم يعد الوزير يعتقد أنه موظف عند الشعب، وليس سيداً عليهم أبداً، وأن له حقوقاً كما أن عليه واجبات، وأنه مسئول ومحاسب من الله عز وجل ومن شعبه على كل خطوة، وعلى كل درهم ودينار. فكانت هذه الكلمات من قطز رحمه الله إلى كل وزير وأمير تهدف إلى أيقاظ الضمير وإحياء الأمانة، وكشفت هذه الكلمات الوزراء أمام أنفسهم.
ثم تحركت المشاعر بصورة أكبر وأكبر في صدر قطز رحمه الله، حتى وقف يخطب في الأمراء وهو يبكي ويقول: يا أمراء المسلمين! من للإسلام إن لم نكن نحن.
وهذه كلمة رائعة هائلة، تصلح أن تكون منهجاً للحياة، إذا قالها كل مسلم فلن تسقط أمة الإسلام أبداً، فأحياناً ينتظر المسلم أن يأتي النصر من مسلمين آخرين، وينتظر أن يتحرك للإسلام فلان أو غيره، وقليلاً ما يفكر هو في التحرك، بل كثيراً ما يقوم بعملية تحليل وتعليق على أفعال وأقوال العاملين للإسلام، وهو لا يتحرك، وينتظر أن يخرج صلاح أو خالد أو قطز أو القعقاع من بيت جاره أو من بلد آخر، ولا يفترض أن يخرجوا من بيته هو شخصياً، فلماذا لا يكون هو صلاح الدين الأيوبي أو يوسف بن تاشفين أو نور الدين محمود الشهيد؟ وهؤلاء لا يزيدون ولا يقلون عن البشر شيئاً، إلا أنهم آمنوا بالله عز وجل، وساروا في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم.
ونحن معنا كتاب الله عز وجل ومنهج رسوله صلى الله عليه وسلم، فلماذا ننتظر أن يكون التغيير من غيرنا وليس منا، فمن للإسلام إن لم نكن نحن؟
وقعت هذه الكلمات في قلوب الأمراء فضجوا جميعاً بالبكاء، وخشعت قلوبهم، ومن خشع قلبه فيرجى منه الخير كله، فقام بعض الأمراء وتكلموا بخير، وقام البقية يعلنون موافقتهم على الجهاد، وعلى مواجهة التتار مهما كان الثمن. وهكذا نجح قطز في خطوة هي من أصعب وأعظم خطوات حياته، ومن أصعب القرارات فعلاً، فهو قرار الجهاد، وأعلنت مصر الحرب على التتار، فكان هذا القرار من أخطر القرارات في تاريخ مصر مطلقاً، وهو قرار لا ينفع أن يرجع فيه القائد أو الجيش أو الشعب.
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: (جاء ابن النواحة وابن أثال رسولا مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهما: أتشهدان أني رسول الله؟). وقد كانا مسلمين وارتدا مع مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتشهدان أني رسول الله؟ قالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آمنت بالله ورسوله، لو كنت قاتلاً رسولاً لقتلتكما. قال: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: فمضت السنة أن الرسل لا تقتل) رواه الإمام أحمد والحاكم وأبو داود والنسائي رحمهم الله جميعاً، وفي رواية لـأحمد وأبي داود عن نعيم بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما).
يقول الإمام الشوكاني رحمه الله في كتابه القيم (نيل الأوطار): هذان الحديثان حديث عبد الله بن مسعود وحديث نعيم بن مسعود رضي الله عنهما يدلان على تحريم قتل الرسل الواصلين من الكفار، وإن تكلموا بكلمة الكفر في حضرة الإمام أو سائر المسلمين.
إذاً: فالحكم الشرعي في الإسلام أن الرسل لا تقتل.
ولا أدري ما هو دليل قطز الشرعي على قتل هؤلاء الرسل، ولا أدري لماذا سكت العلماء في زمانه عن هذه القضية، أو لعلهم تكلموا ولم يصل إلينا قولهم، ولعل قطز رحمه الله اجتهد في أن التتار قد هتكوا كل الأعراف والقوانين والمواثيق فقتلوا النساء والأطفال والشيوخ غير المقاتلين، وبأعداد لا تحصى، فقد قتلوا في بغداد وحدها مليون مسلم قبل سنتين فقط، وهذا من غير المدن التي سبقت أو لحقت ببغداد، ولعله اجتهد هذا الاجتهاد بعد أن أساء الرسل الأدب معه، وأغلظوا له في القول وتكبروا عليه، ولعل هذا كان اجتهاده وإن كنت أقول: إننا لا يجب أبداً أن نجر إلى أخلاق الكفار.
فإذا قتل الكفار أطفال المسلمين مثلاً فلا يجوز للمسلمين أن يقتلوا أطفال الكفار بحجة العقاب بالمثل، وإذا قتل الكفار النساء المسلمات وهتكوا أعراضهن، فليس هذا مبرراً أبداً لقتل النساء الكافرات غير المقاتلات وهتك أعراضهن، فهتك العرض غير مقبول سواء للمقاتلة أو غير المقاتلة.
وإذا خان الكفار العهد فلا يجوز للمسلمين خيانة عهودهم، وعلى نفس الوتيرة لا يقتل المسلمون الرسل، ولا الكفار الذين أخذوا أماناً من المسلمين، وكل هذا ليبقى دين الإسلام نقياً خالصاً غير مختلط بسلبيات القوانين الوضعية، وليظل المثل الإسلامي الرفيع والخلق الإسلامي العالي وسيلة باقية لدعوة شعوب الأرض إلى هذا الدين الرائع دين الإسلام.
لكل ما سبق فإني أعتبر أن ما حدث من قطز رحمه الله والأمراء في هذه الخطوة هفوة وخطأ في الاجتهاد، ولا بد لكل إنسان مهما عظم قدره أن يكون له أخطاء إلا الأنبياء المعصومين، ويكفي المرء فخراً أن تعد معايبه.
إن قطز تولى الحكم في (24) من ذي القعدة سنة (657) من الهجرة، ورسالة هولاكو جاءته قبل أن يغادر هولاكو أرض الشام عائداً إلى منغوليا، بعد وفاة زعيم التتار منكو خان وبعد سقوط حلب بقليل وقبل سقوط دمشق، ثم فتح دمشق كتبغانوين ، وحلب سقطت في صفر سنة ( 658 هـ )، ودمشق سقطت في ربيع أول ( 658 هـ)، يعني: أن الرسالة وصلت لـقطز رحمه الله إما في آخر صفر أو في أول ربيع الأول، يعني: بعد ثلاثة أشهر فقط من توليه الحكم رحمه الله.
فكل هذه الترتيبات والخطوات التي عملها قطز رحمه الله لم تستغرق إلا ثلاثة أشهر فقط، فكل المشاكل التي قابلها وحلها أخذت منه ثلاثة أشهر فقط، وهذه المشاكل تحتاج إلى سنوات، بل إلى عقود كاملة حتى يتم حلها على الوجه الأمثل، ولكنه استعان بالله عز وجل، وبدأ يتعامل بحمية ونشاط مع المشكلة تلو الأخرى، وكان الهدف في ذهنه واضحاً جداً، فلا بد من القضاء على هذه القوة الهمجية -قوة التتار-، وتحرير كل بلاد المسلمين.
إذاً: فكل ما قلناه في الدرس الماضي: من استقرار الوضع الداخلي، وتوحيد الصف، وعفوه عن المماليك البحرية، واستقدامه لهم من بلاد الشام وتركيا.. وغيرها، ومراسلة أمراء الأيوبيين، وتجميع الجيش، وتجهيز الشعب لقضية الجهاد في سبيل الله، وتحميس الأمراء كل هذا المجهود كان في ثلاثة أشهر فقط.
وأما كيف عالج قطز المشكلة الاقتصادية الكبيرة، ووفر المال لتجهيز الجيش الكبير وبناء الحصون والقلاع والسلاح، وتوفير المؤن والذخيرة للشعب الذي قد يحاصر من التتار حصاراً طويلاً، فقد عقد رحمه الله مجلساً استشارياً، وكان كل شيء بشورى في حياته رحمه الله، ودعا إلى هذا المجلس كبار القادة والأمراء والعلماء والفقهاء، وكان على رأس العلماء الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله، وبدءوا جميعاً يفكرون في حل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بالبلاد، وكيفية توفير الدعم لهذا الجيش الكبير الخارج لملاقاة التتار، ففتح قطز رحمه الله الكلام، واقترح فرض ضرائب على الشعب للإنفاق على الجيش الذي سيخرج للجهاد في سبيل الله، ولكن هذا القرار كان يحتاج إلى فتوى شرعية؛ لأن المسلمين في دولة الإسلام لا يدفعون إلا الزكاة، ولا تدفع إلا بشروط خاصة معروفة، وأما فرض الضرائب فوق الزكاة فهذا لا يكون إلا في ظروف خاصة ومؤقتة جداً، ولا بد من وجود سند شرعي يبيح ذلك، وإلا صارت هذه الضرائب مكوساً، وفارضها بغير حق عقابه عند الله عز وجل أليم جداً، فقد روى الإمام أحمد وأبو داود رحمهما الله عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل الجنة صاحب مكس)، أي: فارض الضرائب.
ولما زنت المرأة الغامدية ورجمت بالحجارة بعد أن اعترفت بالزنا لتطهر نفسها من الذنب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم معظماً من شأن توبتها: (فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له). وهذا الحديث في صحيح مسلم عن بريدة رضي الله عنه وأرضاه.
وهذا فيه تقبيح شديد جداً لعملية فرض الضرائب، إن فرضت بغير حق وصرفت في غير حق.
يقول الإمام النووي رحمه الله تعليقاً على هذا الحديث: إن المكس -الضرائب- من أقبح المعاصي، ومن الذنوب الموبقات؛ وذلك لكثرة مطالبات الناس له وظلاماتهم عنده، وأخذ أموالهم بغير حقها، وصرفها في غير وجهها.
فـقطز رحمه الله اقترح فرض الضرائب للقضية الكبيرة جداً، قضية الجهاد في سبيل الله، ومع أن الغاية نبيلة والمال مطلوب لتجهيز الجيش للقتال في سبيل الله، ومقاتلة التتار أعتى قوة في الأرض في ذلك الزمن، إلا أنه ينتظر رأي العلماء في هذه القضية.
ثم يقول: وجاز أن يؤخذ من الرعية ما يستعان به على جهازهم -يعني: فوق الزكاة- بشرطين:
الشرط الأول: ألا يبقى في بيت المال شيء، فإذا استنفذت أموال الدولة وفنيت في تجهيز الجيش جاز فرض الضرائب بالقدر الذي يسمح فقط بتجهيز الجيش لا أكثر من ذلك.
الشرط الثاني: أن تبيعوا ما لكم من الممتلكات والآلات، ويقتصر كل منكم على فرسه وسلاحه وتتساووا في ذلك أنتم والعامة، وأما أخذ أموال العامة مع بقاء ما في أيدي قادة الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا.
وهذه فتوى في منتهى الجرأة، يقولها أمام سلطان مصر وأمرائها ووزرائها. وهذه الفتوى وإن كانت عجيبة في جرأتها فاستجابة قطز رحمه الله كانت أعجب من الفتوى، فقد قبل رحمه الله كلام الشيخ العز بن عبد السلام ببساطة، فبدأ بنفسه فباع كل ما يملك، وأمر الوزراء والأمراء أن يفعلوا ذلك فانصاع الجميع، وتم تجهيز الجيش المسلم بالطريقة الشرعية من أموال الوزراء والأمراء، وما احتاجوا أن يفرضوا ضرائب على الشعب.
واكتشف المسلمون في مصر اكتشافاً عجيباً، اكتشفوا أن مصر غنية جداً، وأن البلد ليس فقيراً، بل فيه أموال هائلة برغم الأزمة الاقتصادية الطاحنة، فقد امتلأت جيوب كثير من الوزراء والأمراء بأموال البلد الهائلة، وأصبحت ثروات بعضهم تساوي ميزانيات بعض الدول، وتكفي لسداد الديون المتراكمة على البلد، وسد حاجة الفقراء والمساكين، وإصلاح الوضع الاقتصادي، ومع ذلك كانوا يحتفظون بهذه الأموال، فأصبحت البلاد ضعيفة وفقيرة مع غناها وعظم مصادرها.
وللأسف الشديد فإن كثيراً من هذه الأموال الطائلة دخلت جيوب الأمراء والوزراء بطرق غير مشروعة، وبغير وجه حق، فهذا يختلس، وهذا يرتشي، وهذا يظلم، وهذا يأخذ نسبة، وهذا ينفق في سفه، وهذا يعطي من لا يستحق، وهكذا بُددت أموال الدولة العظيمة مصر وأصبحت دولة فقيرة نامية، بينما إمكانياتها تسمح لها بأن تكون من دول الصدارة.
فجاء قطز رحمه الله فغير كل هذه الأوضاع، وبدأ رحمه الله في عملية تنظيف منظمة للبلد، تنظيف الأيدي والقلوب.
فاصطلح القائد مع شعبه أخيراً بعد سنوات من القطيعة بين الحكام والشعوب، فكانت النتيجة تجهيز جيش عظيم مهيب، غايته نبيلة، وأمواله حلال، ودعاء الناس له مستفيض، وإعداده جيد، وكيف لا يُنصر جيش مثل هذا؟! فمعادلة النصر في الإسلام ليست صعبة، بل تقول: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]. ونصر الله عز وجل لا يكون إلا بتطبيق شرعه.
فالجيش المسلم الذي يخالف قاعدة شرعية لا يمكن أن ينصره الله عز وجل، فالأمر واضح جداً، والبداية بيد المسلمين، انصروا الله عز وجل ينصركم الله عز وجل، وهكذا جُهّز الجيش المصري المسلم، وأعد إعداداً عظيماً وبأموال حلال.
أولاً: أمن مصر القومي يبدأ من حدودها الشرقية وليس من داخل البلد نفسه، وإلا فكيف يأمن المصريون على أنفسهم وإلى جوارهم في فلسطين دولة قوية معادية: التتار أو غيرهم؟! فالعقل يؤكد أنه من المتوقع جداً أن تنتهز هذه الدولة المعادية أي فرصة ضعف، وتجتاح مصر من شرقها، وستأخذ سيناء في أيام معدودات، ثم تهدد مصر في عمقها، فلا بد إذن من إضعاف الجيش المعادي الرابض في فلسطين، إما بقتاله هناك، أو على الأقل بمساعدة من يقاتلونه هناك. هذا هو التفكير العقلي والمنطقي حتى دون الدخول في حديث الشرع والدين الآن.
ثانياً: من الأفضل عسكرياً أن ينقل قطز المعركة إلى ميدان خصمه؛ لأن ذلك سوف يؤثر سلباً على نفوس أعدائه، كما أنه سيجعل له خط رجعة إذا حدثت هزيمة للجيش المسلم، فلو غلب في فلسطين فعنده فرصة للرجوع إلى مصر، ولو غلب في مصر فسيفتح الطريق إلى القاهرة لا محالة، وستسقط البلاد بكاملها.
ثالثاً: من الأفضل عسكرياً كذلك أن يمتلك المسلمون عنصر المفاجأة، ويختارون هم ميعاد ومكان المعركة بدلاً من أن يختار العدو ذلك، وعنصر المفاجأة هذا ليس للقيمة العسكرية فقط، بل له قيمة معنوية عالية جداً، فالهزيمة النفسية ستكون كبيرة جداً في صف الفريق الذي يفاجأ بالقتال، ولم يعد له العدة الكافية.
رابعاً: أن على المسلمين في مصر دوراً هاماً جداً ناحية إخوانهم المسلمين في فلسطين وسوريا ولبنان والعراق وأفغانستان وأذربيجان والشيشان، وفي كل المناطق التي ابتليت بالتتار، فلا يستقيم أبداً أن تُقام المذابح للمسلمين في هذه البلاد وتُنتهك الحرمات وتُهدم الديار ولا يتحرك المسلمون في مصر، فحركة المسلمين في مصر لنجدة إخوانهم في فلسطين وغيرها ليست فضلاً أو نافلة أبداً، وإنما هي فرض عليهم، وليست فرض كفاية إنما فرض عين؛ لأن العدو قد دهم فعلاً أرض فلسطين فتعيّن القتال على أهلها لدفعه، فإن لم يكفِ أهلها للقتال تعيّن القتال على من جاورهم من الأقطار الإسلامية، يعني: مصر والأقطار الأخرى لها، سوريا والأردن ولبنان.. وغيره، فإن لم يكفِ أهل مصر والأقطار الأخرى تعيّن على الأقطار الأبعد، وهكذا وهكذا حتى لو احتاج القتال لكل مسلم على وجه الأرض.
فالقضية في منتهى الخطورة، فانتهاك حرمات المسلمين في بلد ما، وسكوت المسلمين في البلاد الأخرى عن هذا الانتهاك جريمة كبرى، ومخالفة شرعية هائلة، ولذلك قرر قطز رحمه الله الخروج لنجدة أهل فلسطين وسوريا وغيرها حتى لو لم يفكر التتار أصلاً في غزو مصر، وهذا هو التفكير الشرعي السليم الذي كان عند قطز رحمه الله، والذي أيده بعد ذلك علماء مصر عندما قال هذا الرأي.
خامساً: أن على المسلمين دوراً ناحية التتار أنفسهم، فهم إن رفضوا الإسلام أو الجزية وجب على المسلمين قتالهم، ثم إن التتار ليسوا في بلادهم، وإنما هم الآن في بلاد المسلمين، فوجود التتار بهذه المعتقدات الفاسدة والحروب الهمجية يمثل فتنة كبيرة جداً في الأرض، ولا بد للمسلمين أن يقمعوا هذه الفتنة، ودور المسلمين في الأرض أكبر بكثير جداً من مجرد تأمين حدود القطر الذي يعيشون فيه، فإن عليهم نشر هذا الدين في ربوع الدنيا كلها، وعليهم أن يعلموا الناس الإسلام، ويأخذوا بأيديهم في كل بقعة من بقاع الأرض إلى الله عز وجل.
يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
فواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتم على قطز رحمه الله وعلى جيش مصر وشعبها أن يقاتلوا التتار وغيرهم ممن أفسد في الأرض.
وهكذا اقتنع الحضور في هذا المجلس العسكري الكبير بحجة قطز رحمه الله، وبأهمية القتال في أرض فلسطين وليس في أرض مصر، وبدءوا بالفعل في تجهيز الجيش وإعداده لعبور سيناء ولقاء التتار في فلسطين.
فانطلق الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله ومن معه من علماء الأمة يصعدون منابر المساجد، ويلهبون مشاعر الناس بحديث الجهاد -وما أجمل حديث الجهاد!-، ورغّبوا الناس في الجنة، وزهّدوهم في الدنيا، وعظّموا لهم أجر الشهداء، وحدثوهم عن عظماء المسلمين المجاهدين كـخالد والقعقاع والزبير والنعمان وطارق بن زياد وموسى بن نصير ويوسف بن تاشفين وعماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي ، وذكّروهم بأيام الله، كيوم بدر والأحزاب وفتح مكة، واليرموك والقادسية ونهاوند، وذكّروهم بموقعة حطين الخالدة التي لم يمضِ عليها إلا (75) عاماً، وبموقعتي المنصورة وفارسكور اللتين لم يمض عليهما سوى عشر سنين.
فاشتعل الحماس في قلوب الشعب، فلا بد من تأهيل الشعب لهذا اليوم، وأن يُربى الأطفال والشباب على حب الموت في سبيل الله، وعلى تعظيم أمر الجهاد، وعلى حب الجنة، ولا بد أن يُربى الآباء والأمهات على أن يشجعوا أبناءهم على الجهاد، لا على أن يبعدوا أبناءهم عن كل ما يسبب المشاكل كما يقول الناس، ولا على أن يبعدوهم عما يهدد الروح ولو كان الدين.
ولابد أن تُربى الزوجات على حياة الجهاد، فتحفز الزوجة زوجها على الخروج للجهاد في سبيل الله، وترعى أولادها حق الرعاية في غياب زوجها، وتُربى على استقبال خبر الشهادة بصبر واحتساب، بل وبفرح، فلقد صعد الشهيد من أرض الموقعة إلى الجنة مباشرة، وهذا يدعو للفرح.
وإعداد الشعب ليوم الجهاد مهمة عظيمة، وليست سهلة أو بسيطة أبداً، بل هي صعبة جداً، وتحتاج إلى مجهود كبير وإلى مناهج مكثفة وإخلاص عميق ووقت طويل، وبدون هذا التأهيل لن يصبر الشعب على حياة الجهاد، والحروب والحصار.
والأمر في غاية الجدّية، فليس هناك وقت للترفيه ولا للّعب ولا للمزاح، وليس معنى هذا أن الترفيه واللعب والمزاح بالضوابط الشرعية حرام، لا، ولكن حياة الأمة المجاهدة تختلف عن حياة غيرها من الأمم، فهي أمة جادة فيها شيء من الترفيه، ولسنا أمة لاهية فيها شيء من الجد.
وهذه التربية المركزة جداً تحتاج إلى تغيير جذري في كيان الشعب وفي طريقة تفكيره، وهذا يحتاج إلى مربين من نوع خاص، ولابد من تفعيل دور العلماء للقيام بهذا الواجب العظيم.
وانطلق علماء الأزهر ليقوموا بمهمتهم النبيلة جداً، فقد فقه علماء الأزهر أن عملهم بالأزهر ليس مجرد وظيفة تدر دخلاً لمجابهة متطلبات الحياة، ولا لمجرد الظهور في المحافل المختلفة، ولا لإرضاء حاكم أو أمير، وإنما هي لتعبيد الناس لرب العالمين، وبالطريقة التي أرادها رب العالمين. فانطلقوا يقومون بالدور الذي طالما قاموا به منذ أن أقر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله المذهب السني في مصر، وهو الدور الذي قاموا به أيام الحملات الصليبية والتتار، والذي قاموا به بعد ذلك في معارك المسلمين اللاحقة مع الصليبيين، ومع الحملة الفرنسية على مصر، ومع الاحتلال الإنجليزي لمصر، ومع الاحتلال اليهودي لها. ونسأل الله عز وجل أن يضع أقدام علماء الأزهر على الطريق الصحيح لقيادة الأمة في قضاياها الحرجة، وفي مواقفها الخطيرة.
وأصبح شعب مصر مؤهلاً تماماً ليوم اللقاء، واستمر إعداد الجيش وتجهيزه وجمع المتطوعين وتدريب المجاهدين مدة خمسة أشهر، من شهر ربيع الأول سنة (658) هجرية عندما جاءت الرسالة من هولاكو إلى نهاية شهر رجب من نفس السنة.
وهذه المشكلة لم تكن جديدة، وإنما هي قديمة جداً، ولكن لا بد أن تحل في هذا الوقت، وهذه المشكلة هي أن هناك أجزاء ليست بالقليلة من فلسطين ولبنان وسوريا، وبالذات على ساحل البحر الأبيض المتوسط محتلة من قبل الصليبيين، فقد كان هناك إمارات صليبية في عكا وحيفا وصيدا وصور وبيروت واللاذقية وأنطاكية.. وغيرها وغيرها، وكانت أقوى هذه الإمارات مطلقاً هي إمارة عكا في فلسطين، وهي تقع في طريق قطز رحمه الله إذا أراد أن يحارب التتار في فلسطين، ففكر قطز رحمه الله بالآتي:
أولا: الصليبيون أعداء الأمة كما أن التتار أعداؤها، بل إن الصليبيين أشد خطراً على الإسلام من التتار، لأن حروب التتار حروباً همجية، ليست لها جذور ولا أهداف ولا قواعد، بل لمجرد التدمير، لا لشيء غيره، وأما المشروع الصليبي في أرض الإسلام فهو مشروع مختلف، فالصليبيون يحاربون المسلمين حرباً عقائدية، والكراهية شديدة في قلوبهم للمسلمين، وتخطيطهم هو لحرب الإسلام نفسه، فهم يحاربون الإسلام لذات الإسلام، وأما التتار فهم يحاربون أي بشر وأي حضارة.
والمشروع الصليبي مع أنه يحارب الإسلام لذاته، فهو يهدف إلى الاستيطان في بلاد المسلمين، وإحلال النصارى مكان سكان البلد المسلمين الأصليين، سواء في فلسطين أو في سوريا أو في لبنان.. أو في غيرها، وشتان بين احتلال الشعوب واحتلال الجيوش، فالجيوش التترية ستغادر البلاد في المستقبل لا محالة.
وأما الشعوب الصليبية المستوطنة فقد جاءت لتعيش في هذا المكان، فكون الصليبيين يحاربون من منطلق عقائدي، ويحاربون ليستوطنوا البلاد ويعيشون فيها يجعل خطورتهم أكبر من خطورة التتار، مع أن الحروب التترية في ظاهر الأمر أشد فتكاً وأكثر تدميراً من حروب الصليبيين، فكلاهما مر، فـقطز رحمه الله يعلم أن الصليبيين أعداؤه كما أن التتار أعداؤه، ولا بد أن يوضع هذا في الحسبان.
ثانياً: تاريخ التعاون الصليبي مع التتري قديم، فالتتار رغبوا في بلاد المسلمين عن طريق الصليبيين من أيام جنكيزخان ، والنصارى الصليبيون هم الذين ساعدوا هولاكو في إسقاط بغداد ومدن الشام، وما تحالف التتار مع الأرمن والكرج وأنطاكية ببعيد، وقد رأينا كل ذلك، ومن المحتمل جداً أن يصل التتار إلى تحالف إستراتيجي خطير مع الصليبيين في الإمارات الصليبية في فلسطين والشام. وهذه نقطة ثانية مهمة جداً.
ثالثاً: مع كون هذا التحالف الصليبي التتري أمر وارد، إلا أن قطز رحمه الله كان يعلم أن الصليبيين في عكا يكرهون التتار أيضا كما يكرهون المسلمين، وهم لا يكرهونهم فقط، بل يخافون منهم كذلك؛ لأنهم لا عهد لهم، وممكن أن يتفقوا اليوم على شيء وغداً يخالفونه، ومذابح التتار الجماعية مشهورة، وفظائعهم في شرق أوروبا وفي روسيا النصرانية كثيرة جداً ولا تنسى، وأعداد النصارى الذين قتلوا على أيدي التتار لا تحصى.
هذا كله بالإضافة إلى الحقد الصليبي الرهيب على هولاكو ؛ لأنه فرض بطريركاً أرثوذكسياً يونانياً على كنائس أنطاكية الكاثوليكية الإيطالية في سابقة لم تحدث قبل ذلك أبداً، وكل الناس يعرفون العداء المستحكم بين الأرثوذوكس والكاثوليك، ونصارى عكا كانوا من الكاثوليك المتعصبين جداً، ولا يتصورون أن يحدث ذلك في أنطاكية فضلاً عن أن يحدث في عكا نفسها.
كل هذه الخلفيات كانت تجعل الصليبيين في عكا يتوجسون خيفة من التتار، ويعاملونهم في حذر شديد، ففكر قطز بأن التتار قد يتحالفون مع الصليبيين، ولكن الصليبيون في عكا لن يرغبوا في التحالف مع التتار إلا إذا أرغموا على ذلك، فلو أراد أن يعاهدهم فمن الممكن أن يسبق التتار.
رابعاً: أن الصليبيين في ذلك الوقت في سنة (658) هجرية يعانون من ضعف شديد. فعكا وإن كانت هي أقوى الإمارات الصليبية في ذلك الوقت، إلا أنها كانت تعاني من ضعف شديد منذ هزيمة المنصورة سنة (648) هجرية، ومنذ رحيل لويس التاسع ملك فرنسا إلى بلده، وقتل عدد كبير جداً من الجنود الصليبيين في هذه المعركة، وأسر كل الجيش الباقي، فمنذ كل هذه الأحداث والصليبيون في تدهور مستمر، وهناك هبوط كبير جداً في إمكانيات وقدرات ومعنويات الجيش الصليبي في عكا، وكان قطز يعلم أنه وإن كان يتعامل مع عدو شديد الكراهية، لكنه عدو ليس شديد القوة بل ضعيف.
خامساً: إن إمارة عكا إمارة حصينة جداً، وهي أحصن مدينة على الإطلاق في الشام وفلسطين، وقد استولى عليها النصارى سنة (492) هجرية، يعني: قبل (166) سنة، ومنذ ذلك التاريخ والقواد المسلمون بما فيهم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله يفشلون دائماً في فتحها، فكان قطز يعلم أن فتح المدينة صعب جداً، حتى وإن كانت الإمارة في أشد حالات ضعفها، ولو حاصر المدينة فسيأخذ وقتاً طويلاً جداً حتى يفتحها.
وخلاصة هذه الأمور أن الصليبيين أعداء المسلمين كما أن التتار أعداؤهم، وتحالف الصليبيين في عكا مع التتار أمر وارد، وإن كان الصليبيون في عكا يكرهون التتار ويخافون منهم، والصليبيون في أشد حالات ضعفهم المادي والمعنوي، وإن كانت مدينتهم عكا ما زالت أحصن مدن الشام وفلسطين.
في ضوء هذه المعطيات وجد قطز رحمه الله أن قتال الصليبيين في عكا سيؤثر سلباً على جيشه، صحيح أن الهدف العام والنهائي لـقطز هو تحرير كل البلاد الإسلامية من أي احتلال، سواء كان هذا الاحتلال تترياً أو صليبياً أو غيره، ولكن الهدف المرحلي هذا الوقت هو قتال التتار، وحصار عكا وقتال حاميتها سيضعف جيش المسلمين، ويضيع عليهم وقتاً، ويبدد طاقاتهم، ويرهق جيشهم قبل الموقعة الكبيرة مع التتار، وفي نفس الوقت فـقطز لا يستطيع أن يحارب التتار في فلسطين دون الانتهاء من مشكلة الصليبيين في عكا، فلو حدث تعاون صليبي تتري، فإن هذا سيضع الجيش المسلم بين فكي كماشة، بين التتار من جهة، وبين الصليبيين من جهة أخرى.
ومن ثم وجد قطز رحمه الله أن أفضل الحلول هو الإسراع بعقد معاهدة مع الصليبيين في عكا، قبل أن يتحالفوا مع التتار، فأرسل رحمه الله سفارة سريعة جداً إلى عكا للتباحث في إمكانية إقامة هدنة سلام مؤقتة بين المسلمين والصليبيين، وجلس الوفد المسلم مع أمراء الصليبيين يتباحثون في أمر هذه الهدنة، ومثلما اعتقد قطز رحمه الله فقد كان الصليبيون من الضعف بحيث إنهم خافوا إذا لم يظفروا من المسلمين بعهد فينقلب عليهم المسلمون بعد ذلك، ولذلك قبلوا جداً فكرة الهدنة، بل إن بعضهم عرض فكرة التحالف العسكري لقتال التتار، ولكن هذه الفكرة لم تجد موافقة عند قطز رحمه الله، فقد خاف من خيانة الصليبيين أثناء القتال، وبالذات أن جيش التتار متعاون مع بعض ملوك النصارى، مثل: ملك أرمينيا، وملك الكرج، وأمير أنطاكية، وقائد التتار كتبغا نفسه نصراني.
ولذلك لم يعقد قطز رحمه الله تحالفاً عسكرياً مع الصليبيين، وإنما عقد هدنة مؤقتة فقط، تنتهي بانتهاء حرب التتار؛ لأنه ليس من المقبول شرعاً أن يقر المسلمون بسلام دائم مع مغتصب الأرض الإسلامية، وليس من الشرع أن يعترف المسلمون بدولة صليبية أو غيرها فوق الأرض الإسلامية مهما تقادم الزمان عليها في احتلال الأرض أو استيطانها.
وقد كان الصليبيون يعيشون في عكا منذ ( 166)، أي: أن هناك أجيالاً كاملة ولدت وعاشت وماتت في عكا، ومع ذلك لم يعترف قطز أبداً بأحقية هؤلاء المغتصبين في الأرض الفلسطينية المسلمة.
فعاهد قطز رحمه الله الصليبيين على عدم القتال، وعلى الهدنة المؤقتة لمدة معلومة، وعلى أن يمدوا الجيش المسلم بالمؤن والطعام أثناء تواجد الجيش المسلم في أرض فلسطين، ووافق الصليبيون على ذلك، وأصبح بذلك الطريق إلى لقاء التتار آمناً، وبدأ قطز رحمه الله يضع اللمسات الأخيرة في جيشه استعداداً للإنطلاق.
وبعض المحللين يعتقد أن ذلك خسارة، وأن الجيش فقد بعضاً من عناصره الهامة، أو أنه على الأقل سيصبح قليلاً في أعين الأعداء، لكن كان الخير كل الخير في هروب هؤلاء في هذه اللحظات الحقيقية في القتال، والله عز وجل يصعب أحياناً جداً من أمر اللقاء قبل أن يحدث؛ حتى ينقي الصف المسلم، فلا يخرج إلى القتال إلا من ينوي أن يثبت في أرض القتال.
وأما ماذا كان سيحدث لو خرج هؤلاء المتذبذبون في جيش المسلمين؟ فقد وضح الله عز وجل ذلك في سورة التوبة، فقال تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ [التوبة:47]، أي: هؤلاء المتذبذبون المنافقون، لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة:47]. فهؤلاء المذبذبون لو خرجوا في الجيش المسلم لأضعفوا قوته، ولبثوا فيه الاضطراب والقلق، وتارة يفعلون ذلك عن غير عمد بخوفهم وجبنهم، وتارة عن عمد بغية إثارة الفتنة، والمشكلة الكبرى كما قال ربنا في كتابه: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة:47]. أي: أن بعض المسلمين الصادقين سيستمعون لهم، وسيتشككون، وسيقتنعون بكلامهم، وهذه مصيبة كبيرة جداً.
ولذلك كان خروج هؤلاء من الصف في هذا الوقت المبكر مصلحة عظيمة جداً للجيش المسلم، وبذلك طهر الجيش المسلم وأصبح نقياً خالصاً، فكل من خرج إلى عين جالوت كان يعلم أنه سيلقى التتار، ويتمنى أن يموت شهيداً في سبيل الله.
وتجمعت الفرق العسكرية من معسكرات التدريب المنتشرة في القاهرة والمدن الكبرى، ثم أعطى قطز رحمه الله إشارة البدء والتحرك في اتجاه فلسطين.
ترى كيف عبر الجيش المسلم سيناء؟ وماذا فعل في أرض فلسطين؟ وما موقف الصليبيين في عكا؟ ثم ماذا حدث مع التتار في الموقعة الهائلة عين جالوت؟ وما هي تفصيلات المعركة؟ وما هي خطة قطز رحمه الله؟ وما هو رد فعل التتار؟ وما هي نتيجة هذه الموقعة الخالدة؟
هذا ما سنعرفه وغيره إن شاء الله في المحاضرة القادمة.
وأسأل الله عز وجل أن يجعل لنا في التاريخ عبرة، فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة التتار قرار الجهاد للشيخ : راغب السرجاني
https://audio.islamweb.net